الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: " فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: ثُمَّ يُطَوَّقَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَحَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ فِيهِ؟ قُلْتَ: إِلَى تُفِيدُ مَعْنَى الْغَايَةِ مُطْلَقًا، فَأَمَّا دُخُولُهَا فِي الْحُكْمِ وَخُرُوجُهَا فَأَمْرٌ يَدُورُ مَعَ الدَّلِيلِ، فَمَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْخُرُوجِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ; لِأَنَّ الْإِعْسَارَ عِلَةُ الْإِنْظَارِ وَبِوُجُودِ الْمَيْسَرَةِ تَزُولُ الْعِلَّةُ، وَمَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الدُّخُولِ قَوْلُكَ: حَفِظْتُ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِحِفْظِهِ الْقُرْآنَ كُلَّهُ، كَذَا فِي الْكَشَّافِ، وَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ الْغَايَةُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْحُكْمِ إِلَى قَضَاءِ الْحَقِّ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَكُونُ حَتَّى يُقْضَى كَالْبَيَانِ لِلْغَايَةِ اه، وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى. (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .
[بَابُ الشُّفْعَةِ]
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
2961 -
عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
(
12 -
) بَابُ الشُّفْعَةِ
بِضَمِّ أَوَّلِهَا، فِي الْمُغْرِبِ: الشُّفْعَةُ اسْمٌ لِلْمِلْكِ الْمَشْفُوعِ بِمِلْكِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: كَانَ وِتْرًا فَشَفَعْتُهُ بِآخَرَ أَيْ جَعَلْتُهُ زَوْجًا لَهَا، وَنَظِيرُهَا الْأَكْلَةُ وَاللُّقْمَةُ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِعْلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ هَذَا أَصْلُهَا، ثُمَّ جُعِلَ عِبَارَةً عَنْ تَمَلُّكٍ مَخْصُوصٍ أَيْ: بِمَا قَامَ عَلَى الْمُشْتَرَى، وَقَدْ جَمَعَهُمَا الشَّعْبِيُّ فِي قَوْلِهِ: مَنْ بِيعَتْ شُفْعَتُهُ وَهُوَ حَاضِرٌ فَلَمْ يَطْلُبْ ذَلِكَ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
2961 -
(عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقَسَّمْ» ) فِيهِ بَيَانُ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلشَّرِيكِ فِيمَا لَمْ يُقَسَّمْ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحْتَمَلَ الْقِسْمَةِ، كَالدُّورِ وَالْأَرَاضِي أَوَّلًا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله: لَا شُفْعَةَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ بِعُمُومِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ تَخْصِيصَ مَا لَمْ يُقَسَّمْ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ (فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ) أَيْ: إِذَا قُسِّمَ الْمَلَكِ الْمُشْتَرَى وَوَقَعَتِ الْحُدُودُ أَيِ: الْحَوَاجِزُ وَالنِّهَايَاتُ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: عُيِّنَتْ وَظَهَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِالْقِسْمَةِ وَالْإِفْرَازِ (وَصُرِفَتْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: بُيِّنَتْ (الطُّرُقُ) بِأَنْ تَعَدَّدَتْ، وَحَصَلَ لِكُلِّ نَصِيبٍ طَرِيقٌ مَخْصُوصٌ (فَلَا شُفْعَةَ) أَيْ: بَعْدَ الْقِسْمَةِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ دُونَ الْجَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا مَنْ يَرَى الشُّفْعَةَ لِلْجِوَارِ لِأَحَادِيثَ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ يَقُولُ:" إِنَّ قَوْلَهُ: فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ لَيْسَ مِنَ الْحَدِيثِ ; بَلْ شَيْءٌ زَادَهُ جَابِرٌ فَأَوْصَلَهُ بِمَا حَكَاهُ، وَالْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ أَوْلَى تَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "«إِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ لَا حَقَّ فِي الْمَبِيعِ لِارْتِفَاعِهَا بِصَرْفِ الطُّرُقِ» " كَذَا حَقَّقَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنْ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ. قَالَ الْمَالِكِيُّ: مَعْنَى صُرِفَتِ الطُّرُقُ أَيْ: خَلُصَتْ وَبُيِّنَتْ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الصِّرْفِ وَهُوَ الْخَالِصُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: " هَذَا الْحَدِيثُ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ، أَيْ: بِلَفْظِ صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ وَهُوَ الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقَسَّمْ إِلَخْ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ مُسْلِمٌ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَ حَدِيثَهُ الْآخَرَ الَّذِي يَتْلُو هَذَا الْحَدِيثَ، وَكَانَ عَلَى مُؤَلِّفِ الْمَصَابِيحِ لَمَّا أَوْرَدَ الْحَدِيثَ فِي قِسْمٍ هُوَ مِمَّا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يُعَدِّلَ فِي اللَّفْظِ عَنْ كِتَابِ الْبُخَارِيِّ، فَإِنَّ بَيْنَ الصِّيغَتَيْنِ بَوْنًا بَعِيدًا، وَلَا يَكَادُ يَتَسَامَحُ فِيهِ ذُو عِنَايَةٍ بِعِلْمِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا فِي غَيْرِ الْكِتَابَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ الْقَاضِي: " هَذَا الْحَدِيثُ مَذْكُورٌ فِي مُسْنَدِ الْأَمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ الشَّافِعِيِّ، كَذَا الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقَسَّمْ فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ:«كَذَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ» إِلَخْ. فَاخْتَارَ الشَّيْخُ عِبَارَتَهُ إِلَّا أَنَّهُ بَدَّلَ قَوْلَهُ: " «قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقَسَّمْ» "، بِقَوْلِهِ:" قَالَ: «الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقَسَّمْ» "، لَمَّا لَمْ يَجِدْ بَيْنَهُمَا مَزِيدَ تَفَاوَتٍ فِي الْمَعْنَى. وَقَدْ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَبِهِ انْدَفَعَ اعْتِرَاضُ مَنْ شَنَّعَ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ سَوَّيْتَ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ وَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ يَقْتَضِي الْحَصْرَ عُرْفًا، وَمَا أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ لَا يَقْتَضِيهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةَ حَالٍ وَاقِعَةٍ، وَقَضَاءً فِي قَضِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ؟ قُلْتُ: كَفَى لِدَفْعِ هَذَا الِاحْتِمَالِ مَا ذُكِرَ عَقِيبَهُ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ بِحَرْفِ التَّعْقِيبِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْحَدِيثِ، بَلْ شَيْءٌ زَادَهُ الرَّاوِي فَأَوْصَلَهُ بِمَا حَكَاهُ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ تَلْبِيسًا وَتَدْلِيسًا، وَمَنْصِبُ هَذَا الرَّاوِي وَالْأَئِمَّةِ الَّذِينَ دَوَّنُوهُ وَسَاقُوا الرِّوَايَةَ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ إِلَيْهِ أَعْلَى مِنْ أَنْ يُتَصَوَّرَ فِي شَأْنِهِمْ أَمْثَالُ ذَلِكَ، وَالْحَدِيثُ كَمَا تَرَى يَدُلُّ بِمَنْطُوقِهِ صَرِيحًا عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ فِي مُشْتَرَكٍ مُشَاعٍ، لَمْ يُقَسَّمْ بَعْدُ فَإِذَا قُسِّمَ وَتَمَيَّزَتِ الْحُقُوقُ لَمْ يَبْقَ لِلشُّفْعَةِ مَجَالٌ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ دُونَ الْجَارِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَرَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنَ التَّابِعِينَ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، وَقَوْمٍ نَزْرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بِعْدَهُمْ مَالُوا إِلَى ثُبُوتِهَا لِلْجَارِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ:" «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ» ".
