الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استشهاد الآية إنما كان بالذين كانوا في مكة من هؤلاء.
ومع وضوح القصد من هذه الجملة وهو استشهاد أهل العلم والكتاب على صحة نبوّة النبي ووحي القرآن فإن الطبرسي المفسّر الشيعي أورد في سياقها فيما أورد رواية عن إمامي الشيعة أبي جعفر وأبي عبد الله أن المراد به علي بن أبي طالب وأئمة الهدى ورواية عن أبي عبد الله أنه قال: إيّانا عنى وعليّ أولنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبي وأنه وضع يده على صدره ثم قال: عندنا والله علم الكتاب.
والهوى الحزبي والتكلّف والخروج عن الصدد بارز على الرواية كما هو واضح.
تعليق على جملة لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ وعلى آية يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ
ولقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون عن أهل التأويل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم للجملة الأولى «1» . منها أنها بسبيل الردّ على استعجال الكفار لعذاب الله المنذر به. ومنها أنها بسبيل الردّ على تحديهم النبي بالآيات.
ومنها أنها بسبيل تقرير كون الله قد جعل لكل كتاب أنزله على أنبيائه السابقين مدة محدودة فيثبت منها ما يشاء ويمحو ما يشاء في الكتب التي ينزلها بعد حتى نسخت بالقرآن. ورأى بعضهم في هذا دليلا على صحة القول بالنسخ في القرآن. وقد يكون للقول الأول وجاهة مستمدة من الآيتين [34 و 40] من هذه السورة. وقد يكون للقول الثالث وجاهة من حيث الاستنباط. لأن بعض الأحكام المنزلة على بعض الأنبياء كانت تنسخ بأحكام أخرى تنزل على أنبياء آخرين. ثم نزل القرآن الذي صار هو المرجع للمبادىء والأحكام الإلهية وصار هو كتاب الدين الذي أذن الله أن يظهره على الدين كلّه. غير أن الذي يتبادر لنا أن القول الثاني هو الأكثر اتساقا مع السياق على ما شرحناه آنفا وفي سورة غافر آية تدعم هذا الشرح بقوة.
(1) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي وغيرهم.
وهي وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) .
وتعددت كذلك التأويلات التي يرويها المفسرون أو يوردونها باجتهادهم لمدى جملة يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ من ذلك إنها بسبيل تقرير كون كل الأحكام والأقدار والأقوال والأفعال الربانية قابلة للمحو والإثبات.
واستثنى بعضهم الموت والحياة والسعادة والشقاء، ويعنون بالسعادة والشقاء تقدير الله الأزلي لسعادة المهتدين الناجين وشقاء الأشقياء الضالين الهالكين في الآخرة بمعنى أن من قدر عليه الشقاء ظلّ شقيا لا يتبدّل أمره وكذلك من قدّر له السعادة.
وأنكر بعضهم استثناء السعادة والشقاء وأوردوا للتدليل على ذلك خبرا يفيد أن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما كانا يدعوا الله فيقولان:
اللهمّ إن كنت كتبتني شقيا فامحه عني وأثبتني سعيدا إنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. وأوردوا مثل هذا الدعاء أو قريبا منه لبعض التابعين أيضا. ومن ذلك أنها بسبيل تقرير كون الله يمحو ما يشاء مما أنزل من الأحكام ويثبت ما يشاء مما هو مقرّر عنده في أم الكتاب. أو إن الذي يثبته هو المقرر عنده في أم الكتاب.
ومنها أنها بسبيل تقرير كون الله يغفر ما يشاء من ذنوب عباده ويمحوها من كتب أعمالهم ويبقي منها ما يشاء. ومنها أنها بسبيل بيان كون الله يأمر بطرح كل ما ليس فيه ثواب وعقاب من أعمال الناس من كتبهم. ومنها أنها بسبيل تقرير مطلق تصرف الله تعالى بالمحو والإثبات في كل ما يريد بكونه وخلقه وأحكامه وعقابه وثوابه وإرزاقه الناس وأعمالهم وآجالهم وسعادتهم وشقائهم إلخ وأن علم ذلك كله عنده في أم الكتاب. واستدلّ بعضهم بهذه الآية على جواز البداء على الله تعالى أي رجوعه عمّا كان قدّره وقضاه. ورأى بعضهم في هذا التعبير مسّا بذات الله فقال إن لله لوحين واحدا فيه كل ما هو كائن حقا وهذا لا يقع فيه تبديل ولا رجوع وهو المعبّر عنه بعبارة أم الكتاب، وآخر يمحو منه ما شاء أن يمحوه ويثبت ما شاء أن يثبت.
وقال بعضهم في الردّ على جواز البداء على الله إن علم الله قديم أزلي وهو من لوازم ذاته وما كان كذلك كان دخول التغيير والتبديل فيه محال.
وتعددت الأقوال المروية والواردة في مدى أُمُّ الْكِتابِ كذلك
…
منها أنها الحلال والحرام، ومنها أنها علم الله الشامل لكل شيء. ومنها أنه الأصل الذي لا يتغير ولا يتبدل. ومنها أنه المحتوي لكل شيء سواء ما شاءت حكمة الله محوه أم شاءت إثباته. ومنها أنه علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون وأنه قال لعلمه كن كتابا فكان كتابا. وهذا القول الأخير مروي عن ابن عباس عن كعب بن أبيّ أحد علماء أصحاب رسول الله. وقد قال الطبري الذي استوعب الأقوال المرويّة تعقيبا عليها إن أولى الأقوال بالصواب قول من قال (عنده أصل الكتاب وجملته ويدخل في ذلك ما شاء أن يمحوه وما شاء أن يثبته) .
وبعض هذه الأقوال متصل بموضوعي اللوح والقدر. وقد علقنا عليهما في سورتي البروج والقمر بما يغني عن التكرار. ونكتفي بالقول هنا إنّ فيما رواه المفسرون وقالوه حول الجملة الثانية ما هو أمور غيبية لا يصح الأخذ بشيء منها إلّا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وليس هناك شيء صحيح عنه في صدد هذه الجملة. وكل الأقوال اجتهادية وتخمينية. ويلمح شيء من التعارض بينها في الوقت نفسه. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الذي يتبادر لنا أن الجملة جزء من آية والآية جزء من سلسلة استهدفت الردّ على الكفار وإفحامهم وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم تجاه مواقفهم منه وإن ما احتوته هو بسبيل ذلك حيث أريد بها تقرير كون الله عز وجل مطلق التصرف في جميع الأمور ما علم منها وما لم يعلم وما غاب وما حضر وما حدث وما لم يحدث. وما مضى وما يأتي فإذا شاءت حكمته أن يقع أمر في الموعد وقع، وإذا شاءت حكمته أن يمحوه أو يثبته تمّ ذلك حسب مشيئته. وأن الأولى أن تظلّ الجملة في هذا النطاق دون تخمين وتزيد وخروج عن الصدد والله تعالى أعلم.
[تم بتوفيق الله تعالى الجزء الخامس ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السادس وأوله تفسير سورة الحج]