الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كل ما هو طيب دون حرج ولا قيد. ويكون النبي قد أدمج في عدادهم فكان الخطاب لهم غائبين وله حاضرا مخاطبا.
ولقد روى المفسرون «1» في سياق هذه الآيات حديثا نبويا رواه مسلم والترمذي في فصل التفسير من كتابيهما في سياق تفسير سورة (المؤمنون) جاء فيه:
«إنّ أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أيّها الناس إن الله طيّب ولا يقبل إلّا طيبا وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) . وقال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة: 172] قال وذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدّ يده إلى السماء يا ربّ يا ربّ ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك» . حيث ينطوي في الحديث تفسير وتوضيح نبويّان يفيدان أن الخطاب في الآيتين ليس قاصرا على الرسل وإنما هو موجّه إلى أممهم وبخاصة الذين آمنوا بهم وبنوع أخص أمة آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم الذي صار على جميع الأمم السابقة اتّباعه وإن الذين ينحرفون عن ذلك إلى الحرام وغير الطّيّب في المأكل والمشرب والملبس يكونون منحرفين عن طريق الله الحقّ مما احتوت تقريره آيات كثيرة مكيّة ومدنيّة مرّت أمثلة منها ومما فيه تلقين جليل مستمر المدى بالإضافة إلى ما في الآيتين من تلقين جليل في تقرير وحدة الطريقة التي سنّها الله تعالى لرسله والمرسلين إليهم وإيجابه التزام الصالحات والتقوى عليهم.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 53 الى 56]
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56)
. (1) فتقطعوا: تفرقوا.
(1) انظر تفسير الآيات في تفسير ابن كثير وانظر أيضا التاج ج 4 ص 163.
(2)
زبرا: من المفسرين من فسّر الكلمة على أنها جمع زبور بمعنى كتاب وقد وردت هذه في إحدى آيات سورة القمر فصار معنى الجملة تفرقوا مللا عديدة كل ملّة التزمت كتابا. ومنهم من قرأها بفتح الباء وفسرها بمعنى قطعا. وقد وردت هذه الكلمة في إحدى آيات سورة الكهف في هذا المعنى فصار معنى الجملة تفرقوا قطعا. والتفسيران وجيهان. والجملة على كل حال بمعنى تفرقوا شيعا وأحزابا مع أن ملّة الله واحدة.
(3)
غمرتهم: جهالتهم أو غفلتهم أو حيرتهم.
في الآيات:
1-
إشارة تنديدية إلى ما صار إليه الناس: فقد تفرقوا واختلفوا وتعددت كتبهم وأهواؤهم وفرقهم واعتدّ كل فريق بما هو عليه وظنّه الحقّ.
2-
وأمر للنبي بأن لا يبالي بذلك وأن يدع من لا يريد الارعواء مرتكسا في غفلته وجهالته إلى الحين الذي يعلمه الله.
3-
وسؤال تنديدي عمّا إذا كان هؤلاء يظنون أن ما يتمتعون به من كثرة المال والولد هو اختصاص تكريمي لهم من الله بإغداق نعمه وخيراته.
4-
واستدراك تبكيتي بأنهم مخطئون في هذا الظنّ وأنهم لا يعرفون حقيقة الأمر.
ولقد ورد في آيات أخرى أن الله تعالى يملي للكفار بما يمدهم به من مال وبنين ليستدرجهم وليكون لهم فتنة واختبارا وأن كيده متين كما جاء في آية سورة القلم [43- 44] وسورة الأعراف [182- 183] وسورة طه (131) التي مرّ تفسيرها حيث يتبادر أن في هذه الآيات توضيحا لما احتواه الاستدراك التبكيتي في جملة بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) في الآية الأخيرة.
والآيات معقبة على ما قبلها أيضا. والضمير الغائب راجع إلى المنحرفين عن الأمة أو الطريقة الواحدة التي شرّعها الله للناس بواسطة أنبيائه وإلى الكفار
برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأن كفرهم هو انحراف عن تلك الملّة. وفيها تنديد لاذع بهم لانحرافهم عن ملّة الحق التي جاء بها رسل الله ثم رسوله الأخير خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم ولظنهم الظنون الباطلة في تعليل ما هم فيه من قوّة ومال.
والأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بترك الكفار في غمرتهم تعبير أسلوبي تكرر في القرآن بمعناه. ولا يعني طبعا ترك إنذارهم كما قلنا في المناسبات السابقة. والراجح أنه ينطوي على تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن عناد الكفار ومكابرتهم واستغراقهم في ضلالهم.
وفي الآيات صورة لما كان من مباهاة الكفار بأموالهم وأولادهم واعتدادهم بذلك وحسبانهم إياه دليلا على عناية الله بهم وادعائهم بأنهم على حقّ بما هم عليه. ولقد حكت ذلك عنهم آيات عديدة مرّت أمثلة منها مما يدل على أنهم كانوا يسوقونه من حين إلى آخر في معرض الجدل والمماراة.
ولقد أورد ابن كثير على هامش هذه الآيات حديثا رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم. وإنّ الله يعطي الدنيا لمن يحبّ ومن لا يحبّ. ولا يعطي الدين إلّا لمن أحبّ. فمن أعطاه الله الدين فقد أحبّه. والذي نفس محمد بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه. قالوا وما بوائقه يا رسول الله قال غشمه وظلمه. ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدّق به فيقبل منه. ولا يتركه خلف ظهره إلّا كان زاده النار.
إنّ الله لا يمحو السيّء بالسّيئ ولكن يمحو السيء بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث» .
وفي الحديث الرائع صورة من صور الوعظ والتنبيه النبوي متساوقة مع التلقين الجليل الذي انطوى في الآيات وبخاصة في بيان كون ما تيسر للإنسان من مال في الدنيا ليس دليلا على رضاء الله عنه وحظوته لديه إذا كان الإنسان منحرفا عن طريق الله الحق.