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله قَوْلُهُ: " لَمَّا لَمْ يَجِدْ بَيْنَهُمَا مَزِيدَ تَفَاوُتٍ فِي الْمَعْنَى إِلَخْ، لَا يَرْفَعُ الْإِنْكَارَ لِأَنَّ أَهْلَ هَذِهِ الصَّنْعَةِ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ: رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَوْ مُسْلِمٌ مَثَلًا جَازَ لَهُ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى، وَأَمَّا إِذَا قَالَ: فِي كِتَابِ فُلَانٍ كَذَا كَذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ صَرِيحِ لَفْظِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي خُطْبَةِ الْمَصَابِيحِ. وَأَعْنِي بِالصِّحَاحِ مَا أَوْرَدَهُ الشَّيْخَانِ فِي جَامِعَيْهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَفَى لِدَفْعِ هَذَا الِاحْتِمَالِ إِلَخْ، فَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ الْحَصْرَ هَاهُنَا لَيْسَ بِالْأَدَاةِ وَالتَّقْدِيمِ وَتَعْرِيفِ الْخَبَرِ، بَلْ بِحَسَبِ الْمَفْهُومِ، وَقَوْلُهُ: الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقَسَّمْ مَفْهُومُهُ لَا شُفْعَةَ فِيمَا قُسِّمَ، فَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ بَيَانًا لَهُ وَتَقْرِيرًا، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقَسَّمْ لَمْ يَقْضِ فِيمَا قُسِّمَ، فَبَيْنَهُمَا بَوْنٌ.
2962 -
وَعَنْهُ قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَرِكَةٍ لَمْ تُقْسَمْ: رَبْعَةٍ أَوْ حَائِطٍ: " لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ، إِنْ شَاءَ أَخَذَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، فَإِذَا بَاعَ وَلَمْ يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2962 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَرِكَةٍ» ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ أَيْ: ذِي شَرِكَةٍ بِمَعْنَى مُشْتَرِكَةٍ (لَمْ تُقَسَّمْ) صِفَتُهَا (رَبْعَةٍ) بِفَتْحِ رَاءٍ فَسُكُونِ مُوَحَّدَةٍ أَيْ: دَارٍ وَمَسْكَنٍ وَضَيْعَةٍ (أَوْ حَائِطٍ) أَيْ: بُسْتَانٍ، وَهُمَا بَدَلٌ مِنْ شَرِكَةٍ، وَقِيلَ هُمَا مَرْفُوعَانِ عَلَى أَنَّهُمَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ هِيَ. فِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَثْبُتُ إِلَّا فِيمَا لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ، كَالْأَرَاضِي وَالدُّورِ وَالْبَسَاتِينِ دُونَ مَا يُمْكِنُ كَالْأَمْتِعَةِ وَالدَّوَابِّ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله:" قَالُوا: الْحِكْمَةُ فِي ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ إِزَالَةُ الضَّرَرِ عَنِ الشَّرِيكِ، وَخُصَّتْ بِالْعَقَارِ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ الْأَنْوَاعِ ضَرَرًا، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لَا شُفْعَةَ فِي غَيْرِ الْعَقَارِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ وَالْأَمْتِعَةِ وَسَائِرِ الْمَنْقُولَاتِ، وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَثْبُتُ إِلَّا فِي عَقَارٍ مُتَحَمِّلٍ لِلْقِسْمَةِ بِخِلَافِ الْحَمَّامِ وَالرَّحَى وَنَحْوِ ذَلِكَ، ثُمَّ الشَّرِكَةُ لَا تَخْتَصُّ بِالْمُسْلِمِ بَلْ تَعُمُّ الْمُسْلِمَ وَالذِّمِّيَّ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَأَحْمَدُ: لَا شُفْعَةَ لِلذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ (" لَا يَحِلُّ لَهُ ") أَيْ: لِكُلِّ شَرِيكٍ (" أَنْ يَبِيعَ ") أَيْ: حِصَّتَهُ (" حَتَّى يُؤْذِنَ ") بِسُكُونِ الْهَمْزِ وَيُبْدَلُ، أَيْ: حَتَّى يُعْلِمَ (" شَرِيكَهُ ") فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْعَرْضِ عَلَى الشَّرِيكِ إِذَا أَرَادَ الْبَيْعَ (" فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ ") أَيْ: أَعْطَاهُ غَيْرَهُ (" وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ") أَيْ: طَلَبَ الشُّفْعَةَ، قِيلَ: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ بِدُونِ الْإِعْلَامِ بَاطِلٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ صَحِيحٌ لَكِنْ يَنْتَقِلُ مِنْ جَانِبِ الْمُشْتَرِي إِلَى الشَّفِيعِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (" فَإِذَا بَاعَ فَلَمْ يُؤْذِنْ فَهُوَ ") أَيْ: الشَّرِيكُ (" أَحَقُّ ") أَيْ: مِنَ الْمُشْتَرِي (" بِهِ ") أَيْ: بِأَخْذِ الْمَبِيعِ، وَأُجِيبَ عَنِ الْإِشْكَالِ: بِأَنَّ الْحَلَالَ هُنَا بِمَعْنَى الْمُبَاحُ، وَالْبَيْعَ الْمَذْكُورَ مَكْرُوهٌ، وَالْمَكْرُوهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ حَلَالًا بِهَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمُبَاحَ مَا يَسْتَوِي طَرَفَاهُ، وَالْمَكْرُوهَ رَاجِحُ التَّرْكِ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: " وَاخْتُلِفَ فِيمَا لَوْ أُعْلِمَ الشَّرِيكُ بِالْبَيْعِ فَأَذِنَ لَهُ، ثُمَّ أَرَادَ الشَّرِيكُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمْ وَغَيْرُهُمْ: لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ: لَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
2963 -
وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
2963 -
(وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ ") بِفَتْحَتَيْنِ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: " يَجُوزُ فَتْحُ الْقَافِ وَإِسْكَانُهَا، وَهُوَ الْقُرْبُ وَالْمُلَاصَقَةُ ". اه قِيلَ: " وَرُوِيَ بِالسِّينِ وَالصَّادِ أَيْضًا وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْقُرْبُ أَيْ: الْجَارُ أَحَقُّ بِسَبَبِ قُرْبِهِ لِلشُّفْعَةِ مِنْ غَيْرِ الْجَارِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الشُّفْعَةَ لِلْخَبَرِ الْآتِي: الْجَارُ أَحَقُّ بِشَفُعَتِهِ، احْتَجَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ بِالْخَبَرِ السَّابِقِ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ، وَحَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى أَنْ يُرَادَ بِالْجَارِ الشَّرِيكُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الشُّفْعَةَ لِلشَّرِيكِ ثَابِتَةٌ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ اتِّفَاقًا وَلَوْ حُمِلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَيْهِ يَلْزَمُ الْإِعَادَةُ وَالْإِفَادَةُ خَيْرٌ مِنْهَا، وَيُحْمَلُ حَدِيثُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ لَا شُفْعَةَ مِنْ جِهَةِ الْقِسْمَةِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ مِمَّا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْمَعْنَى أَنَّ الْجَارَ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ إِذَا كَانَ جَارًا مُلَاصِقًا وَالْبَاءُ فِي " بِسَقَبِهِ " صِلَةُ " أَحَقُّ " لِأَنَّهُ لِلتَّسَبُّبِ، وَأُرِيدَ بِالسَّقَبِ السَّاقِبُ عَلَى مَعْنَى ذُو سَقَبٍ مِنْ دَارِهِ أَيْ: قُرْبِهِ، وَهُوَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَالَ ذَلِكَ قِيلَ: وَمَا سَقَبُهُ؟ قَالَ: " شُفْعَتُهُ» " قَالَ الْخَطَابِيُّ: " يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْبِرُّ وَالْمَعُونَةُ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا "، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: " وَيَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا سُلَيْمَانَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ جَدِيرًا بِهَذَا التَّعَسُّفِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ رُوِيَ عَنِ الصَّحَابِيِّ فِي قِصَّةٍ صَارَ الْبَيَانُ مُقْتَرِنًا بِهِ، وَلِهَذَا أَوْرَدَهُ عُلَمَاءُ النَّقْلِ فِي كُتُبِ الْأَحْكَامِ فِي بَابِ الشُّفْعَةِ، وَأَوَّلُهُمْ وَأَفْضَلُهُمُ الْبُخَارِيُّ، ذَكَرَهُ بِقِصَّتِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ إِلَى آخِرِهِ اه. وَتَمَحَّلَ الطِّيبِيُّ فِي الْجَوَابِ بِالْعَسْفِ وَالْإِطْنَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ " «الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ» " بِالصَّادِّ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي رَافِعٍ، وَالْأَخِيرَانِ عَنِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ أَيْضًا.
