الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ قَالَ) : أَيْ: مُعَاوِيَةُ (كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ) : بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ أَيْ: جَانِبَهُ، وَأُحُدٌ بِضَمَّتَيْنِ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ فِي الْمَدِينَةِ (وَالْجَوَّانِيَّةِ) : بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ مَوْضِعٌ قَرِيبَ أُحُدٍ (فَاطَّلَعْتُ) : بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ: أَشْرَفْتُ عَلَى الْغَنَمِ (ذَاتَ يَوْمٍ) : أَيْ: يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ أَوْ نَهَارًا، " ذَاتَ ": زَائِدَةٌ (فَإِذَا الذِّئْبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِنَا) : إِذَا لِلْمُفَاجَأَةِ، وَاللَّامُ فِي الذِّئْبِ لِلْعَهْدِيَّةِ الذِّهْنِيَّةِ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40]، (وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ آسَفُ) : بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ وَفَتْحِ سِينٍ، أَيْ: أَغْضَبُ (كَمَا يَأْسَفُونَ، لَكِنْ) : أَيْ: وَأَرَدْتُ أَنْ أَضْرِبَهَا ضَرْبًا شَدِيدًا عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى الْغَضَبِ لَكِنْ (صَكَكْتُهَا صَكَّةً) : أَيْ: لَطَمْتُهَا لَطْمَةً (فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَعَظَّمَ) : بِالتَّشْدِيدِ وَالْفَتْحِ (ذَلِكَ عَلَيَّ) : أَيْ: كَثَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ الْأَمْرَ أَوِ الضَّرْبَ عَلَيَّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّخْفِيفِ وَالضَّمِّ (قُلْتُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: فَقُلْتُ، (يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفَلَا أُعْتِقُهَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله تَعَالَى -: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ؟ قُلْتُ: الرِّوَايَةُ الْأُولَى مُتَضَمِّنَةٌ لِسُؤَالَيْنِ صَرِيحًا ; لِأَنَّ التَّقْدِيرَ كَانَ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ كَفَارَّةً، وَقَدْ لَزِمَنِي مِنْ هَذِهِ اللَّطْمَةِ إِعْتَاقُهَا، أَفَيَكْفِينِي إِعْتَاقُهَا لِلْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا؟ وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ مُطْلَقَةٌ تَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ، وَالْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ لَيْسَ عَنْ مُجَرَّدِ اللَّطْمَةِ سُؤَالُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْجَارِيَةَ عَنْ إِيمَانِهَا اهـ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ عَنِ اللَّطْمَةِ مُسْتَحَبٌّ، فَيَنْدَرِجُ فِي ضِمْنِ الْإِعْتَاقِ الْوَاجِبِ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ تَدَاخُلِ الْكَفَّارَةِ كَمَا تُوُهِّمَ قَالَ:(ائْتِنِي بِهَا) : الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ أَيِ: احْضُرْ بِهَا لِي (فَأَتَيْتُهُ بِهَا. فَقَالَ لَهَا: (أَيْنَ اللَّهُ؟) : أَيْ: أَيْنَ الْمَعْبُودُ الْمُسْتَحَقُّ الْمَوْصُوفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ؟ (قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ) : أَيْ: كَمَا فِي الْأَرْضِ وَالِاقْتِصَارُ مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ. قَالَ - تَعَالَى جل جلاله {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] وَقَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 3] وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الِاقْتِصَارُ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ الشَّرِكَةِ فِي الْعُبُودِيَّةِ رَدًّا عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ الْأَرْضِيَّةِ «قَالَ: (مَنْ أَنَا؟) : قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: (أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ) » : أَيْ: بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِهِمَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ الْإِيمَانِ الْإِجْمَالِيِّ وَنَفْيِ التَّكْلِيفِ الِاسْتِدْلَالِيِّ.
[بَابُ اللِّعَانِ]
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
3304 -
ــ
[14]
- بَابُ اللِّعَانِ
فِي الْمُغْرِبِ: لَعَنَهُ لَعْنًا وَلَاعَنَهُ مُلَاعَنَةً وَلِعَانًا وَتَلَاعَنُوا لَعَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَصْلُهُ الطَّرْدُ. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: إِنَّمَا سُمِّيَ لِعَانًا ; لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الزَّوْجَيْنِ يَبْعُدُ عَنْ صَاحِبِهِ وَيَحْرُمُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا عَلَى التَّأْبِيدِ، وَاللِّعَانُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا يَمِينٌ، وَقِيلَ شَهَادَةٌ، وَقِيلَ يَمِينٌ فِيهَا شَوْبُ شَهَادَةٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَةِ الْإِمَامِ أَوِ الْقَاضِي وَجَمْعٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ التَّغْلِيظِ، فَإِنَّهُ يُغَلَّظُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْجَمْعِ. قَالَ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْهُمَامِ: هُوَ مَصْدَرُ لَاعَنَ سَمَاعِيٌّ لَا قِيَاسِيٌّ وَالْقِيَاسُ الْمُلَاعَنَةُ، وَكَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ يَجْعَلُونَ الْفِعَالَ وَالْمُفَاعَلَةَ مُصَدَرًا قِيَاسِيَّيْنِ لِفَاعَلَ، اللَّعْنُ فِي اللُّغَةِ: الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ، وَفِي الْفِقْهِ: اسْمٌ لِمَا يَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الشَّهَادَاتِ بِالْأَلْفَاظِ الْمَعْلُومَاتِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِوُجُودِ لَفْظِ اللَّعْنِ فِي الْخَامِسَةِ تَسْمِيَةً لِلْكُلِّ بِاسْمِ الْجُزْءِ، وَلَمْ يُسَمَّ بَاسِمٍ مِنَ الْغَضَبِ، وَهُوَ أَيْضًا مَوْجُودٌ فِيهَا ; لِأَنَّهُ فِي كَلَامِهَا وَذَاكَ فِي كَلَامِهِ، وَهُوَ أَسْبَقُ، وَالسَّبْقُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ. وَشَرْطُهُ: قِيَامُ النِّكَاحِ، وَسَبَبُهُ: قَذْفُهُ زَوْجَتَهُ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ، وَحُكْمُهُ حُرْمَتُهَا بَعْدَ التَّلَاعُنِ، وَأَهْلُهُ: مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ ; فَإِنَّ اللِّعَانَ شَهَادَاتٌ مُؤَكِّدَاتٌ بِالْأَيْمَانِ عِنْدَنَا، وَأَمَّا عِنْدُ الشَّافِعِيِّ فَأَيْمَانٌ مُؤَكِّدَاتٌ بِالشَّهَادَاتِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَتَمَامُ تَحْقِيقِهِ فِي شَرْحِهِ لِلْهِدَايَةِ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
3304 -
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ: تَقَدَّمَ أَنَّ اسْمَهُ كَانَ حَزْنًا، فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَهْلًا (قَالَ: إِنَّ عُوَيْمِرًا) : تَصْغِيرُ عَامِرٍ (الْعَجْلَانِيَّ) : بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ نِسْبَةٌ إِلَى عَجْلَانِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ) : أَيْ: أَخْبِرْنِي، وَعَبَّرَ بِالْإِبْصَارِ عَنِ الْإِخْبَارِ ; لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ سَبَبُ الْعِلْمِ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْإِعْلَامُ فَالْمَعْنَى: أَعَلِمْتَ فَأَعْلِمْنِي. (رَجُلًا وَجَدَ) : أَيْ: صَادَفَ (مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا) : أَيْ: وَجَزَمَ أَنَّهُ زَنَى بِهَا (أَيَقْتُلُهُ) : أَيْ: أَيَجُوزُ قَتْلُهُ (فَيَقْتُلُونَهُ) : بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ أَيْ: يَقْتُلُ أَهْلُ الْقَتِيلِ ذَلِكَ الرَّجُلَ الْقَاتِلَ؟ وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: (فَتَقْتُلُونَهُ) : بِتَاءِ الْخِطَابِ. قَالَ زَيْنُ الْعَرَبِ: الْخِطَابُ لِمُحَمَّدٍ، صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، اهـ. وَيَعْنِي بِهِ تَعْظِيمًا. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لَهُ وَلِأَصْحَابِهِ أَوْ لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا. قَالَ النَّوَوِيُّ: اخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَتَلَ رَجُلًا قَدْ جَزَمَ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَقَالَ جُمْهُورُهُمْ: يُقْتَلُ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً أَوْ يَعْتَرِفَ لَهُ وَرَثَةُ الْقَتِيلِ، وَيَكُونُ الْقَتِيلُ مُحْصَنًا، وَالْبَيِّنَةُ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْعُدُولِ مِنَ الرِّجَالِ يَشْهَدُونَ عَلَى يَقِينِ الزِّنَا، أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ (أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: (أَمْ) : يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً، يَعْنِي إِذَا رَأَى الرَّجُلُ هَذَا الْمُنْكَرَ وَالْأَمْرَ الْفَظِيعَ وَثَارَتْ عَلَيْهِ الْحَمِيَّةُ، أَيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ، أَمْ يَصْبِرُ عَلَى ذَلِكَ الشَّنَآنِ وَالْعَارِ؟ وَأَنْ تَكُونَ مُنْقَطِعَةً، فَسَأَلَ أَوَّلًا عَنِ الْقَتْلِ مَعَ الْقِصَاصِ، ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْهُ إِلَى سُؤَالِهِ؛ لِأَنَّ (أَمْ) : الْمُنْقَطِعَةَ مُتَضَمِّنَةٌ لِـ (بَلْ) : وَالْهَمْزُ قِيلَ لِضَرْبِ الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَالْهَمْزَةُ تَسْتَأْنِفُ كَلَامًا آخَرَ، وَالْمَعْنَى: كَيْفَ يَفْعَلُ أَيْ: أَيَصْبِرُ عَلَى الْعَارِ أَمْ يَحْدُثُ لَهُ أَمْرٌ آخَرُ؟ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَقَدْ أُنْزِلَ فِيكَ وَفِي صَاحِبَتِكَ) : وَالْمُنَزَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: ظَاهِرُهُ أَنَّ آيَةَ اللِّعَانِ نَزَلَتْ فِي عُوَيْمِرٍ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ لِعَانٍ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ رَجُلٍ لَاعَنَ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ أُنْزِلَ فِيكَ أَيْ: فِي شَأْنِكَ، لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ شَامِلٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِمَا جَمِيعًا، فَلَعَلَّهُمَا سَأَلَا فِي وَقْتَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ فَنَزَلَتْ فِيهِمَا، وَسَبَقَ هِلَالٌ بِاللِّعَانِ. (فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا) . قَالَ سَهْلٌ: فَتَلَاعَنَا فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَمَا فَرَغَا) : أَيْ: عَنِ التَّلَاعُنِ (قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ) : بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ، كَذَا ضَبَطَهُ ابْنُ الْهُمَامِ. (عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا) : أَيْ: فِي نِكَاحِي، وَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ (فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا) : كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ فِي أَنَّهُ لَا يُمْسِكُهَا، وَفِي رِوَايَةٍ:(فَطَلَّقَهَا عُوَيْمِرٌ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَكَانَتِ الْفُرْقَةُ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ قَالَ: فَطَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ، فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ مَا صُنِعَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُنَّتَهُ. قَالَ سَهْلٌ: حَضَرْتُ هَذَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَضَتِ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: عُوَيْمِرٌ حِينَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا كَانَ جَاهِلًا بِأَنَّ اللِّعَانَ فُرْقَةٌ عَلَيْهِ، وَظَنَّ أَنَّ اللِّعَانَ لَا يُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ، فَأَرَادَ تَحْرِيمَهَا بِالطَّلَاقِ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ جَمْعَ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لَيْسَ بِحَرَامٍ ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفِ الطَّلَاقَ مَحَلًّا مَمْلُوكًا لَهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ: إِنَّمَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بَعْدَ اللِّعَانِ ; لِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إِظْهَارُ الطَّلَاقِ مَعَ أَنَّهُ حَصَلَتِ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَهَذَا فَاسِدٌ ; لِأَنَّهُ كَيْفَ يُسْتَحَبُّ الطَّلَاقُ لِلْأَجْنَبِيَّةِ؟ وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ لَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ، بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى طَلَاقٍ، وَالْجُمْهُورُ مِنْهُمُ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ تَقَعُ بَيْنَهُمَا بِنَفْسِ اللِّعَانِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ، لَكِنْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لَا نَعْلَمُ لَهُ دَلِيلًا مُسْتَلْزِمًا لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِمُجَرَّدِ لِعَانِهِ، قِيلَ: وَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ لَا تُلَاعِنَ امْرَأَةٌ أَصْلًا ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَتَهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ إِلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بَعْدَ التَّلَاعُنِ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: (ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا) :، وَاحْتَجَّ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَا تَفْتَقِرُ إِلَى قَضَاءِ الْقَاضِي بِقَوْلِهِ لَهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي:(لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا) . قُلْتُ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ قَضَاءِ الْقَاضِي. وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هُوَ إِنْكَارُ طَلَبِ مَالِهَا مِنْهُ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَمَامُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ قَوْلُهُ:«قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالِي؟ قَالَ: (لَا مَالَ لَكَ إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَلِكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا» ) ، ثُمَّ دَلَّ تَفْرِيقُهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَلَا يُعَارِضُهُ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قِصَّةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَلِعَانِهِ. قَالَ: وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ أَنْ لَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ قُوتٌ وَلَا سُكْنَى مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا مُفْتَرِقَانِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ. فَإِنَّهُ مِنْ قَوْلِهِ، وَأُجِيبَ أَيْضًا: بِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الْفُرْقَةُ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ يُقَالُ: لَيْسَ هَذَا مِمَّا يَكُونُ تَرْكُ الْإِنْكَارِ فِيهِ حُجَّةً ; لِأَنَّا لَمْ نَدَّعِ فِيهِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ حَتَّى يَكُونَ تَرْكُ الْإِنْكَارِ حُجَّةً عَلَيْنَا، إِنَّمَا ادَّعَيْنَا أَنَّهُ وَقَعَ لَغْوًا، فَالسُّكُوتُ لِعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ، وَيُجَابُ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مَفْسَدَةً حِينَئِذٍ ; لِأَنَّ السُّكُوتَ يُفِيدُ تَقْرِيرَهُ، وَأَنَّهُ الْوَاقِعُ فَلَوْ كَانَ الْوَاقِعُ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ قَبْلَهُ كَانَ السُّكُوتُ مُفْضِيًا إِلَى الْفَاسِدِ ; لِأَنَّهُ يُفِيدُ تَكْرِيرَ وُقُوعِهِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ قَبْلَهُ، فَلَا يَجُوزُ السُّكُوتُ مَعَ الْإِفْضَاءِ إِلَى مِثْلِ هَذَا، وَالْغَرَضُ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْفَرَاغِ عِنْدَنَا يَأْمُرُهُ الْقَاضِي أَنْ يُطَلِّقَ، فَإِنْ أَبِي طَلَّقَ هُوَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي: أَمْضَى ذَلِكَ الطَّلَاقَ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ لَا يَقَعُ أَوْ يَقَعُ وَاحِدَةً، ثُمَّ هُوَ أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّهُ وَقَعَ إِمْضَاؤُهُ عليه الصلاة والسلام الطَّلَاقَ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِذَا افْتَرَقَ الْمُتَلَاعِنَانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا فَيَثْبُتُ - بَيْنَهُمَا حُرْمَةٌ كَحُرْمَةِ الرِّضَاعِ، وَبِهِ قَالَ الثَّلَاثَةُ، وَإِذَا كَانَتْ حُرْمَتُهُ مُؤَبَّدَةً لَا تَكُونُ طَلَاقًا بَلْ فَسْخًا، وَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنْ لَا يُتَوَقَّفَ عَلَى تَفْرِيقِ الْقَاضِي ; لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ قَبْلَهُ اتِّفَاقًا.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْمُتَلَاعِنَانِ إِذَا افْتَرَقَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا. وَقَدْ طَعَنَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي ثُبُوتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَكِنْ قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَمَفْهُومُهُ بِشَرْطِهِ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ عَلَى مُقْتَضَى رَأْيِهِ. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ قَالَا: مَضَتِ السُّنَّةُ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ: الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَوْقُوفًا عَلَى عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:(انْظُرُوا) : مِنَ النَّظَرِ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ أَوِ الْفِكْرِ وَالِاعْتِبَارِ، أَيْ: تَأَمَّلُوا (فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ) : أَيْ: بِالْحَمْلِ أَوِ الْوَلَدِ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى جل جلاله {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180] أَيِ: الْمَيِّتُ (أَسْحَمَ) : أَيْ: أَسْوَدَ (أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ) : فِي النِّهَايَةِ: الدَّعَجُ: السَّوَادُ فِي الْعَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَقِيلَ: الدَّعَجُ شِدَّةُ سَوَادِ الْعَيْنِ فِي شِدَّةِ بَيَاضِهَا (عَظِيمَ الْأَلْيَتَيْنِ) : بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ (خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ: عَظِيمَهُمَا، وَكَانَ الرَّجُلُ الَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ الزِّنَى مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ، وَفِيهِ جَوَازُ الِاسْتِدْلَالِ بِالشَّبَهِ بِنَاءً عَلَى الْأَمْرِ الْغَالِبِ الْعَادِيِّ، وَلِذَا قَالَ:(فَلَا أَحْسِبُ) : بِكَسْرِ السِّينِ وَضَمِّهَا أَيْ: لَا أَظُنُّ (عُوَيْمِرًا إِلَّا قَدْ صَدَقَ) : بِتَخْفِيفِ الدَّالِ أَيْ: تَكَلَّمَ بِالصِّدْقِ (عَلَيْهَا) فِي نِسْبَةِ الزِّنَى إِلَيْهَا (وَإِنْ جَاءَتْ بِهَا أُحَيْمِرَ) : تَصْغِيرُ أَحْمَرَ (كَأَنَّهُ وَحَرَةٌ) : بِفَتَحَاتٍ: دُوَيْبَّةٌ حَمْرَاءُ تَلْتَزِقُ بِالْأَرْضِ ( «فَلَا أَحْسِبُ عُوَيْمِرًا إِلَّا قَدْ كَذَبَ» ) : بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ (عَلَيْهَا) : فَإِنَّ عُوَيْمِرًا كَانَ أَحْمَرَ ( «فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى نَعْتِ الَّذِي نَعَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَصْدِيقِ عُوَيْمِرٍ، فَكَانَ بَعْدُ» ) : أَيْ: بَعْدَ ذَلِكَ (يُنْسَبُ) : أَيِ: الْوَلَدُ (إِلَى أُمِّهِ) : لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: ( «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» ) . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) :
3305 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَاعَنَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ، فَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي حَدِيثِهِ لَهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَظَهُ، وَذَكَّرَهُ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ دَعَاهَا فَوَعَظَهَا، وَذَكَّرَهَا، وَأَخْبَرَهَا أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ.
ــ
3305 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَاعَنَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ، فَانْتَفَى» ) : أَيِ: الرَّجُلُ (مِنْ وَلَدِهَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْفَاءُ سَبَبِيَّةٌ أَيِ: الْمُلَاعَنَةُ كَانَتْ سَبَبًا لِانْتِفَاءِ الرَّجُلِ مِنْ وَلَدِ الْمَرْأَةِ وَإِلْحَاقِهِ بِهَا (فَفَرَّقَ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ أَيْ: حَكَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْفُرْقَةِ (بَيْنَهُمَا) : وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ لَا بِنَفْسِ اللِّعَانِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّهَا لَوْ وَقَعَتْ بِنَفْسِ اللِّعَانِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ مَعْنًى، كَذَا ذَكَرَهُ الْأَكْمَلُ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَائِنَا فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ. (وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ) : أَيْ: لِانْتِفَاءِ الرَّجُلِ مِنْ وَلَدِهَا بِالْمُلَاعِنَةِ بَيْنَهُمَا وَالْحَاكِمِ بِتَفْرِيقِهِمَا (وَفِي حَدِيثِهِ) : أَيِ: ابْنِ عُمَرَ (لَهُمَا) : أَيِ: الشَّيْخَيْنِ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَظَهُ) : أَيْ: نَصَحَ الرَّجُلَ (وَذَكَّرَهُ) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: خَوَّفَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى (وَأَخْبَرَهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا) : وَهُوَ حَدُّ الْقَذْفِ (أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ) : وَالْعَاقِلُ يَخْتَارُ الْأَيْسَرَ عَلَى الْأَعْسَرِ (ثُمَّ دَعَاهَا فَوَعَظَهَا، وَذَكَّرَهَا، وَأَخْبَرَهَا أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا) : وَهُوَ الرَّجْمُ وَالْعَارُ (أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ) : وَهُوَ الْفَضِيحَةُ وَالنَّارُ.
