المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب جامع الدعاء] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٥

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ جَامِعِ الدُّعَاءِ]

- ‌[كِتَابُ الْمَنَاسِكِ]

- ‌[بَابُ الْإِحْرَامِ وَالتَّلْبِيَةِ]

- ‌[بَابُ قِصَّةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ]

- ‌[بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ وَالطَّوَافِ]

- ‌[بَابُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ]

- ‌[بَابٌ الدَّفْعُ مِنْ عَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ]

- ‌[بَابُ رَمْيِ الْجِمَارِ]

- ‌[بَابُ الْهَدْيِ]

- ‌[بَابُ الْحَلْقِ]

- ‌[بَابٌ فِي تَقْدِيمِ وَتَأْخِيرِ بَعْضِ الْمَنَاسِكِ]

- ‌[بَابٌ خُطْبَةُ يَوْمِ النَّحْرِ وَرَمْيُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَالتَّوْدِيعُ]

- ‌[بَابُ مَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ]

- ‌[بَابُ الْمُحْرِمِ يَجْتَنِبُ الصَّيْدَ]

- ‌[بَابُ الْإِحْصَارِ وَفَوْتِ الْحَجِّ]

- ‌[بَابُ حَرَمِ مَكَّةَ]

- ‌[بَابُ حَرَمِ الْمَدِينَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْبُيُوعِ] [

- ‌بَابُ الْكَسْبِ وَطَلَبِ الْحَلَالِ]

- ‌[بَابُ الْمُسَاهَلَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ]

- ‌[بَابُ الْخِيَارِ]

- ‌[بَابُ الرِّبَا]

- ‌[بَابُ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا مِنَ الْبُيُوعِ]

- ‌[بَابُ السَّلَمِ وَالرَّهْنِ]

- ‌[بَابُ الِاحْتِكَارِ]

- ‌[بَابُ الْإِفْلَاسِ وَالْإِنْظَارِ]

- ‌[بَابُ الشِّرْكَةِ وَالْوِكَالَةِ]

- ‌[بَابُ الْغَصْبِ وَالْعَارِيَّةِ]

- ‌[بَابُ الشُّفْعَةِ]

- ‌[بَابُ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ]

- ‌[بَابُ الْإِجَارَةِ]

- ‌[بَابُ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَالشِّرْبِ]

- ‌[بَابُ الْعَطَايَا]

- ‌[بَابُ اللُّقَطَةِ]

- ‌[بَابُ الْفَرَائِضِ]

- ‌[بَابُ الْوَصَايَا]

- ‌[كِتَابُ النِّكَاحِ]

- ‌[بَابُ النَّظَرِ]

- ‌[بَابُ الْوَلِيِّ فِي النِّكَاحِ وَاسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ]

- ‌[بَابُ إِعْلَانِ النِّكَاحِ وَالْخِطْبَةِ وَالشَّرْطِ]

- ‌[بَابُ الْمُحَرَّمَاتِ]

- ‌[بَابُ الْمُبَاشِرَةِ]

- ‌[بَابُ الصَّدَاقِ]

- ‌[بَابُ الْوَلِيمَةِ]

- ‌[بَابُ الْقَسْمِ]

- ‌[بَابُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ وَمَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْحُقُوقِ]

- ‌[بَابُ الْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ]

- ‌[بَابُ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا]

- ‌[بَابٌ فِي كَوْنِ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةٍ مُؤْمِنَةً]

- ‌[بَابُ اللِّعَانِ]

- ‌[بَابُ الْعِدَّةِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِبْرَاءِ]

الفصل: ‌[باب جامع الدعاء]

[بَابُ جَامِعِ الدُّعَاءِ]

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

2482 -

(عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه «عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جَدِّي وَهَزْلِي، وَخَطَئِي وَعَمْدِي وَكُلَّ ذَلِكَ عِنْدِي، اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ) . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)

ــ

(بَابُ جَامِعِ الدُّعَاءِ)

قَالَ الطِّيبِيُّ: هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، أَيِ الدُّعَاءُ الْجَامِعُ لِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ فِي أَلْفَاظٍ يَسِيرَةٍ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله بِلَفْظِ الدَّعَوَاتِ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ، وَقَوْلُهُ: قُمْ قَوْلُهُ أَيِ الدَّعَوَاتُ الْجَامِعَةُ فَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ غَيْرُ مُطَابِقٍ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ فَتَأَمَّلَ لِيَظْهَرَ لَكَ الْخِلَافُ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

2482 -

(عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ «عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي» ) أَيْ سَيِّئَتِي (وَجَهْلِي) أَيْ فِيمَا يَجِبُ عَلَيَّ عِلْمُهُ وَعَمَلُهُ (وَإِسْرَافِي) أَيْ تَقْصِيرِي وَتَجَاوُزِي عَنْ حَدِّي (فِي أَمْرِي) قَالَ مِيرَكُ رحمه الله: الْخَطِيئَةُ الذَّنْبُ، وَيَجُوزُ تَسْهِيلُ الْهَمْزَةِ فَيُقَالُ: خَطِّيَّةٌ بِالتَّشْدِيدِ، وَالْجَهْلُ ضِدُّ الْعِلْمِ، وَالْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي كُلِّ شَيْءٍ قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ فِي أَمْرِي أَنْ يَتَعَلَّقَ بِجَمِيعِ مَا ذُكِرَ (وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي) تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ وَاعْتِرَافٌ بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى وَإِقْرَارُهُ بِعَجْزِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ نَفْسِهِ، وَلِذَا قِيلَ: مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي) هُوَ نَقِيضُ الْهَزْلِ (وَهَزْلِي) وَهُوَ الْمِزَاحُ أَيْ مَا وَقَعَ مِنِّي فِي الْحَالَيْنِ، أَوْ هُوَ التَّكَلُّمُ بِالسُّخْرِيَةِ وَالْبُطْلَانِ (وَخَطَئِي) مِمَّا يَقَعُ فِيهِ تَقْصِيرٌ مِنِّي، فِي الصِّحَاحِ الْخَطَأُ نَقِيضُ الصَّوَابِ وَقَدْ يُمَدُّ وَالْخَطَأُ الذَّنْبُ (وَعَمْدِي) أَيْ وَتَعَمُّدِي فِي ذَنْبِي (وَكُلَّ ذَلِكَ) أَيْ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْعُيُوبِ (عِنْدِي) أَيْ مَوْجُودٌ مُمْكِنٌ وَهُوَ كَالتَّذْيِيلِ لِلسَّابِقِ قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ أَنَا مُتَّصِفٌ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَاغْفِرْ لِي، قَالَهُ تَوَاضُعًا وَهَضْمًا، وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ عَدَّ تَرْكَ الْأَوْلَى وَفَوَاتَ الْكَمَالِ ذَنْبًا، وَقِيلَ: أَرَادَ مَا كَانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: كَذَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ، وَحِكَايَتُهُ هَذَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ مَعَ سُكُوتِهِ عَلَيْهِمَا عَجِيبَةٌ، فَإِنَّ الْأَصَحَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - مَعْصُومُونَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَصَغَائِرِهَا عَمْدِهَا وَسَهْوِهَا اهـ.

وَتَعَجُّبُهُ مِنْ أَكْبَرِ الْعَجَائِبِ لِأَنَّ النَّوَوِيَّ قَدَّمَ الْمُخْتَارَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ بِقَوْلِهِ: قَالَهُ هَضْمًا لِنَفْسِهِ وَقُوَاهُ بِنَقْلِهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ خِلَافُ الْأَوْلَى، ثُمَّ عَبَّرَ عَنْ غَيْرِ الْمُخْتَارِ بِقِيلَ، وَقِيلَ إِشَارَةٌ إِلَى ضَعْفِهِمَا عِنْدَهُ، فَمِثْلُ هَذَا لَا يُعَدُّ سُكُوتًا عَلَيْهِ حَتَّى يَتَعَجَّبَ مِنْهُ، ثُمَّ مِنَ الْغَرَائِبِ قَوْلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي أَيْ أَنَا مُتَّصِفٌ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلَا أُرِيدُ بِمَا سَبَقَ التَّجَوُّزَ، بَلْ لَعَلَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنَّفُ وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أَوْ نُسْخَةٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا وَيَجُوزُ الِاكْتِفَاءُ بِأَحَدِهِمَا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا الْحَقِيقَةُ، أَيْ بِأَحَدِ الِاعْتِبَارَاتِ السَّابِقَةِ فَهَذَا كَالتَّذْيِيلِ لِمَا سَبَقَهُ اهـ.

وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ الْمُنَاقَضَةُ وَالْمُعَارَضَةُ بَيْنَ كَلَامِهِ سَابِقًا وَتَمَامِهِ لَاحِقًا، هَذَا وَاعْلَمْ مُجْمَلًا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنِ الْكَذِبِ خُصُوصًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْرِ الشَّرَائِعِ، أَمَّا عَمْدًا فَبِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا سَهْوًا فَعِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَفِي عِصْمَتِهِمْ عَنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ تَفْصِيلٌ وَهُوَ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الْكُفْرِ قَبْلَ الْوَحْيِ وَبَعْدَهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا عَنْ تَعَمُّدِ الْكَبَائِرِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْحَشْوِيَّةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ امْتِنَاعَهُ بِدَلِيلِ السَّمْعِ أَوِ الْعَقْلِ، فَعِنْدَنَا بِالسَّمْعِ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ بِالْعَقْلِ، وَأَمَّا سَهْوًا فَجَوَّزَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَتَجُوزُ عَمْدًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلْجِبَائِيِّ، وَتَجُوزُ سَهْوًا بِالِاتِّفَاقِ إِلَّا مَا يَدُلُّ عَلَى الْخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَالتَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ، لَكِنِ الْمُحَقِّقُونَ اشْتَرَطُوا أَنْ يُنَبِّهُوا عَلَيْهِ فَيَنْتَهُوا عَنْهُ وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ الْوَحْيِ، وَأَمَّا قَبْلَهُ فَلَا دَلِيلَ عَلَى امْتِنَاعِ صُدُورِ الْكَبِيرَةِ قَبْلُ يُوجِبُ النَّفْرَةَ كَعُهْرِ الْأُمَّهَاتِ، وَالصَّغَائِرِ الدَّالَّةِ عَلَى الْخِسَّةِ، وَمَنَعَ الشِّيعَةُ صُدُورَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ، وَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى امْتِنَاعِهَا لِأَنَّهَا تُوجِبُ النَّفْرَةَ الْمَانِعَةَ عَنِ اتِّبَاعِهِ فَتَفُوتُ مَصْلَحَةُ الْبَعْثَةِ، وَالْحَقُّ مِنْهُ مَا الْوَحْيُ وَبَعْدَهُ لَكِنَّهُمْ جَوَّزُوا الْكُفْرَ تُقْيَةً قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ رحمه الله: إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَمَا نُقِلَ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِمَّا يُشْعِرُ بِكَذِبٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، فَمَا كَانَ مَنْقُولًا بِطَرِيقِ الْآحَادِ فَمَرْدُودٌ، وَمَا كَانَ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ فَمَصْرُوفٌ عَنْ ظَاهِرِهِ إِنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَمَحْمُولٌ عَلَى تَرْكِ الْأَوْلَى، أَوْ كَوْنِهِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي الْكُتُبِ الْمَبْسُوطَةِ، وَقِيلَ: تَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ أَوِ اسْتِغْفَارًا لَهُمْ (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ) أَيْ مِنَ الذُّنُوبِ أَوْ مِنْ

ص: 1720

التَّقْصِيرِ فِي الْعَمَلِ، (وَمَا أَخَّرْتُ) أَيْ وَمَا يَقَعُ مِنِّي بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي لِأَنَّ الْمُتَوَقَّعَ كَالْمُتَحَقَّقِ أَوْ مَعْنَاهُ مَا تَرَكْتُ مِنَ الْعَمَلِ، أَوْ قُلْتُ سَأَفْعَلُ أَوْ سَوْفَ أَتْرُكُ، (وَمَا أَسْرَرْتُ) أَيْ أَخْفَيْتُ مِنَ الذُّنُوبِ، (وَمَا أَعْلَنْتُ) أَيْ أَظْهَرْتُ مِنَ الْعُيُوبِ، (وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ) أَيْ أَنْتَ تُقَدِّمُ مَنْ تَشَاءُ بِتَوْفِيقِكَ إِلَى رَحْمَتِكَ، (وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ أَرَدْتَهُ مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ تُرِيدُهُ مُوهِمٌ فَتَنَبَّهْ، (قَدِيرٌ) كَامِلُ الْقُدْرَةِ تَامُّ الْإِرَادَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) الْمَفْهُومُ مِنَ الْحِصْنِ أَنَّ قَوْلَهُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ إِلَى قَوْلِهِ مِنِّي مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا وَأَمَّا مَا عَدَاهُ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ بِرِوَايَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ.

ص: 1721

2483 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

2483 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي) أَيْ عَنِ الْخَطَأِ (دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي) أَيْ مَا يَعْتَصِمُ بِهِ فِي الصِّحَاحِ، الْعِصْمَةُ الْمَنْعُ وَالْحِفْظُ قَالَ تَعَالَى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} [آل عمران: 103] أَيْ بِعَهْدِهِ وَهُوَ الدِّينُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّ الدِّينَ حَافَظُ جَمِيعِ أُمُورِي فَإِنَّ مَنْ فَسَدَ دِينُهُ فَسَدَتْ جَمِيعُ أُمُورِهِ وَخَابَ وَخَسِرَ فِي غَيْبَتِهِ وَحُضُورِهِ وَخَزْلِهِ وَسُرُورِهِ (وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ) أَيْ مَنْ يُعِينُنِي عَلَى الْعِبَادَةِ (الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي) قِيلَ مَعْنَاهُ: احْفَظْ مِنَ الْفَسَادِ مَا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا (وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي) مَصْدَرُ عَادَ إِذَا رَجَعَ، أَيْ وَفِّقْنِي لِلطَّاعَةِ الَّتِي هِيَ إِصْلَاحُ مَعَادِي (وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً) أَيْ سَبَبَ زِيَادَةٍ (لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ) أَيْ بِأَنْ يَكُونَ عَلَى شَهَادَةٍ وَاعْتِقَادٍ حَسَنٍ وَتَوْبَةٍ، حَتَّى يَكُونَ مَوْتِي سَبَبَ خَلَاصِي عَنْ مَشَقَّةِ الدُّنْيَا وَحُصُولِ رَاحَةٍ فِي الْعُقْبَى قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: إِصْلَاحُ الدُّنْيَا عِبَارَةٌ عَنِ الْكَفَافِ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَأَنَّهُ يَكُونُ حَلَالًا وَمُعِينًا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَإِصْلَاحُ الْمَعَادِ اللُّطْفُ وَالتَّوْفِيقُ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَطَلَبُ الرَّاحَةِ بِالْمَوْتِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمٍ فِتْنَةً فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ وَهَذَا هُوَ النُّقْصَانُ الَّذِي يُقَابِلُ الزِّيَادَةَ فِي الْقَرِينَةِ السَّابِقَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 1721

2484 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

2484 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ «عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى» ) أَيِ الْهِدَايَةَ الْكَامِلَةَ (وَالتُّقَى) أَيِ التَّقْوَى الشَّامِلَةَ (وَالْعَفَافَ) بِالْفَتْحِ أَيِ الْكَفَافَ، وَقِيلَ: الْعِفَّةُ عَنِ الْمَعَاصِي، يُقَالُ: عَفَّ عَنِ الْحَرَامِ يَعِفُّ عَفًّا وَعِفَّةً وَعَفَافًا أَيْ كَفَّ، كَذَا فِي الصِّحَاحِ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي الْفُتُوحِ النَّيْسَابُورِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْعَفَافُ إِصْلَاحُ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ، (وَالْغِنَى) أَيْ غِنَى الْقَلْبِ أَوِ الِاسْتِغْنَاءِ عَمَّا فِي أَيْدِ النَّاسِ قَالَ الطِّيبِيُّ: أَطْلَقَ الْهُدَى وَالتُّقَى لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَهْتَدِيَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَكُلَّ مَا يَجِبُ أَنْ يُتَّقَى مِنْهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي وَرَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ، وَطَلَبُ الْعَفَافِ وَالْغِنَى تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

ص: 1721

2485 -

وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قُلِ اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ وَبِالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

2485 -

(وَعَنْ عَلِيَّ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُلِ اللَّهُمَّ اهْدِنِي) أَيْ ثَبِّتْنِي عَلَى الْهُدَى أَوْ دُلَّنِي عَلَى الْكَمَالَاتِ الزَّائِدَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] ، (وَسَدِّدْنِي) أَيِ اجْعَلْنِي مُسْتَقِيمًا، قِيلَ السَّدَادُ إِصَابَةُ الْقَصْدِ فِي الْأَمْرِ وَالْعَدْلُ فِيهِ، يَعْنِي أَسْأَلُ غَايَةَ الْهُدَى وَنِهَايَةَ السَّدَادِ قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] وَ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} [الفاتحة: 6] أَيِ اهْدِنِي هِدَايَةً لَا أَمِيلُ بِهَا إِلَى طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ

ص: 1721

(وَاذْكُرْ) عُطِفَ عَلَى قُلْ أَيِ اقْصِدْ، (وَتَذَكَّرْ) يَا عَلِيُّ، (بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ) أَيِ الْمُسْتَقِيمَ، (وَبِالسَّدَادِ) بِفَتْحِ السِّينِ (سَدَادَ السَّهْمِ) أَيِ الْقَوِيمِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: كُنْ فِي سُؤَالِكَ الْهِدَايَةَ وَالسَّدَادَ كَالسَّهْمِ الْمُسَدَّدِ وَالرَّاكِبِ مَتْنَ الْمَنْهَجِ الْمُسْتَقِيمِ، وَفِيهِ تَصْوِيرُ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ لِأَنَّهُ أَوْقَعُ فِي النُّفُوسِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَمَرَهُ بِأَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ الْهُدَى وَالسَّدَادَ وَأَنْ يَكُونَ فِي ذِكْرِهِ مُخْطِرًا بِبَالِهِ، وَالْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ فِي سُؤَالِهِ طَالِبًا غَايَةَ الْعَدْلِ وَنِهَايَةَ السَّدَادِ إِذِ الْمَطْلُوبُ هِدَايَةٌ كَهِدَايَةِ مَنْ رَكِبَ مَتْنَ الطَّرِيقِ، وَسَدَادًا يُشْبِهُ سَدَادَ السَّهْمِ نَحْوَ الْغَرَضِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 1722

2486 -

(وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَسْلَمَ عَلَّمُهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي» ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

2486 -

(وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِي، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ إِذَا أَسْلَمَ عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلَاةَ» ) أَيْ جِنْسَ مَسَائِلِ الصَّلَاةِ مِنْ شُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا أَوِ الصَّلَاةَ الَّتِي تَحْضُرُهُ فَإِنَّهُ فَرْضُ عَيْنِهِ، (ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي) أَيْ بِمَحُو ذُنُوبِي (وَارْحَمْنِي) أَيْ بِسَتْرِ عُيُوبِي (وَاهْدِنِي) أَيْ إِلَى سَبِيلِ السَّلَامَةِ أَوْ ثَبِّتْنِي عَلَى نَهْجِ الِاسْتِقَامَةِ (وَعَافِنِي) أَيْ مِنَ الْبَلَايَا وَالْخَطَايَا (وَارْزُقْنِي) أَيْ رِزْقًا حَلَالًا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 1722

2487 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

2487 -

(وَعَنْ أَنَسٍ) رضي الله عنه (قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْ لِكَوْنِهِ دُعَاءً جَامِعًا وَلِكَوْنِهِ مِنَ الْقُرْآنِ مُقْتَبَسًا وَجَعَلَ اللَّهُ دَاعِيَهُ مَمْدُوحًا (اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا) أَيْ قَبْلَ الْمَوْتِ (حَسَنَةً) أَيْ كُلَّ مَا يُسَمَّى نِعْمَةً وَمِنْحَةً عَظِيمَةً وَحَالَةً مُرْضِيَةً (وَفِي الْآخِرَةِ) أَيْ بَعْدَ الْمَوْتِ (حَسَنَةً) أَيْ مَرْتَبَةً مُسْتَحْسَنَةً (وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) أَيِ احْفَظْنَا مِنْهُ وَمَا يُقَرِّبُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: حَسَنَةُ الدُّنْيَا اتِّبَاعُ الْهُدَى وَحَسَنَةُ الْآخِرَةِ مُوَافَقَةُ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، وَعَذَابُ النَّارِ حِجَابُ الْمَوْلَى، لَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُكْثِرُ هَذَا الدُّعَاءَ لِأَنَّهُ مِنَ الْجَوَامِعِ الَّتِي تَحُوزُ جَمِيعَ الْخَيْرَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَرَّرَ الْحَسَنَةَ وَنَكَّرَهَا، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي أَنَّ النَّكِرَةَ إِذَا أُعِيدَتْ كَانَتْ غَيْرَ الْأُولَى، فَالْمَطْلُوبُ فِي الْأُولَى الْحَسَنَاتُ الدُّنْيَوِيَّةُ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْوَسَائِلِ إِلَى اكْتِسَابِ الطَّاعَاتِ وَالْمَبَرَّاتِ بِحَيْثُ تَكُونُ مَقْبُولَةً عِنْدَ اللَّهِ، وَفِي الثَّانِيَةِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الثَّوَابِ وَالرِّضْوَانِ فِي الْعُقْبَى اهـ.

وَفِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ كُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ مِنْهَا، قَوْلُ بَعْضِهِمْ: فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً أَيِ الطَّاعَةَ وَالْقَنَاعَةَ أَوِ الْعَافِيَةَ، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً أَيْ تَخْفِيفَ الْحِسَابِ وَرَفْعَ الْعَذَابِ وَدُخُولَ الْجَنَّةِ وَحُصُولَ الرُّؤْيَةِ، وَلَعَلَّ الِاكْتِفَاءَ فِي طَلَبِ الْحِفْظِ بِعَذَابِ النَّارِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ أَمْرٌ سَهْلٌ بَلْ يَكُونُ سَبَبًا لِمَحْوِ السَّيِّئَاتِ أَوْ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ وَقِنَا كُلَّ سَيِّئَةٍ فِي الدُّنْيَا بِخِلَافِ الْحَسَنَةِ الشَّامِلَةِ فِي الدُّنْيَا الْعُقْبَى، عَبَّرَ عَنِ السَّيِّئَةِ بِقَوْلِهِ عَذَابَ النَّارِ، وَالْمُرَادُ سَيِّئَةٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا عَذَابُ النَّارِ احْتِرَازًا مِنْ سَيِّئَةٍ تَمْحُوهَا التَّوْبَةُ أَوِ الشَّفَاعَةُ أَوِ الْمَغْفِرَةُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ تَتْمِيمٌ، أَيْ إِنْ صَدَرَ مِنَّا مَا يُوجِبُهُ مِنَ التَّقْصِيرِ وَالْعِصْيَانِ فَاعْفُ عَنَّا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: عَذَابُ النَّارِ أَيِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ وَهِيَ الْحِجَابُ وَالشُّمُولُ، النَّارُ لِهَذَا تَغْلِيبًا وَمَجَازًا مَشْهُورًا، يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّتْمِيمِ اهـ.

وَهُوَ خَطَأٌ سَبَبُهُ عَدَمُ الْفَهْمِ الْمُسْتَقِيمِ فِي مَعْنَى التَّتْمِيمِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْتَى بِهِ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ التَّعْمِيمِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ بَعْدَ حُصُولِ الْحَسَنَةِ فِي الدُّنْيَا وَوُصُولِ الْحَسَنَةِ فِي الْعُقْبَى عَذَابُ النَّارِ لَا يَبْقَى لَا بِمَعْنَى الْعِقَابِ وَلَا بِمَعْنَى الْحِجَابِ، فَمَا بَقِيَ الْكَلَامُ إِلَّا تَتْمِيمًا يَعْنِي عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ لَوْ وَقَعَ الذَّنْبُ وَالتَّقْصِيرُ فَلَا تُؤَاخِذْنَا بِالتَّعْذِيبِ وَالتَّعْزِيرِ وَهَذَا الَّذِي يَظْهَرُ لِي مِنَ التَّقْرِيرِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَلَفْظُ الْحِصْنِ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا إِلَخْ، وَقَالَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ كُلُّهُمْ عَنْ أَنَسٍ وَلَعَلَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أَوْ نُسْخَةٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا أَوْلَى وَيَجُوزُ الِاكْتِفَاءُ بِأَحَدِهِمَا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا.

ص: 1722

الْفَصْلُ الثَّانِي

2488 -

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو يَقُولُ: رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ، وَاهْدِنِي وَيَسِّرِ الْهُدَى لِي، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ، رَبِّ اجْعَلْنِي شَاكِرًا لَكَ، ذَاكِرًا لَكَ، رَاهِبًا لَكَ، مِطْوَاعًا لَكَ، مُخْبِتًا إِلَيْكَ، أَوَّاهًا مُنِيبًا. رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتِي، وَأَجِبْ دَعْوَتِي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي وَسَدِّدْ لِسَانِي، وَاهْدِ قَلْبِي، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ صَدْرِي» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

2488 -

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو يَقُولُ) بَدَلٌ أَوْ حَالٌ، (رَبِّ أَعِنِّي) أَيْ وَفِّقْنِي لِذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ، (وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ) أَيْ لَا تُغَلِّبْ عَلَيَّ مَنْ يَمْنَعُنِي مِنْ طَاعَتِكَ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، (وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ) أَيِ أَغْلِبْنِي عَلَى الْكُفَّارِ وَلَا تُغْلِبْهُمْ عَلَيَّ أَوِ انْصُرْنِي عَلَى نَفْسِي فَإِنَّهَا أَعْدَى أَعْدَائِي وَلَا تَنْصُرِ النَّفْسَ الْأَمَّارَةَ عَلَيَّ بِأَنْ أَتَّبِعَ الْهَوَى وَأَتْرُكَ الْهُدَى، (وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ) قَالَ الطِّيبِيُّ: الْمَكْرُ الْخِدَاعُ وَهُوَ مِنَ اللَّهِ إِيقَاعُ بَلَائِهِ بِأَعْدَائِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، وَقِيلَ: هُوَ اسْتِدْرَاجُ الْعَبْدِ بِالطَّاعَةِ فَيَتَوَهَّمُ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ وَهِيَ مَرْدُودَةٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: الْمَكْرُ الْحِيلَةُ، وَالْفِكْرُ فِي دَفْعِ عَدُوٍّ بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ الْعَدُوُّ فَالْمَعْنَى اللَّهُمَّ اهْدِنِي إِلَى طَرِيقِ دَفْعِ أَعْدَائِي عَنِّي وَلَا تَهْدِ عَدُوِّي إِلَى طَرِيقِ دَفْعِهِ إِيَّايَ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182] يُظْهِرُ لَهُمُ الْكَرَامَاتِ حَتَّى يَظُنُّوا أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ ثُمَّ يَأْخُذُهُمْ عَلَى غَفْلَةٍ وَغِرَّةٍ وَيُمِيتُهُمْ عَلَى غَفْلَةٍ، (وَاهْدِنِي) أَيْ دُلَّنِي عَلَى الْخَيْرَاتِ أَوْ عَلَى عُيُوبِ نَفْسِي، (وَيَسِّرِ الْهُدَى لِي) أَيْ وَسَهِّلِ اتِّبَاعَ الْهِدَايَةِ أَوْ طُرُقَ الدَّلَالَةِ لِي حَتَّى لَا أَسْتَثْقِلَ الطَّاعَةَ وَلَا أَشْتَغِلَ عَنِ الْعِبَادَةِ، (وَانْصُرْنِي) أَيْ بِالْخُصُوصِ، (عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ) أَيْ ظَلَمَنِي وَتَعَدَّى عَلَيَّ قَالَ تَأْكِيدٌ لِأَعِنِّي إِلَخْ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ لِقَوْلِهِ: وَانْصُرْنِي فِي الْأَوَّلِ، (رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ) قُدِّمَ الْمُتَعَلِّقِ لِلِاهْتِمَامِ وَالِاخْتِصَاصِ أَوْ لِتَحْقِيقِ مَقَامِ الْإِخْلَاصِ، (شَاكِرًا) أَيْ عَلَى النَّعْمَاءِ وَالْآلَاءِ (لَكَ ذَاكِرًا) فِي الْأَوْقَاتِ وَالْآنَاءِ (لَكَ رَاهِبًا) أَيْ خَائِفًا فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَفِي الْحِصْنِ لَكَ شَكَّارًا لَكَ رَهَّابًا عَلَى وَزْنِ فَعَّالٍ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ أَيْ مُنْقَطِعًا عَنِ الْخَلْقِ وَفِيهِ أَنَّ هَذَا مِنْ لَوَازِمِ مَعْنَاهُ الْأَعَمُّ مِنْهُ وَمِنْ غَيْرِهِ هُوَ بِإِشَارَةِ الصُّوفِيَّةِ أَشْبَهُ، وَأَمَّا مَعْنَى الْعِبَارَةِ فَمَا قَدَّمْنَاهُ مَعَ أَنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ مَنْسُوخَةٌ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَمُرَادُ الصُّوفِيَّةِ بِالِانْقِطَاعِ إِنَّمَا هُوَ انْصِرَافُ الْهِمَّةِ عَنِ الْخَلْقِ وَالتَّعَلُّقُ بِالْحَقِّ وَهَذَا تَارَةً يَصْدُرُ وَيَنْشَأُ مِنْ غَايَةِ الرَّهْبَةِ وَتَارَةً يَصْدُرُ مِنْ غَايَةِ الرَّغْبَةِ.

وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ وَالْعُزْلَةَ بِوَصْفٍ مِنْ جِهَةِ الرَّجَاءِ وَالتَّرْغِيبِ أَفْضَلُ مِنْ حُصُولِ الْخَوْفِ وَالتَّرْهِيبِ، وَلَهُمْ مَقَامٌ فَوْقَ ذَلِكَ وَقَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسِ مَشْرَبَهُمْ وَكُلُّ قَوْمٍ فِي مِنْهَاجِ مَذْهَبِهِمْ، وَمَرْتَبَةُ الْجَامِعِيَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ هِيَ أَكْمَلُ الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ وَالْحَالَاتِ السَّنِّيَّةِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الدَّعَوَاتُ الْإِلَهِيَّةُ وَالتَّضَرُّعَاتُ الْبَهِيَّةُ الَّتِي تُنْبِئُ عَنْ كَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ عِنْدَ التَّجَلِّيَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ، (لَكَ مِطْوَاعًا) بِكَسْرِ الْمِيمِ مِفْعَالٌ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ كَثِيرُ الطَّوْعِ وَهُوَ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مُطِيعًا أَيْ مُنْقَادًا، (لَكَ مُخْبِتًا) أَيْ خَاضِعًا خَاشِعًا مُتَوَاضِعًا مِنَ الْخَبْتِ وَهُوَ الْمُطَمْئِنُ مِنَ الْأَرْضِ يُقَالُ أَخْبَتَ الرَّجُلُ إِذَا نَزَلَ الْخَبْتَ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ الْخَبْتُ اسْتِعْمَالَ اللِّينِ وَالتَّوَاضُعِ قَالَ تَعَالَى:{وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [هود: 23] أَيِ اطْمَأَنُّوا إِلَى ذِكْرِهِ أَوْ سَكَنَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى أَمْرِهِ، وَأُقِيمَ اللَّامُ مَقَامَ إِلَى لِتُفِيدَ الِاخْتِصَاصَ قَالَ تَعَالَى:{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ - الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الحج: 34 - 35](إِلَيْكَ أَوَّاهًا) أَيْ مُتَضَرِّعًا فَعَّالٌ لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ أَوَّهَ تَأْوِيهًا وَتَأَوَّهَ تَأَوُّهًا إِذَا قَالَ: أَوَّهْ، أَيْ قَائِلًا كَثِيرًا لَفْظَ أَوَّهْ، وَهُوَ صَوْتُ الْحَزِينِ، أَيِ اجْعَلْنِي حَزِينًا وَمُتَفَجِّعًا عَلَى التَّفْرِيطِ، أَوْ هُوَ قَوْلُ النَّادِمِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ الْمُقَصِّرِ فِي طَاعَتِهِ، وَقِيلَ: الْأَوَّاهُ الْبَكَّاءُ (مُنِيبًا) أَيْ رَاجِعًا، قِيلَ: التَّوْبَةُ رُجُوعٌ مِنَ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ وَالْإِنَابَةُ مِنَ الْغَفْلَةِ إِلَى الذِّكْرِ وَالْفِكْرَةِ وَالْأَوْبَةُ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْحُضُورِ وَالْمُشَاهَدَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا اكْتُفِيَ فِي قَوْلِهِ أَوَّاهًا مُنِيبًا بِصِلَةٍ وَاحِدَةٍ لِكَوْنِ الْإِنَابَةِ لَازِمَةً لِلتَّأَوُّهِ وَرَدِيفًا لَهُ فَكَأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75] اهـ. وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا يَصِحُّ ذِكْرُهُ.

ص: 1723

(رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي) يَجْعَلُهَا صَحِيحَةً بِشَرَائِطِهَا وَاسْتِجْمَاعِ آدَابِهَا فَإِنَّهَا لَا تَتَخَلَّفُ عَنْ حَيِّزِ الْقَبُولِ قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25] وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: تَكُونُ نَصُوحًا فَلَا أَنْكُثُهَا أَبَدًا فَمُوهِمٌ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ النَّصُوحِ عَدَمُ النِّكْثِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8] بِفَتْحِ النُّونِ، أَيْ بَالِغَةً فِي النُّصْحِ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ صِفَةُ التَّائِبِ فَإِنَّهُ يَنْصَحُ نَفْسَهُ بِالتَّوْبَةِ وُصِفَتْ بِهِ التَّوْبَةُ عَلَى الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ مُبَالَغَةً، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ بِضَمِّ النُّونِ وَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى النُّصْحِ، وَتَقْدِيرُهُ ذَاتَ نُصُوحٍ أَوْ تَنْصَحُ نُصْحًا لِأَنْفُسِكُمْ، وَفُسِّرَ نَصُوحًا بِصَادِقَةٍ وَخَالِصَةٍ، وَأَمَّا مَا اشْتُهِرَ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّصُوحِ تَائِبٌ مَشْهُورٌ فَغَيْرُ مُرَادٍ بِالْآيَةِ إِجْمَاعًا لِلْمُفَسِّرِينَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَزْمَ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ لَا عَدَمِ النِّكْثِ عَلَى الصَّحِيحِ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ مَرْفُوعًا أَنَّ التَّوْبَةَ النَّصُوحَ أَنْ يَتُوبَ ثُمَّ لَا يَعُودَ إِلَى الذَّنْبِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ إِلَى الضَّرْعِ فَمَحْمُولٌ عَلَى كَمَالِهِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ حُسْنُ خَاتِمَتِهِ وَمَآلِهِ (وَاغْسِلْ حَوْبَتِي) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَيَضُمُّ أَيِ امْحُ ذَنْبِي قِيلَ هِيَ مَصْدَرُ حُبْتُ أَيْ أَثِمْتُ، تَحَوَّبَ حُوبَةً وَحُوبًا وَحَابَةً وَالْحُوبُ بِالضَّمِّ، وَالْحَابُ الْإِثْمُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَزْجُورًا عَنْهُ، إِذِ الْحُوبُ فِي الْأَصْلِ لِزَجْرِ الْإِبِلِ، وَذَكَرَ الْمَصْدَرَ دُونَ الِاسْمِ وَهُوَ الْحُوبُ لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ مِنْ فِعْلِ الذَّنْبِ أَبْلَغُ مِنْهُ مِنْ نَفْسِ الذَّنْبِ كَذَا قِيلَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَاعَاةً لِلسَّجْعِ وَقَدْ جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ " {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2] " ثُمَّ ذَكَرَ الْغَسْلَ لِيُفِيدَ إِزَالَتَهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَالتَّنَزُّهُ وَالتَّقَصِّي عَنْهُ كَالتَّنَزُّهِ عَنِ الْقَذِرِ الَّذِي يَسْتَنْكِفُ عَنْ مُجَاوَرَتِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَيْ أَزِلْ آثَامِي بِتَبْدِيلِهَا حَسَنَاتٍ فَأَمْرٌ خَارِجٌ عَنِ اللُّغَةِ وَمَفْهُومِ الْحَدِيثِ، (وَأَجِبْ دَعْوَتِي) أَيْ دُعَائِي، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ ذُكِرَ لِأَنَّهُ مِنْ فَوَائِدَ قَبُولُ التَّوْبَةِ فَمُوهِمٌ أَنَّهُ لَا تُجَابُ دَعْوَةُ غَيْرِ التَّائِبِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِمَا صَحَّ مِنْ أَنَّ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا، وَفِي رِوَايَةٍ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا، (وَثَبِّتْ حُجَّتِي) أَيْ عَلَى أَعْدَائِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى أَوْ ثَبِّتْ قَوْلِي وَتَصْدِيقِي فِي الدُّنْيَا وَعِنْدَ جَوَابِ الْمَلَكَيْنِ، (وَسَدِّدْ) أَيْ صَوِّبْ وَقَوِّمْ، (لِسَانِي) حَتَّى لَا يَنْطِقَ إِلَّا بِالصِّدْقِ وَلَا يَتَكَلَّمَ إِلَّا بِالْحَقِّ، (وَاهْدِ قَلْبِي) أَيْ إِلَى مَعْرِفَةِ رَبِّي، (وَاسْلُلْ) بِضَمِّ اللَّامِ الْأُولَى أَيْ أَخْرِجْ (سَخِيمَةَ صَدْرِي) أَيْ غِشَّهُ وَغِلَّهُ وَحِقْدَهُ وَحَسَدَهُ وَنَحْوَهَا، مِمَّا يَنْشَأُ مِنَ الصَّدْرِ وَيَسْكُنُ فِي الْقَلْبِ مِنْ مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَلْبِي بَدَلَ صَدْرِي قِيلَ السَّخِيمَةُ الضَّغَنُ وَالْحِقْدُ مِنَ السُّخْمَةِ وَهُوَ السَّوَادُ وَمِنْهُ سُخَامُ الْقِدْرِ وَقِيلَ السَّخِيمَةُ الضَّغِينَةُ وَإِضَافَتُهَا إِلَى الصَّدْرِ لِأَنَّ مَبْدَأَهَا الْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ الَّتِي فِي الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ فِي الصَّدْرِ، وَسَلُّهَا إِخْرَاجُهَا وَتَنْقِيَةُ الصَّدْرِ مِنْهَا مِنْ سَلَّ السَّيْفَ إِذَا أَخْرَجَهُ مِنَ الْغِمْدِ قَالَ الطِّيبِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ مَا الْفَائِدَةُ فِي تَرْكِ الْعَاطِفِ فِي قَوْلِهِ رَبِّ اجْعَلْنِي إِلَى مُنِيبًا وَفِي الْإِتْيَانِ بِهِ فِي الْقَرَائِنِ اللَّاحِقَةِ قُلْتُ: أَمَّا التُّرْكُ فَلِلتَّعْدَادِ وَالْإِحْصَاءِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ لِلَّهِ غَيْرَ مَعْدُودٍ وَلَا دَاخِلٍ تَحْتَ مَحْدُودٍ فَيَنْعَطِفُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلِذَا قَدَّمَ الصِّلَةَ عَلَى مُتَعَلِّقَاتِهَا وَأَمَّا الْإِتْيَانُ بِالْعَاطِفِ فِيمَا كَانَ لِلْعَبْدِ فَلِانْضِبَاطِهِ اهـ.

وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ عِنْدَ تَأَمُّلِهِ وَإِنْ قَالَ فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِتَأَمُّلِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) وَقَالَ الْجَزَرِيُّ رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.

ص: 1724

2489 -

(وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه قَالَ: «قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ بَكَى فَقَالَ سَلُوا اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ. فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنَ الْعَافِيَةِ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا.

ــ

2489 -

(وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ) رضي الله عنه (قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ بَكَى) قِيلَ إِنَّمَا بَكَى لِأَنَّهُ عَلِمَ وُقُوعَ أُمَّتِهِ فِي الْفِتَنِ وَغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ وَالْحِرْصِ عَلَى جَمْعِ الْمَالِ وَتَحْصِيلِ الْجَاهِ فَأَمَرَهُمْ بِطَلَبِ الْعَفْوِ وَالْعَافِيَةِ لِيَعْصِمَهُمْ مِنَ الْفِتَنِ (فَقَالَ سَلُوا اللَّهَ الْعَفْوَ) أَيْ مَحْوَ الذُّنُوبِ وَسَتْرَ الْعُيُوبِ، (وَالْعَافِيَةَ) قِيلَ هُوَ أَنْ يُعَافِيَكَ اللَّهُ مِنَ النَّاسِ وَيُعَافِيَهُمْ مِنْكَ، وَقِيلَ أَنْ تَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيَعْفُوا عَنْكَ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ السَّلَامَةُ فِي الدِّينِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَفِي الْبَدَنِ مِنْ

ص: 1724

سَيِّئِ الْأَسْقَامِ وَشِدَّةِ الْمِحْنَةِ وَأَمَّا الَّذِي ذَكَرُوهُ فَإِنَّمَا هُوَ مَعْنَى الْمُعَافَاةِ كَمَا لَا يَخْفَى (فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ بَعْدَ الْيَقِينِ) أَيْ عِلْمَ الْيَقِينِ وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالْبَصِيرَةُ فِي الدِّينِ، (خَيْرًا مِنَ الْعَافِيَةِ) قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهِيَ السَّلَامَةُ مِنَ الْآفَاتِ فَيَنْدَرِجُ فِيهَا الْعَفْوُ اهـ.

يَعْنِي وَلِعُمُومِ مَعْنَى الْعَافِيَةِ الشَّامِلَةِ لِمَعْنَى الْعَفْوِ اكْتَفَى بِذِكْرِهَا عَنْهُ وَالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ سَابِقًا لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهُ أَهَمُّ أَنْوَاعِهِ وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ خُلَاصَةَ كَلَامِ الطِّيبِيِّ: فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ أَفْرَدَ الْعَافِيَةَ بَعْدَ جَمْعِهَا: قُلْتُ لِأَنَّ مَعْنَى الْعَفْوِ مَحْوُ الذُّنُوبِ وَمَعْنَى الْعَافِيَةِ السَّلَامَةُ عَنِ الْأَسْقَامِ وَالْبَلَايَا فَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْعَفْوِ بِهَا لِشُمُولِهَا لَهُ وَوَجْهُ الْغَرَابَةِ أَنَّ أَخْذَ الذُّنُوبِ مِنَ الْبَلَايَا لَيْسَ مِنْ كِتَابِ اللُّغَةِ وَلَا مِنْ بَابِ التَّعَارُفِ وَإِنْ كَانَتِ الصُّوفِيَّةُ قَدْ يُعَبِّرُونَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ بِالْبَلِيَّةِ وَلَكِنَّهُ مِنْ أَصْحَابِ الْعِبَارَاتِ لَا مِنْ أَرْبَابِ الْإِشَارَاتِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا) أَيْ غَرِيبٌ إِسْنَادُهُ لَا مَتْنُهُ وَفِي الْحِصْنِ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، مِنْ حَدِيثِ الصِّدِّيقِ قَالَ مِيرَكُ وَلَفْظُ الْحَاكِمِ سَلُوا اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَالْيَقِينَ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ.

ص: 1725

2490 -

(وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ قَالَ: سَلْ رَبَّكَ الْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ أَتَاهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَاهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَقَدْ أَفْلَحْتَ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا.

ــ

2490 -

(وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ قَالَ سَلْ رَبَّكَ الْعَافِيَةَ» ) أَيْ فِي الدِّينِ وَالْبَدَنِ، (وَالْمُعَافَاةَ) أَيْ مِنَ الْخَلْقِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مُخَالَطَتِهِمْ مِنَ الْفِتَنِ، أَوِ الْمُرَادُ مِنَ الْعَافِيَةِ الْمُسَامَحَةُ فِي حَقِّ اللَّهِ وَمِنَ الْمُعَافَاةِ الْمُسَامَحَةُ فِي حَقِّ الْعِبَادِ، (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) أَيْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا وَيَحْصُلُ الضَّرَرُ فِيهِمَا، (ثُمَّ أَتَاهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ) أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْقَوْلِ فَنَصْبُهُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، (ثُمَّ أَتَاهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ) أَيْ مُبَيِّنًا لَهُ أَفْضَلِيَّةَ الدُّعَاءِ، (فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَقَدْ أَفْلَحْتَ) أَيْ خَلُصْتَ مِنْ خَوْفِكَ وَظَفِرْتَ بِمَقْصُودِكَ قِيلَ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ كَلِمَةٌ أَجْمَعَ مِنَ الْفَلَاحِ إِلَّا الْعَافِيَةَ وَكَذَا النَّصِيحَةَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا) تَمْيِيزٌ عَنِ الثَّانِي فَإِنَّ الْغَرَابَةَ تَارَةً تَكُونُ فِي الْمَتْنِ وَأُخْرَى فِي الْإِسْنَادِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَأَمَّا الْحَسَنُ فَلَا يَكُونُ إِلَّا بِاعْتِبَارِ إِسْنَادِهِ فَلَيْسَ فِيهِ إِيهَامٌ لِيَحْتَاجَ إِلَى رَفْعِهِ بِالتَّمْيِيزِ فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ تَمْيِيزٌ عَنْ حَسَنٍ وَغَرِيبٍ وَكَذَا فِي نَظَائِرِهِمَا إِنَّمَا نَشَأَ عَنْ كَثْرَةِ غَفْلَةٍ أَوْ قِلَّةِ تَمْيِيزٍ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنِ الْعَبَّاسِ أَنَّهُ قَالَ:«قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَدْعُو اللَّهَ بِهِ فَقَالَ سَلْ رَبَّكَ الْعَافِيَةَ فَمَكَثْتُ أَيْامًا ثُمَّ جِئْتُ فَقَلْتُ يَا رَسُولَ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ رَبِّي عز وجل فَقَالَ يَا عَمِّ سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ يَا عَمِّ أَكْثِرِ الدُّعَاءَ بِالْعَافِيَةِ، أَيْ لِأَنَّهَا لِتَحْصِيلِ الْمَقَاصِدِ وَلِدَفْعِ الْبَلَايَا كَافِيَةٌ.

ص: 1725

2491 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ رضي الله عنه «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حُبَّكَ. وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنِي حُبُّهُ عِنْدَكَ اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ اللَّهُمَّ مَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

2491 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمَيِّ) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ أَنْصَارِيٌّ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشَرَةَ سَنَةً ( «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حُبَّكَ» ) يَحْتَمِلُ إِضَافَتَهُ

ص: 1725

إِلَى الْفَاعِلِ وَإِلَى الْمَفْعُولِ وَالْأَوَّلُ أَبْلَغُ وَهُوَ الْأَصْلُ مَعَ أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ قَالَ تَعَالَى: " {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] "، وَالثَّانِي أَظْهَرُ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَزَلِيٌّ وَلَا يَتَعَلَّقُ الدُّعَاءُ إِلَّا بِالْحَادِثِ وَلِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ (وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنِي حُبُّهُ عِنْدَكَ) عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْهُ وَالظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِيَنْفَعُنِي، وَكَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ وَهُوَ: مَنْ يَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِحُبِّهِ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ إِلَيْكَ مُوهِمٌ فَتَأَمَّلْهُ، (اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي) وَلَفْظُ الْحِصْنِ كَمَا رَزَقْتَنِي، (مِمَّا أُحِبُّ) أَيِ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي أُحِبُّهَا مِنْ صِحَّةِ الْبَدَنِ وَقُوَّتِهِ وَأَمْتِعَةِ الدُّنْيَا مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأُمْنِيَةِ وَالْفَرَاغِ، (فَاجْعَلْهُ قُوَّةً) أَيْ عُدَّةً، (لِي فِيمَا تُحِبُّ) بِأَنْ أَصْرِفَهُ فِيمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ، (اللَّهُمَّ مَا زَوَيْتَ) فِي الْحِصْنِ اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ مِنَ الزَّيِّ بِمَعْنَى الْقَبْضِ وَالْجَمْعِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «اللَّهُمَّ ازْوِ لَنَا الْأَرْضَ وَهَوِّنْ عَلَيْنَا السَّفَرَ» أَيِ اطْوِهَا كَمَا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى، أَيْ مَا قَبَضْتَهُ وَنَحَّيْتَهُ وَبَعَّدْتَهُ (عَنِّي) بِأَنْ مَنَعْتَنِي وَلَمْ تُعْطِنِي (مِمَّا أُحِبُّ) أَيْ مِمَّا أَشْتَهِيهِ مِنَ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْأَوْلَادِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ (فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا) أَيْ سَبَبَ فَرَاغِ خَاطِرِي (فِيمَا تُحِبُّ) أَيْ مِنَ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ قَالَ الْقَاضِي: يَعْنِي مَا صَرَفْتَ عَنِّي مِنْ مَحَابِّي فَنَحِّهِ عَنْ قَلْبِي وَاجْعَلْهُ سَبَبًا لِفَرَاغِي لِطَاعَتِكَ وَلَا تَشْغَلْ بِهِ قَلْبِي فَيُشْغَلَ عَنْ عِبَادَتِكَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ اجْعَلْ مَا نَحَّيْتَهُ عَنِّي مِنْ مَحَابِّي عَوْنًا لِي عَلَى شُغْلِي بِمَحَابِّكَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفَرَاغَ خِلَافُ الشُّغْلِ فَإِذَا زَوَى عَنْهُ الدُّنْيَا لِيَتَفَرَّغَ بِمَحَابِّ رَبِّهِ كَانَ ذَلِكَ الْفَرَاغُ عَوْنًا لَهُ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَفِي الْحَدِيثِ قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه عَجِبْتُ لِمَا زَوَى اللَّهُ عَنْكَ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 1726

2492 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ لِأَصْحَابِهِ اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيْبَاتِ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لَا يَرْحَمُنَا» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

ــ

2492 -

(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ لِأَصْحَابِهِ) أَيْ قَلَّ تَرْكُهُ لَهُمْ (اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا) أَيِ اجْعَلْ لَنَا قِسْمًا وَنَصِيبًا (مِنْ خَشْيَتِكَ) وَهُوَ خَوْفٌ مَعَ التَّعْظِيمِ (مَا تَحُولُ بِهِ) أَيْ مِقْدَارًا تَحْجُبُ أَنْتَ بِسَبَبِهِ (بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ) فَإِنَّهُ لَا أَمْنَعَ لَهَا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا فِي الْحَدِيثِ نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخَفِ اللَّهَ لَمْ يَعْصِهِ مُبَالَغَةٌ فِي كَمَالِهِ، بِأَنَّ تَرْكَ عِصْيَانِهِ نَشَأَ عَنِ الْمَحَبَّةِ لَا عَنِ الرَّهْبَةِ مَعَ الْخَشْيَةِ أَخَصُّ مِنَ الْخَوْفِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ وَفِي نُسْخَةٍ يَحُولُ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَتَرَكَ بِهِ أَيْ قَدْرًا يَمْنَعُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا مِنْ حَالَ يَحُولُ حَيْلُولَةً، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ أَيْ بِسَبَبِهِ أَوْ هِيَ بَاءُ الْآلَةِ وَكِلَاهُمَا مَجَازٌ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ مَعَ أَنَّ إِطْلَاقَ الْآلَةِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى خَطَأٌ فَاحِشٌ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَجَازِ ضِدُّ الْحَقِيقَةِ بِاعْتِبَارِ اللُّغَةِ فَقَدْ صَرَّحَ أَرْبَابُهَا بِأَنَّهُمَا حَقِيقَتَانِ فِي مَعْنَيَيْهِمَا فَفِي الْقَامُوسِ الْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ " فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ " " {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 54] " وَلِلِاسْتِعَانَةِ نَحْوَ: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ وَنَجَرْتُ بِالْقُدُومِ وَمِنْهُ بَاءُ الْبَسْمَلَةِ اهـ.

وَفِي إِيرَادِ الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ تَنْبِيهٌ وَتَوْجِيهٌ وَجِيهٌ لِمَا قُلْنَا مِنْ صِحَّةِ إِطْلَاقِ السَّبَبِيَّةِ فِي فِعْلِهِ تَعَالَى وَفِي فِعْلِ غَيْرِهِ بِخِلَافِ الْآلَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ فَإِنَّهُ مُنَزَّهٌ عز وجل عَنْ ذَلِكَ (وَمِنْ طَاعَتِكَ) بِإِعْطَاءِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَالتَّوْفِيقِ لَهَا (مَا تُبَلِّغُنَا) بِالتَّشْدِيدِ أَيْ تَوَصِّلُنَا أَنْتَ (بِهِ جَنَّتَكَ) أَيْ دَرَجَاتِهَا الْعَلِيَّةَ وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: (مَا) أَيْ نَصِيبًا وَافِرًا يَحْصُلُ لَنَا تُبَلِّغُنَا فَظَاهِرُهُ أَنَّ تُبَلِّغُنَا بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْخَطَأِ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، ثُمَّ قَوْلُهُ بِأَنْ تُدْخِلَنَا مَعَ النَّاجِينَ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِلْمَقَامِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْكِرَامِ مِنْ أَرْبَابِ الْفُهُومِ عَلَى الْكَلَامِ، (وَمِنَ الْيَقِينِ) أَيِ الْيَقِينِ بِكَ وَبِأَنْ لَا مَرَدَّ لِقَضَائِكَ وَبِأَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبْتَهُ عَلَيْنَا وَبِأَنَّ مَا قَدَّرْتَهُ لَا يَخْلُو عَنْ حِكْمَةٍ وَمَصْلَحَةٍ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مَزِيدِ الْمَثُوبَةِ، (مَا تُهَوِّنُ بِهِ) أَيْ تُسَهِّلُ أَنْتَ بِذَلِكَ الْيَقِينِ، (عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا) وَفِي رِوَايَةٍ مَصَائِبَ الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا مُثَوَّبَاتُ الْأُخْرَى لَا يَغْتَمُّ بِمَا أَصَابَهُ وَلَا يَحْزَنُ بِمَا نَابَهُ، وَرُويَ مَا يُهَوِّنُ عَلَيْنَا مِنْ غَيْرِ بِهِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ يُهَوِّنُ بِالْيَاءِ آخِرَ الْحُرُوفِ وَإِثْبَاتُ بِهِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقُ، (وَمَتِّعْنَا) أَيِ اجْعَلْنَا مُتَمَتِّعِينَ مُنْتَفِعِينَ، (بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا) بِأَنْ نَسْتَعْمِلَهَا فِي طَاعَتِكَ لِيَكُونَ لَنَا بِهَا.

ص: 1726

نَفَعًا وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله: التَّمَتُّعُ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ إِبْقَاؤُهُمَا صَحِيحَيْنِ إِلَى الْمَوْتِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالسَّمْعِ مَا يُسْمَعُ وَالْعَمَلَ بِهِ، وَبِالْبَصَرِ اعْتِبَارَ مَا يُرَى وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْقُوَى، (مَا أَحْيَيْتَنَا) أَيْ مُدَّةَ حَيَاتِنَا قَالَ الطِّيبِيُّ: وَإِنَّمَا خُصُّ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ بِالتَّمَتُّعِ مِنَ الْحَوَاسِّ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْمُوصِلَةَ إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ إِنَّمَا تَحْصُلُ مِنْ طَرِيقِهِمَا، لِأَنَّ الْبَرَاهِينَ إِنَّمَا تَكُونُ مَأْخُوذَةً مِنَ الْآيَاتِ وَذَلِكَ بِطَرِيقِ السَّمْعِ، أَوْ مِنَ الْآيَاتِ الْمَنْصُوبَةِ فِي الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ، فَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْبَصَرِ فَسَأَلَ التَّمَتُّعَ بِهِمَا حَذَرًا مِنَ الِانْخِرَاطِ فِي سِلْكِ الَّذِينَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً، وَلَمَّا حَصَلَتِ الْمَعْرِفَةُ بِالْأَوَّلِينَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْعِبَادَةُ، فَسَأَلَ الْقُوَّةَ لِيَتَمَكَّنَ بِهَا مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ اهـ.