2964 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2964 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا يَمْنَعْ ") بِالْجَزْمِ عَلَى أَنَّهَا نَاهِيَةٌ، وَلِأَبِي ذَرٍّ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَلِأَحْمَدَ:" لَا يَمْنَعَنَّ " بِزِيَادَةِ نُونِ التَّوْكِيدِ، وَهِيَ تُؤَيِّدُ رِوَايَةَ الْجَزْمِ، رَوَاهُ الْعَسْقَلَانِيُّ، وَالْمَعْنَى لَا يَمْنَعْ مُرُوءَةً وَنَدْبًا (" جَارٌ جَارَهُ ") أَيْ: إِذَا احْتَاجَ (" أَنْ يَغْرِزَ ") بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ: يَضَعَ (" خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ ") أَيْ: جِدَارِ دَارِهِ إِذَا لَمْ يَضُرُّهُ، قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله:" اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ هَلْ هُوَ عَلَى النَّدْبِ إِلَى تَمْكِينِ الْجَارِ وَوَضْعِ الْخَشَبِ عَلَى جِدَارِ دَارِهِ، أَمْ عَلَى الْإِيجَابِ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ وَلِأَصْحَابِ مَالِكٍ أَصَحُّهُمَا النَّدْبُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّانِي الْإِيجَابُ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِقَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ بَعْدَ رِوَايَتِهِ: "«مَالِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ، وَاللَّهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ» "، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ تَوَقَّفُوا عَنِ الْعَمَلِ بِهِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: "«فَنَكَّسُوا رُءُوسَهُمْ " فَقَالَ: " مَالِي أَرَاكُمْ أَعْرَضْتُمْ» ؟ أَيْ: عَنْ هَذِهِ السُّنَّةِ أَوِ الْخَصْلَةِ أَوِ الْمَوْعِظَةِ أَوِ الْكَلِمَاتِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ (لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ) أَقْضِي بِهَا وَأُصَرِّحُهَا وَأُوجِعُكُمْ بِالتَّقْرِيعِ بِهَا، كَمَا يُضْرَبُ الْإِنْسَانُ بِالشَّيْءِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ. وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ إِعْرَاضَهُمْ إِنَّمَا كَانُوا لِأَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْهُ النَّدْبَ لَا الْإِيجَابَ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا أَطْبَقُوا عَلَى الْإِعْرَاضِ، قَالَ الطِّيبِيُّ: " وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: لَأَرْمِيَنَّ بِهَا إِلَى الْخَشَبَةِ وَيَكُونُ كِنَايَةً عَنْ إِلْزَامِهِمْ بِالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ أَيْ: لَا أَقُولُ: إِنَّ الْخَشَبَةَ تُرْمَى عَلَى الْجِدَارِ، بَلْ بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ لِمَا وَصَّى صلى الله عليه وسلم بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ فِي حَقِّ الْجَارِ وَحَمْلِ أَثْقَالِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2965 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي الطَّرِيقِ جُعِلَ عَرْضُهُ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2965 