الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
" الْفَصْلُ الثَّالِثُ "
3007 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ؟ قَالَ: الْمَاءُ وَالْمِلْحُ وَالنَّارُ، قَالَتْ: قَلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْمَاءُ قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا بَالُ الْمِلْحِ وَالنَّارِ؟ قَالَ: يَا حُمَيْرَاءُ مَنْ أَعْطَى نَارًا فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا أَنْضَجَتْ تِلْكَ النَّارُ وَمَنْ أَعْطَى مِلْحًا فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا طَيَّبَتْ تِلْكَ الْمِلْحُ، وَمَنْ سَقَى مُسْلِمًا شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ حَيْثُ يُوجَدُ الْمَاءُ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ رَقَبَةً، وَمَنْ سَقَى مُسْلِمًا شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ حَيْثُ لَا يُوجَدُ الْمَاءُ فَكَأَنَّمَا أَحْيَاهَا» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
ــ
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)
3007 -
(عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها (قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ) الْمُرَادُ بِالشَّيْءِ جِنْسُهُ (قَالَ: الْمَاءُ وَالْمِلْحُ وَالنَّارُ، قَالَتْ: قَلَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْمَاءُ قَدْ عَرَفْنَاهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ: " الْجُمْلَةُ حَالٌ وَعَامِلُهُ مَا فِي هَذَا مِنْ مَعْنَى الْإِشَارَةِ وَفِي صَاحِبِهَا خِلَافٌ قِيلَ: الْمُقَدَّرُ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ وَهُوَ الْمَجْرُورُ وَقِيلَ: الْخَبَرُ تَعْنِي قَدْ عَرَفْنَا حَالَ الْمَاءِ وَاحْتِيَاجَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ إِلَيْهِ وَتَضَرُّرَهَا بِالْمَنْعِ "(فَمَا بَالُ الْمِلْحِ وَالنَّارِ) أَيْ: وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَمْرُ الْمِلْحِ وَالنَّارِ (قَالَ: يَا حُمَيْرَاءَ) تَصْغِيرُ حَمْرَاءُ يُرِيدُ الْبَيْضَاءَ كَذَا قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ:" نُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ جَمَالِ الدِّينِ يُوسُفَ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ حَدِيثٍ فِيهِ يَا حُمَيْرَاءُ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ " هَذِهِ الْمَقَالَةُ لَا تَصِحُّ عَلَى عُمُومِهَا لِأَنَّ مُجَرَّدَ اشْتِمَالِ الْحَدِيثِ عَلَى " يَا حُمَيْرَاءُ " لَا يَدُلُّ عَلَى الْوَضْعِ، نَعَمْ إِنْ وُجِدَ مَعَهُ أَسْبَابٌ أُخَرُ تَدُلُّ عَلَى الْوَضْعِ يُحْكَمُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا اه وَلَعَلَّ مُرَادَهُ كُلُّ حَدِيثٍ مُصَدَّرٍ بِيَا حُمَيْرَاءُ، وَقَدْ تَتَبَّعُوا تِلْكَ الْأَحَادِيثَ فَوَجَدُوهَا مَوْضُوعَةً وَنَظِيرُهُ مَا قَالَ السِّمْنَانِيُّ: وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ الَّتِي تُرْوَى فِي تَسْمِيَتِهَا يَا حُمَيْرَاءُ (مَنْ أَعْطَى نَارًا) أَيِ لِلَّهِ تَعَالَى (فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا أَنْضَجَتْ تِلْكَ النَّارُ) أَيْ: طَبَخَتْهُ ( «وَمَنْ أَعْطَى مِلْحًا فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا طَيَّبَتْ تِلْكَ الْمِلْحُ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ: فَأَجَابَهَا بِمَا أَجَابَ صلى الله عليه وسلم مُبَيِّنًا عَلَى الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ أَيْ: دَعِي عَنْكِ هَذَا وَانْظُرِي إِلَى مَنْ يُفَوِّتُ عَلَى نَفْسِهِ هَذَا الثَّوَابَ الْجَزِيلَ عِنْدَ الْمَنْعِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْحَقِيرِ الَّذِي لَا يُعْبَأُ بِهِ، وَمِنْ ثَمَّ أَنَّثَ ضَمِيرَ الْمِلْحِ فِي قَوْلِهِ طَيَّبَتْ وَتِلْكَ مُرَادًا بِهَا الْقِلَّةُ وَالنُّدْرَةُ ( «وَمَنْ يَسْقِي مُسْلِمًا شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ حَيْثُ يُوجَدُ الْمَاءُ فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ رَقَبَةً، وَمَنْ سَقَى مُسْلِمًا شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ حَيْثُ لَا يُوجَدُ الْمَاءُ فَكَأَنَّمَا أَحْيَاهَا» ) أَيِ: الْمُسْلِمَ عَلَى تَأْوِيلِ النَّفْسِ أَوِ النِّسَمَةَ وَهُوَ مُقْتَبَسٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] وَإِنَّمَا أَتَى بِالْمَاءِ فِي الْجَوَابِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَسْئُولٍ عَنْهُ رَدًّا لَهَا وَلِادِّعَائِهَا الْعِرْفَانَ بِشَأْنِهِ يَعْنِي إِنَّكِ لَسْتِ تَعْرِفِينَهُ بِهَذَا الْوَجْهِ مُفَصَّلًا وَلِهَذَا أَخَّرَهُ أَيْضًا فِي الذِّكْرِ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .
[بَابُ الْعَطَايَا]
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ)
3008 -
عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ عُمَرَ أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرَ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا، فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، إِنَّهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ، وَتَصَدَّقَ بِهِ فِي الْفُقَرَاءِ وَفِي الْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالضَّيْفِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ» . قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
(بَابُ الْعَطَايَا)
جَمْعُ عَطِيَّةٍ وَالْمُرَادُ عَطَايَا الْأُمَرَاءِ وَصِلَاتُهُمْ، قَالَ الْغَزَالِيُّ رحمه الله فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا تَقُولُ فِي قَبُولِ جَوَائِزِ السَّلَاطِينِ فِي هَذَا الزَّمَانِ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ قَوْمٌ: كُلُّ مَا لَا يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ حَرَامٌ فَلَهُ أَخْذُهُ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: الْأَوْلَى أَنْ لَا يُؤْخَذَ مَا لَا يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ حَلَالٌ لِأَنَّ الْأَغْلَبَ فِي هَذَا الْعَصْرِ عَلَى أَمْوَالِ السَّلَاطِينِ الْحَرَامُ، وَالْحَلَالُ فِي أَيْدِيهِمْ مَعْدُومٌ وَعَزِيزٌ. قَالَ قَوْمٌ: إِنَّ صِلَاتَ السَّلَاطِينِ تَحِلُّ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقُ أَنَّهَا حَرَامٌ، وَإِنَّمَا التَّبِعَةُ عَلَى الْمُعْطِي، قَالُوا لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبِلَ هَدِيَّةَ الْمُقَوْقِسَ مَلِكِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَاسْتَقْرَضَ مِنَ الْيَهُودِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى:(" {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] ") قَالُوا: وَقَدْ أَدْرَكَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَيَّامَ الظَّلَمَةِ، وَأَخَذُوا مِنْهُمْ، فَمِنْهُمْ: أَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَغَيْرُهُمْ رضي الله عنهم وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَحِلُّ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْءٌ لَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِفَقِيرٍ إِذْ هُمْ مَوْسُومُونَ بِالظُّلْمِ وَالْغَالِبُ مِنْ مَالِهِمُ السُّحْتُ وَالْحَرَامُ وَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ فَيَلْزَمُ الِاجْتِنَابُ، وَقَالَ
آخَرُونَ: مَا لَا يُتَيَقَّنُ أَنَّهُ حَرَامٌ فَهُوَ حَلَالٌ لِلْفَقِيرِ دُونَ الْغَنِيِّ، إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ الْفَقِيرُ أَنَّ ذَلِكَ عَيْنُ الْغَصْبِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ، إِلَّا لِيَرُدَّهُ عَلَى مَالِكِهِ، وَلَا حَرَجَ عَلَى الْفَقِيرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ السُّلْطَانِ، فَأُعْطِيَ الْفَقِيرُ فَلَهُ أَخْذُهُ بِلَا رَيْبٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِ فَيْءٍ أَوْ خَرَاجٍ أَوْ عُشْرٍ فَلِلْفَقِيرِ فِيهِ حَقٌّ، وَكَذَلِكَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -: مَنْ دَخَلَ الْإِسْلَامَ طَائِعًا وَقَرَأَ الْقُرْآنَ ظَاهِرًا فَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ كُلَّ سَنَةٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ. وَرُوِيَ: مِائَتَا دِينَارٍ إِنْ لَمْ يَأْخُذْهَا فِي الدُّنْيَا أَخَذَهَا فِي الْعُقْبَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْفَقِيرُ وَالْعَالِمُ يَأْخُذُ مِنْ حَقِّهِ، قَالُوا: وَإِذَا كَانَ الْمَالُ مُخْتَلِطًا بِمَالٍ مَغْصُوبٍ لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ أَوْ مَغْصُوبًا لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ عَلَى الْمَالِكِ وَوَرَثَتِهِ فَلَا مُخَلِّصَ لِلسُّلْطَانِ مِنْهُ إِلَّا بِأَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَأْمُرَهُ بِالصَّدَقَةِ عَلَى الْفَقِيرِ وَيَنْهِي الْفَقِيرَ عَنْ قَبُولِهِ أَوْ يَأْذَنَ الْفَقِيرُ فِي الْقَبُولِ وَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ، فَإِذًا لِلْفَقِيرِ أَنْ يَأْخُذَ إِلَّا مِنْ عَيْنِ الْغَصْبِ وَالْحَرَامِ فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ.