وَبِالْآيَةِ وَالْحَدِيثِ فِي تَقْدِيمِ السَّمْعِ عَلَى الْبَصَرِ إِشَارَةً إِلَى أَفْضَلِيَّتِهِ، خُصُوصًا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ حَتَّى فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ بِالْفِعْلِ مَعَ وُجُودِ الْآيَاتِ الْآفَاقِيَّةِ وَالْأَنْفُسِيَّةِ حِينَئِذٍ، مَعَ أَنَّهُ إِذَا خُلِقَ أَبْكَمَ فَيَبْعُدُ أَنْ يَعَرِفَ اللَّهَ تَعَالَى بِمُجَرَّدِ عَقْلِهِ، وَكَذَا بَعْدَ الْبَعْثَةِ لَا شَكَّ أَنَّ الِانْتِفَاعَ الدِّينِيَّ بِالسَّمْعِ أَكْثَرُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْبَصَرِ، وَلِذَا اتَّفَقُوا عَلَى قَبُولِ إِيمَانِ الْمُقَلِّدِ بِخِلَافِ إِيمَانِ صَاحِبِ الْفَتْرَةِ ; فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحَقُّقُهُ إِلَّا بِالتَّوْحِيدِ الْمُجَرَّدِ فَقَطْ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا، هَذَا وَالْمُرَادُ بِالْقُوَّةِ قُوَّةُ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَالْحَوَاسِّ أَوْ جَمِيعِهَا فَيَكُونُ تَعْمِيمًا بَعْدَ تَخْصِيصٍ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَبِمَا تَقَرَّرَ عُلِمَ وَجْهُ ذِكْرِ هَذَيْنِ دُونَ بَقِيَّةِ الْحَوَاسِّ، ثُمَّ رَأَيْتُ الشَّارِحَ صَرَّحَ بِمَا ذَكَرْتُهُ فَقَالَ: وَإِنَّمَا خُصُّ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ فَمَرْدُودٌ ; لِأَنَّ مُرَادَ الطِّيبِيِّ أَنَّهُ إِنَّمَا خُصُّ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ سَابِقًا مَعَ دُخُولِهِمَا فِي تَعْمِيمِ قُوَّتِنَا لَاحِقًا لَا أَنَّهُ إِنَّمَا خُصَّا بِالذِّكْرِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهَا مِنَ الْقُوَى الظَّاهِرِيَّةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ، فَقَالَ لِأَنَّ الْفَرْقَ دَقِيقٌ وَبِالتَّأَمُّلِ حَقِيقٌ، (وَاجْعَلْهُ) أَيْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَعْنِي اجْعَلْ مَا مُتِّعْنَا بِهِ، (الْوَارِثَ) أَيِ الْبَاقِيَ (مِنَّا) بِأَنْ يَبْقَى مَا مَتَّعْتَنَا بِهِ إِلَى الْمَوْتِ قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ الزَّمَخْشَرِيُّ أَعَادَ الضَّمِيرَ إِلَى الْمَصْدَرِ الْمَحْذُوفِ أَيِ اجْعَلِ الْجَعْلَ أَوْ جَعَلًا الْوَارِثَ مِنْ عَشِيرَتِنَا، فَمِنَّا مَفْعُولٌ ثَانٍ لِجَعَلَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ الضَّمِيرُ لِلْمَصْدَرِ أَيِ اجْعَلِ الْجَعْلَ، وَالْوَارِثُ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَمِنَّا فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي أَيِ اجْعَلِ الْوَارِثَ مِنْ نَسْلِنَا لَا كَلَالَةً خَارِجَةً عَنَّا قَالَ صَاحِبُ كَشْفِ الْكَشَّافِ وَهُوَ مَعْنًى مَقْصُودٌ لِلْعُقَلَاءِ حَكَاهُ تَعَالَى عَنْ زَكَرِيَّا عليه الصلاة والسلام فِي قَوْلِهِ {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا - يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: 5 - 6] وَهَذَا أَوْلَى لِاسْتِحْقَاقِهِ بِالْفَائِدَةِ فَإِنَّ فِي قَوْلِنَا مَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا مَا يُغْنِي عَنْ جَعْلِهَا كَالْوَارِثِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّأْوِيلِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ أَيْضًا {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89] وَأَطَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَعَقُّبِ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَلِذَا أَعْرَضْتُ عَنْ ذِكْرِهِ وَعَنْ جَوَابِ اعْتِرَاضَاتِهِ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلتَّمْتِيعِ وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَالْوَارِثُ هُوَ الثَّانِي وَمِنَّا صِلَتُهُ، أَيِ اجْعَلِ التَّمْتِيعَ بَاقِيًا مِنَّا وَمَأْثُورًا فِيمَنْ بَعْدَنَا، وَقِيلَ الْمَعْنَى: وَفِّقْنَا لِحِيَازَةِ الْعِلْمِ لَا الْمَالِ حَتَّى يَكُونَ الْعِلْمُ هُوَ الَّذِي يَبْقَى مِنَّا، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْقُوَّةِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ أَيِ اجْعَلِ الْمَذْكُورَ بَاقِيًا لَازِمًا عِنْدَ الْمَوْتِ لُزُومَ الْوَارِثِ قَالَ صَاحِبُ الْكَشْفِ: يُرِيدُ اجْعَلْهَا سَالِمَةً لَازِمَةً مَعَنَا إِلَى الْمَوْتِ، وَبُولِغَ فِيهِ فَقِيلَ: اجْعَلْهَا كَأَنَّهَا تَبْقَى بَعْدَهُ ; لِأَنَّ الْوَارِثَ يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقِيلَ الضَّمِيرُ لِلتَّمْتِيعِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ التَّمْتِيعُ وَالْمَعْنَى اجْعَلْ تَمَتُّعَنَا بَاقِيًا مِنَّا مَحْفُوظًا لَنَا إِلَى يَوْمِ الْحَاجَةِ، وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُبْقِيَ لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ إِذَا أَدْرَكَهُ الْكِبَرُ، وَضَعُفَ مِنْهُ سَائِرُ الْقُوَى ; لِيَكُونَا وَارِثَيْ سَائِرِ الْقُوَى وَالْبَاقِينَ بَعْدَهَا اهـ.

وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ قُوَّةُ السَّامِعَةِ وَالْبَاصِرَةِ أَنْفَعَ الْقُوَى خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ أَوَّلًا ثُمَّ عَمَّمَ، وَقِيلَ الْأَوْلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ هَذَا الْفَيْضُ الْإِلَهِيُّ عَنْهُ وَعَنِ أَتْبَاعِهِ لِكَوْنِهِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَهُدًى لِلْمُتَّقِينَ (وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا) بِالْهَمْزِ بَعْدَ الْمُثَلَّثَةِ الْمَفْتُوحَةِ، أَيْ إِدْرَاكَ ثَأْرِنَا مَقْصُورًا (عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا) وَلَا تَجْعَلْنَا مِمَّنْ تَعَدَّى فِي طَلَبِ ثَأْرِهِ فَأَخَذَ بِهِ غَيْرَ الْجَانِي كَمَا كَانَ مَعْهُودًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَنَرْجِعَ ظَالِمِينَ بَعْدَ أَنْ كُنَّا مَظْلُومِينَ، وَأَصْلُ الثَّأْرِ الْحِقْدُ وَالْغَضَبُ، يُقَالُ ثَأَرْتُ الْقَتِيلَ وَبِالْقَتِيلِ أَيْ قَتَلْتُ قَاتِلَهُ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ مِنَ الثَّوَرَانِ يُقَالُ ثَارَ أَيْ هَاجَ غَضَبُهُ فَخَطَأٌ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ فَإِنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مَهْمُوزُ الْعَيْنِ وَالَّذِي قَالَهُ مُعْتَلُّ الْعَيْنِ فَلَا اتِّحَادَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَادَّةِ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ الْقَامُوسُ وَالنِّهَايَةُ، وَلَعَلَّهُ قَرَأَ ثَارَنَا بِالْأَلْفِ أَوْ كَانَ فِي نُسْخَتِهِ كَذَلِكَ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَإِنَّ الْهَمْزَةَ السَّاكِنَةَ جَازَ إِبْدَالُهَا عِنْدَ الْكُلِّ، أَوِ اجْعَلْ إِدْرَاكَ ثَأْرِنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا فَنُدْرِكَ فَيَكُونُ بِمَعْنَى قَوْلِهِ (وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا)

ص: 1727

أَيْ لَا تُصِبْنَا بِمَا يُنْقِصُ دِينَنَا مِنِ اعْتِقَادِ السُّوءِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ وَالْفَتْرَةِ فِي الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا، (وَلَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا) أَيْ لَا تَجْعَلْ طَلَبَ الْمَالِ وَالْجَاهِ أَكْبَرَ قَصْدِنَا أَوْ حُزْنِنَا، بَلِ اجْعَلْ أَكْبَرَ قَصْدِنَا أَوْ حُزْنِنَا مَصْرُوفًا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ، وَفِيهِ أَنَّ قَلِيلًا مِنَ الْهَمِّ فِيمَا لَابُدَ مِنْهُ فِي أَمْرِ الْمَعَاشِ مُرَخَّصٌ فِيهِ ; بَلْ مُسْتَحَبٌّ ; بَلْ وَاجِبٌ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ وَخَرَجَ بِأَكْبَرَ مَا لَوْ سَاوَى هَمَّ الْخَيْرِ وَهَمَّ الدُّنْيَا، أَوْ نَقُصَ الثَّانِي إِذْ صَاحِبُهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَا يُنَاسِبُ الدُّعَاءَ سِيَّمَا مِنْ صَاحِبِ الْحَالَةِ الْقَوِيَّةِ، وَالْمَرْتَبَةِ الْعَلِيَّةِ وَتَعْلِيمِ الْأُمَّةِ بِالزُّهْدِ فِي الْأُمُورِ الْمَرْوِيَّةِ، ثُمَّ أَغْرَبَ حَيْثُ تَرَجَّحَ وَتَعَبَّثَ، كَلَامُ الطِّيبِيِّ تَبَجُّحٌ، (وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا) أَيْ غَايَةَ عِلْمِنَا، أَيْ تَجْعَلْنَا حَيْثُ لَا نَعْلَمُ وَلَا نَتَفَكَّرُ إِلَّا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، بَلِ اجْعَلْنَا مُتَفَكِّرِينَ فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ، مُتَفَحِّصِينَ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْمَبْلَغُ الْغَايَةُ الَّتِي يَبْلُغُهُ الْمَاشِي وَالْمُحَاسَبُ فَيَقِفُ عِنْدَهُ قَالَ تَعَالَى:{فَأَعْرِضْ عَن مَّنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم: 29 - 30] وَقَالَ عز وجل {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7] وَفِي الْحَدِيثِ مَدْحُ مَنْ يَكُونُ بِعَكْسِ حَالِهِمْ مِنَ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْهُ ; أَيْ لَا يَعْلَمُونَ أُمُورَ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ عَالِمُونَ مُوقِنُونَ، (وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لَا يَرْحَمُنَا) أَيْ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، أَوْ مِنَ الْأُمَرَاءِ الظَّالِمِينَ، أَوْ مِنَ السُّفَهَاءِ الْجَاهِلِينَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ لَا تَجْعَلْنَا مَغْلُوبِينَ لِلْكُفَّارِ وَالظَّلَمَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ، وَلَا تَجْعَلِ الظَّالِمِينَ عَلَيْنَا حَاكِمِينَ فَإِنَّ الظَّالِمَ لَا يَرْحَمُ الرَّعِيَّةَ، ثُمَّ قَالَ وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ مَنْ لَا يَرْحَمُنَا عَلَى مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ فِي الْقَبْرِ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّكْرَارُ مَعَ قَوْلِهِ وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا اهـ.

وَالْأُولَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ فَيَكُونُ تَعْمِيمًا بَعْدَ تَخْصِيصٍ لِأَنَّهُ عَلَى فَرْضِ التَّخْصِيصِ لَا تَخْلِيصَ عَنِ التَّكْرَارِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ طَلَبِ الْأُمُورِ السَّابِقَةِ مِنَ الْخَشْيَةِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَالطَّاعَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: مَنْ لَا يَرْحَمُنَا لِكُفْرٍ، أَوْ عُتُوٍّ، أَوْ بِدْعَةٍ، أَوْ مِحْنَةٍ، نَحْوَ مَالٍ يُرِيدُهُ مِنَّا بِأَنْ تُجْعَلَ لَهُ قُوَّةٌ وَشَوْكَةٌ يَتَمَكَّنُ بِهَا عَلَى مَا يُرِيدُهُ مِنَّا، فَكُلُّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: مَنْ عَادَانَا، فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ وَبِمَا قَرَّرْتُهُ يُعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا لَا يُغْنِي عَنْ هَذَا، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَهُ.

ثُمَّ قَوْلُهُ وَإِنَّمَا سَأَلُوا ذَلِكَ لِضَعْفِهِمْ عَنِ احْتِمَالِ فِتْنَةِ الصَّبْرِ عَنِ الْأَذِيَّةِ، خَطَأٌ فَاحِشٌ فَإِنَّ السَّائِلَ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ الْكَامِلُونَ النَّازِلُ فِي حَقِّهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَالصَّابِرِينَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177] وَإِنَّمَا سَأَلَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا إِظْهَارًا لِلْعُبُودِيَّةِ، وَإِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْعَافِيَةَ أَوْسَعُ مِنَ الِابْتِلَاءِ بِالْبَلِيَّةِ، وَهَذَا كُلُّهُ قَبْلَ وُقُوعِ الْبَلَاءِ وَأَمَّا بَعْدُهُ فَيُحْكَمُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127] خِطَابًا لَهُ {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] فَيَرْجِعُونَ إِلَيْهِ تَعَالَى بِطَلَبِ التَّحَمُّلِ، وَيَدْعُونَ حِينَئِذٍ بِقَوْلِهِمْ {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126] (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.

ص: 1728

2493 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي وَزِدْنِي عِلْمًا، الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا.

ــ

2493 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ) أَيْ فِي دُعَائِهِ (اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي) أَيْ بِالْعَمَلِ بِعِلْمِي، (وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي) أَيْ عِلْمًا يَنْفَعُنِي هُوَ أَوِ الْعَمَلُ بِهِ فِي دِينِي وَآخِرَتِي، (وَزِدْنِي عِلْمًا) أَيْ لَدُنَّيًّا يَتَعَلَّقُ بِذَاتِكَ وَأَسْمَائِكَ وَصِفَاتِكَ وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِفَضِيلَةِ زِيَادَةِ الْعِلْمِ عَلَى الْعَمَلِ قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيِ اجْعَلْنِي عَامِلًا بِعِلْمِي وَعَلِّمْنِي عِلْمًا أَعْمَلُ بِهِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَعْنَى مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ثُمَّ طَلَبَ زِيَادَةَ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ نِهَايَةُ السُّلُوكِ وَهُوَ أَنْ يُوصِّلَ إِلَى مَخْدَعِ الْوِصَالِ قِيلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِطَلَبِ الزِّيَادَةِ فِي شَيْءٍ إِلَّا فِي الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ عز وجل {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ) أَيْ مُلَائِمٍ لِلنَّفْسِ وَغَيْرِهَا حَمْدًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا أَوْلَاهُ اسْتِجْلَابًا لِلْمَزِيدِ قَالَ تَعَالَى {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] ، وَاسْتَعَاذَ مِنْ حَالِ أَهْلِ الْقَطِيعَةِ وَالْبُعْدِ فَقَالَ (وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ) مِنَ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَابِ وَالْعِقَابِ فِي الْعُقْبَى (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) ، وَكَذَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، (وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا)، وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَنَسٍ وَلَفْظُهُمَا: اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي وَارْزُقْنِي عِلْمًا تَنْفَعُنِي بِهِ.

ص: 1728

2494 -

وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ سُمِعَ عِنْدَ وَجْهِهِ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ يَوْمًا فَمَكَثْنَا سَاعَةً، فَسُرِّيَ عَنْهُ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا وَأَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا وَأَرْضِنَا وَارْضَ عَنَّا، ثُمَّ قَالَ: أُنْزِلَ عَلَيَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ قَرَأَ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى خَتَمَ عَشْرَ آيَاتٍ» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.

ــ

2494 -

(وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ إِذَا أُنْزِلَ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِنْزَالِ، (سُمِعَ) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، (عِنْدَ وَجْهِهِ) أَيْ عِنْدَ قُرْبِ وَجْهِهِ بِحَذْفِ الْمُضَافِ (كَدَوِيِّ النَّحْلِ) أَيْ مِثْلِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ وَالدَّوِيُّ صَوْتٌ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهَذَا الصَّوْتُ هُوَ صَوْتُ جِبْرِيلَ عليه الصلاة والسلام، يَبْلُغُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْوَحْيَ، وَلَا يَفْهَمُ الْحَاضِرُونَ مِنْ صَوْتِهِ شَيْئًا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ سُمِعَ مِنْ جَانِبِ وَجْهِهِ وَجِهَتِهِ صَوْتٌ خَفِيٌّ كَانَ الْوَحْيُ كَانَ يُؤَثِّرُ فِيهِمْ وَيَنْكَشِفُ لَهُمُ انْكِشَافًا غَيْرَ تَامٍّ، فَصَارُوا كَمَنْ يَسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتٍ وَلَا يَفْهَمُهُ، أَوْ أَرَادَ لِمَا جَمَعُوهُ مِنْ غَطِيطِهِ وَشِدَّةِ تَنَفُّسِهِ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنْ وَجْهِهِ، وَادَّعَى أَنَّ هَذَا أَوْضَحُ وَهُوَ غَيْرُ وَاضِحٍ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَوْضَحَ، مَعَ أَنَّ الطِّيبِيَّ إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ حَاصِلَ الْمَعْنَى، وَإِلَّا فَلَا أَحَدَ يَقْرُبُ مِنْ وَجْهِهِ الشَّرِيفِ لِيَسْمَعَ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، وَكَانَ يَحْصُلُ لَهُ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ سَمَاعِ الْوَحْيِ مِنَ الْغَطِيطِ وَشِدَّةِ التَّنَفُّسِ وَتَوَاتُرِ النَّفَسِ النَّاشِئِ عَنْ مَجِيءِ الْمَلَكِ لَهُ فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ إِذْ لَا تَحْتَمِلُ ذَلِكَ الْقُوَّةُ الْبَشَرِيَّةُ مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ مَا، وَكَانَ يَتَفَصَّدُ عَرَقًا مِنْ ثِقَلِ الْوَحْيِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] عَلَى مَا قِيلَ وَلَوْ فِي شِدَّةِ الْبَرْدِ مِنْ شِدَّةِ مَا يَجِدُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ يُؤْخَذُ عَنِ الدُّنْيَا حَتَّى يُمَكِنَهُ التَّلَقِّي مِنَ الْمَلَكِ إِذَا أَتَاهُ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُهُ التَّلَقِّي مَعَهَا، (فَأُنْزِلْ عَلَيْهِ) أَيِ الْوَحْيُ، (يَوْمًا) أَيْ نَهَارًا أَوْ وَقْتًا، (فَمَكَثْنَا) فَتْحُ الْكَافِ وَضَمُّهَا أَيْ لَبِثْنَا، (سَاعَةً) أَيْ زَمَنًا يَسِيرًا نَنْتَظِرُ الْكَشْفَ عَنْهُ، (فَسُرِّيَ) بِضَمِّ السِّينِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ كُشِفَ، (عَنْهُ) وَزَالَ عَنْهُ مَا اعْتَرَاهُ مِنْ بَرْحَاءِ الْوَحْيِ وَشِدَّتِهِ، (فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ) أَيْ جِهَةَ الْكَعْبَةِ، (وَرَفَعَ يَدَيْهِ) إِيمَاءً إِلَى طَلَبِ الدَّارَيْنِ، (وَقَالَ اللَّهُمَّ زِدْنَا) أَيْ مِنَ الْخَيْرِ وَالتَّرَقِّي أَوْ كَثِّرْنَا، (وَلَا تَنْقُصْنَا) أَيْ خَيْرَنَا وَمَرْتَبَتَنَا وَعَدَدَنَا قَالَ الطِّيبِيُّ: عُطِفَتْ هَذِهِ النَّوَاهِي عَلَى الْأَوَامِرِ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ، وَحَذُفُ الْمَفْعُولَاتِ لِلتَّعْمِيمِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: تَبَعًا لِلطِّيبِي أَنَّهُ أَفَادَ بِحَذْفِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي هُنَا، وَفِيمَا يَأْتِي إِجْرَاءٌ لِهَذَا مَجْرَى فُلَانٍ يُعْطَى مُبَالَغَةً وَتَعْمِيمًا اهـ. وَفِيهِ بَحْثٌ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ قَالَ الشَّارِحُ وَلَا تَنْقُصْنَا وَنَحْوُهُ تَأْكِيدٌ، وَهُوَ عَجِيبٌ إِذِ الْمُرَادُ اللَّهُمَّ زِدْنَا عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ وَقْتَ هَذَا الطَّلَبِ، وَلَا تَنْقُصْنَا عَنْهُ، وَحِينَئِذٍ فَالزِّيَادَةُ الْمَسْئُولَةُ أَوَّلًا غَيْرُ عَدَمِ النَّقْصِ الْمَسْئُولِ ثَانِيًا فَلَا تَأْكِيدَ هُنَا اهـ.

