الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الميرة فجاعوا حتى أكلوا الجيف فأرسلوا إليه يذكرونه بالرحم فأشفق عليهم وسمح لهم بالميرة. وإن الخوف الذي ذكر في الآية هو ما كان بسبب سرايا رسول الله التي كان يسيرها نحوهم. وهذا يقتضي أن تكون الآيات مدنية. ولم نطلع على رواية تذكر ذلك. ولقد أوردنا في سياق تفسير سورة الدخان روايات تذكر أنه طرأ على مكة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مجاعة أدت إلى خوفهم واضطرابهم وأن بعض زعماء مكة جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فناشدوه الرحم وطلبوا منه أن يدعو الله بكشف العذاب عنهم. وبعد انكشاف العذاب عادوا إلى موقفهم المناوىء فأنذرهم الله بالبطشة الكبرى في سورة الدخان. والذي يتبادر لنا أن هذه الآيات بسبيل التذكير بذلك وتعليل ما أصابهم بموقفهم الباغي الظالم. ونزول سورة الدخان ليس بعيدا عن نزول هذه السورة. ولعل ما طرأ عليهم كان ما يزال. فإذا صح هذا- ونرجو أن يكون صحيحا- فتكون صلة هذه الآيات بسابقاتها واضحة حيث احتوت سابقاتها حملة على الكفار وزعمائهم بخاصة لمواقفهم المناوئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم له وتشويشهم عليه وإكراه من استطاعوا على الارتداد عن الإسلام فجاءت الآيات تذكرهم بما هم فيه من بلاء وتؤذنهم بأنه بعض جزائهم العاجل من الله، وتجعل مكة في ذلك مضرب المثل والعبرة.
تعليق على جملة وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ
لقد وقف الطبري عند هذه الجملة فاستنبط منها ما يفيد أنها منطوية على تذكير العرب السامعين بأنهم يعرفون الرسول ويعرفون نسبه وصدق لهجته. ولا يخلو هذا من صواب وقد تضمن هذا المعنى آيات أخرى منها آيات سورة يونس [15- 16] وآيات سورة المؤمنون [68- 70] على ما نبهنا عليه في مناسباتها.
وقد يصح أن يضاف هنا إلى هذا أن الجملة يمكن أن تكون انطوت أيضا على قصد التدليل على باعث حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هدايتهم وتجرده عن المآرب والمقاصد في ذلك وهو شدة المعصية في ذلك الوقت في العرب التي تجعل العربي يتحمل
كل تضحية في سبيل جر الذين ارتبط بهم برابطة الرحم والقبيلة وحياتهم وعزتهم والتضامن معهم. ثم على قصد بيان عظم فضل الله ونعمته بإرسال هاد إليهم منهم يكون فيه مثل هذا الباعث وكون إثم تكذيبهم له أشد واستحقاقهم للعذاب نتيجة لذلك أولى.
وقد لا تخلو الآية التي فيها الجملة على ضوء هذا التوضيح من تلقين مستمر المدى فيما يكون من وقوف الفئات المستكبرة المغرضة من دعاة الإصلاح والقادة المخلصين منهم الذين تكون دعوتهم وقيادتهم مجردة من المآرب وخالصة لوجه الله ومصلحتهم.
ولقد تكررت هذه الجملة في مقامات مماثلة للمقاصد نفسها، وكان يأتي بدلا منهم (منكم) أو (من أنفسكم) أو من (أنفسهم) كما جاء في آية سورة البقرة هذه: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) وآية سورة آل عمران هذه:
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)، وآيات سورة التوبة هذه: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) وآية سورة الجمعة هذه:
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) حيث يبدو من هذا أن حكمة التنزيل اقتضت تكرار التنبيه والتوكيد على هذا الأمر لما انطوى فيه من مقاصد.
ولقد أورد المفسرون في سياق آيات سورة التوبة كتوضيح لمدى تعبير (من أنفسكم) الذي هو في مقام (منهم) قولا لابن عباس جاء فيه: «إنه ليس من العرب
قبيلة إلّا قد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم وله فيهم نسب وفي رواية ليس من العرب قبيلة إلّا ولدت النبي صلى الله عليه وسلم مضرها وربيعها ويمنها» «1» .
والنبي صلى الله عليه وسلم وإن كان قرشيا من ناحية الوالدين المباشرين حيث كان أبوه من بني هاشم وأمه من بني زهرة وكلاهما من قريش، وقريش من عدنان حسب التقاليد المشهورة فإن أمّ أبيه كانت من بني النجار من الخزرج وهم قحطانيون حيث يصدق ما روي عن ابن عباس من انتساب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الفرعين الرئيسيين اللذين تفرّع منهما جميع القبائل العربية في جنوب جزيرة العرب وشمالها.
ولقد أورد البغوي في سياق آية سورة التوبة أيضا حديثا رواه بطرقه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شيء. ما ولدني إلّا نكاح كنكاح الإسلام» . وأورد ابن كثير حديثا قريبا من هذا بطرق أخرى بقصد التدليل على سبب من أسباب ما كانت عليه أخلاق رسول الله المذكورة في الآية وهو الطهارة في النسب. والحديث لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكن ورد فيها أحاديث أقوى في الدلالة من هذا الحديث حيث روى مسلم والترمذي عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» «2» .
وحيث روى الترمذي عن العباس أنه قال للنبي: يا رسول الله إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كبوة من الأرض. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله خلق الخلق فجعلني من خيرهم، من خير فرقهم، وخير الفريقين، ثم تخيّر القبائل فجعلني من خير قبيلة، ثم تخيّر البيوت فجعلني من خير بيوتهم فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا» «3» .
(1) انظر تفسير آيات التوبة في كتب تفسير ابن كثير والبغوي ورشيد رضا.
(2)
التاج ج 3 ص 205.
(3)
المصدر نفسه.