3008 -
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ)(عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَصَابَ) أَيْ: صَادَفَ فِي نَصِيبِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ (أَرْضًا بِخَيْبَرَ) أَيْ: فِيهَا نَخِيلًا نَفِيسًا (فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: فَجَاءَهُ (قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ قَطُّ) أَيْ: قَبْلَ هَذَا أَبَدًا (أَنْفَسَ) أَيْ: أَعَزَّ (عِنْدِي مِنْهُ) وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى (" وَلَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفَسِكُمْ ") بِفَتْحِ الْفَاءِ فِي قِرَاءَةٍ شَاذَّةٍ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله:" أَجْوَدَ وَقَدْ نَفُسَ بِضَمِّ الْفَاءِ نَفَاسَةً وَاسْمُ هَذَا الْمَالِ ثَمْغٌ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ (فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ) أَيْ: فِيهِ فَإِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَجْعَلَهُ لِلَّهِ وَمَا أَدْرِي بِأَيِّ طَرِيقٍ أَجْعَلُهُ لَهُ (قَالَ: إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ) بِتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ وَيُخَفَّفُ أَيْ: وَقَفْتَ (أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا) أَيْ: بِغَلَّتِهَا وَحَاصِلِهَا مِنْ حُبُوبِهَا وَثِمَارِهَا فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ إِنَّهُ) أَيْ: عَلَى إِنَّهُ (لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُوَرَّثُ وَتَصَدَّقَ بِهَا) أَيْ: وَجَعَلَ الصَّدَقَةَ الْحَاصِلَةَ مِنْ غَلَّتِهَا (فِي الْفُقَرَاءِ) أَيْ: فُقَرَاءِ الْمَدِينَةِ أَوْ أَهْلِ الصُّفَّةِ (وَفِي الْقُرْبَى) تَأْنِيثِ الْأَقْرَبِ كَذَا قِيلَ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ بِمَعْنَى الْقَرَابَةِ وَالْمُضَافُ مُقَدَّرٌ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى} [الإسراء: 26] وَالْمُرَادُ أَقَارِبُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَوْ أَقْرِبَاءُ نَفْسِهِ وَالظَّاهِرُ عُمُومُ فُقَرَائِهِمْ وَأَغْنِيَائِهِمْ (وَفِي الرِّقَابِ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ جَمْعُ رَقَبَةٍ وَهُمُ الْمُكَاتَبُونَ أَيْ فِي أَدَاءِ دُيُونِهِمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنْ يَشْتَرِي بِهِ الْأَرِقَّاءَ وَيُعْتِقَهُمْ (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ: مُنْقَطَعُ الْغُزَاةِ أَوِ الْحَاجِّ (وَابْنُ السَّبِيلِ) أَيْ: مُلَازِمُهُ وَهُوَ الْمُسَافِرُ وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا فِي بِلَادِهِ (وَالضَّيْفُ لَا جُنَاحَ) أَيْ: لَا إِثْمَ (عَلَى مَنْ وَلِيَهَا) أَيْ: قَامَ بِحِفْظِهَا وَإِصْلَاحِهَا (أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ) بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا قَدْرَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ قُوتًا وَكُسْوَةً (أَوْ يُطْعِمَ) أَيْ: أَهْلَهُ أَوْ حَضَرَهُ (غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ) أَيْ: مُدَّخِرٍ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ وَلِيَهَا (قَالَ ابْنُ سِيرِينَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا) أَيْ: غَيْرَ مُجْمِعٍ لِنَفْسِهِ مِنْهُ رَأْسَ مَالٍ، قَالَ النَّوَوِيُّ: " وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ أَصْلِ الْوَقْفَ وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِشَوَائِبِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ وَفِيهِ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُوَرَّثُ، وَإِنَّمَا يُنْتَفَعُ فِيهِ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ، وَفِيهِ صِحَّةُ شُرُوطِ الْوَاقِفِ، وَفِيهِ فَضِيلَةُ الْوَقْفِ وَهِيَ الصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ وَفَضِيلَةُ الْإِنْفَاقِ مِمَّا يُحِبُّ وَفَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِعُمَرَ رضي الله عنه وَفَضِيلَةُ مُشَاوَرَةِ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالصَّلَاحِ فِي الْأَمْرِ وَطُرُقِ الْخَيْرِ، وَفِيهِ أَنَّ خَيْبَرَ فُتِحَتْ عُنْوَةً وَأَنَّ الْغَانِمِينَ مَلَكُوهَا وَاقْتَسَمُوهَا وَاسْتَمَرَّتْ أَمْلَاكُهُمْ عَلَى حِصَصِهِمْ وَفِيهِ فَضِيلَةُ صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَالْوَقْفِ عَلَيْهِمْ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَفَ شَيْئًا وَلَمْ يُنَصِّبْ لَهُ قَيِّمًا مُعَيَّنًا جَازَ ; لِأَنَّهُ قَالَ: لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهَا قَيِّمًا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِوَقْفِهِ ; لِأَنَّهُ أَبَاحَ الْأَكْلَ لِمَنْ وَلِيَهُ وَقَدْ يَلِيهِ الْوَاقِفُ وَلِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم «قَالَ لِلَّذِي سَاقَ الْهَدْيَ: ارْكَبْهَا» ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيَكُونُ دَلْوُهُ فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَاشْتَرَاهَا عُمَرُ رضي الله عنه» - وَوَقَفَ أَنَسٌ دَارًا وَكَانَ إِذَا قَدِمَهَا نَزَلَهَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) أَقُولُ: الْأَنْسَبُ إِيرَادُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي بَابِ الْوَقْفِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
3009 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
3009 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعُمْرَى) : بِضَمِّ مُهْمَلَةٍ وَسُكُونِ مِيمٍ وَفَتْحِ رَاءٍ بَعْدَهُ أَلِفٌ مَقْصُورَةٌ، قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ:" وَحُكِيَ ضَمِّ الْمِيمِ مَعَ ضَمِّ أَوَّلِهِ، وَحُكِيَ فَتْحِ أَوَّلِهِ مَعَ السُّكُونِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعُمْرِ، وَالرُّقْبَى بِوَزْنِهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْمُرَاقَبَةِ (جَائِزَةٌ) : قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: الْعُمْرَى قَوْلُ الْقَائِلِ أَعْمَرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ أَوْ حَيَاتَكَ أَوْ مَا عِشْتَ أَوْ مَا يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى "، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ:" أَيْ: جَعَلَ الدَّارَ لِلْمُعْمَرِ لَهُ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ مَعَ شَرْطِ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ تُرَدُّ عَلَى الْوَاهِبِ، وَهَذَا الشَّرْطُ بَاطِلٌ كَمَا جَاءَ بِهِ الْحَدِيثُ، فَهِيَ لَهُ حَالَ حَيَاتِهِ وَلِوَرَثَتِهِ بَعْدَهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ: " قَالَ أَصْحَابُنَا: لِلْعُمْرَى ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ إِحْدَاهَا أَنْ يَقُولَ أَعْمَرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ، فَإِذَا مِتَّ فَهِيَ لِوَرَثَتِكَ أَوْ لِعَقِبِكَ، فَيَصِحُّ بِلَا خِلَافٍ، وَيَمْلِكُ رَقَبَةَ الدَّارِ، وَهِيَ هِبَةٌ. فَإِذَا مَاتَ فَالدَّارُ لِوَرَثَتِهِ وَإِلَّا فَلِبَيْتِ الْمَالِ وَلَا تَعُودُ إِلَى الْوَاهِبِ بِحَالٍ، وَثَانِيَتُهَا: أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى قَوْلِهِ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِمَا سِوَاهُ فَفِي صِحَّتِهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ، أَصَحُّهُمَا وَهُوَ الْجَدِيدُ صِحَّتُهُ وَلَهُ حُكْمُ الْحَالِ الْأُولَى، وَثَالِثَتُهَا: أَنْ يَقُولَ جَعَلْتُهَا لَكَ عُمْرَكَ فَإِذَا مِتَّ عَادَتْ إِلَيَّ أَوْ إِلَى وَرَثَتِي، فَفِي صِحَّتِهِ خِلَافٌ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا صِحَّتُهُ، فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْأُولَى، وَاعْتَمَدُوا عَلَى الْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَةِ، وَعَدَلُوا بِهِ عَنْ قِيَاسِ الشُّرُوطِ، وَقَالَ أَحْمَدُ:" تَصِحُّ الْعُمْرَى الْمُطْلَقَةُ دُونَ الْمُؤَقَّتَةِ " وَقَالَ مَالِكٌ: " الْعُمْرَى فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ تَمْلِيكٌ لِمَنَافِعِ الدَّارِ مَثَلًا وَلَا يَمْلِكُ فِيهَا رَقَبَتَهَا بِحَالٍ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَذْهَبِنَا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ: "«الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ «الْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ» ، قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: إِنَّ الْعُمْرَى اسْمٌ مِنْ أَعْمَرْتُكَ الشَّيْءَ أَيْ: جَعَلْتُهُ لَكَ مُدَّةَ عُمْرِكَ وَهِيَ جَائِزَةٌ بِالِاتِّفَاقِ مُمَلَّكَةٌ بِالْقَبْضِ كَسَائِرِ الْهِبَاتِ وَيُوَرَّثُ الْمُعْمَرُ مِنَ الْمُعْمِرِ لَهُ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ عَلَى مَا ذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِلْحَدِيثَيْنِ الْمُتَعَاقِبَيْنِ بَعْدَ هَذَا الْحَدِيثِ خِلَافًا لِمَالِكٍ، فَإِنَّ عِنْدَهُ يَرْجِعُ إِلَى الْمُعْمِرِ، وَتَمَسَّكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ بَعْدَهُمَا، وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّهُ تَأْوِيلٌ حَدَّثَ بِهِ جَابِرٌ عَنْ رَأْيٍ وَاجْتِهَادٍ وَأَحَادِيثُهُ الَّتِي رَوَاهَا عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ.