وَهُوَ غَرِيبٌ إِذِ الْعِلْمُ بِالْمُرَادِ بِعِيدٌ غَيْرُ قَرِيبٍ، وَعَلَى فَرْضِهِ إِذَا كَانَ الدُّعَاءُ بِالْأَمْرِ مُقَيَّدًا بِزَمَانِهِ ; فَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ بِالنَّهْيِ، فَرَجَعَ إِلَى مَعْنَى التَّأْكِيدِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ الْمَفْهُومُ الْمُخَالِفُ الْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُ بِالتَّقْيِيدِ فِي الْقَرِينَتَيْنِ، (وَأَكْرِمْنَا) بِقَضَاءِ مَأْرَبِنَا فِي الدُّنْيَا وَرَفْعِ مَنَازِلِنَا فِي الْعُقْبَى، (وَلَا تُهِنَّا) أَيْ لَا تُذِلَّنَا، أَيْ بِضِدِّ ذَلِكَ وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ بِأَنْ تُنْزِلَنَا إِلَى هُوَّةِ غَضَبِكَ هَذَا مَعْلُومٌ مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِهِ فِيمَا سَيَأْتِي ارْضَ عَنَّا فَبَطَلُ قَوْلُهُ، وَكَذَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا تَأْكِيدَ هُنَا أَيْضًا لِاخْتِلَافِ الْمَطْلُوبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ وَأَصْلُهُ وَلَا تُهْوِنْنَا فَنُقِلَتْ كَسْرَةُ الْوَاوِ إِلَى الْهَاءِ فَالْتَقَتْ سَاكِنَةً مَعَ النُّونِ الْأُولَى السَّاكِنَةِ فَحُذِفَتْ وَأُدْغِمَتِ النُّونُ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ اهـ.

(وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا) بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ تَمْنَعْنَا أَوْ لَا تَجْعَلْنَا مَحْرُومِينَ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: التَّأْكِيدُ هُنَا وَاضِحٌ، قُلْتُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَا سَبَقَ عَلَيْهِمَا فَتَدَبَّرْ، (وَآثِرْنَا) أَيِ اخْتَرْنَا بِرَحْمَتِكَ وَعِنَايَتِكَ وَحَسْنِ رِعَايَتِكَ، (وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا) أَيْ غَيْرَنَا بِلُطْفِكَ وَحِمَايَتِكَ ; وَقَالَ الْقَاضِي: أَيْ لَا تُغَلِّبْ عَلَيْنَا أَعْدَاءَنَا، (وَأَرْضِنَا) مِنَ الْإِرْضَاءِ ; أَيْ بِمَا قَضَيْتَ عَلَيْنَا بِإِعْطَاءِ الصَّبْرِ وَتَوْفِيقِ الشُّكْرِ وَتَحَمُّلِ الطَّاعَةِ، (وَارْضَ عَنَّا) أَيْ بِالطَّاعَةِ الْيَسِيرَةِ الْحَقِيرَةِ الَّتِي فِي جُهْدِنَا وَلَا تُؤَاخِذْنَا بِسُوءِ أَعْمَالِنَا، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ رِضًا لَا سُخْطَ بَعْدَهُ اهـ. فَإِنْ أَرَادَ بِهِ التَّأْكِيدَ فَلَا كَلَامَ فِيهِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ التَّقْيِيدَ فَخَطَأٌ فَاحِشٌ، لِأَنَّ الرِّضَا صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ أَزَلِيَّةٌ لَا تَغَيُّرَ فِيهَا بَعْدَ تَعَلُّقِهَا، (ثُمَّ قَالَ: أُنْزِلَ عَلَيَّ) أَيْ آنِفًا، (عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أَقَامَهُنَّ) أَيْ قَامَ بِهِنَّ، (دَخَلَ الْجَنَّةَ) أَيْ مَعَ الْأَبْرَارِ، (ثُمَّ قَرَأَ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) أَيْ فَازُوا فَوْزًا عَظِيمًا، (حَتَّى خَتَمَ عَشْرَ آيَاتٍ) تَمَامَهَا {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] أَيْ خَاضِعُونَ قَلْبًا وَقَالِبًا {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ} [المؤمنون: 3] أَيْ عَمَّا لَا يَعْنِيهِمْ قَوْلًا وَفِعْلًا {مُعْرِضُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ} [المؤمنون: 3 - 4] أَيْ لِأَدَاءِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ بَعْدَ قِيَامِهِمْ بِالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَتَرْكِهِمُ الْأَخْلَاقَ الرَّدِيَّةَ {فَاعِلُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ - إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} [المؤمنون: 4 - 6] أَيْ مِنَ النِّسَاءِ {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] أَيْ مِنَ السَّرَارِي {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] قِيلَ لَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ وَأَلْفُ سَرِيَّةٍ ثُمَّ اشْتَرَى سَرِيَّةً

ص: 1729

فَلَامَهُ أَحَدٌ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} [المؤمنون: 7] ، كَالِاسْتِمْنَاءِ عَلَى قَصْدِ الشَّهْوَةِ، {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] ، أَيِ الْمُتَجَاوِزُونَ عَنْ حَدِّ الْحَلَالِ الْوَاقِعُونَ فِي حَدِّ الْحَرَامِ، {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8] ، أَيْ وَمُحَافِظُونَ، {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ} [المعارج: 33] أَيْ بِأَدَائِهَا، {قَائِمُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ} [المؤمنون: 33 - 9] ، أَيْ بِشُرُوطِهَا وَآدَابِهَا {يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9] خَتَمَ بِمَا بَدَأَ بِهِ اهْتِمَامًا بِأَمْرِ الصَّلَاةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَهَذِهِ عَشْرُ آيَاتٍ قَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ} [المؤمنون: 61] أَيِ الْمَوْصُوفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ {هُمُ الْوَارِثُونَ - الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} [المؤمنون: 10 - 11] وَهُوَ أَعْلَى الْجَنَّةِ {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 11] أَيْ بَاقُونَ دَائِمُونَ بِبَقَائِهِ، مُتَلَذِّذُونَ بِنِعْمَةِ لِقَائِهِ، رَزَقَنَا اللَّهُ مَعَ أَوْلِيَائِهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ رحمه الله.

ص: 1730

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

2495 -

عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ رضي الله عنه قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي فَقَالَ (إِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ، وَإِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ) . قَالَ: فَادْعُهُ. قَالَ: فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ الْوُضُوءَ وَيَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي لِيَقْضِيَ لِي فِي حَاجَتِي هَذِهِ، اللَّهُمَّ فَشَفِّعْهُ لِي» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

2495 -

(عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ) : بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مُصَغَّرًا (قَالَ: إِنَّ رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ) : أَيْ: ضَعِيفَ النَّظَرِ، أَوْ أَعْمًى ( «أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي» ) : أَيْ: مِنْ ضَرَرِي فِي نَظَرِي [فَقَالَ: (إِنْ شِئْتَ) : أَيْ: اخْتَرْتَ الدُّعَاءَ (دَعَوْتُ) : أَيْ: لَكَ (وَإِنْ شِئْتَ) : أَيْ: أَرَدْتَ الصَّبْرَ وَالرِّضَا (صَبَرْتَ فَهُوَ) : أَيْ: الصَّبْرُ (خَيْرٌ لَكَ) : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: «إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ ثُمَّ صَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ» ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَلَوْ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ فِيهِ نَظَرٌ لِمُخَالَفَتِهِ نَصَّ الْحَدِيثِ، وَلِعَدَمِ الضَّرُورَةِ الْكَامِلَةِ فِي فَقْدِ إِحْدَاهُمَا لِحُصُولِ أَصْلِ الْمَقْصُودِ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، (قَالَ) : أَيِ: الرَّجُلُ (فَادْعُهُ) بِالضَّمِيرِ: أَيِ: ادْعُ اللَّهَ أَوِ اسْأَلِ الْعَافِيَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ لِلسَّكْتِ.

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَإِنَّمَا اخْتَارَ الدُّعَاءَ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ الْأَمْرَيْنِ مَعَ إِمْكَانِ حُصُولِ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الْجَمْعِ، بَلْ فِيهِ مَا يُشْعِرُ بِأَنَّ هُنَاكَ مَا يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الْخُلُوِّ فِيهِ أَنَّ مَنْ خُيِّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ فَاخْتَارَ الْمَفْضُولَ مِنْهُمَا لَا حَرَجَ عَلَيْهِ، عَلَى أَنْ يَحْتَمِلَ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ ظَنَّ أَنَّ فِي عَوْدِ بَصَرِهِ إِلَيْهِ مَصَالِحَ دِينِيَّةً يَفُوقُ ثَوَابُهَا ثَوَابَ الصَّبْرِ.

قُلْتُ: عَلَى هَذِهِ لِلضَّرَرِ، لِأَنَّهُ كَيْفَ يَظُنُّ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام، فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] وَيُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله حَيْثُ قَالَ: أَسْنَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الدُّعَاءَ إِلَى نَفْسِهِ، وَكَذَا طَلَبَ الرَّجُلُ أَنْ يَدْعُوَ هُوَ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أَمَرَهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَدْعُوَ هُوَ، أَيِ الرَّجُلُ كَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرْضَ مِنْهُ اخْتِيَارَهُ الدُّعَاءَ لَمَّا قَالَ: الصَّبْرُ خَيْرٌ لَكَ، لَكِنْ فِي جَعْلِهِ شَفِيعًا لَهُ وَوَسِيلَةً فِي اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ مَا يُفْهَمُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم شَرِيكٌ فِيهِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ كَلَامِهِ السَّابِقِ: وَكَذَا يَنْدَفِعُ قَوْلُ الشَّارِحِ عَلَى أَنَّهُ هُوَ رَدَّهُ بِقَوْلِهِ لَكِنْ فِي جَعْلِهِ إِلَخْ. فَحَصَلَ مِنْهُ خَبَاطَاتٌ عَجِيبَةٌ وَخَيَالَاتٌ غَرِيبَةٌ.

(فَأَمَرَهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: قَالَ: أَيْ عُثْمَانُ فَأَمَرَهُ (أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ الْوُضُوءَ) : أَيْ: يَأْتِي بِكَمَالَاتِهِ مِنْ سُنَنِهِ وَآدَابِهِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: أَيْ يَأْتِي بِوَاجِبَاتِهِ أَوْ وَمُكَمِّلَاتِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ لَقَالَ فَيَتَوَضَّأَ، فَلَا بُدَّ فِي قَوْلِهِ فَيُحْسِنَ الْوُضُوءَ مِنْ تَحْصِيلِ الْمُكَمِّلَاتِ لِيَكُونَ فِي الزِّيَادَةِ إِفَادَةٌ حَسَنَةٌ، أَيْ: وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ. [وَيَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ) : أَيْ: أَطْلُبُكَ مَقْصُودِي فَالْمَفْعُولُ مُقَدَّرٌ أَيْ: أَدْعُوكَ فَيَكُونُ أَلْطَفَ سُؤَالٍ إِلَى أَشْرَفِ نَوَالٍ (وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ (مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ) : أَيْ: دَافَعِ الرَّحْمَةِ وَكَاشِفِ الْغُمَّةِ، وَشَفِيعِ الْأُمَّةِ الْمَنْعُوتِ بِكَوْنِهِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، الْمُرْسَلِ إِلَى أُمَّةٍ مَرْحُومَةٍ مِنْ عِنْدِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ،

ص: 1730

وَمَا أَحْسَنَ مَوْقِعَ الرَّحْمَةِ فِي مَوْضِعِ كَشْفِ الْغُمَّةِ وَمَوْقِعِ الشَّفَاعَةِ لِلْأُمَّةِ (إِنِّي تَوَجَّهْتُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَتَوَجَّهُ (بِكَ) : وَالْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبَاءِ الْأُولَى حَيْثُ جَعَلَهَا لِلتَّعْدِيَةِ مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ الْمُتَوَجَّهَ بِهِ فِي الْأَوَّلِ هُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَيَتَعَيَّنُ مَعْنَى التَّعْدِيَةِ، وَفِي الثَّانِي هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَصْرُ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الِاسْتِعَانَةِ فِي غَيْرِهِ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا، وَلَمَّا خَفِيَ هَذَا الْفَرْقُ الْجَلِيُّ عَلَى ابْنِ حَجَرٍ اعْتَرَضَ عَلَى الطِّيبِيِّ رحمه الله، وَأَشَارَ أَنَّهَا لِلتَّعْدِيَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِي رِوَايَةٍ يَا مُحَمَّدُ صلى الله عليه وسلم (إِنِّي تَوَجَّهْتُ (إِلَى رَبِّي لِيَقْضِيَ) : بِالْغَيْبَةِ أَيْ رَبِّي، وَقِيلَ بِالْخِطَابِ أَيْ: لِتَوَقُّعِ الْقَضَاءِ (لِي فِي حَاجَتِي هَذِهِ) : وَجَعَلَهَا مَكَانًا لَهُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي.

وَيَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي وَ (لِي) لِلْإِجْمَالِ حَتَّى يَفْصِلَ لِيَكُونَ أَوْقَعَ عَلَى طَرِيقَةِ: " اشْرَحْ لِي صَدْرِي "، كَذَا حَقَّقَهُ الطِّيبِيُّ، وَكَانَ ابْنُ حَجَرٍ مَا فَهِمَ كَلَامَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ. وَقَالَ: اللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ، وَفِي لِلْمَكَانِ الْمَجَازِيِّ مُبَالَغَةً وَكَلَامُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلِاخْتِصَاصِ، إِذْ يَلْزَمُ مِنْهُ تَضْيِيقُ الْوَاسِعِ كَمَا وَرَدَ أَنَّهُ قَالَ أَعْرَابِيٌّ:«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَغْفِرْ مَعَنَا أَحَدًا، فَقَالَ: (لَقَدْ تَحَجَّرْتَ وَاسِعًا» ) أَيْ: ضَيَّقْتَ مَا وَسَّعَهُ اللَّهُ فَخَصَصْتَ بِهِ نَفْسَكَ دُونَ غَيْرِكَ، وَأَمَّا الثَّانِي فَمَحَلُّ الْإِشْكَالِ فِيهِ أَنَّ الْقَضَاءَ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِي زِيَادَةٍ فِي؟ فَأَجَابُوا فِيهِ وَأَمْثَالِهِ: أَنَّ التَّعْدِيَةَ بِفِي إِنَّمَا هُوَ لِتَضْمِينِ مَعْنَى الْإِيقَاعِ الَّذِي لَا يَتَعَدَّى إِلَّا بِفِي، وَلَا يُتَصَوَّرُ الْقَضَاءُ فِي مَكَانٍ حَقِيقِيٍّ حَتَّى يُقَالَ هُنَا لِلْمَكَانِ الْمَجَازِيِّ، وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ لِلْمَجَازِيِّ كَمَا فِي قَوْلِكَ: نَظَرْتُ فِي الْكِتَابِ فَأَيُّ مُبَالَغَةٍ فِيهِ، فَتَأَمَّلَ فِيهِ تَنْبِيهٌ نَبِيهٌ.