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي الطَّرِيقِ جُعِلَ عَرْضُهُ» ") بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: حُكِمَ بِجَعْلِ عَرْضِ الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ (" سَبْعَةَ أَذْرُعٍ ") قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: " فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ سَبْعَ أَذْرُعٍ، وَالرِّوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ لِأَنَّ الذِّرَاعَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ اه، قَالَ الْمُطَرِّزِيُّ: " هُوَ مِنِ الْمِرْفَقِ إِلَى أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ، ثُمَّ سَمَّى بِهِ الْخَشَبَةَ الَّتِي يُزْرَعُ بِهَا مَجَازًا، وَهُوَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَالتَّأْنِيثُ أَفْصَحُ "، قَالَ النَّوَوِيُّ: " أَمَّا قَدْرُ الطَّرِيقِ فَإِنْ جَعَلَ الرَّجُلُ بَعْضَ أَرْضِهِ الْمَمْلُوكَةِ طَرِيقًا مُسَبَّلَةً لِلْمَارِّينَ فَقَدْرُهَا إِلَى
خِيَرَتِهِ، فَالْأَفْضَلُ تَوْسِيعُهَا، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ مُرَادَةً بِالْحَدِيثِ، فَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ بَيْنَ أَرْضِ قَوْمٍ أَرَادُوا عِمَارَتَهَا، فَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى شَيْءٍ فَذَاكَ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي قَدْرِهِ جُعِلَ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ وَهَذَا مُرَادُ الْحَدِيثِ، أَمَّا إِذَا وَجَدْنَا طَرَفًا مَسْلُوكًا وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، لَكِنَّ لَهُ عِمَارَةَ مَا حَوَالَيْهِ مِنَ الْمَوَاتِ وَيَمْلِكُهُ بِالْإِحْيَاءِ بِحَيْثُ لَا يَضُرُّ الْمَارِّينَ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى مَعْنَى الْإِرْفَاقِ، فَإِنْ كَانَتِ السِّكَّةُ غَيْرَ نَافِذَةٍ فَهِيَ مَمْلُوكَةٌ لِأَهْلِهَا، فَلَا يَبْنِي فِيهَا وَلَا يُضَيَّقُ وَلَا يَفْتَحُ إِلَيْهَا بَابًا إِلَّا بِإِذْنِ جَمَاعَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ نَافِذَةً فَحَقُّ الْمَمَرِّ فِيهَا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إِذَا بَنَى أَوْ قَعَدَ لِلْبَيْعِ فِي النَّافِذِ بِحَيْثُ يَبْقَى لِلْمَارَّةِ مِنْ عَرْضِ الطَّرِيقِ فَلَا يُمْنَعُ، لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ يُزِيلُ ضَرَرَ الْمَادَّةِ، وَكَذَا فِي أَرَاضِي الْقُرَى الَّتِي تُزْرَعُ إِذَا خَرَجُوا مِنْ حُدُودِ أَرَاضِيهِمْ إِلَى سَاحَتِهَا لَمْ يُمْنَعُوا إِذَا تَرَكُوا لِلْمَارَّةِ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ، أَمَّا الطَّرِيقُ إِلَى الْبُيُوتِ الَّتِي يُقَسِّمُونَهَا فِي دَارٍ يَكُونُ مِنْهَا مَدْخَلُهُمْ، فَيُقَدَّرُ بِمِقْدَارٍ لَا يَضِيقُ عَنْ مَآرِبِهِمُ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهَا، كَمَمَرِّ السَّقَاءِ وَالْحَمَّالِ وَمَسْلَكِ الْجِنَازَةِ وَنَحْوِهَا اه.