الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سرائرهم: فهم الذين ينقضون عهد الله ويقطعون ما أمر به أن يوصل ويفسدون في الأرض، ولهم اللعنة من الله وسوء المنزل والمصير في الآخرة.
تعليق على مجموعة الآيات أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ
…
إلى آخر الآية [25]
ذكر البغوي بلفظ (قيل) إن الآية الأولى نزلت في حمزة وأبي جهل أو في عمّار وأبي جهل على سبيل المقايسة. وروح الآية ونصّها يلهمان أنها والآيات التي تأتي بعدها وحدة تامة. وروح الآيات ونصّها يلهمان بقوة أنها على سبيل المقايسة بين المؤمنين الذين استجابوا لربّهم والكافرين الذين لم يستجيبوا بصورة عامة وأنها بالتالي معقبة على ما قبلها. والراجح أن ما جاء في وصف الأولين هو وصف لواقع حال المؤمنين الأولين في العهد المكي. وقد تكرر مثل ذلك في سور سابقة على ما نبّهنا عليه في مناسباتها. وفي الوصف صورة رائعة لما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأولون من استغراق في دين الله وما أوجبه عليهم من واجبات تعبديّة واجتماعية وسلوكيّة. ويتبادر لنا أن حكمة مجيء الأفعال فيها بصيغة المضارع هي ليكون ما فيها عام المدى مستمر التلقين.
والمجموعة ليست الأولى من بابها حيث اقتضت حكمة التنزيل تكرار ما فيها بتكرار المواقف. وفيها تنويه بأثر الإيمان والكفر في سلوك الناس وصلاح المجتمع وفساده. وفيها جماع أهداف الدعوة الإسلامية والصفات الصالحة الشخصية والاجتماعية التي يمكن أن يقوم عليها أفضل مجتمع إنساني إذا اتصف أفراده أو غالبهم بها، كما فيها ما فيه سبب فساد الأرض والمجتمع. ويصح أن تعدّ من أجل ذلك من روائع المجموعات القرآنية التي امتاز بها القرآن في الأسلوب وبعد المدى.
وروح الآيات تلهم أن الصفات التي وصف بها المؤمنون هي ما ينبغي أن يكون عليه المسلمون في كل دورة، أو هي الصفات الطبيعية التي ينبغي أن يتصفوا بها. وهذا يؤدي إلى القول بأن المسلم الذي لا يتّصف بها لا يكون قد أحسن
إدراك أهداف الرسالة الإسلامية وأخلص في الاندماج فيها.
وجملة وَمَنْ صَلَحَ قيد احترازي كما هو المتبادر لإخراج غير الصالحين من تبعية ومرتبة الصالحين من المؤمنين مهما كانت صلات القربى بينهم وشيجة. ومثل هذا القيد ورد في سور سبق تفسيرها مثل آية سورة غافر [8] وآية سورة الذاريات [21] حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت توكيد هذا المعنى مرة بعد مرة. وهي حكمة جليلة المدى والمغزى بدون ريب. ومما انطوى فيها كما يتبادر حضّ ذوي الصالحين من آباء وأزواج وذرية على اللحاق بأعمالهم بالصالحين منهم لينالوا مرتبتهم عند الله تعالى.
ويتبادر لنا معنى عظيم لمدى تعبير الوفاء بعهد الله في هذا المقام من حيث إن المرء بدخوله في دين الله يكون قد عاهد ربّه على القيام بجميع ما أمر به واجتناب جميع ما نهى عنه من أخلاق شخصية واجتماعية وواجبات شخصية واجتماعية أيضا.
ولقد قال البغوي في سياق تفسير جملة وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ إن الأكثرية على أن الجملة هي في صدد صلة الرحم ثم أخذ يورد أحاديث نبويّة في ذلك رواها بطرقه منها حديث عن عبد الرّحمن بن عوف قال: «سمعت رسول الله يحكي ربّه عز وجل قال أنا الله والرّحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته» «1» . وحديث عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خلق الله الخلق فلمّا فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقوي الرّحمن فقال مه قالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك قالت بلى يا ربّ قال فذاك لك ثم قال أبو هريرة اقرأوا إن شئتم فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [محمد: 22] » «2» .
وحديث عن عبد الرّحمن بن عوف قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ثلاثة تحت العرش يوم
(1) روى هذا الحديث الترمذي وأبو داود أيضا. انظر التاج ج 5 ص 10.
(2)
روى هذا الحديث الشيخان أيضا، انظر المصدر نفسه ص 9.
القيامة يحاجّ العباد له ظهر وبطن والأمانة والرحم تنادي ألا من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله» «1» . وحديث عن أنس بن مالك قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من أحبّ أن يبسط الله في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» «2» . وحديث عن أبي بكرة قال: «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما من ذنب أحرى أن يعجل الله لصاحبه بالعقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» . وحديث عن أبي أيوب الأنصاري قال: «إنّ أعرابيا عرض لرسول الله في مسير له فقال أخبرني بما يقرّبني من الجنّة ويباعدني من النار، قال: تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم» «3» . وحديث عن عبد الله بن عمرو قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس الواصل بالمكافىء ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها» «4» .
وصلة الرحم من الأعمال المبرورة التي يجب أن يتّصف بها المسلم بدون ريب. وفي الأحاديث المروية تلقينات واجبة الالتزام في ذلك. ومع ذلك فالذي يتبادر لنا من إطلاقه العبارة القرآنية أنها أعمّ وأشمل من صلة الرحم وأنها تتناول كل ما أمر الله به أن يوصل ولا يقطع بصورة عامة.
ولقد رأينا الطبرسي وهو مفسّر شيعي يروي في سياق العبارة تأويلا عن موسى بن جعفر الكاظم أحد الأئمة أن الأمر الذي في الآية هو في صدد رحم آل محمد وأنها معلّقة بالعرش تقول اللهمّ صل من وصلني واقطع من قطعني. وهي تجري في كل رحم. والتكلّف والهوى الحزبي بارزان على الرواية كما هو ظاهر.
ولقد أورد البغوي في سياق جملة وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ حديثا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «إذا عملت سيئة فاعل بجنبها حسنة تمحها السرّ بالسرّ والعلانية بالعلانية» . وحديثا آخر عن عقبة بن عامر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن
(1) روى مسلم شيئا من هذا الحديث عن عائشة قالت: «قال النبي صلى الله عليه وسلم: الرحم معلّقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله» . انظر المصدر السابق نفسه ص 10.
(2)
هذا الحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي، انظر المصدر السابق نفسه، ص 9.
(3)
روى هذا الحديث بصيغة مقاربة الشيخان، انظر المصدر السابق نفسه ص 8- 9.
(4)
روى هذا الحديث البخاري وأبو داود أيضا انظر المصدر السابق نفسه ص 9.