3306 -
ــ
3306 -
(وَعَنْهُ) : أَيِ: ابْنِ عُمَرَ ( «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: (حِسَابُكُمَا) » : أَيْ: مُحَاسَبَتُكُمَا وَتَحْقِيقُ أَمْرِكُمَا وَمُجَازَاتُهُ (عَلَى اللَّهِ، أَحَدُكُمَا) : أَيْ: لَا عَلَى التَّعْيِينِ عِنْدَنَا (كَاذِبٌ) : أَيْ: فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَنَحْنُ نَحْكُمُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ (لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا) : أَيْ: لَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تَكُونَ مَعَهَا بَلْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ أَبَدًا قِيلَ: فِيهِ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، قَالَ الْأَكْمَلُ: وَفِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاضِحٍ ; لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا بَعْدَ التَّفْرِيقِ، اهـ. وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ. (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالِي) : هُوَ فَاعِلُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: أَيَذْهَبُ مَالِي؟ أَوْ أَيْنَ يَذْهَبُ مَالِي الَّذِي أَعْطَيْتُهَا مَهْرًا؟ (قَالَ: لَا مَالَ لَكَ) : أَيْ: بَاقٍ عِنْدَهَا؟ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِ شَيْئَيْنِ (إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا) : أَيْ: فَمَالُكُ فِي مُقَابَلَةِ وَطْئِكَ إِيَّاهَا، وَفِيهِ أَنَّ الْمُلَاعِنَ لَا يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ عَلَيْهَا إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا، وَعَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْعُلَمَاءِ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ، وَقِيلَ: لَهَا الْكُلُّ، وَقِيلَ: لَا صَدَاقَ لَهَا ( «وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَاكَ» ) : أَيْ: عَوْدُ الْمَهْرِ إِلَيْكَ (أَبْعَدُ) : لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعُدْ إِلَيْكَ حَالَةَ الصِّدْقِ فَلَأَنْ لَا يَعُودَ إِلَيْكَ حَالَةَ الْكَذِبِ أَوْلَى، ثُمَّ أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ:(وَأَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا) : أَيْ: مِنَ الْمُطَالَبَةِ عَنْهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: فَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: (مَالِي) : أَيْ: إِنْ صَدَقْتَ فَهَذَا الطَّلَبُ بِعِيدٌ ; لِأَنَّهُ بَدَلُ الْبُضْعِ، وَإِنْ كَذَبْتَ فَأَبْعَدُ وَأَبْعَدُ لَكَ، وَاللَّامُ فِي (لَكَ) : لِلْبَيَانِ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ " أَبْعَدَ " الْأَوَّلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] وَأَبْعَدُ الثَّانِي مُقْحَمٌ لِلتَّأْكِيدِ. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: فِيهِ أَنَّ الْخَصْمَيْنِ الْمُتَكَاذِبَيْنِ لَا يُعَاقَبُ أَحَدٌ مِنْهُمَا، وَإِنْ عَلِمْنَا كَذِبَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْإِبْهَامِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِقْرَارِ الْمَهْرِ بِالدُّخُولِ، وَعَلَى ثُبُوتِ مَهْرِ الْمُلَاعِنَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا. وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ صَدَّقَتْهُ وَأَقَرَّتْ بِالزِّنَى لَمْ يَسْقُطْ مَهْرُهَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
3307 -
ــ
3307 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ) : بِضَمِّ هَمْزٍ وَفَتْحِ مِيمٍ وَتَشْدِيدِ تَحْتِيَّةٍ (قَذَفَ امْرَأَتَهُ) : أَيْ: نَسَبَهَا إِلَى الزِّنَى (عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) : أَيْ: فِي حُضُورِهِ (بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: هَذَا أَوَّلُ لِعَانٍ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ، وَفِيهِ نَزَلَتِ الْآيَةُ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (الْبَيِّنَةَ) : بِالنَّصْبِ لَا غَيْرُ، قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: أَيْ: أَقِمِ الْبَيِّنَةَ، وَقَوْلُهُ (أَوْ حَدًّا) : نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ: تُحَدُّ حَدًّا أَقُولُ: أَوْ تَقْدِيرُهُ فَتُثْبِتُ حَدًّا، وَقِيلَ أَيْ: حُدَّ حَدًّا (فِي ظَهْرِكَ) . فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ) : أَيْ: فَوْقَهَا (رَجُلًا يَنْطَلِقُ) : جَوَابُ إِذَا بِتَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِبْعَادِ أَيْ: أَيَذْهَبُ حَالَ كَوْنِهِ (يَلْتَمِسُ) : أَيْ: يَطْلُبُ (الْبَيِّنَةَ؟ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (الْبَيِّنَةَ) : بِالنَّصْبِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِالرَّفْعِ أَيِ: الْبَيِّنَةُ مُقَرَّرَةٌ وَمُقَدَّمَةٌ (وَإِلَّا) : وَإِنْ لَمْ تُقِمِ الْبَيِّنَةَ أَوْ لَمْ تَكُنِ الْبَيِّنَةُ (حَدٌّ) : مَصْدَرٌ مَرْفُوعٌ أَيْ: فَيَثْبُتُ عِنْدِي حَدٌّ (فِي ظَهْرِكَ) : وَفِي رِوَايَةِ ابْنُ الْهُمَامِ: (وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ) . قَالَ: وَأَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَأَوَّلُ لِعَانٍ وَقَعَ فِي الْإِسْلَامِ أَنَّ شَرِيكَ بْنَ سَحْمَاءَ قَذَفَهُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ بِامْرَأَتِهِ، فَرَفَعَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:(أَرْبَعَةُ شُهُودٍ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ) : فَالْمَسْأَلَةُ وَهِيَ اشْتِرَاطُ الْأَرْبَعِ قَطْعِيَّةٌ مَجْمَعٌ عَلَيْهَا، وَالْحِكْمَةُ تَحْقِيقُ مَعْنَى السَّتْرِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ. (فَقَالَ هِلَالٌ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لَصَادِقٌ) : أَيْ: فِي قَذْفِي إِيَّاهَا (فَلْيُنْزِلَنَّ اللَّهُ) : بِسُكُونِ اللَّامِ وَضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَكَسْرِ الزَّايِ الْمُخَفَّفَةِ وَفِي آخِرِهِ نُونٌ مُشَدَّدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ، هُوَ أَمْرٌ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ (مَا يُبَرِّئُ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِهَا أَيْ: مَا يَدْفَعُ وَيَمْنَعُ (ظَهْرِي مِنَ الْحَدِّ) : أَيْ: حَدِّ الْقَذْفِ (فَنَزَلَ جِبْرِيلُ، وَأَنْزَلَ) : أَيْ: جِبْرِيلُ عليه الصلاة والسلام أَيْ: عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] : أَيْ: يَقْذِفُونَ زَوْجَاتِهِمْ (فَقَرَأَ) : أَيْ: مَا بَعْدَهُ مِنَ الْآيَاتِ (حَتَّى بَلَغَ {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9] فَجَاءَ هِلَالٌ فَشَهِدَ) : أَيْ: لَاعَنَ (وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟» ") الْأَظْهَرُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ هَذَا الْقَوْلَ بَعْدَ فَرَاغِهِمَا مِنَ اللِّعَانِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يُلْزِمُ الْكَاذِبَ التَّوْبَةَ، وَقِيلَ: قَالَهُ قَبْلَ اللِّعَانِ تَحْذِيرًا لَهُمَا مِنْهُ (ثُمَّ قَامَتْ، فَشَهِدَتْ) : أَيْ: لَاعَنَتْ (فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الْخَامِسَةِ) : أَيْ: مِنْ شَهَادَتِهَا (وَقَفُوهَا) : بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: حَبَسُوهَا وَمَنَعُوهَا عَنِ الْمُضِيِّ فِيهَا وَهَدَّدُوهَا (وَقَالُوا) : أَيْ: أَلَا (إِنَّهَا) : أَيِ: الْخَامِسَةَ (مُوجِبَةٌ) : وَقِيلَ: مَعْنَى وَقَفُوهَا أَطْلَعُوهَا عَلَى حُكْمِ الْخَامِسَةِ، وَهُوَ أَنَّ اللِّعَانَ إِنَّمَا يَتِمُّ بِهِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُهُ، وَأَنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلَّعْنِ مُؤَدِّيَةٌ إِلَى الْعَذَابِ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً. (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَتَلَكَّأَتْ) : بِتَشْدِيدِ الْكَافِ أَيْ: تَوَقَّفَتْ يُقَالُ: تَلَكَّأَ فِي الْأَمْرِ إِذَا تَبَطَّأَ عَنْهُ وَتَوَقَّفَ فِيهِ (وَنَكَصَتْ) : أَيْ: رَجَعَتْ وَتَأَخَّرَتْ، وَفِي الْقُرْآنِ {نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} [الأنفال: 48] وَالْمَعْنَى أَنَّهَا سَكَتَتْ بَعْدَ الْكَلِمَةِ الرَّابِعَةِ (حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ) : أَيْ: عَنْ مَقَالِهَا فِي تَكْذِيبِ الزَّوْجِ، وَدَعْوَى الْبَرَاءَةِ عَمَّا رَمَاهَا بِهِ ( «ثُمَّ قَالَتْ: لَا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمِ» ) : أَيْ: فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ وَأَبَدَ الدَّهْرِ، أَوْ فِيمَا بَقِيَ مِنَ الْأَيَّامِ بِالْإِعْرَاضِ عَنِ اللِّعَانِ وَالرُّجُوعِ إِلَى تَصْدِيقِ الزَّوْجِ، وَأُرِيدَ بِالْيَوْمِ الْجِنْسُ ; وَلِذَلِكَ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْعَامِ، وَالسَّائِرُ كَمَا يُطْلَقُ لِلْبَاقِي يُطْلَقُ لِلْجَمِيعِ (فَمَضَتْ) : أَيْ: فِي الْخَامِسَةِ وَأَتَمَّتِ اللِّعَانَ بِهَا
( «وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " أَبْصِرُوهَا» ) : أَمْرٌ مِنَ الْإِبْصَارِ أَيِ: انْظُرُوا وَتَأَمَّلُوا فِيمَا تَأْتِي بِهِ مِنْ وَلَدِهَا (فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ) : أَيِ: الَّذِي يَعْلُو جُفُونَ عَيْنَيْهِ سَوَادٌ مِثْلُ الْكُحْلِ مِنْ غَيْرِ اكْتِحَالٍ (سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ) : أَيْ: عَظِيمَهُمَا، مِنَ السُّبُوغِ بِالْمُوَحَّدَةِ، يُقَالُ لِلشَّيْءِ إِذَا كَانَ تَامًّا وَافِيًا وَافِرًا: سَابِغٌ (خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ) : أَيْ: سَمِينَهُمَا (فَهُوَ) : أَيْ: ذَلِكَ الْوَلَدُ (لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ) : أَيْ: فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ لِظُهُورِ الشَّبَهِ (فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَفِي إِتْيَانِ الْوَلَدِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ - هُنَا وَفِي قِصَّةِ عُوَيْمِرٍ بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ - مُعْجِزَةٌ وَإِخْبَارٌ بِالْغَيْبِ. ( «فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ» ) : (مِنْ) : بَيَانٌ لِـ (مَا) :، أَيْ: لَوْلَا مَا سَبَقَ مِنْ حُكْمِهِ بِدَرْءِ الْحَدِّ عَنِ الْمَرْأَةِ بِلِعَانِهَا (لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ) : أَيْ: فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا، أَوِ الْمَعْنَى: لَوْلَا أَنَّ الْقُرْآنَ حَكَمَ بِعَدَمِ الْحَدِّ عَلَى الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَعَدَمِ - التَّعْزِيرِ لَفَعَلْتُ بِهَا مَا يَكُونُ عِبْرَةً لِلنَّاظِرِينَ وَتَذْكِرَةً لِلسَّامِعِينَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفِي ذِكْرِ الشَّأْنِ وَتَنْكِيرِهِ تَهْوِيلٌ وَتَفْخِيمٌ لِمَا كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ بِهَا لِتُضَاعِفِ ذَنْبِهَا. وَفِي الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْمَظِنَّةِ وَالْأَمَارَاتِ، وَإِنَّمَا يَحْكُمُ بِظَاهِرِ مَا تَقْتَضِيهِ الْحُجَجُ وَالْأَيْمَانُ، وَأَنَّ لِعَانَ الرَّجُلِ مُقَدَّمٌ عَلَى لِعَانِ الْمَرْأَةِ ; لِأَنَّهُ مُثْبِتٌ، وَهَذَا دَارِئٌ، وَالدَّرْءُ إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ بَعْدَ الْإِثْبَاتِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: الْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ، يَخْتَلِفُ أَلْفَاظُهُمَا، وَيَتَّفِقُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«جَاءَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ مِنْ أَرْضِهِ عَشَاءً فَوَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ رَجُلًا، فَرَأَى ذَلِكَ بِعَيْنِهِ وَسَمِعَ بِأُذُنِهِ، فَلَمْ يَهْجُرْ حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي جِئْتُ أَهْلِي عَشَاءً فَوَجَدْتُ عِنْدَهَا رَجُلًا فَرَأَيْتُ بِعَيْنِي وَسَمِعْتُ بِأُذُنِي فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا جَاءَ بِهِ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ فَنَزَلَتْ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] الْآيَةَ فَسَرَّنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (أَبْشِرْ يَا هِلَالُ! فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا) : قَالَ هِلَالٌ: كُنْتُ أَرْجُو ذَلِكَ مِنْ رَبِّي - تَعَالَى - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَرْسِلُوا إِلَيْهَا ": فَجَاءَتْ، فَتَلَا عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَكَّرَهُمَا وَأَخْبَرَهُمَا أَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا، فَقَالَ هِلَالٌ: وَاللَّهُ لَقَدْ صَدَقْتُ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: كَذَبْتَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَاعِنُوا بَيْنَهُمَا " فَشَهِدَ هِلَالٌ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ أَنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، فَلَمَّا كَانَ الْخَامِسَةُ قِيلَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ هَذِهِ هِيَ الْمُوجِبَةُ الَّتِي [تُوجِبُ عَلَيْهَا الْعِقَابَ] ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يُعَذِّبُنِي اللَّهُ عَلَيْهَا، فَشَهِدَ الْخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: اشْهَدِي فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، فَلَمَّا كَانَتِ الْخَامِسَةُ قِيلَ لَهَا: اتَّقِي اللَّهَ، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْمُوجِبَةَ الَّتِي تُوجِبُ الْعِقَابَ فَتَلَكَّأَتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ: وَاللَّهِ لَا أَفْضَحُ قَوْمِي، فَشَهِدَتِ الْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا، وَقَضَى أَنْ لَا يُدْعَى وَلَدُهَا إِلَى الْأَبِ [وَلَا تُرْمَى] وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا - فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَقَضَى أَنْ لَا يَثْبُتَ لَهَا عَلَيْهِ قُوتٌ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا مُتَوَفًّى عَنْهَا، ثُمَّ قَالَ: " إِنْ جَاءَتْ بِهِ أَصْهَبَ نَضَحَ نَاتِئَ الْأَلْيَتَيْنِ خَمْشَ السَّاقِينَ فَهُوَ لِهِلَالٍ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْدًا خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ، فَهُوَ لِلَّذِي زَنَتْ بِهِ ":، فَجَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ إِلَى آخَرِ الْأَوْصَافِ التَّالِيَةِ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: (لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ) » . قَالَ عِكْرِمَةُ: وَكَانَ وَلَدُهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ، وَمَا يُدْعَى لِأَبٍ. هَذِهِ لَفْظَةٌ لِأَبِي دَاوُدَ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: سَائِرَ الْأَيَّامِ لَا أَفْضَحُ قَوْمِي.