3010 -
وَعَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الْعُمْرَى مِيرَاثٌ لِأَهْلِهَا» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
3010 -
(وَعَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الْعُمْرَى مِيرَاثٌ لِأَهْلِهَا» ) أَيْ: لِأَهْلِ الْعُمْرَى وَفِيهِ أَنَّ الْعُمْرَى تَمْلِيكُ الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ فَفِيهِ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: الْعُمْرَى تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ دُونَ الرَّقَبَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) أَيْ: عَنْ جَابِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَلَفْظُهُ «الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى سَبِيلُهُمَا سَبِيلُ الْمِيرَاثِ» ، وَسَيَأْتِي مَعْنَى الرُّقْبَى وَحُكْمُهَا.
3011 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا رَجُلٍ أُعْمِرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ فَإِنَّهَا لِلَّذِي أُعْطِيَهَا لَا يَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا ; لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
3011 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ جَابِرٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّمَا رَجُلٍ أُعْمِرَ) عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ (عُمْرَى) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ (لَهُ) مُتَعَلِّقٌ بِأُعْمِرَ وَالضَّمِيرُ لِلرَّجُلِ (وَلِعَقِبِهِ) : بِكَسْرِ الْقَافِ وَقِيلَ بِسُكُونِهَا (فَإِنَّهَا) أَيِ الْعُمْرَى (لِلَّذِي أُعْطِيَتْ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (لَا تَرْجِعُ) : بِصِيغَةِ التَّأْنِيثِ وَقِيلَ بِالتَّذْكِيرِ أَيْ: لَا تَصِيرُ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا لِأَنَّهُ أَعْطَى بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ وَقِيلَ بِالْمَفْعُولِ (عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ) : وَالْمَعْنَى أَنَّهَا صَارَتْ مِلْكًا لِلْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ فَيَكُونُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِوَارِثِهِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ وَلَا تَرْجِعُ إِلَى الدَّافِعِ كَمَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْمَوْهُوبِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ سَوَاءٌ ذَكَرَ الْعَقِبَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَرْجِعُ إِلَى الْمُعْطِي إِنْ كَانَ حَيًّا وَإِلَى وَرَثَتِهِ إِنْ كَانَ مَيِّتًا إِذَا لَمْ يَذْكُرْ عَقِبَهُ، قِيلَ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ بِالْمَفْهُومِ عَلَى أَنَّ الْمُطْلَقَةَ لَا تُوَرَّثُ بَلْ تَرْجِعُ إِلَى الْمُعْمِرِ، وَالْقَوْلُ الْمَنْقُولُ عَنْ جَابِرٍ مُصَرِّحٌ بِذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَرْفُوعٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
3012 -
وَعَنْهُ قَالَ: «إِنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: هِيَ لَكَ مَا عِشْتَ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
3012 -
وَ (عَنْهُ) أَيْ: عَنْ جَابِرٍ مَوْقُوفًا (قَالَ «إِنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: هِيَ لَكَ مَا عِشْتَ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى صَاحِبِهَا» ) : قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: الْعُمْرَى جَائِزَةٌ بِاتِّفَاقٍ مُمَلَّكَةٌ بِالْقَبْضِ كَسَائِرِ الْهِبَاتِ وَيُوَرَّثُ الْمُعْمِرُ مِنَ الْمُعْمَرِ لَهُ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ سَوَاءٌ أَطْلَقَ أَمْ أَرْدَفَ بِأَنَّهُ لِعَقِبِكَ أَوْ وَرِثَتِكَ بَعْدَكَ وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «الْعُمْرَى مِيرَاثٌ لِأَهْلِهَا» " أَيْ: لِلْمُعْمَرِ لَهُ فَإِنَّهُ أَطْلَقَ وَلَمْ يُقَيِّدْ، وَذَهَبَ جَمْعٌ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ وَلَمْ يَقُلْ: هُوَ لِعَقِبِكَ مِنْ بَعْدِكَ لَمْ يُوَرَّثْ مِنْهُ بَلْ يَعُودُ بِمَوْتِهِ إِلَى الْمُعْمِرِ وَيَكُونُ تَمْلِيكًا لِلْمَنْفَعَةِ لَهُ. وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَمَالِكٍ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ ثَانِيًا عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" أَيُّمَا رَجُلٍ أُعْمِرَ " الْحَدِيثَ فَإِنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ أَيُّمَا وَالتَّعْلِيلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُعْمَرْ لَهُ كَذَلِكَ لَمْ يُوَرَّثْ مِنْهُ الْعُمْرَى، بَلْ يَرْجِعُ إِلَى الْمُعْطِي وَبِمَا رُوِيَ عَنْهُ. ثَالِثًا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَ إِلَخْ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَفْهُومِ وَالْقَوْلِ بِعُمُومِهِ وَجَوَازِ تَخْصِيصِ الْمَنْطُوقِ، وَالْخِلَافُ مَا حَقَّ فِي الْكُلِّ، وَعَنِ الثَّانِي أَنَّهُ تَأْوِيلٌ وَقَوْلٌ صَدَرَ عَنْ رَأْيِ جَابِرٍ وَاجْتِهَادِهِ فَلَا احْتِجَاجَ فِيهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
(الْفَصْلُ الثَّانِي)
3013 -
عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تُرْقِبُوا وَلَا تُعْمِرُوا، فَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا أَوْ أُعْمِرَ فَهِيَ لِوَرَثَتِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
(الْفَصْلُ الثَّانِي)
3013 -
(عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا تُرْقِبُوا) : مِنَ الْإِرْقَابِ بِمَعْنَى الْمُرَاقَبَةِ وَالِاسْمُ الرُّقْبَى وَهِيَ أَنْ يَقُولَ: وَهَبْتُ لَكَ دَارِي فَإِنْ مِتَّ قَبْلِي رَجَعَتْ إِلَيَّ، وَإِنْ مِتُّ قَبْلَكَ فَهِيَ لَكَ، فِعْلٌ مِنَ الْمُرَاقَبَةِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَرْقُبُ مَوْتَ صَاحِبِهِ كَذَا فِي تَلْخِيصِ النِّهَايَةِ، ثُمَّ الرُّقْبَى لَا تَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَتَصِحُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - (وَلَا تُعْمِرُوا) : مِنِ الْإِعْمَارِ.
قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: هَذَا نَهْيُ إِرْشَادٍ يَعْنِي لَا تَهِبُوا أَمْوَالَكُمْ مُدَّةً ثُمَّ تَأْخُذُونَهَا، بَلْ إِذَا وَهَبْتُمْ شَيْئًا زَالَ عَنْكُمْ وَلَا يَرْجِعُ إِلَيْكُمْ سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ أَوِ الْعُمْرَى أَوِ الرُّقْبَى، وَالرُّقْبَى اسْمٌ مِنْ أَرْقَبَ الرَّجُلُ إِذَا قَالَ لِغَيْرِهِ وَهَبْتُ لَكَ كَذَا عَلَى إِنْ مِتُّ قَبْلَكَ اسْتَقَرَّ عَلَيْكَ وَإِنْ مِتَّ قَبْلِي عَادَ إِلَيَّ، وَأَصْلُهُ الْمُرَاقَبَةُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَرْقُبُ مَوْتَ صَاحِبِهِ (فَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا أَوْ أُعْمِرَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ فِيهِمَا (فَهِيَ) أَيِ: الْعُمْرَى أَوِ الرُّقْبَى الْمَفْهُومَيْنِ مِنَ الْفِعْلَيْنِ وَفِي نُسْخَةٍ وَهِيَ، وَالظَّاهِرُ فَهُوَ أَيْ ذَلِكَ الشَّيْءُ (لِوَرَثَتِهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الضَّمِيرُ لِلْمُعْمَرِ لَهُ وَكَذَا الْمُرَادُ بِأَهْلِهَا وَالْفَاءُ فِي " فَمَنْ أُرْقِبَ " تَسَبُّبٌ لِلنَّهْيِ وَتَعْلِيلٌ لَهُ يَعْنِي لَا تُرْقِبُوا وَلَا تُعْمِرُوا ظَنًّا مِنْكُمْ وَاغْتِرَارًا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ لِلْمُعْمَرِ لَهُ فَيَرْجِعُ إِلَيْكُمْ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا أَوْ أُعْمِرَ فَهُوَ لِوَرَثَةِ الْمُعْمَرِ لَهُ فَعَلَى هَذَا يَتَحَقَّقُ إِصَابَةُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ فِي أَنَّ الْعُمْرَى لِلْمُعْمَرِ لَهُ وَأَنَّهُ يَمْلِكُهَا مِلْكًا تَامًّا يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ وَتَكُونُ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَهُ، وَيَنْصُرُ هَذَا التَّأْوِيلَ الْحَدِيثُ الَّذِي يَلِيهِ فِي الْفَصْلِ الثَّالِثِ وَفِي النِّهَايَةِ:" كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَأَبْطَلَهُ الشَّارِعُ وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ مَنْ أُعْمِرَ شَيْئًا أَوْ أُرْقِبَهُ فِي حَيَاتِهِ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ " وَقَدْ تَعَاضَدَتِ الرِّوَايَاتُ عَلَى ذَلِكَ وَالْفُقَهَاءُ فِيهَا مُخْتَلِفُونَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَيَجْعَلُونَهَا تَمْلِيكًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهَا كَالْعَارِيَةِ وَيَتَأَوَّلُ الْحَدِيثَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
3014 -
وَعَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا، وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ.
ــ
3014 -
(عَنْهُ) أَيْ: عَنْ جَابِرٍ (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) : وَكَذَا النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ:«الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِمَنْ أُعْمِرَهَا وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِمَنْ أُرْقِبَهَا وَالْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ» .