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمِقْدَارَ الْمُقَدَّرَ إِنَّمَا هُوَ بِنَاءٌ عَلَى الْغَالِبِ الْأَكْثَرِ، وَإِلَّا فَالْأَمْرُ مُخْتَلِفٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبُلْدَانِ وَالسُّكَّانِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي أَزِقَّةِ مَكَّةَ وَأَسْوَاقِهَا حَالَ مَوْسِمِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ بِلَفْظِ:«إِذَا اخْتَلَفْتُمْ فِي الطَّرِيقِ فَاجْعَلُوهُ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ نَقَلَ بِالْمَعْنَى لَفْظَ الْكِتَابِ، وَتَمَحَّلَ الطِّيبِيُّ فِي الْجَوَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الْفَصْلُ الثَّانِي
2966 -
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ حُرَيْثٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «مَنْ بَاعَ مِنْكُمْ دَارًا أَوْ عَقَارًا، قَمِنٌ أَنْ لَا يُبَارَكُ لَهُ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ فِي مِثْلِهِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
2966 -
(عَنْ سَعِيدِ بْنِ حُرَيْثٍ) بِالتَّصْغِيرِ قَالَ الْمُصَنِّفُ: هُوَ الْقُرَشِيُّ الْمَخْزُومِيُّ، شَهِدَ فَتْحَ مَكَّةَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ نَزَلَ الْكُوفَةَ وَقَبْرُهُ بِهَا، وَقَالَ عَبْدُ الْبَرِّ: قَبْرُهُ بِالْجَزِيرَةِ وَلَا عَقِبَ لَهُ، رَوَى عَنْهُ أَخُوهُ عَمْرٌو (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «مَنْ بَاعَ مِنْكُمْ دَارًا أَوْ عَقَارًا» ) ، وَهُوَ الضَّيْعَةُ أَوْ كُلُّ مَالٍ لَهُ أَصْلٌ مِنْ دَارٍ أَوْ ضَيْعَةٍ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ، فَ " أَوْ " لِلتَّنْوِيعِ (" قَمِنٌ ") بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الْمِيمِ أَيْ: جَدِيرٌ وَحَقِيقٌ (" أَنْ لَا يُبَارَكَ ") بِفَتْحِ الرَّاءِ أَيْ: لَا يَجْعَلَ الْبَرَكَةَ فِي ثَمَنِ مَبِيعِهِ (" لَهُ ") أَيْ: لِلْبَائِعِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ (" إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ ") أَيْ: ثَمَنَ بَيْعِهِ (" فِي مِثْلِهِ ") أَيْ: مِثْلِ مَا ذُكِرَ مِنْ دَارٍ وَعَقَارٍ، قَالَ الْمُظْهِرُ: " يَعْنِي: بَيْعُ الْأَرَاضِي وَالدُّورِ وَصَرْفُ ثَمَنِهَا إِلَى الْمَنْقُولَاتِ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ، لِأَنَّهَا كَثِيرَةُ الْمَنَافِعِ قَلِيلَةُ الْآفَةِ لَا يَسْرِقُهَا سَارِقٌ وَلَا يَلْحَقُهَا غَارَةٌ بِخِلَافِ الْمَنْقُولَاتِ، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا تُبَاعَ وَإِنْ بَاعَهَا فَالْأَوْلَى صَرْفُ ثَمَنِهَا إِلَى أَرْضٍ أَوْ دَارٍ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارِمِيُّ) رَوَى ابْنُ مَاجَهْ، وَالضِّيَاءُ عَنْ حُذَيْفَةَ بِلَفْظِ:«مَنْ بَاعَ دَارًا ثُمَّ لَمْ يَجْعَلْ ثَمَنَهَا فِي مِثْلِهَا لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهَا» ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ بِلَفْظِ:«مَنْ بَاعَ دَارًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَى ثَمَنِهَا تَلَفًا يُتْلِفُهُ» .
2967 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ، يُنْتَظَرُ بِهَا وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ.