وَفِي مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، وَكَانَ أَخَا الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَ أَوَّلَ رَجُلٍ لَاعَنَ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: (انْظُرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبْطًا وَضِيءَ الْعَيْنِ فَهُوَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْدًا خَمْشَ السَّاقِينَ فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ) » . وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ أَيْضًا
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَاعَنَ بَيْنَ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ، وَكَانَتْ حُبْلَى» ، وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ هَكَذَا أَيْضًا. وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ فِي تَرْجَمَةِ عُوَيْمِرٍ، «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: شَهِدْتُ عُوَيْمِرَ بْنَ الْحَارِثِ الْعَجْلَانِيَّ، وَقَدْ رَمَى امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ حَامِلٌ، فَرَأَيْتُهُمَا يَتَلَاعَنَانِ قَائِمَيْنِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ثُمَّ وَلَدَتْ، فَأُلْحِقَ الْوَلَدُ بِالْمَرْأَةِ، وَجَاءَتْ بِهِ أَشْبَهَ النَّاسِ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، وَكَانَ عُوَيْمِرٌ قَدْ لَامَهُ قَوْمُهُ وَقَالُوا: امْرَأَةٌ لَا نَعْلَمُ عَلَيْهَا إِلَّا خَيْرًا، فَلَمَّا جَاءَ الشَّبَهُ بِشَرِيكٍ عَذَرَهُ النَّاسُ، وَعَاشَ الْمَوْلُودُ سَنَتَيْنِ ثُمَّ مَاتَ وَعَاشَتْ أُمُّهُ بَعْدَهُ يَسِيرًا، وَصَارَ شَرِيكٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَالَةٍ سُوءٍ» .
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنِ عُثْمَانَ أَنَّ عُوَيْمِرًا. . . فَسَاقَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: «وَلَمْ يَحُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُوَيْمِرًا فِي قَذْفِهِ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، وَشَهِدَ عُوَيْمِرُ بْنُ الْحَارِثِ، وَشَرِيكُ بْنُ السَّحْمَاءِ أُحُدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ» . فَفِي هَذَا أَنَّ الْوَلَدَ عَاشَ سَنَتَيْنِ وَمَاتَ، وَنَسَبُهُ فِي قِصَّةِ هِلَالٍ إِلَى شَرِيكٍ أَيْضًا، وَنُسِبَ إِلَى شَرِيكٍ فِي قِصَّةِ عُوَيْمِرٍ، قِيلَ: وَيَجْمَعُ بَيْنَهُمْ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ، وَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ هِلَالٍ، «فَقَالَ عليه الصلاة والسلام:(اللَّهُمَّ بَيِّنْ) : فَوَضَعَتْ شَبَهًا بِالَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ، فَلَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» - وَفِي هَذَا اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا كَانَ بَعْدَ الْوَضْعِ فَمَا تَقَدَّمَ خِلَافُهُ، وَهَذَا تَعَارُضٌ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنْ لَا لَعَانَ بِنَفْيِ الْحَمْلِ وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: يَجِبُ اللِّعَانُ إِذَا وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لِلتَّيَقُّنِ لِقِيَامِ الْحَمْلِ عِنْدَ الْقَذْفِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفُ أَنَّهُ يُلَاعَنُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ لِحَدِيثِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ.
3308 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ وَجَدْتُ مَعَ أَهْلِي رَجُلًا لَمْ أَمَسَّهُ حَتَّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ: " نَعَمْ ". قَالَ: كَلَّا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ كُنْتُ لَأُعَاجِلُهُ بِالسَّيْفِ قَبْلَ ذَلِكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (اسْمَعُوا إِلَى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ، إِنَّهُ لَغَيُورٌ، وَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
3308 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ وَجَدْتُ) : أَيْ: صَادَفْتُ (مَعَ أَهْلِي رَجُلًا: أَيْ أَجْنَبِيًّا (لَمْ أَمَسَّهُ) : بِحَذْفِ الِاسْتِفْهَامِ الِاسْتِبْعَادِيِّ أَيْ: لَمْ أَضْرِبْهُ وَلَمْ أَقْتُلْهُ (حَتَّى آتِيَ) : بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ وَكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ، أَيْ: حَتَّى أَجِيءَ (بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟) قَالَ: (نَعَمْ) : (قَالَ) : أَيْ: سَعْدٌ (كَلَّا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ كُنْتُ لَأُعَاجِلُهُ بِالسَّيْفِ قَبْلَ ذَلِكَ) : أَيْ: مِنْ غَيْرِ إِتْيَانٍ، وَإِنْ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الْمُثَقَّلَةِ، وَاللَّامُ هِيَ الْفَارِقَةُ، وَضَمِيرُ الشَّأْنِ مَحْذُوفٌ، وَفِي الْكَلَامِ تَأْكِيدٌ. قَالَ النَّوَوِيُّ: لَيْسَ قَوْلُهُ " كَلَّا " رَدًّا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم وَمُخَالَفَةً لِأَمْرِهِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ عَنْ حَالَةِ نَفْسِهِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ الرَّجُلَ مَعَ امْرَأَتِهِ، وَاسْتِيلَاءِ الْغَضَبِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُعَاجِلُهُ بِالسَّيْفِ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اسْمَعُوا إِلَى مَا يَقُولُ) عَدَّى السَّمْعَ بِـ (إِلَى) : لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْإِصْغَاءِ أَيِ: اسْتَمِعُوا إِلَى مَا يَذْكُرُ (سَيِّدُكُمْ) قَالَ مِيرَكُ: كَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَنَقَلَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ: سَيِّدُنَا، ثُمَّ قَالَ: وَإِضَافَتُهُ لَا تَخْلُو مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا أَنَّهُ يُضَافُ إِلَى مَنْ سَادَهُ وَلَيْسَ بِالْوَجْهِ هَاهُنَا، وَإِمَّا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّهُ السَّيِّدُ عِنْدَنَا، وَالْمَشْهُودُ لَهُ بِالسِّيَادَةِ بَيْنَ أَظْهُرِنَا، أَوِ الَّذِي سَيِّدْنَاهُ عَلَى قَوْمِهِ كَمَا يَقُولُ السُّلْطَانُ: فُلَانٌ أَمِيرُنَا. قَالَ: وَرُوِيَ: " إِلَى سَيِّدِكُمْ " قَالَ: وَالسَّيِّدُ فَعِّلٌ مَنْ سَادَ يَسُودُ قُلِبَتْ وَاوُهُ يَاءً لِمُوَافَقَتِهَا الْيَاءَ وَسَبْقِهَا بِالسُّكُونِ، وَقَوْلُ أُمِّ الدَّرْدَاءِ: حَدَّثَنِي سَيِّدِي أَبُو الدَّرْدَاءَ، أَرَادَتْ مَعْنَى السِّيَادَةِ تَعْظِيمًا لَهُ أَوْ أَرَادَتْ مِلْكَ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25](إِنَّهُ لَغَيُورٌ) فِيهِ اعْتِذَارٌ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم لِسَعْدٍ، وَأَنَّ مَا قَالَهُ سَعْدٌ قَالَهُ لِغَيْرَتِهِ، وَفِي ذِكْرِ السَّيِّدِ هُنَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْغَيْرَةَ مِنْ شِيمَةِ كِرَامِ النَّاسِ وَسَادَاتِهِمْ، وَلِذَا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ:(وَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي) قَالَ الْمُظْهِرُ: يُشْبِهُ أَنَّ مُرَاجَعَةَ سَعْدٍ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ طَمَعًا فِي الرُّخْصَةِ لَا رَدًّا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أَبَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَكَتَ وَانْقَادَ، وَفِي النِّهَايَةِ: الْغَيْرَةُ: الْحَمِيَّةُ وَالْأَنَفَةُ، وَغَيُورٌ بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ كَشَكُورٍ وَكَفُورٍ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: الْغَيْرَةُ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - الزَّجْرُ، وَاللَّهُ غَيُورٌ أَيْ: زَجُورٌ يَزْجُرُ عَنِ الْمَعَاصِي ; لِأَنَّ الْغَيْرَةَ تَغَيُّرٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَا يَكْرَهُهُ عَلَى الْأَهْلِ، وَهُوَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
3309 -
ــ
3309 -
(وَعَنِ الْمُغِيرَةَ قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: «لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفِحٍ» ) : بِكَسْرِ الْفَاءِ الْمُخَفَّفَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا. قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ: غَيْرَ ضَارِبٍ بِصَفْحِ السَّيْفِ وَهُوَ جَانِبُهُ بَلْ بِحَدِّهِ اهـ. وَفِي نُسْخَةٍ بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ، فِي فَتْحِ الْبَارِي قَالَ عِيَاضٌ: هُوَ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ. قَالَ: وَرُوِيَ أَيْضًا بِفَتْحِ الْفَاءِ، فَمَنْ فَتَحَ جَعَلَهُ وَصْفًا لِلسَّيْفِ حَالًا مِنْهُ، وَمَنْ كَسَرَ جَعَلَهُ وَصْفًا لِلضَّارِبِ وَحَالًا عَنْهُ، وَزَعَمَ ابْنُ التِّينِ أَنَّهُ وَقَعَ فِي سَائِرِ الْأُمَّهَاتِ تَشْدِيدُ الْفَاءِ، وَهُوَ مِنْ صَفْحِ السَّيْفِ أَيْ: عَرْضُهُ وَحَدُّهُ (فَبَلَغَ ذَلِكَ) : أَيْ: وَصَلَ قَوْلُهُ (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ) : أَيْ: لِأَصْحَابِهِ (أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟) أَيْ: كَمَالِهَا (وَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي) بِرَفْعِ الْجَلَالَةِ عَطْفٌ عَلَى الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ) : (وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ اللَّهُ الْفَوَاحِشَ) هَذَا تَفْسِيرٌ لِغَيْرَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِمَعْنَى أَنَّهُ مَنَعَ النَّاسَ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ وَرَتَّبَ عَلَيْهَا الْعُقُوبَاتِ إِذِ الْغَيْرَةُ فِي الْأَصْلِ أَنْ يَكْرَهَ وَيَغْضَبَ الرَّجُلُ أَنْ يَتَصَرَّفَ غَيْرُهُ فِي مِلْكِهِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ النَّاسِ أَنْ يَغْضَبَ الرَّجُلُ عَلَى مَنْ فَعَلَ بِامْرَأَتِهِ، أَوْ نَظَرَ إِلَيْهَا، فَفِي حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - أَنْ يَغْضَبَ عَلَى مَنْ فَعَلَ مِنْهُمَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَمَّا غَارَ عَلَى عِبَادِهِ وَإِمَائِهِ الْفَوَاحِشَ شَرَّعَ تَحْرِيمَهَا، وَرَتَّبَ عَلَى مُرْتَكِبِهَا الْعِقَابَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; لِيَنْزَجِرُوا عَنْهَا. (مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) : أَيْ: مَا أَعْلَنَ مِنْهَا وَمَا أَسَرَّ، وَقِيلَ مَا عَمِلَ وَمَا نَوَى، وَقِيلَ ظَاهِرُهَا الزِّنَى فِي الْحَوَانِيتِ، وَبَاطِنُهَا الصَّدِيقَةُ فِي السِّرِّ. (وَلَا أَحَدَ) بِالْفَتْحِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ وَقَوْلُهُ:(أَحَبُّ إِلَيْهِ) بِالرَّفْعِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ: يَجُوزُ فِي " أَحَدَ " الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِي شَرْحِ الْمَشَارِقِ فِي قَوْلِهِ: (لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ) : قَوْلُهُ: " أَغْيَرُ " بِالرَّفْعِ وَهُوَ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنَ الْغَيْرَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ " أَحَدَ "، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله:(إِلَّا) : هُنَا بِمَعْنَى لَيْسَ، وَقَدْ ذُكِرَ الِاسْمُ وَالْخَبَرُ مَعَهَا، وَكَأَنَّ النَّحْوِيِّينَ غَفَلُوا عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ حَيْثُ اكْتَفَوْا بِقَوْلِهِ:
أَنَا ابْنِ قَيْسٍ لَا بَرَاحَ
وَقَوْلُهُ: (الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ) : فَاعِلٌ لِأَحَبَّ، وَالْمَسْأَلَةُ كُحْلِيَّةٌ قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: الْعُذْرُ هُنَا بِمَعْنَى الْإِعْذَارُ أَيْ: إِزَالَةُ الْعُذْرِ (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ) : أَيْ: مَا ذُكِرَ مِنْ مَحَبَّةِ الْعُذْرِ (بَعَثَ الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِينَ) : يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - بَعَثَ الْمُبَشِّرِينَ وَالْمُنْذِرِينَ ; لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْهِ حُجَّةٌ كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]( «وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ» ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ بِمَعْنَى الْمَدْحِ (مِنَ اللَّهِ) وَلِذَا مَدَحَ نَفْسَهُ وَمَدَحَ أَوْلِيَاءَهُ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: مَعْنَاهُ أَنَّهُ - تَعَالَى - لَمَّا وَعَدَهَا وَرَكِبَ فِيهَا كَثُرَ سُؤَالُ الْعِبَادِ إِيَّاهَا مِنْهُ وَالثَّنَاءُ عَلَيْهِ، وَقَالَ لِبَعْضِهِمُ: اعْلَمْ أَنَّ الْحُبَّ فِينَا وَالْغَضَبَ وَالْفَرَحَ وَالْحُزْنَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ - عِبَارَةٌ عَنْ تَغَيُّرِ الْقَلْبِ، وَيُرِيدُ وَاحِدٌ مِنَّا بِأَنْ يَمْدَحَهُ أَحَدٌ، وَرُبَّمَا يَنْقُصُ قَدْرُهُ بِتَرْكِ الْمَدْحِ، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ، بَلِ الْحُبُّ فِيهِ مَعْنَاهُ الرِّضَا بِالشَّيْءِ، وَإِيصَالُ الرَّحْمَةِ وَالْخَيْرِ إِلَى مَنْ أَحَبَّهُ، وَالْغَضَبُ إِيصَالُ الْعَذَابِ إِلَى مَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ. (وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ) : أَيْ: كَوْنِ الْمَدْحِ مَحْبُوبًا لَهُ (وَعَدَ اللَّهُ الْجَنَّةَ) أَيْ: لِمَنْ مَدَحَهُ وَأَطَاعَهُ، وَلِهَذَا كَانَ {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ: (لَا شَيْءَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى) : جَلَّ عَظِيمُ الشَّأْنِ.
3310 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغَارُ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ لَا يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
3310 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ (وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ) : أَيْ: تَخَلُّقًا بِأَخْلَاقِهِ تَعَالَى (وَغَيْرَةُ اللَّهِ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ (أَنْ لَا يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ) أَيْ: لَا يَقْرَبَ وَلَا يَفْعَلَ (مَا حَرَّمَ اللَّهُ) أَيْ: عَلَيْهِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.
3311 -
ــ
3311 -
(وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّ أَعْرَابِيًّا) : أَيْ: وَاحِدًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ (أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ وَإِنِّي أَنْكَرْتُهُ) : أَيْ: لِسَوَادِ الْوَلَدِ مُخَالِفًا لِلَوْنِ أَبَوَيْهِ وَأَرَادَ نَفْيَهُ عَنْهُ (فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟) : قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: (فَمَا أَلْوَانُهَا) : أَيْ: أَلْوَانُ تِلْكَ الْإِبِلِ، وَقُوبِلَ الْجَمْعُ بِالْجَمْعِ (قَالَ: حُمْرٌ) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ جَمْعُ أَحْمَرَ، وَجُمِعَ لِلْمُطَابَقَةِ وَالْإِطْلَاقِ غَالِبًا (قَالَ:(هَلْ فِيهَا مِنْ أَرْوَقَ؟) : أَيْ: أَسْمَرَ، وَهُوَ مَا فِيهِ بَيَاضٌ إِلَى السَّوَادِ يُشْبِهُ لَوْنَ الرَّمَادِ، وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: هُوَ أَطْيَبُ الْإِبِلِ لَحْمًا، وَلَيْسَ بِمَحْمُودٍ عِنْدَهُمْ فِي سَيْرِهِ وَعَمَلِهِ (قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا) : بِضَمٍّ فَسُكُونٍ جَمْعُ أَوْرَقَ، وَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى جَمْعِهِ مُبَالِغَةً فِي وُجُودِهِ (قَالَ: فَأَنَّى تُرَى) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ أَيْ: فَمِنْ أَيْنَ تَظُنُّ (ذَلِكَ جَاءَهَا؟) : أَيْ: فَمِنْ أَيْنَ جَاءَ بِهَذَا اللَّوْنِ وَأَبَوَاهَا بِهَذَا اللَّوْنِ (قَالَ: عِرْقٌ) : بِكَسْرِ أَوَّلِهِ (نَزَعَهَا) أَيْ: قَلَعَهَا وَأَخْرَجَهَا مِنْ أَلْوَانِ فَحْلِهَا وَلِقَاحِهَا، وَفِي الْمَثَلِ: الْعِرْقُ نَزَّاعٌ، وَالْعِرْقُ فِي الْأَصْلِ مَأْخُوذٌ مِنْ عِرْقِ الشَّجَرِ، وَيُقَالُ فُلَانٌ لَهُ عِرْقٌ فِي الْكَرَمِ. (قَالَ: فَلَعَلَّ هَذَا عِرْقٌ نَزَعَهُ) : وَالْمَعْنَى أَنَّ وُرْقَهَا إِنَّمَا جَاءَ لِأَنَّهُ كَانَ فِي أُصُولِهَا الْبَعِيدَةِ مَا كَانَ بِهَذَا اللَّوْنِ، أَوْ بِأَلْوَانٍ تَحْصُلُ الْفُرْقَةُ مِنَ اخْتِلَاطِهَا؟ فَإِنَّ أَمْزِجَةَ الْأُصُولِ قَدْ تُورَثُ، وَلِذَلِكَ تُورَثُ الْأَمْرَاضُ، وَالْأَلْوَانُ تَتْبَعُهَا. (وَلَمْ يُرَخِّصْ) : أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (لَهُ) : أَيْ: لِلرَّجُلِ إِلَى الِانْتِفَاءِ) : أَيِ: انْتِفَاءِ الْوَلَدِ (مِنْهُ) : أَيْ: مِنْ أَبِيهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَفَائِدَةُ الْحَدِيثِ الْمَنْعُ عَنْ نَفْيِ الْوَلَدِ بِمُجَرَّدِ الْأَمَارَاتِ الضَّعِيفَةِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ وَظُهُورِ دَلِيلٍ قَوِىٍّ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَهَا أَوْ أَتَتْ بِوَلَدٍ قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ مُبْتَدَأِ وَطْئِهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَعْتَبِرْ وَصْفَ اللَّوْنِ هَاهُنَا لِدَفْعِ التُّهْمَةِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِنَ اعْتِبَارِ الْأَوْصَافِ فِي حَدِيثِ شَرِيكٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لِدَفْعِ التُّهْمَةِ، بَلْ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ تِلْكَ [الْأَمَارَاتِ الْجَلِيَّةَ] الظَّاهِرَةَ مُضْمَحِلَّةٌ عِنْدَ وُجُودِ نَصِّ كِتَابِ اللَّهِ، فَكَيْفَ بِالْآثَارِ الْخَفِيَّةِ؟ قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ أَنَّ التَّعْرِيضَ بِنَفْيِ الْوَلَدِ لَيْسَ نَفْيًا، وَأَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ لَيْسَ قَذْفًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ، وَفِيهِ إِثْبَاتُ الْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ بِالْأَشْبَاهِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ، وَفِيهِ الِاحْتِيَاطُ لِلْأَنْسَابِ فِي إِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِمُجَرَّدِ الْإِمْكَانِ وَالِاحْتِمَالِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
3312 -
ــ
3312 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ) : بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ فَوْقِيَّةٍ (ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ) : وَهُوَ الَّذِي كَسَرَ رَبَاعِيَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ وَمَاتَ كَافِرًا (عَهِدَ) : أَيْ: أَوْصَى (إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ) : وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ (أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ) : بِالْإِضَافَةِ أَيِ: ابْنَ جَارِيَتِهِ (مِنِّي) : وَهِيَ جَارِيَةٌ زَانِيَةٌ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِزَمْعَةَ وَهُوَ بِفَتْحِ الزَّايِ وَالْمِيمِ، وَقَدْ تُسَكَّنُ الْمِيمُ، كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، وَاقْتَصَرَ ابْنُ الْهُمَامِ عَلَى الْفَتْحَتَيْنِ، وَفِي الْمُغْنِي: أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ يُسَكِّنُونَ الْمِيمَ (فَاقْبِضْهُ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: أَمْسِكِ ابْنَهَا (إِلَيْكَ) : أَيْ: مُنْضَمًّا إِلَى حَجْرِ تَرْبِيَتِكَ، يَعْنِي: كَانَ عُتْبَةُ وَطِىءَ الْوَلِيدَةَ وَوَلَدَتِ ابْنًا، فَظَنَّ أَنَّ نَسَبَ وَلَدِ الزِّنَا ثَابِتٌ لِلزَّانِي فَأَوْصَى لِأَخِيهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْبِضَ ذَلِكَ الِابْنَ إِلَى نَفْسِهِ، وَيُنْفِقَ عَلَيْهِ وَيُرَبِّيَهُ. (فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَخَذَهُ) أَيْ: سَعْدٌ ابْنَ الْوَلِيدَةِ (فَقَالَ: إِنَّهُ ابْنُ أَخِي
وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي) : أَيْ: هُوَ أَخِي ; لِأَنَّ أَبِي كَانَ يَطَؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَقَدْ وَلَدَتْ وَلَدَهَا عَلَى فِرَاشِهِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ وَأَنَا أَحَقُّ بِهِ. (فَتَسَاوَقَا) : تَفَاعَلَ مِنَ السَّوْقِ أَيْ: فَذَهَبَا (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : أَيْ: لِلْمُرَافَعَةِ (فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَخِي كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ) : أَيْ: فِي ابْنِ الْوَلِيدَةِ (قَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةَ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ) . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ) يَعْنِي: الْوَلَدُ يَتْبَعُ الْأُمَّ إِذَا كَانَ الْوَطْءُ زِنًا، هَذَا هُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا، وَإِذَا كَانَ وَالَدُهُ وَأُمُّهُ رَقِيقَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا رَقِيقًا، فَالْوَلَدُ يَتْبَعُ أُمَّهُ أَيْضًا (وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ) : أَيْ: وَلِلزَّانِي الْحِجَارَةُ بِأَنْ يُرْجَمَ إِنْ كَانَ مُحْصَنًا، وَيُحَدَّ إِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْصَنٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْحِرْمَانَ عَنِ الْمِيرَاثِ وَالنَّسَبِ، وَالْحَجَرُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ كِنَايَةٌ عَنِ الْحِرْمَانِ، كَانَ يُقَالُ لِلْمَحْرُومِ: فِي يَدِهِ التُّرَابُ وَالْحَجَرُ. قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: الْوَلِيدَةُ الْأَمَةَ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ يَتَّخِذُونَ الْوَلَائِدَ، وَيَضْرِبُونَ عَلَيْهِنَّ الضَّرَائِبَ فَيَكْتَسِبْنَ بِالْفُجُورِ، وَكَانَتِ السَّادَةُ أَيْضًا لَا يَحْتِمُونَهُنَّ فَيَأْتُونَهُنَّ، فَإِذَا أَتَتْ وَلِيدَةٌ بِوَلَدٍ، وَقَدِ اسْتَفْرَشَهَا السَّيِّدُ وَزَنَى بِهَا غَيْرُهُ أَيْضًا، فَإِنِ اسْتَلْحَقَهُ أَحَدُهَا أُلْحِقَ بِهِ وَنُسِبَ إِلَيْهِ، وَإِنِ اسْتَلْحَقَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَتَنَازَعَا فِيهِ، عُرِضَ عَلَى الْقَافَةِ، وَكَانَ عُتْبَةُ قَدْ صَنَعَ هَذَا الصُّنْعَ فِي جَاهِلِيَّتِهِ بِوَلِيدَةِ زَمْعَةَ، وَحَسِبَ أَنَّ الْوَلَدَ لَهُ، فَعَهِدَ إِلَى أَخِيهِ بِأَنْ يَضُمَّهُ إِلَى نَفْسِهِ وَيَنْسُبَهُ إِلَى أَخِيهِ حِينَمَا احْتَضَرَ، وَكَانَ كَافِرًا، فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَزْمَعَ سَعْدٌ عَلَى أَنْ يُنَفِّذَ وَصِيَّتَهُ وَيَنْزِعَهُ، فَأَبَى ذَلِكَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، وَتَرَافَعَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَكَمَ أَنَّ الْوَلَدَ لِلسَّيِّدِ الَّذِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَلَيْسَ لِلزَّانِي عَنْ فِعْلِهِ سِوَى الْوَبَالِ وَالنَّكَالِ، وَأَبْطَلَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ مِنْ إِثْبَاتِ النَّسَبِ لِلزَّانِي. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الدَّعْوَى تَجْرِي فِي النَّسَبِ كَمَا تَجْرِي فِي الْأَمْوَالِ، وَأَنَّ الْأَمَةَ تَصِيرُ فِرَاشًا بِالْوَطْءِ، وَأَنَّ السَّيِّدَ إِذَا أَقَرَّ بِالْوَطْءِ ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ لَحِقَهُ، وَإِنْ وَطِئَهَا غَيْرُهُ، وَأَنَّ إِقْرَارَ الْوَارِثِ فِيهِ كَإِقْرَارِهِ. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: مَا تَصِيرُ بِهِ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا إِنْ كَانَتْ زَوْجَةً فَمُجَرَّدُ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَنَقَلُوا فِي هَذَا الْإِجْمَاعَ، وَشَرَطُوا لَهُ إِمْكَانَ الْوَطْءِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ بِأَنْ نَكَحَ الْمَشْرِقِيُّ مَغْرِبِيَّةً، وَلَمْ يُفَارِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَطَنَهُ، ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يُلْحَقْ، هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يَشْتَرِطِ الْإِمْكَانَ حَتَّى لَوْ طَلَّقَ عَقِبَ الْعَقْدِ وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَحِقَهُ الْوَلَدُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ظَاهِرُ الْفَسَادِ، اهـ. لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى ظُهُورِ فَسَادِهِ وَغَفْلَتِهِ عَنْ تَحْقِيقِ مَعْنَاهُ وَظُهُورِ صَلَاحِهِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ شَرَطَ الْإِمْكَانَ لَكِنْ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْإِمْكَانِ الْعَادِيِّ وَجَوَّزَ اجْتِمَاعَهُمَا بِطَرِيقِ خَرْقِ الْعَادَةِ، حَمْلًا لِلْمُؤْمِنِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ عَلَى الصَّلَاحِ وَالْإِحْسَانِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. قَالَ:(وَإِنْ كَانَتْ أَمَةٌ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ تَصِيرُ فِرَاشًا لِلْوَاطِئِ بِمُجَرَّدِ الْمِلْكِ، فَإِذَا أَتَتْ بَعْدَ الْوَطْءِ بِوَلَدٍ لِمُدَّةِ الْإِمْكَانِ لَحِقَهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: لَا تَصِيرُ فِرَاشًا إِلَّا إِذَا وَلَدَتْ) . (ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ) : أَيْ: زَوْجَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (احْتَجِبِي مِنْهُ) : أَيْ: مِنَ الْوَلَدِ (لِمَا رَأَى) : بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ (مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ) : بَيَانٌ لِمَا يَعْنِي أَنَّ ظَاهِرَ الشَّرْعِ هَذَا الِابْنُ أَخُوكِ، وَلَكِنَّ التَّقْوَى أَنْ تَحْتَجِبِي مِنْهُ، لِأَنَّهُ يُشْبِهُ عُتْبَةَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ بِالزِّنَى لَهُ حُكْمُ الْوَطْءِ بِالنَّفْخِ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمْ: لَا أَثَرَ لِوَطْءِ الزِّنَا، بَلْ لِلزَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ الْمَزْنِيِّ بِهَا وَبِنْتَهَا، وَزَادَ الشَّافِعِيُّ وَجَوَّزَ نِكَاحَ الْبِنْتِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ مَائِهِ بِالزِّنَا وَقَالُوا: وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّ سَوْدَةَ أُمِرَتْ بِالِاحْتِجَابِ، وَهَذَا احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مِنَ الزِّنَا فَهُوَ أَجْنَبِيٌّ مِنْ سَوْدَةَ لَا يَحِلُّ الظُّهُورُ لَهُ، سَوَاءٌ أُلْحِقَ بِالزَّانِي أَمْ لَا، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَفِيهِ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحِلُّ الْأَمْرَ فِي الْبَاطِنِ، فَإِذَا حَكَمَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ زُورٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَمْ يَحِلِّ الْمَحْكُومُ لِلْمَحْكُومِ لَهُ ; لِأَنَّ صلى الله عليه وسلم حَكَمَ بِهِ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ أَنَّهُ أَخٌ لَهُ، وَلِسَوْدَةَ بِالِاحْتِجَابِ اهـ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: إِذَا وَلَدَتِ الْأَمَةُ مِنْ مَوْلَاهَا فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ، وَإِنِ اعْتَرَفَ بِوَطْئِهَا، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْبَصْرِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَهَارُونَ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَعَ الْعَزْلِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ: يَثْبُتُ إِذَا أَقَرَّ بِوَطْئِهَا وَإِنْ عَزَلَ عَنْهَا، وَلَوْ وَطِئَ فِي دُبُرِهَا يَلْزَمُهُ الْوَلَدُ عِنْدَ مَالِكٍ، وَمِثْلُهُ عَنْ أَحْمَدَ، هُوَ وَجْهٌ مُضَعَّفٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَأَصْلُ دَلِيلِهِمْ فِيهِ مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتِ:«اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَعْنِي فِي ابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ - فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا ابْنُ أَخِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: هَذَا أَخِي يَا رَسُولَ اللَّهِ! وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى شَبَهِهِ فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ، فَقَالَ: (هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ) : فَلَمْ تَرَهُ سَوْدَةَ قَطُّ» . وَأُجِيبُ: بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام إِنَّمَا قَضَى بِهِ لِعَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ عَلَى أَنَّهُ عَبْدٌ لَهُ وَرِثَهُ لَا عَلَى أَنَّهُ أَخُوهُ، وَلِذَا قَالَ:(هُوَ لَكَ) : وَلَمْ يَقُلْ هُوَ أَخُوكَ، وَقَالَ:( «احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ» ) : وَلَوْ كَانَ أَخَاً لَهَا بِالشَّرْعِ لَمْ يَجِبِ احْتِجَابُهَا مِنْهُ، فَهَذَا دَفْعٌ بِانْتِفَاءِ لَازِمِ الْإِخُوَّةِ شَرْعًا، وَالْأَوَّلُ بِاللَّفْظِ نَفْسِهِ، وَيُدْفَعُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى (هُوَ أَخُوكَ يَا عَبْدُ) : وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالِاحْتِجَابِ، فَمَا رَأَى مِنَ الشَّبَهِ الْبَيِّنِ بِعُتْبَةَ، وَيُدْفَعُ الْأَوَّلُ أَيْضًا بِأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ حِينَئِذٍ مُعَارِضَةٌ لِرِوَايَةِ:(هُوَ لَكَ) : وَهُوَ أَرْجَحُ لِأَنَّهَا الْمَشْهُورَةُ الْمَعْرُوفَةُ، فَلَا تُعَارِضُهَا الشَّاذَّةُ، وَالشَّبَهُ لَا يُوجِبُ احْتِجَابَ أُخْتِهِ شَرْعًا مِنْهُ، وَإِلَّا لَوَجَبَ الْآنَ وُجُوبًا مُسْتَمِرًّا أَنَّ كُلَّ مَنْ أَشْبَهَ غَيْرَ أَبِيهِ الثَّابِتِ نَسَبُهُ مِنْهُ يَجِبُ حُكْمًا لِلشَّبَهِ احْتِجَابُ أُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ وَجِدَّتِهِ لِأَبِيهِ مِنْهُ، هُوَ مُنْتَفٍ شَرْعًا، وَقَوْلُهُ:(الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ) : انْتَفَى بِهِ نَسَبُهُ عَنْ سَعْدٍ بِأَنَّهُ ابْنُ أَخِيهِ، وَعَنْ عَبْدٍ بِأَنَّهُ أَخُوهُ يَعْنِي الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلَا فِرَاشَ لِوَاحِدٍ مِنْ عُتْبَةَ وَزَمْعَةَ، وَبِهِ يَقْوَى مُعَارَضَةُ رِوَايَةِ:(هُوَ أَخُوكَ) : وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا لَيْسَ حُكْمًا مُسْتَمِرًّا عَلَى مَا ذَكَرْنَا خَاصًّا بِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ حِجَابَهُنَّ مَنِيعٌ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى جل جلاله {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] وَعَلَى هَذَا يَجِبُ حَمْلُ الْوَلِيدَةِ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ وَلَدَتْ لِزَمْعَةَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ (الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ) : يَعْنِي أُمَّ الْوَلَدِ، وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُهُ:(هُوَ لَكَ) : أَيْ: مَقْضِيٌّ لَكَ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَخُوكَ كَمَا فِي الرِّاوِيَةِ الْأُخْرَى، وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَطَئُونَ وَلَائِدَهُمْ ثُمَّ يَعْتَزِلُونَهُنَّ، لَا تَأْتِيَنِّي وَلِيدَةٌ يَعْتَرِفُ سَيِّدُهَا أَنَّهُ قَدْ أَلَمَّ بِهَا إِلَّا أَلْحَقْتُ وَلَدَهَا بِهَا، فَاعْتَزِلُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَوِ اتْرُكُوا. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ. فَمُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ يَعْزِلُ عَنْ جَارِيَتِهِ، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ أَسْوَدَ فَشَقَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: مِمَّنْ هُوَ؟ فَقَالَتْ: مِنْ رَاعِي الْإِبِلِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَأَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ لَهُ جَارِيَةٌ فَحَمَلَتْ فَقَالَ: لَيْسَ مِنِّي إِنِّي أَتَيْتُهَا إِتْيَانًا لَمْ أُرِدْ بِهِ الْوَلَدَ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ كَانَ يَطَأُ جَارِيَةً فَارِسِيَّةً وَيَعْزِلُ عَنْهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ، فَأَعْتَقَ الْوَلَدَ وَجَلَدَهَا. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَهَا: مِمَّنْ حَمَلْتِ؟ فَقَالَتْ: مِنْكَ. فَقَالَ: كَذَبْتِ، مَا وَصَلَ إِلَيْكِ مَا يَكُونُ مِنْهُ الْحَمْلُ، وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِوَطْئِهَا: وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ يَلْحَقُ الْوَاطِئَ مُطْلَقًا جَازَ لِكَوْنِهِ عَلِمَ مِنْ بَعْضِهِمْ إِنْكَارًا، مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقُهُ، وَذَلِكَ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَاطِئَ إِذَا لَمْ يَعْزِلْ وَحَصَّنَهَا وَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِهِ، فَقَدْ عَلِمَ مِنَ النَّاسِ إِنْكَارَ أَوْلَادِ الْإِمَاءِ مُطْلَقًا، فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي مُلْحِقٌ بِكُمْ إِيَّاهُمْ مُطْلَقًا، وَأَمَّا مَنْ عُلِمَ مِنْهُ الِاعْتِزَالُ فِي الْأَمَةِ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ، قَالَ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَدَمِ لُزُومِهِ الْوَلَدَ، وَإِنِ اعْتَرَفَ بِالْوَطْءِ، مَا لَمْ يَدَعْهُ حُكْمٌ فِي الْقَضَاءِ يَعْنِي لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْهُ بِلَا دَعْوَةٍ، وَأَمَّا الدِّيَانَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ تبارك وتعالى، فَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ حِينَ وَطِئَهَا لَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا، وَحَصَّنَهَا عَنْ مَظَانِّ رِيبَةِ الزِّنَى يَلْزَمُهُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَدَّعِيَهُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - كَوْنُهُ مِنْهُ، وَالْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ وَاجِبٌ، وَفِي الْمَبْسُوطِ:(وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِذَا وَطِئَهَا وَلَمْ يَسْتَبْرِئَهَا بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى جَاءَتْ بِوَلَدٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَدَّعِيَهُ سَوَاءٌ عَزَلَ عَنْهَا أَوْ لَمْ يَعْزِلْ، حَصَّنَهَا أَوْ لَمْ يُحَصِّنْهَا، تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهَا، وَحَمْلًا لِأَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خِلَافُهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ ; لِأَنَّ مَا ظَهَرَ سَبَبُهُ يَكُونُ مُحَالًا عَلَيْهِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَدَّعِيَ وَلَدَهَا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْهُ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتِقَ الْوَلَدَ) . وَفِي الْإِيضَاحِ: ذَكَرَهَا بِلَفْظِ الِاسْتِحْبَابِ فَقَالَ: قَالَ أَبُو يُوسُفَ: أُحِبُّ أَنْ يَدَّعِيَهُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: أُحِبُّ أَنْ يُعْتِقَ الْوَلَدَ. وَعِبَارَةُ الْمَبْسُوطِ تُفِيدُ الْوُجُوبَ.