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)
3015 -
عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «أَمْسِكُوا أَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ لَا تُفْسِدُوهَا، فَإِنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَ حَيًّا وَمَيِّتًا وَلِعَقِبِهِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)
3015 -
(عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَمْسِكُوا أَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ لَا تُفْسِدُوهَا» ) : هَذَا النَّهْيُ تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ (فَإِنَّهُ) أَيِ: الشَّأْنَ (مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَ) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (حَيًّا) دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُهَا وَلَهُ بَيْعُهَا وَسَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ (وَمَيِّتًا) أَيْ: دَيْنًا وَوَصِيَّةً وَوَقْفًا (وَلِعَقِبِهِ) : قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: " أَعْلَمَهُمْ أَنَّ الْعُمْرَى هِبَةٌ صَحِيحَةٌ مَاضِيَةٌ يَمْلِكُهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ مِلْكًا تَامًّا لَا تَعُودُ إِلَى الْوَاهِبِ أَبَدًا، وَإِذَا عَلِمُوا ذَلِكَ فَمَنْ شَاءَ أَعْمَرَ وَدَخَلَ فِيهَا عَلَى بَصِيرَةٍ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّهَا كَالْعَارِيَةِ يَرْجِعُ فِيهَا، وَهَذَا دَلِيلُ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافَقِيهِ " اه وَحَقُّهُ أَنْ يَقُولَ: وَهَذَا دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ رحمهم الله (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
بَابٌ
" الْفَصْلُ الْأَوَّلُ "
3016 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ فَلَا يَرُدُّهُ فَإِنَّهُ خَفِيفُ الْمَحْمَلِ طَيِّبُ الرِّيحِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
بَابٌ
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ)
بِالرَّفْعِ مُنَّوْنًا وَبِالسُّكُونِ.
3016 -
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ) أَيْ: أُعْطِيَ (رَيْحَانٌ) وَهُوَ كُلُّ نَبْتٍ طَيِّبِ الرِّيحِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَشْمُومِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ (فَلَا يَرُدُّهُ) : بِضَمِّ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ وَفَتْحِهَا، وَالْأَوَّلُ وَهُوَ الْمَنْقُولُ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله:" قَالَ عِيَاضٌ رحمه الله: رِوَايَةُ الْمُحَدِّثِينَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِفَتْحِ الدَّالِ قَالَ: وَأَنْكَرَهُ مُحَقِّقُو شُيُوخِنَا مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ قَالُوا: وَهَذَا غَلَطٌ مِنَ الرُّوَاةِ وَصَوَابُهُ ضَمُّ الدَّالِ قَالَ: وَوَجَدْتُهُ بِخَطِّ بَعْضِ الْأَشْيَاخِ بِضَمِّ الدَّالِ وَهُوَ الصَّوَابُ عِنْدَهُمْ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهَ، وَهَذَا فِي الْمُضَاعَفِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهَا الْهَاءُ أَنْ يُضَمَّ مَا قَبْلَهَا فِي الْأَمْرِ وَنَحْوِهِ مِنَ الْمَجْزُومِ مُرَاعَاةً لِلْوَاوِ الَّتِي تُوجِبُهَا ضَمَّةُ الْهَاءِ بَعْدَ مَا، وَلَا يَكُونُ مَا قَبْلَ الْوَاوِ إِلَّا مَضْمُومًا هَذَا فِي الْمُذَكَّرِ، وَأَمَا الْمُؤَنَّثُ مِثْلَ رَدَّهَا وَحْدَهَا فَمَفْتُوحُ الدَّالِ مُرَاعَاةً لِلْأَلْفِ هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي "، وَأَمَّا رَدَّهَا وَنَظَائِرُهُ مِنَ الْمُؤَنَّثِ فَفَتْحَةُ الدَّالِ لَازِمَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا رَدُّهُ وَنَحْوُهُ لِلْمُذَكَّرِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَفْصَحُهَا: وُجُوبُ الضَّمِّ كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَالثَّانِي: الْكَسْرُ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَالثَّالِثُ: الْفَتْحُ وَهُوَ أَضْعَفُ اه كَلَامُهُ، وَقَالَ التَّفْتَازَانِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ الزَّنْجَانِيِّ: إِذَا اتَّصَلَ بِالْمَجْزُومِ حَالَ الْإِدْغَامِ هَاءُ الضَّمِيرِ لَزِمَ وَجْهٌ وَاحِدٌ نَحْوُ رَدَّهَا بِالْفَتْحِ وَرَدُّهُ بِالضَّمِّ عَلَى الْأَفْصَحِ، وَرُوِيَ رَدِّهِ بِالْكَسْرِ وَهُوَ ضَعِيفٌ اه. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْفَتْحَ هُوَ الْفَصِيحُ الْمُقَابَلُ بِالْأَفْصَحِ لَكِنَّهُ يُخَالِفُ مَا فِي الشَّافِيَةِ مِنْ أَنَّ الْكَسْرَ لُغَةٌ، وَغَلِطَ ثَعْلَبٌ فِي جَوَازِ الْفَتْحِ اه وَلَكِنَّ الْمُحَقِّقِينَ إِنَّمَا نَسَبُوا الْفَتْحَ إِلَى الْغَلَطِ مَعَ أَنَّهُ وَجْهٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ صِيَانَةً لِحَمْلِ كَلَامِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى غَيْرِ الْأَفْصَحِ. وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:
" «أَنَا أَفْصَحُ الْعَرَبِ بِيدَ أَنِّي مِنْ قُرَيْشٍ» " وَيُمْكِنُ أَنْ يَعْتَذِرَ عَنِ اخْتِيَارِ الْمُحَدِّثِينَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ أَنَّهُ أَخَفُّ لِيَكُونَ نَصًّا عَلَى النَّهْيِ، فَإِنَّ الضَّمَّ يَحْتَمِلُ النَّفْيَ وَالنَّهْيَ بَلِ الْأَظْهَرُ هُوَ الْأَوَّلُ فَتَأْمَلْ. وَمَعَ هَذَا فَالرَّفْعُ أَرْفَعُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، أَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ النَّهْيِ فَلِمُوَافَقَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ النَّفْيِ فَلِلطَّرِيقَةِ الْأَبْلَغِيَّةِ ; لِأَنَّ النَّفْيَ مِنَ الشَّارِعِ آكَدُ فِي النَّهْيِ مِنَ النَّهْيِ صَرِيحًا (فَإِنَّهُ) أَيِ: الرَّيْحَانَ أَوْ إِعْطَاءَهُ أَوْ قَبْضَهُ وَأَخْذَهُ (خَفِيفُ الْمَحْمَلِ) أَيْ: قَلِيلُ الْمِنَّةِ (طَيِّبُ الرِّيحِ) : فَإِنَّهُ يُشَمُّ مِنْهُ رِيحُ الْجَنَّةِ فَإِنَّهُ وَرَدَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْجَنَّةِ كَمَا سَيَجِيءُ فِي حَدِيثٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ: عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ عَنْ رَدِّ الْهَدِيَّةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْهَدِيَّةَ إِذَا كَانَتْ قَلِيلَةً وَتَتَضَمَّنُ نَفْعًا مَا فَلَا تَرُدُّوهَا لِئَلَّا يَتَأَذَّى الْمُهْدِي اه وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى حِفْظِ قُلُوبِ النَّاسِ بِقَبُولِ هَدَايَاهُمْ، وَقَدْ وَرَدَ: تَهَادُوا تَحَابُّوا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَكَذَا أَبُو دَاوُدَ.
3017 -
وَعَنْ أَنَسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
3017 -
(وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَرُدُّ الطِّيبَ» ) : بِكَسْرِ الطَّاءِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَكَذَا أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ.