ــ
2967 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ» ") أَيْ: بِشُفْعَةِ جَارِهِ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (" يُنْتَظَرُ ") بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيِ: الْجَارُ (" بِهَا ") أَيْ: بِشَفْعَتِهِ (" وَإِنْ كَانَ غَائِبًا ") بِالْوَاوِ، فَ " إِنْ " وَصْلِيَّةٌ، وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ بِحَذْفِ الْوَاوِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ وَالنُّسَخِ الصَّحِيحَةِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ:" بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ فِي التِّرْمِذِيِّ، وَأَبِي دَاوُدَ، وَابْنِ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيِّ، وَجَامِعِ الْأُصُولِ، وَشَرْحِ السُّنَّةِ، وَبِإِسْقَاطِهَا فِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ "(" إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا ") أَيْ: طَرِيقُ الْجَارَيْنِ أَوِ الدَّارَيْنِ (" وَاحِدًا ") رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) وَقَالَ السُّيُوطِيُّ رحمه الله فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ:" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، هَذَا حَدِيثٌ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ غَيْرُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، وَتَكَلَّمَ شُعْبَةُ فِي عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " يَخَافُ أَنْ لَا يَكُونَ مَحْفُوظًا "، وَقَالَ الشَّيْخُ: " احْتَجَّ مَنْ يُثْبِتُ الشُّفْعَةَ فِي الْمَقْسُومِ إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ مُشْتَرَكًا بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَبِقَوْلِهِ: فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ الطُّرُقُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الطَّرِيقُ فِي الْمُشَاعِ فَإِنَّ الطَّرِيقَ فِيهِ يَكُونُ شَائِعًا بَيْنَ الشُّرَكَاءِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَدْخُلُ مِنْ حَيْثُ يَشَاءُ، فَإِذَا قُسِّمَ الْعَقَارُ بَيْنَهُمْ مُنِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَطَرَّقَ شَيْئًا مِنْ حَقِّ صَاحِبِهِ فَيَصِيرُ الطَّرِيقُ فِي الْقِسْمَةِ مَصْرُوفًا "، قَالَ الْقَاضِي: " هَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ سَلِمَ مِنَ الطَّعْنِ فَلَا يُعَارِضُ مَا ذَكَرْنَا فَضْلًا عَنْ أَنْ يُرَجِّحَ، وَمَعَ هَذَا فَهَؤُلَاءِ لَا يَقُولُونَ بِمُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ كَمَا سَبَقَ ".
2968 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «الشَّرِيكُ شَفِيعٌ وَالشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ:
ــ
2968 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «الشَّرِيكُ شَفِيعٌ، وَالشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ» ") أَيْ: مِنْ غَيْرِ الْمَنْقُولَاتِ، أَوْ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَحْتَمِلُ الشُّفْعَةَ، وَالْمَعْنَى فِي كُلِّ عَقَارٍ مُشْتَرَكٍ وَقَدْ مَضَى بَحْثُهُ، وَشَذَّ بَعْضٌ فَأَثْبَتَ الشُّفْعَةَ فِي الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانَاتِ أَيْضًا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ قَالَ) أَيِ: التِّرْمِذِيُّ.
2969 -
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا، وَهُوَ أَصَحُّ.
ــ
2969 -
(وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ) بِالتَّصْغِيرِ (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا وَهُوَ) أَيِ: الْإِرْسَالُ (أَصَحُّ) أَيْ: مِنْ الِاتِّصَالِ وَهُوَ لَا يَضُرُّ، لِأَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَإِذَا اعْتَضَدَ يَكُونُ حُجَّةً اتِّفَاقًا، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ مِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ وَعُلَمَائِهِمْ وَكَانَ قَاضِيًا عَلَى عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ.
2970 -
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُبَيْشٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَقَالَ: " هَذَا الْحَدِيثُ مُخْتَصَرٌ يَعْنِي: «مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً فِي فَلَاةٍ يَسْتَظِلُّ بِهَا ابْنُ السَّبِيلِ وَالْبَهَائِمُ غَشْمًا وَظُلْمًا بِغَيْرِ حَقٍّ يَكُونُ لَهُ فِيهَا ; صَوَّبَ اللَّهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ» ".
ــ
2970 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُبَيْشٍ
) بِالتَّصْغِيرِ وَفِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ فِي هَامِشِ الْكِتَابِ: صَوَابُهُ حُبْشِيٌّ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ فَيَاءِ النِّسْبَةِ، وَهُوَ ذَلِكَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ، وَكَذَا فِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ لِلْمُصَنِّفِ حَيْثُ ذَكَرَهُ فِي الصَّحَابَةِ وَقَالَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُبْشِيٍّ الْخَثْعَمِيُّ لَهُ رِوَايَةٌ، وَعِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ، سَكَنَ مَكَّةَ - شَرَّفَهَا اللَّهُ -، وَرَوَى عَنْهُ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ - مُصَغَّرَانِ -، وَغَيْرُهُ، وَفِي الْمُغْنِي: الْحُبْشِيُّ بِضَمِّ حَاءٍ وَسُكُونٍ