3313 -
وَعَنْهَا، قَالَتْ:«دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ مَسْرُورٌ. "، فَقَالَ: أَيْ عَائِشَةُ! أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ دَخَلَ، فَلَمَّا رَأَى أُسَامَةَ وَزَيْدًا وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
3313 -
(وَعَنْهَا) : أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ) : أَيْ: عِنْدِي (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ) : أَيْ: يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ أَوْ نَهَارًا (وَهُوَ مَسْرُورٌ) : جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَقَالَ: أَيْ عَائِشَةُ!) : أَيْ: يَا عَائِشَةُ، فَأَيْ نِدَاءٌ لِلْقَرِيبِ (أَلَمْ تَرَىْ) : بِحَذْفِ النُّونِ أَيْ: أَلَمْ تَعْلَمِي، يَعْنِي: هَذَا مِمَّا يَتَعَيَّنُ أَنْ تَعَلَمِي فَاعْلَمِي (أَنَّ مُجَزِّزًا) : بِكَسْرِ الزَّايِ الْأَوْلَى مُشَدَّدَةً بَعْدَ الْجِيمِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا (الْمُدْلِجِيَّ) : نِسْبَةٌ إِلَى مُدْلِجٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْمِيمِ فَجِيمٌ. وَكَانَتِ الْقِيَافَةُ فِيهِمْ، وَفِي بَنِي أَسَدٍ يَعْتَرِفُ لَهُمُ الْعَرَبُ (دَخَلَ) : أَيْ: فِي الْمَسْجِدِ (فَلَمَّا رَأَى أُسَامَةَ وَزَيْدًا) : أَيِ: ابْنَهُ (وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ) : أَيْ: كِسَاءٌ غَلِيظٌ (قَدْ غَطَّيَا) : أَيْ: بِهَا (رُءُوسَهُمَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ وَادِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ، لِأَنَّهُ قَدِ، اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ هَذَا الْمَبْحَثِ. (وَبَدَتْ) : أَيْ: ظَهَرَتْ وَكُشِفَتْ (أَقْدَامُهُمَا، فَقَالَ) : أَيِ: الْمُدْلِجِيُّ (إِنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ) : قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: وَكَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَقْدَحُ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ مَعَ إِلْحَاقِ الشَّرْعِ إِيَّاهُ بِهِ، لِكَوْنِهِ أَسْوَدَ شَدِيدَ السَّوَادِ، وَكَانَ زَيْدٌ أَبْيَضَ، فَلَمَّا قَضَى هَذَا الْقَائِفَ بِإِلْحَاقِ نَسَبِهِ مَعَ اخْتِلَافِ اللَّوْنِ، وَكَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَعْتَمِدُ قَوْلَ الْقَائِفِ فَرِحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِكَوْنِهِ زَاجِرًا لَهُمْ عَنِ الطَّعْنِ فِي نَسَبِهِ، وَكَانَتْ أَمُّ أُسَامَةَ حَبَشِيَّةً سَوْدَاءَ اسْمُهَا بَرَكَةُ، وَكُنْيَتُهَا أَمُّ أَيْمَنَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَمَلِ بِقَوْلِ الْقَائِفِ، وَاتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ أَمْ يُكْتَفَى بِوَاحِدٍ؟ وَالْأَصَحُّ الِاكْتِفَاءُ بِوَاحِدٍ بِهَذَا الْحَدِيثِ، اهـ.
وَقِيلَ: فِيهِ جَوَازُ الْحُكْمِ بِفِعْلِ الْقِيَافَةِ، وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ. أَقُولُ: لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ثُبُوتُ النَّسَبِ بِعِلْمِ الْقِيَافَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَقْوِيَةٌ وَدَفْعُ تُهْمَةٍ وَرَفْعُ مَظِنَّةٍ، كَمَا إِذَا شَهِدَ عَدَلٌ بِرُؤْيَةِ هِلَالٍ وَوَافَقَهُ مُنَجِّمٌ، فَإِنَّ قَوْلَ الْمُنَجِّمِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا لَا نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُقَوِّيًا لِلدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، فَتَأَمَّلْ! قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ قَوْلِ الْقَائِفِ فِي الْأَنْسَابِ، وَأَنَّ لَهُ مَدْخَلًا فِي إِثْبَاتِهَا، وَإِلَّا لَمَا اسْتَبْشَرَ بِهِ، وَلَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ رَجْمًا بِالْغَيْبِ مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُوَافِقَ الْحَقَّ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وِفَاقًا، وَخُصُوصًا مَا يَكُونُ صَوَابُهُ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ، وَخَطَؤُهُ قَذْفَ مُحْصَنَةٍ، وَلَا الِاسْتِدْلَالُ بِمَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَمَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَعَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَقَالُوا: إِذَا ادَّعَى رَجُلَانِ أَوْ أَكْثَرَ نَسَبَ مَوْلُودٍ مَجْهُولِ النَّسَبِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، أَوِ اشْتَرَكُوا فِي وَطْءِ امْرَأَةٍ بِالشُّبْهَةِ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَتَنَازَعُوا فِيهِ حُكِّمَ الْقَائِفُ فَبِأَيِّهِمْ أَلْحَقَهُ لِحَقَهُ، وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ، بَلْ قَالُوا: يَلْحَقُ الْوَلَدُ بِهِمْ جَمِيعًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَلْحَقُ رَجُلَيْنِ وَثَلَاثًا، وَلَا يَلْحَقُ بِأَكْثَرَ وَلَا بِامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْحَقُ بِهِمَا أَيْضًا، وَكُلُّ ذَلِكَ ضَعِيفٌ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَإِذَا كَانَتِ الْجَارِيَةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْمَرَضِ أَوِ الصِّحَّةِ، وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ اتِّفَاقًا إِلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ. قَالَ: وَإِنِ ادَّعَيَاهُ مَعًا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُمَا، وَكَانَتِ الْأُمُّ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا فَتَخْدِمُ كُلًّا مِنْهُمَا يَوْمًا، وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَتْ، وَيَرِثُ الِابْنُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ كَامِلٍ، وَيَرِثَانِ مِنْهُ مِيرَاثَ أَبٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا كَانَ كُلٌّ مِنْ مِيرَاثِ الِابْنِ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا. وَقَالَ: وَبِقَوْلِنَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُهُ فِي الْقَدِيمِ، وَرَجَّحَ عَلَيْهِ أَحْمَدُ حَدِيثَ الْقِيَافَةِ، وَقِيلَ: يُعْمَلُ بِهِ إِذَا فُقِدَتِ الْقَافَةُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ الْقَائِفِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الْقَائِفُ وَقَفَ حَتَّى بَلَغَ الْوَلَدُ، فَيُنْسَبُ إِلَى أَيِّهِمَا شَاءَ، فَإِنْ لَمْ يُنْسَبْ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ نَسَبُهُ مَوْقُوفًا لَا يَثْبُتُ لَهُ نَسَبٌ مِنْ غَيْرِ أُمِّهِ، وَالْقَائِفُ: هُوَ الَّذِي يَتْبَعُ آثَارَ الْآبَاءِ فِي الْأَبْنَاءِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْآثَارِ مِنْ قَافَ أَثَرَهُ يَقُوفُهُ، مَقْلُوبُ قَفَا أَثَرَهُ مِثْلُ أَرَى مَقْلُوبَ رَأَى، وَالْقِيَافَةُ مَشْهُورَةٌ فِي بَنِي مُدْلِجٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُدْلِجِيٌّ فَغَيْرَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ، وَقَالَ بِهِ مَالِكٌ فِي الْآمَالِي. وَهَذَا لِأَنَّ إِثْبَاتَ النَّسَبِ مِنْ شَخْصَيْنِ مَعَ عِلْمِنَا بِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَتَخَلَّقُ مِنْ مَاءَيْنِ ; [لِأَنَّهَا كَمَا تُعَلِّقَ مِنْ رَجُلٍ انْسَدَّ فَمُ الرَّحِمِ مُتَعَذِّرٌ] ، فَقُلْنَا بِالشَّبَهِ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْقَافَةَ لَوْ أَلْحَقَتْهُ بِهِمَا لَا يَلْحَقُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَبْطُلُ قَوْلُهُمْ إِذَا
أَلْحَقُوا بِهِمَا، وَقَدْ ثَبَتَ الْعَمَلُ بِالشَّبَهِ بِقَوْلِ الْقَائِفِ حَيْثُ سُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا أَخْرَجَ السِّتَّةَ فِي كُتُبِهِمْ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، «عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ مَسْرُورًا فَقَالَ: " يَا عَائِشَةُ أَلَمْ تَرَيْ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيَّ دَخَلَ عَلَيَّ وَعِنْدِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَزَيْدٌ وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ وَقَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَقَالَ: هَذِهِ الْأَقْدَامُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» ". وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: وَكَانَ أُسَامَةُ أَسْوَدَ، وَكَانَ زَيْدٌ أَبْيَضَ.
قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: وَلَنَا كِتَابُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إِلَى شُرَيْحٍ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ ذُكِرَ أَنَّ شُرَيْحًا كَتَبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي جَارِيَةٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ جَاءَتْ بِوَلَدٍ، فَادَّعَيَاهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنَّهُمَا لَبَّسَا فَلُبِّسَ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ بَيَّنَا لَبُيِّنَ لَهُمَا هُوَ ابْنُهُمَا يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ، وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نُكْرٍ، فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَالْمَعْرُوفُ فِي قِصَّةِ عُمَرَ هُوَ مَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عُمَرَ فِي امْرَأَةٍ وَطِئَهَا رَجُلَانِ فِي طُهْرٍ، فَقَالَ الْقَائِفُ: قَدِ اشْتَرَكَا فِيهِ جَمِيعًا فَجَعَلَهُ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: وَعَلِيٌّ يَقُولُ هُوَ ابْنُهُمَا وَهُمَا أَبَوَاهُ يَرِثَانِهِ وَيَرِثُهُمَا، وَذَكَرَهُ سَعِيدٌ أَيْضًا. وَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ فِي رَجُلَيْنِ اشْتَرَكَا فِي طُهْرِ امْرَأَةٍ، أَوْ وَطِئَهَا رَجُلَانِ فِي طُهْرٍ، فَقَالَ الْقَائِفُ: قَدِ اشْتَرَكَا فِيهِ جَمِيعًا، فَحَمَلَتْ فَوَلَدَتْ غُلَامًا يُشْبِهُهُمَا، فَرَفَعَا ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ فَدَعَا الْقَافَةَ فَنَظَرُوهُ فَقَالُوا: نَرَاهُ يُشْبِهُهُمَا فَأَلْحَقَهُ بِهِمَا وَجَعَلَهُ يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا وَلَدًا، فَدَعَا عُمَرُ الْقَافَةَ وَاقْتَدَى فِي ذَلِكَ بِبَصَرِ الْقَافَةِ، وَأَلْحَقَهُ بِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَيْضًا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بَعْدَ ذَلِكَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: لَمَّا دَعَا عُمَرُ الْقَافَةَ فَرَأَوْا شَبَهَهُ فِيهِمَا، وَرَأَى عُمَرُ مِثْلَ مَا رَأَتِ الْقَافَةُ قَالَ: قَدْ كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّ الْكَلْبَةَ لَا تَلِدُ إِلَّا كَلْبًا، فَيَكُونُ كُلُّ جُرْوٍ لِأَبِيهِ، وَمَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ مَاءَيْنِ يَجْتَمِعَانِ فِي وَلَدٍ وَاحِدٍ، وَأَسْنَدَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: رَأَى الْقَافَةُ وَعُمَرُ جَمِيعًا شَبَهَهُ فِيهِمَا فَقَالَ: هُوَ بَيْنَكُمَا يَرِثُكُمَا وَتَرِثَانِهِ. قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ الْمُسَيَّبِ، فَقَالَ: نَعَمْ هُوَ الْآخَرُ مِنْهُمَا.