وَفِي أَصْلِ الْحِصْنِ: وَأَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِيَقْضِيَ لِي عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، (اللَّهُمَّ) : الْتِفَاتٌ ثَانٍ (فَشَفِّعْهُ) : بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ أَيْ: اقْبَلْ شَفَاعَتِي (فِي) : أَيْ: فِي حَقِّي. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله الْفَاءُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَتَوَجَّهُ أَيْ: اجْعَلْهُ شَفِيعًا لِي (" فَشَفِّعْهُ ") وَقَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ) : مُعْتَرِضَةٌ، وَقَوْلُهُ: إِنِّي تَوَجَّهْتُ بِكَ بَعْدَ قَوْلِهِ: إِنِّي أَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ فِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] سَأَلَ اللَّهَ أَوَّلًا بِطَرِيقِ الْخِطَابِ، ثُمَّ تَوَسَّلَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى طَرِيقَةِ الْخِطَابِ ثَانِيًا، ثُمَّ ذَكَرَ إِلَى خِطَابِ اللَّهِ طَالِبًا مِنْهُ أَنْ يَقْبَلَ شَفَاعَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَقِّهِ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ) : رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

ص: 1731

2496 -

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «كَانَ مِنْ دُعَاءِ دَاوُدَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَالْعَمَلَ الَّذِي يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَمَالِي وَأَهْلِي، وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ» ) قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا ذَكَرَ دَاوُدَ يُحَدِّثُ عَنْهُ: يَقُولُ: ( «كَانَ أَعْبَدَ الْبَشَرِ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

ــ

2496 -

[وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (كَانَ مِنْ دُعَاءِ دَاوُدَ يَقُولُ) : اسْمُ كَانَ بِحَذْفِ إِنَّ كَمَا فِي: أَحْضُرَ الْوَغَى أَيْ قَوْلُهُ: ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ» ) : مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، إِذْ فِيهِ تَلْمِيحٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: حُبِّي إِيَّاكَ، فَإِنَّهُ فَاتِحَةُ كُلِّ كَمَالٍ فَغَفْلَةٌ عَنِ اصْطِلَاحِ أَرْبَابِ الْحَالِ، ( «وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ» ) : كَمَا سَبَقَ، أَمَّا الْإِضَافَةُ إِلَى الْمَفْعُولِ فَهُوَ ظَاهِرٌ كَمَحَبَّتِكَ لِلْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ، وَأَمَّا الْإِضَافَةُ إِلَى الْفَاعِلِ فَهُوَ مَطْلُوبٌ أَيْضًا، كَمَا

ص: 1731

وَرَدَ فِي الدُّعَاءِ: «وَحَبِّبْنَا إِلَى أَهْلِهَا وَحَبِّبْ صَالِحِي أَهْلِهَا إِلَيْنَا» . وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي الدُّعَاءِ مِنْ سُؤَالِ حُبِّ الْمَسَاكِينِ فَمُحْتَمَلٌ، (وَالْعَمَلَ) : بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ أَيْ: وَحُبَّ الْعَمَلِ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ فَقَطْ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْيِيدِهِ لِقَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: الصَّالِحِ فَإِنَّهُ اسْتَغْنَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (الَّذِي يُبَلِّغُنِي) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ أَيْ يُوصِلُنِي وَيُحَصِّلُ لِي (حُبَّكَ) : يَحْتَمِلُ الِاحْتِمَالَيْنِ ( «اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ» ) : أَيْ: حُبِّي إِيَّاكَ ( «أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَمَالِي وَأَهْلِي» ) : أَيْ: مِنْ حُبِّهِمَا حَتَّى أُوثِرَهُ عَلَيْهِمَا. قَالَ الْقَاضِي عَدَلَ عَنِ اجْعَلْ نَفْسَكَ مُرَاعَاةً لِلْأَدَبِ، حَيْثُ لَمْ يَرِدْ أَنْ يُقَابِلَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ عز وجل فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّهُ إِنَّمَا عَدَلَ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. قُلْتُ: بَلْ إِطْلَاقٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّنْزِيلِ مُشَاكَلَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] اهـ. وَفِيهِ أَنَّ الْمُشَاكَلَةَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الثَّانِي لَا فِي الْأَوَّلِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْبَيَانِيُّونَ، لَكِنِّي وَجَدْتُ الْمُشَاكَلَةَ فِي الْأَوَّلِ أَيْضًا فِي الْبُخَارِيِّ:«وَثَبَتَ عَلَيْنَا حَيَّةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (اقْتُلُوهَا) فَذَهَبَتْ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وُقِيتُمْ شَرَّهًا» ) .

وَأَمَّا قَوْلُ السُّيُوطِيِّ رحمه الله: وَقَدْ يَتَقَدَّمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] نَعَمْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ مُشَاكَلَةٍ أَيْضًا: أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ، لَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ إِطْلَاقَ النَّفْسِ بِمَعْنَى الذَّاتِ يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ النَّفْسَ بِمَعْنَى التَّنَفُّسِ فَلَا يُطْلَقُ، وَحَيْثُ أَنَّ اللَّفْظَ مُوهِمٌ، فَجَوَازُ الْإِطْلَاقِ تَوْقِيفِيٌّ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ.

وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَتَجْوِيزُ الشَّارِحِ هَذِهِ الْمُشَاكَلَةَ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ مَا وَرَدَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى مُوهِمٌ نَقْصًا لَا يَجُوزُ إِلَّا بِاللَّفْظِ الْوَارِدِ فِيهِ، وَأَمَّا اخْتِرَاعُ لَفْظٍ آخَرَ وَذِكْرُهُ فِيهِ، فَلَا يَجُوزُ، وَإِنْ قُلْنَا بِمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْبَاقِلَّانِيُّ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ الَّتِي لَمْ تَرِدْ، لِأَنَّ مَحَلَّ الْجَوَازِ عِنْدَهُمَا فِيمَا لَا يُوهِمُ نَقْصًا بِوَجْهٍ فَمُمْتَنِعٌ بِاتِّفَاقِ الْكُلِّ، وَهَذَا أَبْلَغُ رَادٍّ لِكَلَامِ الشَّارِحِ، فَأَعْرِضْ عَنْهُ وَلَا تَلْفِتْ إِلَيْهِ، فَأَمْرٌ غَرِيبٌ وَنَهْيٌ عَجِيبٌ وَمَنْشَؤُهُ عَدَمُ فَهْمِهِ، وَاقْتِصَارُ عِلْمِهِ عَلَى فِقْهِهِ فَإِنَّ كَلَامَ الشَّارِحِ أَنَّ مُقْتَضَى الْمُقَابَلَةِ الْمُبَالَغَةُ فِي كَلَامِهِ عليه الصلاة والسلام أَنْ يُقَالَ اجْعَلْ حُبَّ نَفْسِكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، لَكِنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَدَلَ إِلَيْهِ تَأَدُّبًا مِنْ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ مُقَابِلًا لِنَفْسِهِ تَعَالَى، وَإِلَّا فَلَوْلَا هَذِهِ الْمُلَاحَظَةُ وَأَطْلَقَ فَرْضًا، لَكَانَ هَذَا الْإِطْلَاقُ جَائِزًا مِنْهُ عليه الصلاة والسلام لِأَنَّهُ الشَّارِعُ، وَحِينَئِذٍ كَانَ يَصِحُّ كَلَامُهُ بِالْمُشَاكَلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: لِأَنَّ مَا وَرَدَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى إِلَخْ. تَطْوِيلٌ عَبَثٌ، إِذْ لَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَقَوْلُهُ أَمَّا اخْتِرَاعُ لَفْظٍ آخَرَ فَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنَ الشَّارِعِ، فَهَذَا كُفْرٌ مَحْضٌ لِأَنَّهُ وَرَدَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم إِطْلَاقُ النَّفْسِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ مُشَاكَلَةٍ فِي قَوْلِهِ: أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ، فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِ فَحَشْوٌ، إِذْ لَيْسَ الْكَلَامُ فِي غَيْرِهِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ مَذْهَبِ الْغَزَالِيِّ وَالْبَاقِلَّانِيِّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: فَخَارِجٌ عَنِ الْمَبْحَثِ أَيْضًا إِذْ بَحْثُ الْمُشَاكَلَةِ أَعَمُّ مِنَ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ، وَأَيْضًا مَذْهَبُهُمَا فِي الْمُخْتَرَعِ لَا فِيمَا وَرَدَ مِنَ الشَّارِعِ، وَلَوْ وَرَدَ مِنْهُ فَرْضًا، فَلَهَذَا أَبْلَغُ رَادٍّ لِكَلَامِهِ وَفَهْمِ مَرَامِهِ، فَأَعْرِضْ عَنْهُ وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَيْهِ

(وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ) : دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ مَحْبُوبًا جِدًّا أَعَادَ مِنْ هَاهُنَا لِبَدَلِ اسْتِقْلَالِ الْمَاءِ الْبَارِدِ فِي كَوْنِهِ مَحْبُوبًا، وَذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، فَإِنَّهُ يَعْدِلُ بِالرُّوحِ. وَعَنْ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ: لَيْسَ لِلْمَاءِ قِيمَةٌ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَى إِذَا وُجِدَ، وَلَا يُبَاعُ إِذَا فُقِدَ. وَعَنْ بَعْضِ الْعُرَفَاءِ إِذَا شَرِبْتُ الْمَاءَ الْبَارِدَ أَحْمَدُ رَبِّي مِنْ صَمِيمِ قَلْبِي، وَيُمْكِنُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ رُوحِهِ، لِأَنَّ حَيَاتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَاءِ. قَالَ تَعَالَى:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ نَفْسِي مُرَادَاتُهَا وَمُشْتَهَيَاتُهَا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: عَجِيبٌ قَوْلُ الشَّارِحِ وَعَنْ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ: لَيْسَ لِلْمَاءِ قِيمَةٌ إِلَخْ. فَإِنَّهُ إِنْ أَرَادَ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ لِلْمَاءِ كَانَ بَاطِلًا بَلْ هُوَ مِثْلِيٌّ تَارَةً وَمُتَقَوِّمٌ أُخْرَى، وَإِنْ كُنِيَ بِذَلِكَ عَنْ نَفَاسَةِ الْمَاءِ كَانَتِ الْعِبَارَةُ قَاصِرَةً، وَكَانَ يَكْفِي فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ مَا صَرَّحَ بِهِ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الشَّرْبَةَ قَدْ تُسَاوِي دَنَانِيرَ، لَا لِكَوْنِ

ص: 1732

ذَلِكَ قِيمَةً لَهُ، بَلْ لِتُوَقُّفِ الْحَيَاةِ عَلَيْهِ، فَمَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِهِ الْبَاطِلِ مِنْ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْفِقْهِ مُنْحَصِرَةٌ فِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ، إِذِ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ مِنَ الْمِثْلِيِّ وَالْقِيمِيِّ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْجُهَلَاءِ فَضْلًا عَنِ الْفُضَلَاءِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ الْفَاضِلَ إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ نَفَاسَةَ الْمَاءِ بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ الْمَاءِ عِنْدَ أَحَدٍ لَا يَشْتَرِيهِ، فَلَا يَكُونُ قِيمَةً لَهُ عِنْدَهُ، وَإِذَا فُقِدَ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ عِنْدَ أَحَدٍ بِالْبَيْعِ صَحَّ أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَشْتَرِي بِهِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ قُصُورُ عِبَارَةِ فُقَهَائِهِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الشَّرْبَةَ قَدْ تُسَاوِي دَنَانِيرَ لَا لِكَوْنِ ذَلِكَ قِيمَةً لَهُ، فَإِنَّهُ ظَاهِرُ الْمُنَاقَضَةِ لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ يُسَاوِي شَيْئًا سَوَاءً كَانَ مَاءً أَوْ حَجَرًا أَوْ طَعَامًا أَوْ شَجَرًا، لَا يُقَالُ فِي حَقِّهِ إِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ قِيمَةً لَهُ، فَتَصْحِيحُ كَلَامِهِمْ نَفْيُ الْقِيمَةِ الْعَادِيَّةِ ثُمَّ قَوْلُهُ: بَلْ لِتَوَقُّفِ الْحَيَاةِ عَلَيْهِ، لَا يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ مِنْ كَلَامِهِمْ، أَوْ مِنْ كَلَامِهِ، مَعَ أَنَّهُ الظَّاهِرُ لِعَدَمِ مُتَعَلِّقِ اللَّامِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ سِيَاقِهِ أَنَّ مُرَادَهُ أَنْ لَيْسَ لَهُ قِيمَةٌ لِأَنَّهُ سَاوَى دَنَانِيرَ عَلَى خِلَافِ جَرْيِ الْعَادَةِ، وَإِنَّمَا يَشْتَرِي لِتَوَقُّفِ الْحَيَاةِ عَلَيْهِ، لَا لِكَوْنِهِ يُسَوَّى بِالدَّنَانِيرِ، وَلَا لِكَوْنِهَا قِيمَةً لَهُ، وَهَذَا سَفْسَافٌ مِنَ الْكَلَامِ لِأَنَّ حَجَرًا إِذَا سَوَى أُلُوفًا مِنَ الدَّنَانِيرِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، لَا يُقَالُ فِيهِ إِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ قِيمَةً لَهُ، فَإِذَا كَانَ يَشْتَرِي الْمَاءَ بِالدَّنَانِيرِ لِتَوُقُّفِ الْحَيَاةِ عَلَيْهِ كَيْفَ يُقَالُ إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ قِيمَةً لَهُ؟

وَبِذَلِكَ تَظْهَرُ مُخَالَفَةُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ لِلْفُقَهَاءِ حَيْثُ قَالُوا: الْمَاءُ إِذَا تَجَاوَزَ عَنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ جَازَ التَّيَمُّمُ، وَأَبَى الْحَسَنُ فَقَالَ: لَوْ كَانَ عِنْدِي جَمِيعُ مَالِ الدُّنْيَا فَأَدْفَعُهُ إِلَى الْمَاءِ وَأَتَوَضَّأُ بِهِ وَلَا يَصِحُّ لِيَ التَّيَمُّمُ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ اخْتَارَ مَذْهَبَ الْخَوَاصِّ وَالْفُقَهَاءِ إِلَى الْحَرَجِ الْعَامِّ رَحْمَةً عَلَى الْعَوَامِّ.

وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْمُعْتَرِضَ مَا فَهِمَ كَلَامَ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا حَقَّ التَّفَهُّمِ، بَلْ أَخَذَ عَنْهُمْ تَقْلِيدًا، وَتَوَهَّمَ التَّقَدُّمَ.

وَمِمَّا يُلَائِمُ قَضِيَّةَ عِزَّةِ الْمَاءِ مَا حُكِيَ أَنَّ مَلِكًا وَقَعَ فِي صَحْرَاءَ وَغَلَبَ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَظَهَرَ لَهُ مِنْ رِجَالِ الْغَيْبِ شَخْصٌ مَعَهُ مَاءٌ، فَطَلَبَ مِنْهُ فَأَبَى، فَعَرَضَ عَلَيْهِ نِصْفَ مُلْكِهِ، فَأَعْطَاهُ ثُمَّ حَصَلَ لَهُ بَعْدَ الشُّرْبِ عُسْرُ الْبَوْلِ الَّذِي لَا يُطِيقُ الصَّبْرَ عَلَيْهِ فَقَالَ لِلشَّخْصِ: إِنْ دَاوَيْتَهُ فَأُعْطِيكَ مُلْكِي كُلَّهُ، فَدَعَا لَهُ فَحَصَلَ لَهُ الْفَرَجُ فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْمُلْكَ فَقَالَ: مُلْكٌ يَسْوِي نِصْفُهُ لِدُخُولِ شَرْبَةٍ، وَنِصْفُهُ لِخُرُوجِهَا لَا قِيمَةَ لَهُ. فَكَيْفَ أَخْتَارُهُ؟

وَكَذَا يَتَبَيَّنُ مَا وَرَدَ عَنْهُ: صلى الله عليه وسلم ( «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ لَمَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» ) يَعْنِي: فَالْحِكْمَةُ فِي إِطْعَامِهِمْ وَإِسْقَائِهِمْ وَإِبْقَائِهِمْ وَزِيَادَةِ إِنْعَامِهِمْ أَنَّ الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ.

(قَالَ) أَيْ: أَبُو الدَّرْدَاءِ (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا ذَكَرَ) : أَيْ: هُوَ (دَاوُدَ يُحَدِّثُ عَنْهُ) : أَيْ: يَحْكِي (يَقُولُ) : بَدَلٌ مِنْ يُحَدِّثُ كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُحَدِّثُ، (كَانَ) : أَيْ: دَاوُدُ (أَعْبَدَ الْبَشَرِ) : أَيْ: فِي زَمَانِهِ، كَذَا قَيَّدَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْإِطْلَاقِ لَا مَحْذُورَ فِيهِ، إِلَّا لَا يَلْزَمُ مِنَ الْأَعْبَدِيَّةِ الْأَعْلَمِيَّةُ فَضْلًا مِنَ الْأَفْضَلِيَّةِ، وَقِيلَ: هُوَ أَكْثَرُهُمْ شُكْرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ: 13] أَيْ بَالِغْ فِي شُكْرِي، وَابْذُلْ وُسْعَكَ فِيهِ، كَذَا وَذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله.

وَفِيهِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَى أَنَّهُ أَكْثَرُ الْبَشَرِ شُكْرًا عَلَى الْإِطْلَاقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ نُوحٍ {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3] نَعَمْ يُفْهَمُ مِنْ كَوْنِهِ نَبِيًّا أَنَّهُ أَكْثَرُ أَهْلِ زَمَنِهِ شُكْرًا، كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ: 13] حَيْثُ اكْتَفَى مِنْ آلِ دَاوُدَ بِمُطْلَقِ عَمَلِ الشُّكْرِ، ثُمَّ ذَيَّلَهُ بِقَوْلِهِ الْمُنَزَّلِ مَنْزِلَةَ التَّعْلِيلِ:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] إِشَارَةً إِلَى أَنَّ مَرْتَبَةَ الشَّكُورِ إِنَّمَا هِيَ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَبِقَدْرِ مُتَابَعَتِهِمْ حَاصِلَةٌ لِلْأَصْفِيَاءِ، وَبِهَذَا يَصِحُّ قَوْلُهُ: أَيْ بَالِغْ فِي شُكْرِكَ، وَإِلَّا فَهُوَ غَيْرُ مَأْخُوذٍ مِنْ قَوْلِهِ:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ: 13] قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله قَوْلُهُ: يُحَدِّثُ يُرْوَى مَرْفُوعًا جَزَاءً لِلشَّرْطِ إِذَا كَانَ مَاضِيًا وَالْجَزَاءُ مُضَارِعًا يَسُوغُ فِيهِ الْوَجْهَانِ اهـ. وَمُرَادُهُ أَنَّ الرَّفْعَ مُتَعَيِّنٌ، وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ إِذَا يَجْزِمُ كَمَا ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ:

وَإِذَا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَحَمَّلِ فَإِنَّ الشَّرْطَ الْجَازِمَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مَاضِيًا وَالْجَزَاءُ مُضَارِعًا يَسُوغُ فِيهِ الْوَجْهَانِ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الشَّرْطُ جَازِمًا مُخْتَلَفًا فِيهِ، فَيَتَعَيَّنُ الرَّفْعُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، وَلَا يَجُوزُ الْجَزْمُ لِعَدَمِ وُرُودِهِ رِوَايَةً.

لَكِنْ لَوْ وَرَدَ لَهُ وَجْهٌ فِي الدِّرَايَةِ فَبَطَلَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ رحمه الله نَقْلًا وَاعْتِرَاضًا، حَيْثُ قَالَ بِالرَّفْعِ وَالسُّكُونِ، كَمَا هُوَ الْقَاعِدَةُ فِي كُلِّ جَزَاءٍ شَرْطُهُ مَاضٍ، كَذَا قَالَهُ الشَّارِحُ وَهُوَ وَهْمٌ، فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ إِنَّمَا هِيَ فِي الشَّرْطِ الْجَازِمِ وَمَا هُنَا إِذَا وَهُوَ غَيْرُ جَازِمٍ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ.

ص: 1733

2497 -

وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ:«صَلَّى بِنَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ صَلَاةً، فَأَوْجَزَ فِيهَا. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ: لَقَدْ خَفَّفْتَ وَأَوْجَزْتَ الصَّلَاةَ. فَقَالَ. أَمَا عَلَيَّ ذَلِكَ، لَقَدْ دَعَوْتُ فِيهَا بِدَعَوَاتٍ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا قَامَ تَبِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ هُوَ أَبِي، غَيْرَ أَنَّهُ كَنَّى عَنْ نَفْسِهِ، فَسَأَلَهُ عَنِ الدُّعَاءِ ثُمَّ جَاءَ فَأَخْبَرَ بِهِ الْقَوْمَ: (اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِينِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَى وَالْغَضَبِ، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَى بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ. وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زِيِّنَا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ» ) . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.