3018 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
3018 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» ) : شَبَّهَهُ بِالْقَبِيحِ الطَّبْعِيِّ الْحِسِّيِّ (لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَضَمِّهِ قِيلَ أَيْ: لِأَهْلِ مِلَّتِنَا أَنْ يَفْعَلَ بِمَا يُمَثَّلُ بِهِ مَثَلُ السَّوْءِ، وَقَالَ الْقَاضِي رحمه الله:" أَيْ: لَا يَنْبَغِي لَنَا، يُرِيدُ بِهِ نَفْسَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، أَنْ نَتَّصِفَ بِصِفَةٍ ذَمِيمَةٍ يُسَاهِمُنَا فِيهَا أَخَسُّ الْحَيَوَانَاتِ فِي أَخَسِّ أَحْوَالِهَا، وَقَدْ يُطْلَقُ الْمَثَلُ فِي الصِّفَةِ الْغَرِيبَةِ الْعَجِيبَةِ الشَّأْنِ سَوَاءٌ كَانَ صِفَةَ مَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ قَالَ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60] وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْمَوْهُوبِ بَعْدَ مَا قَبَضَ الْمُتَّهِبُ " قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: " هَذَا الْمَثَلُ ظَاهِرٌ فِي تَحْرِيمِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ بَعْدَ إِقْبَاضِهِمَا وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى هِبَةِ الْأَجْنَبِيِّ لَا مَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ أَوْ وَلَدِ وَلَدِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله وَآخَرُونَ: يَرْجِعُ كُلُّ وَاهِبٍ إِلَّا الْوَالِدَ وَكُلَّ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ، وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: مَحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ مَنْ يَرَى الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ أَنَّهُ عَلَى التَّنْزِيهِ وَكَرَاهَةِ الرُّجُوعِ لَا عَلَى التَّحْرِيمِ، وَيَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه حِينَ أَرَادَ شِرَاءَ فَرَسٍ حَمَلَ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«لَا تَبْتَعْهُ وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» ، قَالَ: فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ مُوجِبًا حُرْمَةَ ابْتِيَاعِ مَا تَصَدَّقَ بِهِ فَكَذَلِكَ هَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا حُرْمَةَ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ اه وَتَعَقَّبَهُ الطِّيبِيُّ بِمَا فِيهِ التَّعَجُّبُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
3019 -
وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، «أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلَامًا فَقَالَ: أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَأَرْجِعْهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: «أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيْكَ فِي الْبَرِّ سَوَاءً؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَلَا إِذًا» ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ قَالَ: «أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى يَشْهَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلِدِكَ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ. قَالَ: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: «لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
3019 -
(وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ) : بِضَمِّ النُّونِ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ أَوَّلُ مَوْلُودٍ وُلِدَ لِلْأَنْصَارِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، قِيلَ: مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَهُ ثَمَانِ سِنِينَ وَسَبْعَةُ أَشْهُرٍ وَلِأَبَوَيْهِ صُحْبَةٌ (أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي نَحَلْتُ) : بِفَتْحِ النُّونِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: وَهَبْتُ وَأَعْطَيْتُ (ابْنِي هَذَا غُلَامًا) أَيْ: عَبْدًا قَالَ فِي النِّهَايَةِ: النَّحْلُ الْعَطِيَّةُ وَالْهِبَةُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَلَا اسْتِحْقَاقٍ (فَقَالَ: آكُلَّ وَلَدِكَ) : بِنَصْبِ كُلَّ (نَحَلْتَ مِثْلَهُ) أَيْ: مِثْلَ هَذَا الْوَلَدِ دَلَّ عَلَى اسْتِحْبَابِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فِي الْعَطِيَّةِ (قَالَ: لَا، قَالَ: فَأَرْجِعْهُ) أَيِ: الْغُلَامَ أَوْ رُدُّهُ إِلَيْكَ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ اسْتَرِدِّ الْغُلَامَ وَهَذَا لِلْإِرْشَادِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الْأَوْلَى (وَفِي رِوَايَةٍ) أَيْ: لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا (أَنَّهُ قَالَ: أَيَسُرُّكَ) أَيْ: أَيُعْجِبُكَ وَيَجْعَلُكَ مَسْرُورًا (أَنْ يَكُونُوا) أَيْ: أَوْلَادُكَ جَمِيعًا (إِلَيْكَ فِي
الْبَرِّ سَوَاءً) أَيْ: مُسْتَوِينَ فِي الْإِحْسَانِ إِلَيْكَ وَفِي تَرْكِ الْعُقُوقِ عَلَيْكَ وَفِي الْأَدَبِ وَالْحُرْمَةِ وَالتَّعْظِيمِ لَدَيْكَ، (قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَلَا) أَيْ: فَلَا تُعْطِ أَيِ: الْغُلَامَ لَهُ وَحْدَهُ أَوْ فَلَا تُعْطِ بَعْضَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ بَعْضٍ (إِذًا) : بِالتَّنْوِينِ أَيْ: إِذَا كُنْتَ تُرِيدُ ذَلِكَ (وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ) أَيِ: النُّعْمَانُ (أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِمَا وَهِيَ أُمُّهُ (لَا أَرْضَى) أَيْ: بِهَذِهِ الْعَطِيَّةِ لِوَلَدِي (حَتَّى يَشْهَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: تَجْعَلَهُ شَاهِدًا عَلَى الْقَضِيَّةِ (فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: فَجَاءَهُ أَبِي ( «قَالَ: إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا» ) أَيْ: بَاقِي أَوْلَادِكَ مِثْلَ هَذَا الْإِعْطَاءِ وَهُوَ بِحَذْفِ الِاسْتِفْهَامِ مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقْرَأَ بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ (قَالَ: لَا، قَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ) أَيْ: حَقَّ تَقْوَاهُ أَيْ: مَا اسْتَطَعْتُمْ (وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ) : وَفِي خِطَابِ الْعَامِ إِشَارَةٌ إِلَى عُمُومِ الْحُكْمِ (قَالَ) : فَانْصَرَفَ أَبِي مِنْ عِنْدِهِ عليه الصلاة والسلام (فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ) أَيْ: إِلَى نَفْسِهِ أَوْ فَرَجَعَ فِي هِبَتِهِ، وَقَوْلُهُ: فَرَدَّ تَفْسِيرٌ لَهُ وَفِيهِ جَوَازُ رُجُوعِ الْوَالِدِ فِي هِبَةِ وَلَدِهِ (وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ) أَيِ: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (قَالَ: «لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» ) أَيْ: ظُلْمٍ أَوْ مَيْلٍ فَمَنْ لَا يَجَوِّزُ التَّفْضِيلَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ يُفَسِّرُهُ بِالْأَوَّلِ وَمَنْ يُجَوِّزُهُ عَلَى الْكَرَاهَةِ يُفَسِّرُهُ بِالثَّانِي، قَالَ النَّوَوِيُّ: " فِيهِ اسْتِحْبَابُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْهِبَةِ فَلَا يُفَضِّلُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ سَوَاءٌ كَانُوا ذُكُورًا أَوْ إِنَاثًا، قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ فَلَوْ وَهَبَ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَلَيْسَ بِحَرَامٍ وَالْهِبَةُ صَحِيحَةٌ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ رحمهم الله وَغَيْرُهُمْ: هُوَ حَرَامٌ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ:«لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» ، وَبِقَوْلِهِ: وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ، وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ: فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا وَبَاطِلًا لَمَا قَالَ هَذَا، وَبِقَوْلِهِ: فَأَرْجِعْهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ نَافِذًا لَمَا احْتَاجَ إِلَى الرُّجُوعِ، فَإِنْ قِيلَ: قَالَهُ تَهْدِيدًا، قُلْنَا: الْأَصْلُ خِلَافُهُ، وَيَحْمِلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ صِيغَةَ أَفْعِلْ عَلَى الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ وَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَعَلَى الْإِبَاحَةِ، وَأَمَّا مَعْنَى الْجَوْرِ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ حَرَامٌ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَيْلُ عَنْ الِاسْتِوَاءِ وَكُلُّ مَا خَرَجَ عَنْ الِاعْتِدَالِ فَهُوَ جَوْرٌ، سَوَاءٌ كَانَ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِي الْحَدِيثِ اسْتِحْبَابُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي النِّحَلِ، وَفِي غَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْبِرِّ حَتَّى فِي الْقُبْلَةِ، وَلَوْ فَعَلَ خِلَافَ ذَلِكَ نَفَذَ. وَقَدْ فَضَّلَ أَبُو بَكْرٍ عَائِشَةَ رضي الله عنهما بِأَحَدٍ وَعِشْرِينَ وَسْقًا نَحَلَهَا إِيَّاهَا دُونَ سَائِرِ أَوْلَادِهِ، وَفَضَّلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَاصِمًا فِي عَطَائِهِ، وَفَضَّلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَلَدَ أُمِّ كُلْثُومٍ، قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: وَقَرَّرَ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ فَيَكُونُ إِجْمَاعًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
(الْفَصْلُ الثَّانِي)
3020 -
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَرْجِعُ أَحَدٌ فِي هِبَتِهِ إِلَّا الْوَالِدُ مِنْ وَلَدِهِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
(الْفَصْلُ الثَّانِي)
3020 -
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو) بِالْوَاوِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَرْجِعُ) : بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ نَفْيٌ مَعْنَاهُ فِي كَذَا، قَالَ: وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ (أَحَدٌ فِي هِبَتِهِ) : بِكَسْرِ الْهَاءِ، أَصْلُهَا وَهْبَةٌ (إِلَّا الْوَالِدَ مِنْ وَلَدِهِ) : قِيلَ: دَلَّ عَلَى حُرْمَةِ الرُّجُوعِ، وَإِنَّمَا جَازَ فِي الْوَلَدِ لِأَنَّهُ وَمَالَهُ لَهُ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ حَيْثُ قَالَ: لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ إِلَّا لِلْوَلَدِ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْوَلَدِ يَكُونُ الْمُرَادُ نَفِيَ الِانْفِرَادِ أَيْ: لَا يَنْفَرِدْ وَلَا يَسْتَقِلَّ أَحَدٌ بِالرُّجُوعِ فِي هِبَتِهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا تَرَاضٍ إِلَّا الْوَالِدَ فَإِنَّهُ يَنْفَرِدُ إِذَا احْتَاجَ (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .
3021 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً ثُمَّ يَرْجِعَ فِيهَا إِلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ، وَمَثَلُ الَّذِي يُعْطِي الْعَطِيَّةَ ثُمَّ يَرْجِعُ فِيهَا كَمَثَلِ الْكَلْبِ أَكَلَ حَتَّى إِذَا شَبِعَ قَاءَ ثُمَّ عَادَ فِي قَيْئِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
3021 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً ثُمَّ يَرْجِعَ» ) : الظَّاهِرُ النَّصْبُ لَكِنْ وَقَعَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا بِالرَّفْعِ ذَكَرَهُ شَيْخُ مَشَايِخِنَا مَيْرَكُ شَاهْ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الرَّفْعِ تَقْدِيرُ هُوَ وَالضَّمِيرُ لِلرَّجُلِ (فِيهَا) أَيْ: فِي عَطِيَّتِهِ (إِلَّا الْوَالِدَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالرَّجُلِ لِلْجِنْسِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ إِلَخْ وَبِظَاهِرِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا يَحِلُّ لَهُ دِيَانَةً وَمُرُوءَةً فَيَكُونُ مَكْرُوهًا لَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ قَضَاءً وَحُكْمًا كَمَا فِي خَبَرِ:«لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَبِيتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ طَاوِيًا» أَيْ: خَالِي الْبَطْنِ جَائِعًا أَيْ: لَا يَلِيقُ ذَلِكَ لَهُ دِيَانَةً وَمُرُوءَةً وَإِنْ كَانَ جَائِزًا قَضَاءً وَحُكْمًا (وَمَثَلُ الَّذِي يُعْطِي الْعَطِيَّةَ) أَيْ: لِغَيْرِ وَلَدِهِ (ثُمَّ يَرْجِعُ فِيهَا كَمَثَلِ الْكَلْبِ أَكَلَ) أَيِ: اسْتَمَرَّ عَلَى أَكْلِ شَيْءٍ (حَتَّى إِذَا شَبِعَ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ (قَاءَ ثُمَّ عَادَ فِي قَيْئِهِ) : قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: " الْحَدِيثُ كَمَا تَرَى نَصٌّ صَرِيحٌ عَلَى أَنَّ جَوَازَ الرُّجُوعِ مَقْصُورٌ عَلَى مَا وَهَبَ الْوَالِدُ مِنْ وَلَدِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَعَكَسَ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالُوا: لَا رُجُوعَ لِلْوَاهِبِ فِيمَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ مَحَارِمِهِ وَلِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِيمَا وَهَبَ لِلْآخَرِ وَلَهُ الرُّجُوعُ فِيمَا وَهَبَ لِلْأَجَانِبِ، وَجَوَّزَ مَالِكٌ الرُّجُوعَ مُطْلَقًا إِلَّا فِي هِبَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الْآخَرِ، وَأَوَّلَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ هَذَا الْحَدِيثَ بِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا يَحِلُّ مَعْنَاهُ التَّحْذِيرُ عَنِ الرُّجُوعِ لَا نَفْيَ الْجَوَازِ عَنْهُ كَمَا فِي قَوْلِكَ لَا يَحِلُّ لِلْوَاجِدِ رَدُّ السَّائِلِ، وَقَوْلَهُ: إِلَّا الْوَالِدَ لِوَلَدِهِ مَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ وَيَتَصَرَّفَ فِي نَفَقَتِهِ وَسَائِرِ مَا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهِ وَقْتَ حَاجَتِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ اسْتِيفَاءً لِحَقِّهِ مِنْ مَالِهِ لَا اسْتِرْجَاعًا لِمَا وَهَبَ وَنَقْضًا لِلْهِبَةِ وَهُوَ مَعَ بُعْدِهِ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ بِلَا دَلِيلٍ، أَقُولُ: الْمُجْتَهِدُ أَسِيرُ الدَّلِيلِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ دَلِيلٌ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى التَّأْوِيلِ، قَالَ: وَمَا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه: مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِذِي رَحِمٍ جَازَتْ وَمَنْ وَهَبَ لِغَيْرِ ذِي رَحِمٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ أَقْبَلَ تَأْوِيلًا، وَأَوْلَى بِأَنْ يُؤَوَّلَ مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ بَيْنَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْهِبَةِ مِنَ الْمَحَارِمِ وَالْأَجَانِبِ فِي اقْتِضَاءِ الثَّوَابِ وَأَنَّ مَنْ وَهَبَ لِأَجْنَبِيٍّ طَمَعًا فِي ثَوَابٍ فَلَمْ يُثِبْهُ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ صَرِيحًا، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ قَدِيمٌ يَقْرُبُ مِنْهُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَى لُزُومَ الثَّوَابِ أَصْلًا فَكَيْفَ يَحْتَجُّ بِهِ؟ قُلْتُ: لَا بِدَعَ أَنْ يَقُولَ بِعَدَمِ جَوَازِ الرُّجُوعِ عِنْدَ حُصُولِ الثَّوَابِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَرَى لُزُومَهُ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: لَمَّا تَقَرَّرَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الرُّجُوعَ عَنِ الْهِبَةِ مَذْمُومٌ وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَوْ لَا يَسْتَقِيمُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّصِفُوا بِهَذَا الْمَثَلِ السُّوءِ، وَسَبَقَ أَنَّ حَدِيثَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - جَاءَ مُؤَكِّدًا لَهُ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْجِعَ مِنَ الْأَوْلَادِ أَيْضًا وَيَجُوزُ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِرُجُوعٍ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ وَمَالُهُ لَهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233] ، أَيِ: الَّذِي وُلِدَ لَهُ وَكَأَنَّهُ مَمْلُوكُهُ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ» ، وَرُبَّمَا تَقْتَضِي الْمَصْلَحَةُ الرُّجُوعَ تَأْدِيبًا وَسِيَاسَةً لِلْوَلَدِ لِمَا يَرَى مِنْهُ مَا لَا يَرْضَاهُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) وَالْأَخْصَرُ رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ (وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ) أَيْ: حَكَمَ بِأَنَّ إِسْنَادَهُ صَحِيحٌ.
3022 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، «أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَكْرَةً فَعَوَّضَهُ مِنْهَا سِتَّ بَكَرَاتٍ فَتَسَخَّطَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ فَلَانًا أَهْدَى إِلَيَّ نَاقَةً فَعَوَّضْتُهُ مِنْهَا سِتَّ بَكَرَاتٍ فَظَلَّ سَاخِطًا، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لَا أَقْبَلَ هَدِيَّةً إِلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ أَوْ أَنْصَارِيٍّ أَوْ ثَقَفِيٍّ أَوْ دَوْسِيٍّ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
ــ
3022 -
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا) أَيْ: بَدَوِيًّا (أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَكْرَةً) : الْبَكْرُ بِفَتْحِ مُوَحَّدَةٍ فَسُكُونِ كَافٍ فَتِيٌّ مِنِ الْإِبِلِ بِمَنْزِلَةِ غُلَامٍ مِنَ النَّاسِ وَالْأُنْثَى بَكْرَةٌ كَذَا فِي النِّهَايَةِ (فَعَوَّضَهُ مِنْهَا سِتَّ بَكَرَاتٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ (فَتَسَخَّطَ) أَيْ: أَظْهَرَ الْأَعْرَابِيُّ السُّخْطَ وَالْغَضَبَ وَاسْتَقَلَّ إِعْطَاءَهُ لِأَنَّ طَمْعَهُ فِي الْجَزَاءِ كَانَ أَكْثَرَ لِمَا سَمِعَ مِنْ جُودِهِ وَفَيْضِ وُجُودِهِ صلى الله عليه وسلم (فَبَلَغَ ذَلِكَ) أَيْ: سُخْطُهُ (النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم -
فَحَمِدَ اللَّهَ) أَيْ: بِالشُّكْرِ الْجَزِيلِ (وَأَثْنَى عَلَيْهِ) أَيْ: بِالثَّنَاءِ الْجَمِيلِ (ثُمَّ قَالَ: إِنَّ فُلَانًا) : كِنَايَةٌ عَنِ اسْمِهِ وَلَعَلَّ التَّصْرِيحَ بِهِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ قَبُولِ هَدِيَّتِهِ (أَهْدَى إِلَيَّ نَاقَةً فَعَوَّضْتُهُ مِنْهَا سِتَّ بَكَرَاتٍ فَظَلَّ) أَيْ: أَصْبَحَ أَوْ صَارَ (سَاخِطًا، لَقَدْ هَمَمْتُ) : جَوَابُ قَسَمٍ مُقَدَّرٍ أَيْ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَصَدْتُ (أَنْ لَا أَقْبَلَ هَدِيَّةً) أَيْ: مِنْ أَحَدٍ (إِلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ) : نِسْبَةً إِلَى قُرَيْشٍ بِحَذْفِ الزَّوَائِدِ (أَوْ أَنْصَارِيٍّ) أَيْ: مَنْسُوبٍ إِلَى قَوْمٍ مُسَمًّى بِالْأَنْصَارِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَاحِدٌ مِنْهُمْ (أَوْ ثَقَفِيٍّ) : بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَالْقَافِ نِسْبَةً إِلَى ثَقِيفٍ قَبِيلَةٍ مَشْهُورَةٍ (أَوْ دَوْسِيٍّ) : بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ نِسْبَةً إِلَى دَوْسٍ بَطْنٍ مِنَ الْأَزَدِ أَيْ: إِلَّا مِنْ قَوْمٍ فِي طَبَائِعِهِمُ الْكَرَمُ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: " كَرِهَ قَبُولَ الْهَدِيَّةِ مِمَّنْ كَانَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَيْهَا طَلَبَ الِاسْتِكْثَارِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْمَذْكُورِينَ فِيهِ بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ لِمَا عُرِفَ فِيهِمْ مِنْ سَخَاوَةِ النَّفْسِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ وَقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْأَعْوَاضِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: " اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْخَصْلَةَ مِنْ رَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ وَأَخَسِّهَا وَلِذَلِكَ عَرَّضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْقَبَائِلِ وَحُسْنِ أَخْلَاقِهَا إِنَّ قَبِيلَةَ هَذَا الْأَعْرَابِيِّ عَلَى خِلَافِهَا، وَنَهَى اللَّهُ حَبِيبَهُ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] الْكَشَّافِ، أَيْ: لَا تُعْطِ طَالِبًا لِلتَّكْثِيرِ نَهْيٌ عَنْ الِاسْتِعْرَارِ وَهُوَ أَنْ يَهَبَ شَيْئًا وَهُوَ يَطْمَعُ أَنْ يَتَعَوَّضَ مِنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَكْثَرَ مِنَ الْمَوْهُوبِ وَهَذَا جَائِزٌ وَمِنْهُ الْمُسْتَعْرِرُ ثِيَابَ مَنْ وَهَبْتَهُ وَهَذَا النَّهْيُ إِمَّا نَهْيُ تَحْرِيمٍ أَوْ مُخْتَصٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ نَهْيُ تَنْزِيهٍ فَلَهُ وَلِأُمَّتِهِ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: " اخْتَلَفُوا فِي الْهِبَةِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الثَّوَابُ فَذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِنَّهَا تَقْتَضِي الثَّوَابَ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ النَّاسَ فِي طَيِّبَاتٍ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ: هِبَةُ الرَّجُلِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ فَهُوَ إِكْرَامٌ وَإِلْطَافٌ لَا يَقْتَضِي الثَّوَابَ وَكَذَلِكَ هِبَةُ النَّظِيرِ مِنَ النَّظِيرِ، وَأَمَّا هِبَةُ الْأَدْنَى مِنَ الْأَعْلَى فَتَقْتَضِي الثَّوَابَ لِأَنَّ الْمُعْطِي يَقْصِدُ بِهِ الرِّفْدَ وَالثَّوَابَ ثُمَّ قُدِّرَ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ وَقِيلَ: قَدْرُ قِيمَةِ الْمَوْهُوبِ وَقِيلَ: حَتَّى يَرْضَى الْوَاهِبُ، وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْهِبَةَ الْمُطْلَقَةَ لَا تَقْتَضِي الثَّوَابَ سَوَاءٌ وَهَبَ لِنَظِيرِهِ أَوْ لِمَنْ دُونَهُ أَوْ فَوْقَهُ، وَكُلُّ مَنْ أَوْجَبَ الثَّوَابَ فَإِذَا لَمْ يُثِبْ كَانَ لِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ) .
