الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا الفصل والذي قبله توكيد على الوفاء بعهد الله وتحذير من نقضه واتخاذ الإيمان بالله وسيلة تغرير وخداع ومداراة للأقوى والأكثر وترجيحا لما عند الناس على ما عند الله. وهذا ما سوّغ لنا أن نقول في صدد هذه الآيات إنها متصلة بهذا الفصل والفصل السابق له، بل وربما كانت مقدمة لهما.
وطبيعي أن يكون هذا الحادث قد أثر في نفس النبي والمؤمنين وسير الدعوة النبوية تأثيرا شديدا. وهذا ما يفسر الحملة الشديدة على المرتدين بدون إكراه الذين ثبتوا على كفرهم ويفسّر ما احتوته الآية الأخيرة من تطمين وإنذار معا فليس على النبي والمؤمنين من بأس وهم بما يفعله الآثمون الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة وينقضون عهد الله فكل مسؤول عن عمله يوم القيامة ومجزى عليه بما يستحقه.
والمتبادر أن تعبير جاهَدُوا في الآية الأخيرة قد قصد به بذل الجهد وتحمّل المشقة والحرمان في سبيل الله ودينه. لأن الجهاد الحربي إنما كان بعد الهجرة إلى المدينة كما لا يخفى. ولقد كان من المسلمين مهاجرون في الحبشة في هذا الظرف على ما مرّ شرحه في مناسبة آية سابقة في هذه السورة فمن المحتمل كثيرا أن هؤلاء الذين آمنوا من بعد ما فتنوا وهاجروا قد هاجروا إلى الحبشة والتحقوا فيها بإخوانهم السابقين.
تلقينات الآية مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وما بعدها
هذا، والآيات تنطوي على تلقينات مستمرة المدى فيما يتبادر لنا. فالله لا يؤاخذ من يجبر على ارتكاب إثم من الآثام مهما عظم إذا كان غير راض به وكان متعلقا بخاصة نفسه، ويقبل توبة النادمين والتائبين منه إذا رضوا به في موقف أو حالة ما ويشملهم برحمته. وشرط التعلق بخاصة النفس مستلهم من روح الآيات فالإكراه على القتل لا يبرر القتل، والإكراه على الزنا لا يبرر الزنا لأن أقصى
نتائج الإكراه القتل. وحدّ من يرتكب الإثمين القتل أيضا واللواط في حكم الزنا.
وقد يستثنى المفعول بهما إذا قيدا ومنعا من المقاومة. أما الإكراه على الكفر وما دون ذلك من شرب خمر وأكل لحم خنزير وميتة ودم مسفوح وامتناع عن الصلاة والصوم والحج فهو مبرر بقدر ما يكفي لدفع الضرر من الإكراه إذا كان مؤكدا ويقينا. وقد يكون الإكراه على ما دون القتل والزنا- مما يتعلق بالغير- مبررا أيضا إذا ما أصلح الفاعل وعوض عما ارتكبه بعد زوال خطر الإكراه. وهذا لا يتعارض مع التوبة عن الآثام التي يرتكبها المرء بدون إكراه إذا ما كانت توبة صادقة مترافقة على الإصلاح والتعويض على ما شرحناه في سياق سورة الفرقان.
وهناك حديث رواه ابن ماجه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» «1» والحديث يتساوق مع التلقين القرآني، ويتحمل بدوره الملاحظات التي شرحناها كما هو المتبادر، والله تعالى أعلم.
ولقد نبّه المفسرون في سياق الآية إلى التشريع النبوي في حقّ المرتدين عن الإسلام بدون إكراه فروى ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن عكرمة، رواه أيضا البخاري وأبو داود والترمذي بصيغة قريبة جدا وهي: «إن عليّا حرق قوما ارتدوا عن الإسلام فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من بدّل دينه فاقتلوه، ولم أحرقهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تعذّبوا بعذاب الله فبلغ ذلك عليّا فقال: صدق ابن عباس» «2» . وهناك حديث آخر رواه الخمسة عن عبد الله بن مسعود قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلّا الله وإني رسول الله إلّا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس والثيّب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة» «3» .
(1) التاج ج 1 ص 29.
(2)
التاج ج 3 ص 17.
(3)
المصدر نفسه.