ــ

2497 -

(وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وُلِدَ السَّائِبُ السَّنَةَ الثَّالِثَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ حَضَرَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ أَبِيهِ يَزِيدَ، وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ. (قَالَ: صَلَّى بِنَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ صَلَاةً) : يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَكْتُوبَةً أَوْ نَافِلَةً، (فَأَوْجَزَ: أَيْ: اقْتَصَرَ، (فِيهَا) : أَيْ: مَعَ تَمَامِ أَرْكَانِهَا وَسُنَنِهَا، (فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ) : أَيْ: مِمَّنْ حَضَرَهَا (لَقَدْ خَفَّفْتَ) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: الْأَرْكَانَ بِأَنْ فَعَلْتَ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا الرُّكْنُ (وَأَوْجَزْتَ) : أَيْ: اقْتَصَرْتَ بِأَنْ أَتَيْتَ أَقَلَّ مَا يُؤَدَّى بِهِ السُّنَنُ، وَقَوْلُهُ:(الصَّلَاةُ) : تَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانِ، (فَقَالَ: أَمَا) : بِالتَّخْفِيفِ (عَلَيَّ) : بِالتَّشْدِيدِ (ذَلِكَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْهَمْزَةُ فِي أَمَا لِلْإِنْكَارِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَتَقُولُ هَذَا أَيْ: اسْكُتْ مَا عَلَيَّ ضَرَرٌ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لِلنِّدَاءِ، وَالْمُنَادَى بَعْضُ الْقَوْمِ أَيْ: يَا فُلَانُ! لَيْسَ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ نَظَرٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةَ تَنْبِيهٍ ثُمَّ قَالَ: عَلَيَّ ذَلِكَ بَيَانَهُ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَمَا يُحْتَمَلُ أَنَّهَا لِلِاسْتِفْتَاحِ عَلَى ذَلِكَ التَّخْفِيفِ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: ( «مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ» ) وَقَوْلُهُ: لَقَدْ إِلَخْ. بَيَانٌ لِكَوْنِهِ مَعَ أَنَّهُ أَوْجَزَ أَتَى بِهَذَا الدُّعَاءِ الطَّوِيلِ لِنَفَاسَتِهِ وَالِاتِّبَاعِ فِيهِ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنِ احْتِمَالَاتِ الطِّيبِيِّ رحمه الله، فَإِنَّ كُلَّهَا تَكَلُّفٌ وَمَا ذَكَرْتُهُ أَخَفُّ تَكَلُّفًا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ اهـ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّ مَا ظَهَرَ لَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ مِنْ وُجُوهٍ: أَمَّا أَوَّلًا: فَقَوْلُهُ عَلَى ذَلِكَ التَّخْفِيفِ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، فَإِنَّ عَلَى لِلْوُجُوبِ وَالتَّخْفِيفُ بِالِاتِّفَاقِ مَنْدُوبٌ.

وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ إِمَامًا لِيَسْتَدِلَّ بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ.

وَأَمَّا ثَالِثًا: فَلِأَنَّ تَطْوِيلَهُ بِالدُّعَاءِ الْمَذْكُورِ مُخَالِفٌ لِلتَّخْفِيفِ الْمَسْطُورِ، فَالصَّوَابُ أَنَّهُ كَانَ مُنْفَرِدًا وَخَفَّفَ فِي بَقِيَّةِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ وَطَوَّلَ فِي الدُّعَاءِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ إِمَامٌ وَخَفَّفَ فِي الْأَرْكَانِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ وَطُوَّلَ فِي الدُّعَاءِ الَّذِي مِنْ جُمْلَةِ السُّنَنِ الْمَرْوِيَّةِ.

(لَقَدْ دَعَوْتُ فِيهَا) : أَيْ: فِي آخِرِهَا أَوْ سُجُودِهَا (بِدَعَوَاتٍ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ) : أَيْ: دَاخِلَ الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَهَا (فَلَمَّا قَامَ) : أَيْ عَمَّارٌ: (تَبِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ هُوَ أَبِي) هَذَا مِنْ كَلَامِ عَطَاءٍ أَيْ: ذَلِكَ الرَّجُلُ أَبِي (غَيْرَ أَنَّهُ) : أَيْ: أَبِي (كَنَّى عَنْ نَفْسِهِ) : أَيْ: بِرَجُلٍ وَلَمْ يَقُلْ تَبِعْتُهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَتَقْدِيرُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ إِلَّا أَنَّهُ كَنَّى عَنْ نَفْسِهِ بِالرَّجُلِ اهـ.

وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ التَّصْرِيحِ مُبَالَغَةُ الْإِخْفَاءِ خَوْفًا مِنَ الرِّيَاءِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: كَنَّى بِهِ تَوَاضُعًا إِذْ لَوْ قَالَ: فَتَبِعْتُهُ لَرُبَّمَا تُوُهِّمَ مِنْهُ أَنَّ فِيهِ مَدْحًا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ السَّائِبُ:(فَسَأَلَهُ) : أَيْ: الرَّجُلُ عَمَّارًا (عَنِ الدُّعَاءِ) : أَيْ: فَأَخْبَرَهُ (ثُمَّ جَاءَ) : أَيْ: الرَّجُلُ (فَأَخْبَرَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَأَخْبَرَ (بِهِ) : أَيْ: بِالدُّعَاءِ [الْقَوْمَ: (اللَّهُمَّ) : أَيْ: وَهُوَ هَذَا (بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ) : الْبَاءُ لِلِاسْتِعْطَافِ أَيْ: أَنْشُدُكَ بِحَقِّ عِلْمِكَ الْمُغَيَّبَاتِ عَنْ خَلْقِكَ (وَقُدْرَتِكَ) : أَيْ: بِقُدْرَتِكَ (عَلَى الْخَلْقِ) : أَيْ: عَلَى خَلْقِ كُلِّ شَيْءٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ مَشِيئَتُكَ، أَوْ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ بِأَنْ تَفْعَلَ فِيهِمْ مَا تَقْضِي إِرَادَتُكَ (أَحْيِنِي) : أَيْ: أَمِدَّنِي بِالْحَيَاةِ (مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ) : (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ (خَيْرًا لِي) : بِأَنْ يَغْلِبَ خَيْرِي عَلَى شَرِّي ( «وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي» ) : بِأَنْ تَغْلِبَ سَيِّئَاتِي عَلَى حَسَنَاتِي، أَوْ بِأَنْ تَقَعَ الْفِتَنُ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، (اللَّهُمَّ) : اعْتِرَاضٌ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى الْأَوَّلِ بِحَذْفِ الْعَاطِفِ، كَمَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الدَّعَوَاتِ الْحَدِيثِيَّةِ، وَمِنْهُ تَكْرَارُ رَبِّنَا مِنْ غَيْرِ عَاطِفٍ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَلَا يَضُرُّهُ الْوَاوُ

ص: 1734

فِي قَوْلِهِ: وَأَسْأَلُكَ، لِأَنَّهَا نَظِيرَةُ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{رَبَّنَا وَآتِنَا} [آل عمران: 194](وَأَسْأَلُكَ) : عَطْفٌ عَلَى أَنْشُدُكَ الْمُقَدَّرِ (خَشْيَتَكَ) : أَيْ: الْخَوْفَ مِنْ مُخَالَفَتِكَ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ مُعَاقَبَتِكَ (فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) : أَيْ: فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ ( «وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ» ) : أَيْ: فِي حَالِ رِضَا الْخَلْقِ وَغَضَبِهِمْ، أَوْ فِي حَالِ رِضَائِي وَغَضَبِي، أَيْ أَكُونُ مُسْتَمِرًّا عَلَيْهَا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِي وَأَوْقَاتِي.

وَزَادَ فِي الْحِصْنِ: وَكَلِمَةَ الْإِخْلَاصِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِكَلِمَةِ الْحَقِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [الرعد: 14] أَيْ: دَعْوَةُ التَّوْحِيدِ الْمُطْلَقِ وَالشَّرْعِ الْمُحَقَّقِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِكَلِمَةِ الْحَقِّ الْحُكْمُ بِالْعَدْلِ، وَبِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ التَّوْحِيدُ أَوِ النَّصِيحَةُ الْخَالِصَةُ عَنِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، فَحِينَئِذٍ يَتَنَازَعَانِ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ.

وَأَمَّا تَفْسِيرُ ابْنِ حَجَرٍ رحمه الله: كَلِمَةَ الْحَقِّ بِمَا لَا إِثْمَ فِيهِ، فَفِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ، بَلْ غَيْرُ صَحِيحٍ، إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُ اللَّهَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الْكَلَامِ الْمُبَاحِ، وَهُوَ عليه الصلاة والسلام يَقُولُ:( «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» ) . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3] .

(وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ) : أَيْ: الِاقْتِصَادَ وَهُوَ التَّوَسُّطُ (فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى) : وَهُوَ دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ: الْكَفَافُ أَفْضَلُ مِنَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَتْرُوكَةٌ مِنَ الْحِصْنِ.

وَذَهَبَ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ تَوْفِيقُ الْقَصْدِ، وَقَالَ: لِأَنَّ غَيْرَ الْقَصْدِ مَذْمُومٌ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] الْآيَةَ.

وَالظَّاهِرَةُ أَنَّ الْمَقَامَ بِأَبِيٍّ عَنِ الْحَمْلِ عَلَيْهِ سَابِقًا وَلَاحِقًا، فَإِنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ فِي امْتِثَالِ الْمَأْمُورَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَإِلَّا فَالْأَوْلَى بِالذِّكْرِ كَثِيرٌ، مَعَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ مَأْمُورٍ وَلَا مُبَاشَرَةُ مَحْظُورٍ.

( «وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ» ) : بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: لَا يَفْنَى وَلَا يَنْقُصُ، وَهُوَ نُعَيْمُ الْجَنَّةِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ.

( «وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ» ) : وَلَفْظُ الْحِصْنِ: وَقُرَّةَ عَيْنٍ بِالْعَطْفِ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةِ الْفِعْلِ (لَا تَنْقَطِعُ) : وَالْمُرَادُ بِهِ كُلُّ مَا يَتَلَذَّذُ بِهِ الْإِنْسَانُ الْكَامِلُ، وَقِيلَ يُحْتَمَلُ طَلَبُ نَسْلٍ لَا يَنْقَطِعُ، وَلَعَلَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74] وَقِيلَ: أَرَادَ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الصَّلَاةِ، وَقَدْ وَرَدَ: وَقُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ.

( «وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا» ) : وَهُوَ مَقْصُورٌ مَصْدَرٌ مَحْضٌ، وَالِاسْمُ الرِّضَا الْمَمْدُودُ كَذَا وَذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ. (بَعْدَ الْقَضَاءِ) : فَإِنَّهُ الْمَقَامُ الْأَفْخَمُ وَبَابُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ، قِيلَ فِي وَجْهِ الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ طَلَبَ الرِّضَا بَعْدَ تَحَقُّقِ الْقَضَاءِ وَتُقَرِّرِهِ، وَسُئِلَ أَبُو عُثْمَانَ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ: صلى الله عليه وسلم «أَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ» ، عَزْمٌ عَلَى الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ قَالَ: لِأَنَّ الرِّضَا قَبْلَ الْقَضَاءِ عَزْمٌ عَلَى الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ وَهُوَ الرِّضَا، كَذَا فِي الْغُنْيَةِ لِلْقُطْبِ الرَّبَّانِيِّ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ الْبَارِي.

( «وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ» ) : أَيْ: طِيبَهُ وَحُسْنَهُ، وَفِي الْحِصْنِ: وَبَرْدَ الْعَيْشِ (بَعْدَ الْمَوْتِ) لِأَنَّهُ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ. ( «وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ» ) : وَفِي الْحِصْنِ: بِالْعَطْفِ بِدُونِ أَسْأَلُكَ (إِلَى وَجْهِكَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: قَيَّدَ النَّظَرَ بِاللَّذَّةِ، لِأَنَّ النَّظَرَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا نَظَرُ هَيْبَةٍ وَجَلَالٍ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ، وَإِمَّا نَظَرُ لُطْفٍ وَجَمَالٍ فِي الْجَنَّةِ لِيُؤْذِنَ بِأَنَّ الْمُرَادَ هَذَا، (وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ) : أَيْ: أَبَدًا سَرْمَدًا (فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ) : أَيْ: شِدَّةٍ (مُضِرَّةٍ) : الْجَارُّ إِمَّا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَالشَّوْقُ إِلَى لِقَائِكَ أَيْ: أَسْأَلُكَ شَوْقًا لَا يُؤَثِّرُ فِي سَيْرِي وَسُلُوكِي، بِحَيْثُ يَمْنَعُنِي عَنْ ذَلِكَ، وَأَنْ يَضُرَّنِي مَضَرَّةً، وَإِمَّا مُتَعَلِّقٌ بِأَحْيِنِي، الثَّانِي أَظْهَرُ مَعْنًى، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ لَفْظًا، وَيُؤَيِّدُ الثَّانِي كَوْنُهُ فِي الْحِصْنِ بِلَفْظِ: أَعُوذُ بِكَ مِنْ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ.

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: مُتَعَلِّقُ الظَّرْفِ مُشْكِلٌ، وَلَعَلَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْقَرِينَةِ الْأَخِيرَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِكَ، سَأَلَ شَوْقًا إِلَى اللَّهِ بِحَيْثُ يَكُونُ ضَرَّاءَ غَيْرَ مُضِرَّةٍ أَيْ: شَوْقًا لَا يُؤَثِّرُ فِي سَيْرِي وَسُلُوكِي، وَإِنْ ضَرَّنِي مَضَرَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَّصِلَ بِقَوْلِهِ: أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَمَعْنَى ضَرَّاءَ غَيْرَ مُضِرَّةٍ الضُّرُّ الَّذِي يُصْبَرُ عَلَيْهِ كَمَا وَرَدَ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:( «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» ) اهـ.

ص: 1735

وَقَوْلُهُ: بِحَيْثُ يَكُونُ " ضَرَّاءَ غَيْرَ مُضِرَّةٍ " غَيْرَ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ لَيْسَ شَوْقًا بِحَيْثُ يَكُونُ ضَرَّاءَ، وَلِذَا دَخَلَ غَيْرُ عَلَيْهَا ثُمَّ وَصَفَهَا بِمُضِرَّةٍ لِيُفِيدَ أَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ الضَّرَّاءُ إِذْ لَمْ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:(وَإِنْ ضَرَّنِي مُضِرَّةٌ) وَيُمْكِنُ حَمْلُ عِبَارَتِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ بِأَدْنَى عِنَايَةٍ وَحَاصِلُ الْمَعْنَى إِنِّي أَسْأَلُكَ شَوْقًا لَا يَضُرُّنِي فِي بَدَنِي بِأَنْ أَفْعَلَ مَا لَا طَاقَةَ لِي بِهِ وَلَا فِي قَلْبِي بِأَنْ تَغْلِبَ عَلَيَّ الْجَذْبَةُ بِحَيْثُ أَخْرُجُ عَنْ طَوْرِ عَقْلِي، فَيَفُوتُنِي مَرْتَبَةُ الْجَمْعِ، وَلِذَا قَالَ:(وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ) : لِأَنَّ الْفِتْنَةَ تَعُمُّ مَا يُؤَدِّي إِلَى الْهَلَاكِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَالْمُضِلَّةُ مَا يُوجِبُ الِانْحِرَافَ عَنِ الطَّرِيقِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، ( «اللَّهُمَّ زِيِّنَا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ» ) : أَيْ: بِثَبَاتِهِ وَزِيَادَةِ ثَمَرَاتِهِ مِنْ حُسْنِ الْعَمَلِ وَإِتْيَانِ الْعِرْفَانِ، (وَاجْعَلْنَا هُدَاةً) : جَمْعُ هَادٍ أَيْ: هَادِينَ إِلَى الدِّينِ (مَهْدِيِّينَ) : وَفِي الْحِصْنِ: مُهْتَدِينَ أَيْ: ثَابِتِينَ عَلَى الْهِدَايَةِ وَطَرِيقِ الْيَقِينِ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَصَفَ الْهُدَاةَ بِالْمَهْدِيِّينَ لِأَنَّ الْهَادِيَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَهْدِيًّا فِي نَفْسِهِ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ هَادِيًا لِغَيْرِهِ، لِأَنَّهُ يُوقِعُ الْخَلْقَ فِي الضَّلَالِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ. قُلْتُ: وَمِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ أَيْضًا. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) : وَكَذَا الْحَاكِمُ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِيُّ.

ص: 1736

2498 -

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ صَلَاةِ الْفَجْرِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا» ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي:(الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) .

ــ

2498 -

(وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ الْفَجْرِ) : أَيْ: فِي دُبُرِ صَلَاةِ الْفَجْرِ كَمَا فِي نُسْخَةٍ، وَعِبَارَةُ الْأَذْكَارِ: إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا» ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: مَقْبُولًا (وَرِزْقًا طَيِّبًا) : أَيْ: حَلَالًا فِي مُخْتَصَرِ الطِّيبِيِّ رحمه الله: فَإِنَّهُ أُسٌّ لَهُمَا وَلَا يُعْتَدُّ بِهِمَا دُونَهُ. أَقُولُ وَلِهَذَا قُدِّمَ عَلَيْهِمَا فِي رِوَايَةِ الْحِصْنِ عَنِ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْأَوْسَطِ، وَابْنِ السُّنِّي وَفِي شَرْحِ الطِّيبِيِّ رحمه الله: إِنْ قُلْتَ كَانَ مِنَ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَدِّمَ الرِّزْقَ الْحَلَالَ عَلَى الْعِلْمِ، لِأَنَّ الرِّزْقَ إِذَا لَمْ يَكُنْ طَيِّبًا لَمْ يَكُنِ الْعِلْمُ نَافِعًا، وَالْعَمَلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ عِلْمٍ نَافِعٍ لَمْ يَكُنْ مُتَقَبَّلًا قُلْتُ: أَخَّرَهُ لِيُؤْذِنَ بِأَنَّ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ إِنَّمَا يُعْتَدُّ بِهِمَا إِذَا تَأَسَّسَا عَلَى الرِّزْقِ الْحَلَالِ، وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الْعُلْيَا، وَلَوْ قَدَّمَ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ، كَمَا إِذَا سُئِلْتَ عَنْ رَجُلٍ؟ فَقِيلَ لَكَ: هُوَ عَالِمٌ عَامِلٌ، فَقُلْتَ: مِنْ أَيْنَ مَعَاشُهُ؟ فَقِيلَ: لَكَ مِنْ أَوْزَارِ السُّلْطَانِ اسْتَنْكَفْتَ مِنْهُ، وَلَمْ تَنْظُرْ إِلَى عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ وَتَجْعَلْهُمَا هَبَاءً مَنْثُورًا اهـ.

وَحَاصِلُ السُّؤَالِ أَنَّ تَقْدِيمَ الرِّزْقِ هُوَ الْمُقَدَّمُ حِسًّا لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِتَحْصِيلِهِمَا، وَلِذَا قَدَّمَهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ فَقَالَ:{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] وَقَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] .