3023 -
عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أُعْطِيَ عَطَاءً فَوَجَدَ فَلْيُجْزِ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُثْنِ فَإِنَّ مَنْ أَثْنَى فَقَدْ شَكَرَ، وَمَنْ كَتَمَ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ تَحَلَّى بِمَا لَمْ يُعْطَ كَانَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ.
ــ
3023 -
(عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أُعْطِيَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عَطَاءً) : مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَوْ عَطِيَّةً وَفِي رِوَايَةٍ شَيْئًا فَهُوَ مَفْعُولٌ ثَانٍ (فَوَجَدَ) أَيْ: سَعَةً مَالِيَّةً (فَلْيُجْزِ) بِسُكُونِ الْجِيمِ أَيْ: فَلْيُكَافِئْ (بِهِ) أَيْ: بِالْعَطَاءِ (وَمَنْ لَمْ يَجِدْ) أَيْ: سِعَةً مِنَ الْمَالِ (فَلْيُثْنِ) بِضَمِّ الْيَاءِ أَيْ: عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَةٍ بِهِ أَيْ: فَلْيَمْدَحْهُ أَوْ فَلْيَدْعُ لَهُ (فَإِنَّ مَنْ أَثْنَى) وَفِي رِوَايَةٍ فَإِنْ أَثْنَى بِهِ (فَقَدْ شَكَرَ) وَفِي رِوَايَةٍ شَكَرَهُ أَيْ: جَازَاهُ فِي الْجُمْلَةِ (وَمَنْ كَتَمَ) أَيِ: النِّعْمَةَ بِعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ بِالْعَطَاءِ أَوِ الْمَجَازِ اه بِالثَّنَاءِ (قَدْ كَفَرَ) أَيِ: النِّعْمَةَ مِنَ الْكُفْرَانِ أَيْ: تَرَكَ أَدَاءَ حَقِّهِ وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ (وَمَنْ تَحَلَّى) أَيْ: تَزَيَّنَ وَتَلَبَّسَ (بِمَا لَمْ يُعْطَ) بِفَتْحِ الطَّاءِ (كَانَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ) وَفِي رِوَايَةٍ فَإِنَّهُ كَلَابِسِ زُورٍ أَيْ: كَمَنْ كَذَبَ كَذِبَيْنِ أَوْ أَظْهَرَ شَيْئَيْنِ كَاذِبَيْنِ، قَالَهُ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ قَالَتْ:«يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي ضَرَّةً فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أَتَشَبَّعَ بِمَا لَمْ يُعْطِنِي زَوْجِي» أَيْ: أُظْهِرُ الشِّبَعَ، فَأَحَدُ الْكَذِبَيْنِ قَوْلُهَا أَعْطَانِي زَوْجِي وَالثَّانِي إِظْهَارُهَا أَنَّ زَوْجِي يُحِبُّنِي أَشَدَّ مِنْ ضَرَّتِي، قَالَ الْخَطَابِيُّ:" كَانَ رَجُلٌ فِي الْعَرَبِ يَلْبَسُ ثَوْبَيْنِ مِنْ ثِيَابِ الْمَعَارِفِ لِيَظُنَّهُ النَّاسُ أَنَّهُ رَجُلٌ مَعْرُوفٌ مُحْتَرَمٌ لِأَنَّ الْمَعَارِيفَ لَا يَكْذِبُونَ فَإِذَا رَآهُ النَّاسُ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ يَعْتَمِدُونَ عَلَى قَوْلِهِ وَشَهَادَتِهِ عَلَى الزُّورِ لِأَجْلِ تَشْبِيهِ نَفْسِهِ بِالصَّادِقِينَ، وَكَانَتْ ثَوْبَاهُ سَبَبَ زُورِهِ فَسُمِّيَا ثَوْبَ زُورٍ أَوْ لِأَنَّهُمْ لُبِسَا لِأَجْلِهِ وَثُنِّيَ بِاعْتِبَارِ الرِّدَاءِ وَالْإِزَارِ فَشَبَّهَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ "، وَفِي النِّهَايَةِ: " الْحُلِيُّ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ الْمُرَائِي يَلْبَسُ ثِيَابَ الزُّهَّادِ وَيَرَى أَنَّهُ زَاهِدٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ أَنْ يَلْبَسَ قَمِيصًا يَصِلُ بِكُمَّيْهِ كُمَّيْنِ آخَرَيْنِ يَرَى أَنَّهُ لَابِسُ قَمِيصَيْنِ فَكَأَنَّهُ يَسْخَرُ مِنْ نَفْسِهِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْكَاذِبِ الْقَائِلِ مَا لَمْ يَكُنْ، وَقِيلَ: إِنَّمَا شَبَّهَ بِالثَّوْبَيْنِ لِأَنَّ الْمُتَحَلِّي كَذَبَ كَذِبَيْنِ فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِصِفَةٍ لَيْسَتْ فِيهِ وَوَصَفَ غَيْرَهُ بِأَنَّهُ خَصَّهُ بِصِلَةٍ فَجَمَعَ بِهَذَا الْقَوْلِ بَيْنَ كَذِبَيْنِ، أَقُولُ: وَكَذَا الْقَوْلُ تَظْهَرُ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فِي الْحَدِيثِ مَعَ مُوَافَقَتِهِ لِسَبَبِ وُرُودِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ لَمْ يُعْطَ وَأَظْهَرَ أَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ كَانَ مُزَوِّرًا مَرَّتَيْنِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.
3024 -
وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
3024 -
(عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ حِبِّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: أُحْسِنَ إِلَيْهِ (مَعْرُوفٌ) وَفِي نُسْخَةٍ مَعْرُوفًا بِالنَّصْبِ أَيْ: أُعْطِيَ عَطَاءً (قَالَ لِفَاعِلِهِ) أَيْ: بَعْدَ عَجْزِهِ عَنْ إِثَابَتِهِ أَوْ مُطْلَقًا (جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا) أَيْ: خَيْرَ الْجَزَاءِ أَوْ أَعْطَاكَ خَيْرًا مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ) أَيْ: بَالَغَ فِي أَدَاءِ شُكْرِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ اعْتَرَفَ بِالتَّقْصِيرِ وَأَنَّهُ مِمَّنْ عَجَزَ عَنْ جَزَائِهِ وَثَنَائِهِ فَفَوَّضَ جَزَاءَهُ إِلَى اللَّهِ لِيَجْزِيَهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَكَذَا النَّسَائِيُّ، وَابْنُ حِبَّانٍ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
3025 -
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ.
ــ
3025 -
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ» ) قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: " وَهَذَا إِمَّا لِأَنَّ شُكْرَهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَتِمُّ بِمُطَاوَعَتِهِ، وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَأَنَّ مِمَّا أَمَرَ بِهِ شُكْرَ النَّاسِ الَّذِينَ هُمْ وَسَائِطُ فِي إِيصَالِ نِعَمِ اللَّهِ إِلَيْهِ فَمَنْ لَمْ يُطَاوِعْهُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ مُؤَدِّيًا شُكْرَ نِعَمِهِ، أَوْ لِأَنَّ مَنْ أَخَلَّ بِشُكْرِ مَنْ أَسْدَى إِلَيْهِ نِعْمَةً مِنَ النَّاسِ مَعَ مَا يَرَى مِنْ حِرْصِهِ عَلَى حُبِّ الثَّنَاءِ وَالشُّكْرِ عَلَى النَّعْمَاءِ وَتَأَذِّيهِ بِالْإِعْرَاضِ وَالْكُفْرَانِ كَانَ أَوْلَى بِأَنْ يَتَهَاوَنَ فِي شُكْرِ مَنْ يَسْتَوِي عِنْدَهُ الشُّكْرُ وَالْكُفْرَانُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ.
3026 -
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ أَتَاهُ الْمُهَاجِرُونَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْنَا قَوْمًا أَبْذَلَ مِنْ كَثِيرٍ وَلَا أَحْسَنَ مُوَاسَاةً مِنْ قَلِيلٍ مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ لَقَدْ كَفَوْنَا الْمُؤْنَةَ وَأَشْرَكُونَا فِي الْمَهْنَأِ حَتَّى لَقَدْ خِفْنَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالْأَجْرِ كُلِّهِ، فَقَالَ: لَا مَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
ــ
3026 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ) أَيْ: حِينَ جَاءَهَا أَوَّلَ قُدُومِهِ (أَتَاهُ الْمُهَاجِرُونَ) أَيْ: بَعْدَ مَا قَامَ الْأَنْصَارُ بِخِدْمَتِهِمْ وَإِعْطَائِهِمْ أَنْصَافَ دُورِهِمْ وَبَسَاتِينِهِمْ إِلَى أَنَّ بَعْضَهُمْ طَلَّقَ أَحْسَنَ نِسَائِهِ لِيَتَزَوَّجَهَا بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9](فَقَالُوا) أَيِ: الْمُهَاجِرُونَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْنَا قَوْمًا أَبْذَلَ مِنْ كَثِيرٍ) أَيْ: مِنْ مَالٍ (وَلَا أَحْسَنَ مُوَاسَاةً مِنْ قَلِيلٍ) أَيْ: مِنْ مَالٍ قَلِيلٍ (مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ) أَيْ: عِنْدِهِمْ وَفِيمَا بَيْنَهُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَحْسَنُوا إِلَيْنَا سَوَاءٌ كَانُوا كَثِيرِي الْمَالِ أَوْ فَقِيرِي الْحَالِ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْجَارَانِ أَعْنِي قَوْلَهُ مِنْ قَلِيلٍ هُوَ الْمُفَضَّلُ وَالْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الْأَنْصَارُ وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهُ إِلَيْهِ لِيَدُلَّ التَّنْكِيرُ عَلَى التَّفْخِيمِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ إِجْرَاءِ الْأَوْصَافِ التَّالِيَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ لِيَكُونَ أَوْقَعَ لِأَنَّ التَّبْيِينَ بَعْدَ الْإِبْهَامِ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ وَأَبْلَغُ (لَقَدْ كَفَوْنَا) مِنَ الْكِفَايَةِ (الْمُؤْنَةَ) أَيْ: تَحَمَّلُوا عَنَّا مُؤْنَةَ الْخِدْمَةِ فِي عِمَارَةِ الدُّورِ وَالنَّخِيلِ وَغَيْرِهِمَا (وَأَشْرَكُونَا) أَيْ: مِثْلَ الْإِخْوَانِ (فِي الْمَهْنَأِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالنُّونِ وَهَمْزٍ فِي آخِرِهِ مَا يَقُومُ بِالْكِفَايَةِ فِي إِصْلَاحِ الْمَعِيشَةِ، وَقِيلَ: مَا يَأْتِيكَ بِلَا تَعَبٍ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَالْمَعْنَى أَشْرَكُونَا فِي ثِمَارِ نَخِيلِهِمْ وَكَفَوْنَا مُؤْنَةَ سَقْيِهَا وَإِصْلَاحِهَا وَأَعْطَوْنَا نِصْفَ ثِمَارِهِمْ، وَقَالَ الْقَاضِي: يُرِيدُونَ بِهِ مَا أَشْرَكُوهُمْ فِيهِ مِنْ زُرُوعِهِمْ وَثِمَارِهِمْ (لَقَدْ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: حَتَّى لَقَدْ (خِفْنَا أَنْ يَذْهَبُوا) أَيِ: الْأَنْصَارُ (بِالْأَجْرِ كُلِّهِ) أَيْ: بِأَنْ يُعْطِيَهُمُ اللَّهُ أَجْرَ هِجْرَتِنَا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَأَجْرَ عِبَادَتِنَا كُلِّهَا مِنْ كَثْرَةِ إِحْسَانِهِمْ إِلَيْنَا (قَالَ: لَا) أَيْ: يَذْهَبُونَ بِكُلِّ الْأَجْرِ فَإِنَّ فَضْلَ اللَّهِ وَاسْعٌ فَلَكُمْ ثَوَابُ الْعِبَادَةِ وَلَهُمْ أَجْرُ الْمُسَاعَدَةِ (مَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ) أَيْ: مَادُمْتُمْ تَدْعُونَ لَهُمْ بِخَيْرٍ فَإِنَّ دُعَاءَكُمْ يَقُومُ بِحَسَنَاتِهِمْ إِلَيْكُمْ، وَثَوَابُ حَسَنَاتِكُمْ رَاجِعٌ عَلَيْكُمْ وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يَعْنِي إِذَا حَمَلُوا الْمَشَقَّةَ وَالتَّعَبَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَشْرَكُونَا فِي الرَّاحَةِ وَالْمَهْنَأِ فَقَدْ أَحْرَزُوا الْمَثُوبَاتِ فَكَيْفَ نُجَازِيهِمْ؟ فَأَجَابَ: لَا، أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمْتُمْ فَإِنَّكُمْ إِذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ شُكْرًا لِصَنِيعِهِمْ وَدُمْتُمْ عَلَيْهِ فَقَدْ جَازَيْتُمُوهُمْ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ) .
3027 -
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «تَهَادُوا فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ الضَّغَائِنَ» ، رَوَاهُ.
ــ
3027 -
(عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تَهَادُوا) بِضَمِّ الدَّالِ أَمْرٌ مِنَ التَّهَادِي بِمَعْنَى الْمُهَادَاةِ أَيْ: لِيُعْطِ الْهَدِيَّةَ وَيُرْسِلْهَا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ ( «فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ الضَّغَائِنَ» ) جَمْعُ ضَغِينَةٍ وَهِيَ الْحِقْدُ أَيْ: تُزِيلُ الْبُغْضَ وَالْعَدَاوَةَ وَتُحَصِّلُ الْأُلْفَةَ وَالْمَحَبَّةَ كَمَا وَرَدَ: «تَهَادُوا تَحَابُّوا وَتَصَافَحُوا يَذْهَبُ الْغِلُّ عَنْكُمْ» عَلَى مَا رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْ عَائِشَةَ:«تَهَادُوا تَزْدَادُوا» ، قَالَ الطِّيبِيُّ: حُبًّا ; وَذَلِكَ لِأَنَّ السُّخْطَ جَالِبٌ لِلضَّغِينَةِ وَالْحِقْدِ، وَالْهَدِيَّةَ جَالِبَةٌ لِلرِّضَا فَإِذَا جَاءَ سَبَبُ الرِّضَا ذَهَبَ سَبَبُ السُّخْطِ (رَوَاهُ) هُنَا بَيَاضٌ فِي الْأَصْلِ، وَأُلْحِقَ بِهِ التِّرْمِذِيُّ، قَالَ مَيْرَكُ: كَذَا قَالَهُ الْجَزَرِيُّ وَفِي حَاشِيَتِهِ وَصَحَّحَ الْجَزَرِيُّ إِسْنَادَهُ.
3028 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تَهَادَوْا فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ وَلَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ شِقَّ فِرْسِنِ شَاةٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
3028 -
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «تَهَادُوا فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَحَرَ الصَّدْرِ» ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ: غِشَّهُ وَوَسْوَسَتَهُ، وَقِيلَ: هُوَ الْحِقْدُ وَالْغَضَبُ، وَقِيلَ: أَشَدُّ الْغَضَبِ، وَقِيلَ: الْعَدَاوَةُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ (وَلَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وَهُوَ مَفْعُولُ تَحْقِرَنَّ أَيْ: لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ هَدِيَّةً مُهْدَاةً لِجَارَتِهَا وَهُوَ تَتْمِيمٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله، وَفِي النِّهَايَةِ: الْجَارَةُ الضَّرَّةُ مِنَ الْمُجَاوَرَةِ بَيْنَهُمَا وَمِنْهُ «حَدِيثُ أُمِّ زَرْعٍ " وَغَيْظُ جَارَتِهَا» " أَيْ: إِنَّهَا تَرَى حُسْنَهَا فَيَغِيظُهَا ذَلِكَ (وَلَوْ شِقَّ فِرْسِنِ شَاةٍ) بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ: نَصِيفَهُ أَوْ بَعْضَهُ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «اتَّقَوُا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» . وَالْفِرْسِنُ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ عَظْمٌ قَلِيلُ اللَّحْمِ وَهُوَ خُفُّ الْبَعِيرِ وَالشَّاةِ، قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: الْفِرْسِنُ مِنَ الشَّاةِ وَالْبَعِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْحَافِرِ مِنَ الدَّابَّةِ وَالْمَعْنَى لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ هَدِيَّةَ جَارَتِهَا وَلَوْ كَانَتْ فِرْسِنَ شَاةٍ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَلَوْ بِشِقِّ فِرْسِنِ شَاةٍ، زِيَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ فَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْ أَنْ تَبْعَثَ إِلَيْهَا أَوْ تَتَفَقَّدَهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ بِغَيْرِ بَاءِ وَكَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ: أَرْشَدَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ النَّاسَ إِلَى أَنَّ التَّهَادِيَ يُزِيلُ الضَّغَائِنَ، ثُمَّ بَالَغَ فِيهِ حَتَّى ذَكَرَ أَحْقَرَ الْأَشْيَاءِ مِنْ أَبْغَضِ الْبَغِيضَيْنِ إِذْ حَمَلَ الْجَارَةَ عَلَى الضَّرَّةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِمَعْنَى التَّتْمِيمِ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: لِتَبْعَثْ جَارَةٌ إِلَى جَارَتِهَا مِمَّا عِنْدَهَا مِنَ الطَّعَامِ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا قَلِيلًا، أَقُولُ: وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى ابْنُ عَدَيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «تَهَادُوا الطَّعَامَ بَيْنَكُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ تَوْسِعَةٌ فِي أَرْزَاقِكُمْ» (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ: قَالُوا «فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ بِالسَّخِيمَةِ» أَيِ: الْحِقْدِ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أُمِّ حَكِيمٍ:«تَهَادُوا فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُضَعِّفُ الْحُبَّ وَتَذْهَبُ بِغَوَائِلِ الصَّدْرِ» أَيْ: وَسَاوِسِهِ.
3029 -
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ لَا تُرَدُّ الْوَسَائِدُ وَالدُّهْنُ وَاللَّبَنُ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، قِيلَ: أَرَادَ بِالدُّهْنِ الطِّيبَ
ــ
3029 -
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ) رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ مِنَ الْهَدَايَا لَا تُرَدُّ» ) أَيْ: لَا يَنْبَغِي أَنْ تُرَدَّ لِقِلَّةٍ مِنَّتِهَا وَتَأَذِّي الْمُهْدِي إِيَّاهَا (الْوَسَائِدُ وَالدُّهْنُ وَاللَّبَنُ) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: " يُرِيدُ أَنْ يُكْرَمَ الضَّيْفُ بِالْوِسَادَةِ وَالطِّيبِ وَاللَّبَنِ، وَهِيَ هَدِيَّةٌ قَلِيلَةُ الْمِنَّةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُرَدَّ " اه فَكَأَنَّهُ حَمَلَ الدُّهْنَ عَلَى الطِّيبِ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالطِّيبِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مُطْلَقُ الدُّهْنِ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَعْمِلُهُ فِي شُعُورِ رُءُوسِهِمْ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ الْمَلَكِ: الْمُرَادُ بِالْوَسَائِدِ الَّتِي حَشْوُهَا لِيفٌ أَوْ صُوفٌ لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْهُمَا غَالِبًا، فَمَدْفُوعٌ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ) قِيلَ: أَرَادَ بِالدُّهْنِ الطِّيبَ وَوَجْهُهُ سَبَقَ، وَلَعَلَّ مُرَادَ الْقَائِلِ بِهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَمَا يَلِيهِ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.