وَلِذَا قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ: الطَّاعَةُ مَخْزُونَةٌ فِي خَزَائِنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمِفْتَاحُهَا الدُّعَاءُ، وَأَسْنَانُهُ الْحَلَالُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرِئٍ فِي جَوْفِهِ حَرَامٌ.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعِلْمَ النَّافِعَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ نَتِيجَةُ الرِّزْقِ الْحَلَالِ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ لِلتَّرَقِّي لَا لِلتَّدَلِّي، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الْعُلْيَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا قَيْدٌ لِكَمَالِ مَا قَبْلَهُ، وَيُشِيرُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ مَعَاشُهُ؟ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّهُ قَدَّمَ الْعِلْمَ إِيمَاءً بِأَنَّهُ الْأَسَاسُ، وَعَلَيْهِ مَدَارُ الدِّينِ مِنَ الِاعْتِقَادِ وَالْأَحْوَالِ، وَصِحَّةِ الْأَعْمَالِ وَمَعْرِفَةِ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ، ثُمَّ أَتَى بِنَتِيجَةِ الْعِلْمِ وَهُوَ الْعَمَلُ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ فَكَأَنَّهُ جَاهِلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء: 17] فَإِنَّ الْبَغَوِيَّ رحمه الله قَالَ: أَجْمَعَ السَّلَفُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ جَاهِلٌ.

وَأَقُولُ: بَلْ أَشَدُّ مِنْهُ لِقَوْلِهِ: صلى الله عليه وسلم ( «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ» ) . وَوَرَدَ: وَيْلٌ لِلْجَاهِلِ مَرَّةً وَوَيْلٌ لِلْعَالِمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، بَلْ قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ رحمه الله: إِنَّ أَقَلَّ الْعِلْمِ بَلْ أَدْنَى الْإِيمَانِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الدُّنْيَا فَانِيَةٌ وَالْعُقْبَى بَاقِيَةٌ، وَنَتِيجَتُهُ أَنْ يُؤْثِرَ الْبَاقِي عَلَى الْفَانِي، ثُمَّ لَمَّا كَانَ الرِّزْقُ الْحَلَالُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَعْمَالِ خُصَّ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ كَالْأَسَاسِ الظَّاهِرِيِّ فِي نَتِيجَةِ الْعِلْمِ وَصِحَّتِهِ، وَتَرَتُّبِ الْعَمَلِ وَإِخْلَاصِهِ وَقَبُولِهِ.

ص: 1736

وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ رحمه الله: قَدَّمَهُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ حُكْمَ الْأَوَّلِ أَنْ يُنَوِّرَ الْقَلْبَ، وَيَزِيدَ فِي الْعِلْمِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ رُبَّمَا أَظْلَمَ الْقَلْبَ، وَنَقَصَ مِنَ الْعِلْمِ. وَالثَّالِثِ أَنَّهُ يُظْلِمُ الْقَلْبَ وَيُبْعِدُ مِنَ اللَّهِ وَيُوجِبُ مَقْتَهُ وَخِذْلَانَهُ، فَمَعَ رَكَاكَةِ لَفْظِهِ وَغَلَاقَةِ مَعْنَاهُ لَا يُلَائِمُ أَرْبَابَ الْعِبَارَاتِ، وَلَا يُنَاسِبُ مَرَامَ أَصْحَابِ الْإِشَارَاتِ (رَوَاهُ) : أَيْ: بِهَذَا اللَّفْظِ [أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ)،: وَزَادَ فِي الْأَذْكَارِ، وَابْنُ السُّنِّيِّ، فَلَعَلَّهُ لَهُ رِوَايَتَانِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ص: 1737

2499 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «دُعَاءٌ حَفِظْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا أَدَعُهُ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أُعْظِمُ شُكْرَكَ، وَأُكْثِرُ ذِكْرَكَ، وَأَتَّبِعُ نُصْحَكَ، وَأَحْفَظُ وَصِيَّتَكَ» ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

2499 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: دُعَاءٌ) : مُبْتَدَأٌ (حَفِظْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : صِفَةٌ لِلْمُبْتَدَأِ مُسَوِّغٌ وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ: (لَا أَدَعُهُ) : أَيْ: لَا أَتْرُكُهُ لِنَفَاسَتِهِ. (اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي أُعْظِمُ) : بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ وَرَفْعِ الْمِيمِ، وَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ بِتَقْدِيرِ أَنْ أَوْ بِغَيْرِهِ مُعْظِمًا (شُكْرَكَ) : أَيْ: بَعْدَ تَعْظِيمِ نِعْمَتِكَ اللَّازِمِ مِنْهَا تَعْظِيمُ الْمُنَعَّمِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: اجْعَلْنِي. بِمَعْنَى صَيِّرْنِي، وَلِذَلِكَ أَتَى بِالْمَفْعُولِ الثَّانِي فِعْلًا، لِأَنَّهُ صَارَ مَنْ دَوَاخِلِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ اهـ.

وَهُوَ مُوهِمٌ أَنَّ جَعْلَ مَتَى يَكُونُ بِمَعْنَى صَارَ يُؤْتَى بِالْمَفْعُولِ الثَّانِي فِعْلًا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ: 9] بَلْ مُرَادُهُ أَنَّ جَعَلَ لَيْسَ بِمَعْنَى خَلَقَ كَمَا يُسْتَعْمَلُ تَارَةً نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] فَيَكُونُ مُتَعَدِّيًا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَيُسْتَعْمَلُ مَرَّةً بِمَعْنَى صَارَ، فَحِينَئِذٍ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: أَعُدُّهُ عَظِيمًا أَوْ آتِي بِهِ عَظِيمًا، فَلَا يَخْفَى عَدَمُ ظُهُورِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبِ عُدُولِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ.

(وَأُكْثِرُ) : مُخَفَّفًا وَمُشَدَّدًا (ذِكْرَكَ) : أَيْ: لِسَانًا وَجِنَانًا، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصًا بَعْدَ تَعْمِيمٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ بَيْنَهُمَا عُمُومًا وَخُصُوصًا مِنْ وَجْهٍ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ رحمه الله: تَصْرِيحٌ مِمَّا عُلِمَ قَبْلَهُ إِطْنَابًا وَاسْتِلْذَاذًا بِالْخِطَابِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ مَحَلَّهُ فِيمَا يَكُونُ الثَّانِي مَفْهُومَ مَنْطُوقِ الْأَوَّلِ، فَتَأَمَّلْ.

(وَأَتَّبِعَ) : بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الْأَوْلَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ (نُصْحَكَ) بِضَمِّ النُّونِ أَيْ: نَصِيحَتَكَ (وَأَحْفَظُ وَصِيَّتَكَ) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: النَّصِيحَةُ وَالْوَصِيَّةُ مُتَقَارِبَانِ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا، فَإِنَّ النَّصِيحَةَ هِيَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ لِلْمَنْصُوحِ لَهُ، فَيُرَادُ بِهَا حُقُوقُ الْعِبَادِ، وَبِالْوَصِيَّةِ مُتَابَعَةُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .

ص: 1737

2500 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الصِّحَّةَ، وَالْعِفَّةَ، وَالْأَمَانَةَ، وَحُسْنَ الْخُلُقِ، وَالرِّضَى بِالْقَدَرِ» ) .

ــ

2500 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: بِالْوَاوِ [قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الصِّحَّةَ» ) : أَيْ: صِحَّةَ الْبَدَنِ مِنْ سَيِّئِ الْأَسْقَامِ أَوْ صِحَّةِ الْأَحْوَالِ، وَالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ (وَالْعِفَّةَ) : أَيْ: التَّحَرُّزَ عَنِ الْحَرَامِ، وَالِاجْتِنَابَ عَنِ الْآثَامِ (وَالْأَمَانَةَ) : بِتَرْكِ خِيَانَةِ الْأَنَامِ (وَحُسْنَ الْخُلُقِ) : بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِهَا أَيْ: حُسْنَ الْمُعَاشَرَةِ مَعَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، (وَالرِّضَا بِالْقَدَرِ) : أَيْ: بِمَا جَرَى بِهِ الْإِقْلَاعُ.

ص: 1737

2501 -

وَعَنْ أُمِّ مَعْبَدٍ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( «اللَّهُمَّ طَهِّرْ قَلْبِي مِنَ النِّفَاقِ، وَعَمَلِي مِنَ الرِّيَاءِ، وَلِسَانِي مِنَ الْكَذِبِ، وَعَيْنِي مِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّكَ تَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ» ) رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي: (الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) .

ــ

2501 -

(وَعَنْ أُمِّ مَعْبَدٍ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْمُوَحَّدَةِ أَيْ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيَّةِ، قَالَتْ: [سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( «اللَّهُمَّ طَهِّرْ قَلْبِي مِنَ النِّفَاقِ» ) : أَيْ: بِتَحْصِيلِ الْيَقِينِ فِي الدِّينِ، وَتَسْوِيَةِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. (وَعَمَلِي مِنَ الرِّيَاءِ) : بِالْهَمْزِ وَقَدْ يُبَدَّلُ أَيْ: مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ بِتَوْفِيقِ الْإِخْلَاصِ، (وَلِسَانِي مِنَ الْكَذِبِ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ الذَّالِ، وَيَجُوزُ بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ الذَّالِ، وَخُصَّ مِنْ مَعَاصِي اللِّسَانِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُهُ وَأَقْبَحُهُ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الْخَلْقِ، (وَعَيْنِي مِنَ الْخِيَانَةِ) : أَيْ: بِأَنْ يَنْظُرَ بِهَا إِلَى مَا لَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ، أَوْ

ص: 1737

يُشِيرُ بِهَا إِلَى مَا يَتَرَتَّبُ الْفَسَادُ عَلَيْهِ، ( «فَإِنَّكَ تَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ» ) : قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} [غافر: 19] الْخَائِنَةُ صِفَةُ النَّظْرَةِ كَالنَّظْرَةِ الثَّانِيَةِ إِلَى الْمُحَرَّمِ، وَاسْتِرَاقُ النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ، كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الرِّيَبِ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُرَادَ الْخَائِنَةُ مِنَ الْأَعْيُنِ لِأَنَّ قَوْلَهُ:(وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ قَالَ صَاحِبُ الْمَدَارِكِ قَوْلُهُ: (وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) : أَيْ: وَمَا تُسِرُّهُ مِنْ أَمَانَةٍ أَوْ خِيَانَةٍ، وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى أَجْنَبِيَّةٍ بِشَهْوَةٍ مُسَارَقَةً، ثُمَّ يَتَفَكَّرُ بِقَلْبِهِ فِي جَمَالِهَا، وَلَا يَعْلَمُ بِنَظْرَتِهِ وَفِكْرَتِهُ مَنْ بِحَضْرَتِهِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ.

فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: أَيْ: الْخَائِنَةُ مِنْهَا وَهِيَ الَّتِي تَتَعَمَّدُ ذَلِكَ النَّظَرَ الْمُحَرَّمَ مَعَ اسْتِرَاقِهِ، حَتَّى لَا يَفْطِنَ أَحَدٌ لَهُ مَرْدُودٌ.

ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ يُرَادُ بِخَائِنَةِ الْأَعْيُنِ أَنْ يُظْهِرَ الْإِنْسَانُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ كَأَنْ يُشِيرَ بِطَرَفِ عَيْنِهِ إِلَى قَتْلِ إِنْسَانٍ، مَعَ أَنَّهُ يُظْهِرُ لَهُ الرِّضَا عَنْهُ قُلْتُ: هَذِهِ عِبَارَةٌ غَرِيبَةٌ وَإِشَارَةٌ عَجِيبَةٌ، مَعَ أَنَّهَا غَيْرُ مُطَابِقَةٍ لِلْقَضِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْحُجَّةِ الْمَسْطُورَةِ بِقَوْلِهِ: وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ أَيْ: «مِمَّنْ أُهْدِرُ دَمُهُمْ يَوْمَئِذٍ جِيءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَشَفَعَ فِيهِ عُثْمَانُ رضي الله عنه فَسَكَتَ صلى الله عليه وسلم هُنَيْهَةً ثُمَّ شَفَعَ عُثْمَانُ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: (هَلَّا بَادَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى قَتْلِهِ حِينَ سَكَتُّ) فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلَّا أَشَرْتَ إِلَيْنَا بِقَتْلِهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ: صلى الله عليه وسلم (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يِكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ» ) وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَئِمَّتُنَا: مِنْ خَصَائِصِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ، وَهِيَ أَنْ يُبْطِنَ خِلَافَ مَا يُظْهِرُ إِلَّا فِي التَّوْرِيَةِ بِالْحَرْبِ أَوْ فِيهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ وَجْهُ الِاخْتِصَاصِ بِهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ قَالَ: قَوْلُهُ: (وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) أَيْ تُكِنُّهُ الْقُلُوبُ وَتُضْمِرُهُ الْأَفْئِدَةُ مِنْ تَوَالِي خَطِرَاتِهَا الْمُتَنَافِيَةِ، وَفِي تَرَقٍّ لِأَنَّ هَذِهِ الْخَطِرَاتِ أَقْبَحُ مِنْ تِلْكَ النَّظَرَاتِ.

قُلْتُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْخَطِرَاتِ مَعْفُوٌّ عَنْهَا بِخِلَافِ النَّظَرَاتِ الْمُعْتَمَدِ بِهَا. ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ الْكَشَّافِ: وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُرَادَ الْخَائِنَةُ مِنَ الْأَعْيُنِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: (وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهِ اهـ. فَإِنْ كَانَ أَخَذَهُ أَيْ تَفْسِيرَ خَائِنَةِ الْأَعْيُنِ. بِمَا مَرَّ عَنِ الْفُقَهَاءِ، فَهُوَ وَاضِحٌ لِأَنَّ خَائِنَتَهَا حِينَئِذٍ مِمَّا تُخْفِيهِ الصُّدُورُ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْأَعَمِّ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ مِنَ التَّغَايُرِ الْحَقِيقِيِّ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، أَوْ مِنْ تَفْسِيرِهَا بِمَا مَرَّ أَوَّلًا كَانَ مُنْدَفِعًا بِمَا قَرَّرْتُهُ مِنَ التَّرَقِّي الْمَذْكُورِ، وَبِهَذَا الْفَرْقِ الَّذِي قَرَّرْتُ بِهِ كَلَامَهُ مِنْ إِيضَاحِهِ عَلَى الْأَوَّلِ وَانْدِفَاعِهِ عَلَى الثَّانِي يُعْلَمُ مَا فِي كَلَامِ الشَّارِحِ هُنَا فَتَأَمَّلْهُ اهـ.

وَقَدْ تَأَمَّلْنَا، فَوَجَدْنَا أَنَّ الْكَشَّافَ وَالطِّيبِيَّ إِمَامَانِ مُحَقِّقَانِ مُدَقِّقَانِ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَالتَّفْسِيرِ، عَارِفَانِ بِجَوَازِ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَهُوَ فِي الْكِتَابِ كَثِيرٌ فَالْمُرَادُ مِنْ كَلَامِهِمَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] يَعْلَمُ الْأَحْوَالَ الْمُخْتَلِفَةَ فِي الصُّدُورِ، وَحُسْنُ التَّقَابُلِ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفِينَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَى " خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ " الْأَحْوَالَ الْكَامِنَةَ الْكَائِنَةَ فِي الْأَعْيُنِ، إِذْ هِيَ ذَاتٌ فِي مُقَابَلَةِ الصَّدْرِ، وَالْعِلْمُ بِالذَّوَاتِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ، فَتَعَلُّقُهُ بِالْأَسْقَامِ الْمَخْفِيَّةِ أَبْلَغُ وَأَفْيَدُ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّرَقِّي مِنَ الدَّقِيقِ إِلَى الْأَدَقِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه: 7] وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُمَا) : أَيْ: الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ [الْبَيْهَقِيُّ فِي: (الدَّعَوَاتِ الْكَبِيرِ) .

ص: 1738

2502 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَادَ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ، فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (هَلْ كُنْتَ تَدْعُو اللَّهَ بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ) ؟ ! . قَالَ نَعَمْ، كُنْتُ أَقُولُ: (اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا) . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صلى الله عليه وسلم (سُبْحَانَ اللَّهِ! لَا تُطِيقُهُ وَلَا تَسْتَطِيعُهُ: أَفَلَا قُلْتَ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ؟) قَالَ: فَدَعَا اللَّهَ بِهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

2502 -

(وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَادَ) : مِنَ الْعِيَادَةِ أَيْ: زَارَ (رَجُلًا) : أَيْ مَرِيضًا (مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ) : بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ ضَعُفَ مِنْ خَفَتَ إِذَا ضَعُفَ وَسَكَنَ (فَصَارَ) : أَيْ: بِسَبَبِ الضَّعْفِ (مِثْلَ الْفَرْخِ!) : وَهُوَ وَلَدُ الطَّيْرِ أَيْ مِثْلُهُ فِي كَثْرَةِ النَّحَافَةِ، وَقِلَّةِ الْقُوَّةِ. [فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( «هَلْ كُنْتَ تَدْعُو اللَّهَ بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ» ؟) : قِيلَ: شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِهِ عليه الصلاة والسلام أَيْ: هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ مِنَ الْأَدْعِيَةِ الَّتِي يُسْأَلُ فِيهَا مَكْرُوهٌ، أَوْ هَلْ سَأَلْتَ اللَّهَ الْبَلَاءَ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ؟ وَعَلَى هَذَا فَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ عَائِدٌ إِلَى الْبَلَاءِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْحَالُ، وَيُنْبِئُ عَنْهُ خَفَتَ، فَيَكُونُ قَدْ عَمَّ أَوَّلًا وَخَصَّ ثَانِيًا، وَجَعَلَ ابْنُ حَجَرٍ:(أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ، وَجَعَلَ الدُّعَاءَ مُخْتَصًّا بِالتَّلْوِيحِ، وَالسُّؤَالَ بِالتَّصْرِيحِ وَهُوَ وَجْهٌ وَجِيهٌ، لَكِنَّ قَوْلَهُ: وَانْدَفَعَ بِهِ مَا لِلشَّارِحِ هُنَا مِنَ التَّكَلُّفِ الْبَعِيدِ، وَالتَّأْوِيلِ الْغَرِيبِ فَمَدْفُوعٌ، فَإِنَّ الشَّارِحَ أَيْضًا جَعَلَ (أَوْ) لِلتَّنْوِيعِ، غَايَتُهُ أَنَّهُ حَمَلَ الدُّعَاءَ وَالسُّؤَالَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَفَرَّقَ فِي مَفْعُولَيْهِمَا بِأَنْ جَعَلَ الْمَفْعُولَ الْأَوَّلَ عَامًّا وَالْمَفْعُولَ الثَّانِيَ خَاصًّا، فَتَقَرَّبْ وَلَا تَبْعُدْ فَتُسْتَبْعَدَ، ثُمَّ مِنَ الْغَرِيبِ أَنَّهُ ذَكَرَ وَرَقَتَيْنِ مِنَ الْكَلَامِ فِي تَصْحِيحِ قَوْلِهِ: وَانْتَقَلَ انْتِقَالَاتٍ عَجِيبَةً لَا دَخْلَ لِلْمَقْصُودِ فِيهَا أَبَدًا.

(قَالَ: نَعَمْ) : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ (أَوْ) لِلشَّكِّ مِنَ الْرَاوِي لَا لِلتَّرْدِيدِ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم. ( «كُنْتُ أَقُولُ: اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ» ) :

ص: 1738