قَالَ: وَقَوْلُ الْمُصَنِّفُ: - يَعْنِي صَاحِبَ الْهِدَايَةِ - وَعَنْ عَلِيٍّ مِثْلَ ذَلِكَ يُشِيرُ إِلَى مَا أَخْرَجَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ مَوْلًى مَخْزُومِيٍّ قَالَ: وَقَعَ رَجُلَانِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ فَعَلَّقَتِ الْجَارِيَةُ، فَلَمْ يَدْرِ مِنْ أَيِّهِمَا هُوَ فَأَتَيَا عَلِيًّا، فَقَالَ: هُوَ بَيْنَكُمَا يَرِثُكُمَا وَتَرِثَانِهِ، وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْكُمَا.
وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَتَاهُ رَجُلَانِ وَقَعَا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٌ، فَقَالَ: الْوَلَدُ بَيْنَكُمَا وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْكُمَا. وَضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ فَقَالَ: يَرْوِيهِ سِمَاكٌ عَنْ رَجُلٍ مَجْهُولٍ لَمْ يُسَمِّهِ، وَعَنْ قَابُوسَ وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَجٍّ بِهِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا بِخِلَافِ ذَلِكَ، ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ صَالِحٍ الْهَمَذَانِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدٍ خَيْرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ:«أُتِيَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - وَهُوَ بِالْيَمَنِ بِثَلَاثَةٍ وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلَ اثْنَيْنِ أَتُقِرَّانِ بِهَذَا الْوَلَدِ؟ قَالَا: لَا، حَتَّى سَأَلَهُمْ جَمِيعًا، فَجَعَلَ كُلَّمَا سَأَلَ اثْنَيْنِ قَالَا: لَا، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالَّذِي صَارَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ ثُلُثَيِ الدِّيَةِ. قَالَ: فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ» . وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا دَاوُدَ رَوَاهُ أَيْضًا مَوْقُوفًا وَكَذَا النَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيٍّ بِإِسْنَادٍ أَجْوَدَ مِنْ إِسْنَادِ الْمَرْفُوعِ، وَكَذَا رَوَاهُ الْحُمَيْدِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَقَالَ فِيهِ: فَأَغْرَمَهُ ثُلُثَيْ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ لِصَاحِبَيْهِ، وَهُوَ حَسَنٌ، بُيِّنَ الْمُرَادُ بِالدِّيَةِ فِيمَا قَبْلَهُ، وَحَاصِلُ مَا تَحَصَّلَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سُرَّ بِقَوْلِ الْقَافَةِ، وَأَنَّ عُمَرَ قَضَى عَلَى وَفْقِ قَوْلِهِمْ، وَأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يُنْكِرْ إِثْبَاتَ عَلِيٍّ النَّسَبَ بِالْقُرْعَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُعَوِّلَ عَلَى مَا يُنْسَبُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ هُوَ سُرُورُهُ بِقَوْلِ الْقَافَةِ، فَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ - أَيْ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ - عَنْهُ بِأَنَّ سُرُورَهُ كَانَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَطْعُنُونَ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ، لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ كَانَ أَسْوَدَ، وَزَيْدٌ أَبْيَضَ، فَكَانُوا لِذَلِكَ يَطْعُنُونَ فِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْهُ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ يَعْتَقِدُونَ قَوْلَ الْقَافَةِ، فَكَانَ قَوْلُ الْقَافَةِ مُقَطَّعًا لِطَعْنِهِمْ، فَسُرُورُهُ - لَا شَكَّ - أَنَّهُ لِمَا يُلْزِمُهُ مِنْ قَطْعِ طَعْنِهِمْ وَاسْتِرَاحَةِ مُسْلِمٍ مِنَ التَّأَذِّي بِنَفْيِ نَسَبِهِ وَظُهُورِ خَطَئِهِمْ وَالرَّدِّ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ كَوْنَ الْقِيَافَةِ حَقًّا فِي نَفْسِهَا، فَيَكُونُ مُتَعَلَّقَ سُرُورِهِ أَيْضًا، أَوْ لَيْسَتْ حَقًّا فَيَخْتَصُّ سُرُورُهُ بِمَا قُلْنَا، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُنَا بِكَوْنِ سُرُورِهِ بِهَا نَفْسِهَا فَرْعُ حُكْمِنَا بِأَنَّهُ حَقٌّ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ حَقِّيَّتِهَا، وَلَمْ تَثْبُتْ بَعْدُ، وَطَعَنَ يَطْعُنُ - بِضَمِّ عَيْنِ الْمُضَارِعِ - فِي الرُّمْحِ وَالنَّسَبِ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ اسْتُدِلَّ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَافَةِ بِحَدِيثِ اللِّعَانِ حَيْثُ قَالَ عليه الصلاة والسلام فِيهِ: ( «إِنْ جَاءَتْ بِهِ أَصْهَبَ أَسْحَمَ خَمْشَ السَّاقِيْنِ فَهُوَ لِزَوْجِهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْدًا جُمَالِيًّا خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ فَهُوَ لِلَّذِي رُمِيَتْ بِهِ» ) : وَهَذِهِ هِيَ الْقِيَافَةُ وَالْحُكْمُ بِالشَّبَهِ، وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ ذَلِكَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ لَا الْقِيَافَةِ، وَقَدْ يُقَالُ: الظَّاهِرُ عِنْدَ إِرَادَةِ تَعْرِيفِهِ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّهُ ابْنُ فُلَانٍ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَنْقَلِبُ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْقِيَافَةُ مُعْتَبَرَةً لَكَانَ شَرْعِيَّةُ اللِّعَانِ تَخْتَصُّ بِمَا إِذَا لَمْ يُشْبِهِ الْمَزْنِيُّ بِهِ شَبَهَ الزَّوْجِ أَوْ لَا لِحُصُولِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ حِينَئِذٍ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ ابْنًا لِلنَّافِي، وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحُكْمِ بِكَذِبِهِمَا فِي نَسَبِ الْوَلَدِ، وَأُجِيبُ أَيْضًا: بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ حَقِّيَّةِ قِيَافَتِهِ صلى الله عليه وسلم حَقِّيَّةُ قِيَافَةِ غَيْرِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْقِيَافَةَ لَيْسَتْ إِلَّا بِاعْتِبَارِ أُمُورٍ ظَاهِرَةٍ يَسْتَوِي النَّاسُ فِي مَعْرِفَتِهَا، ثُمَّ إِنَّهُ عليه الصلاة والسلام سُرَّ بِفِعْلِ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَهُوَ إِلْحَاقُهُ بِالْقُرْعَةِ، وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَطَرِيقُهُ صَحِيحَةٌ، لِتَقْرِيرِهِ عليه الصلاة والسلام إِيَّاهُ، بَلْ سُرَّ بِهِ ; لِأَنَّ الضَّحِكَ دَلِيلُهُ مَعَ عَدَمِ الْإِنْكَارِ، وَإِذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ يَلْزَمُهُ الْحُكْمُ بِنَسْخِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَبْقَى مَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ مِنَ الْعَمَلِ بِقَوْلِ الْقَافَةِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْقُوَّةِ بِكَثْرَةِ الطُّرُقِ بِحَيْثُ لَا يُعَارِضُهُ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ مِنْ قِصَّةِ شُرَيْحٍ لِخَفَائِهَا وَعَدَمِ تَبَيُّنِهَا، وَإِنْ كَانَتْ قِصَّةً مُرْسَلَةً، فَإِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ عَنْ عُمَرَ مُرْسَلٌ، وَكَذَا عُرْوَةُ عَنْهُ، وَهُمَا إِمَامَانِ لَا يَرْوِيَانِ إِلَّا عَنْ قَوِيٍّ مَعَ حُجِّيَّةِ الْمُرْسَلِ عِنْدَنَا، فَكَيْفَ بِهِ مِنْ هَذَيْنِ؟ عَلَى أَنَّ قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ:" نَعَمْ "، فِي إِسْنَادِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ رُبَّمَا يَكُونُ كَالْمُوَصَّلِ بِعُمَرَ ; لِأَنَّ سَعِيدًا رَوَى عَنْ عُمَرَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا خِلَافَ فِي ثُبُوتِ هَذَا، وَإِذَا ثَبَتَ عَمَلُ عُمَرَ بِالْقِيَافَةِ لَزِمَ أَنَّ ذَلِكَ الِاحْتِمَالَ فِي سُرُورِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ هُوَ كَوْنُ الْحِقْبَةِ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِهِ ثَابِتٌ، وَالشَّافِعِيُّ لَمَّا لَمْ يَقُلْ بِنِسْبَةِ الْوَلَدِ إِلَى اثْنَيْنِ يَلْزَمُهُ اعْتِقَادُ أَنَّ فِعْلَ عُمَرَ كَانَ عَنْ رَأْيِهِ لَا بِقَوْلِ الْقَافَةِ، فَيَلْزَمُهُ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنَ اثْنَيْنِ إِذْ حَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ مَلْزُومٌ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا سُرُورُهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا إِلَّا بِرَدِّ طَعْنِهِمْ، أَوْ ثُبُوتُ نَسَبِهِ، وَبِهِ نَقُولُ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: إِنَّهُ مِنْ مَائِهِمَا كَمَا يُفْهَمُ مِنْ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، لِأَنَّ الْمَاءَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي الرَّحِمِ إِلَّا مُتَعَاقِبَيْنِ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّهُ خُلِقَ مِنَ الْأَوَّلِ لَمْ يُتَصَوَّرْ خَلْقُهُ مِنَ الثَّانِي، بَلْ إِنَّهُ يَزِيدُ الْأَوَّلَ فِي سَمْعِهِ قُوَّةً وَفِي بَصَرِهِ وَأَعْضَائِهِ، وَأَمَّا التَّعْلِيلُ بِأَنَّهُ يَنْسَدُّ فَمُ الرَّحِمِ فَقَاصِرٌ عَلَى قَوْلِنَا: إِنَّ الْحَامِلَ تَحِيضُ، فَأَمَّا مَنْ يَقُولُ [لَا] تَحِيضُ لَا يُمْكِنُهُ الْقَوْلُ بِالِانْسِدَادِ، فَيَثْبُتُ النَّسَبُ مَعَ الْحُكْمِ بِأَنَّهُ فِي نَفْيِ الْأَمْرِ مِنْ مَاءِ أَحَدِهِمَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ.
3314 -
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَأَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنهما قَالَا:«قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ) » : مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
3314 -
(وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبِي بَكْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنِ ادَّعَى) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيِ انْتَسَبَ (إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ) : أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّهُ يَعْلَمُ (أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ) : أَيْ: إِنِ اعْتَقَدَ حِلَّهُ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يُعَذَّبَ بِقَدْرِ ذَنْبِهِ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى الزَّجْرِ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى فَسَادٍ عَرِيضٍ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: فَالْجَنَّةُ حَرَامٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْهُمَا، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَنَسٍ بِلَفْظِ:( «مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوِ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ) .
3315 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَقَدْ كَفَرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَذُكِرَ حَدِيثُ عَائِشَةَ: ( «مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ» ) : فِي (بَابِ صَلَاةِ الْخُسُوفِ) .
ــ
3315 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (لَا تَرْغَبُوا) : أَيْ: لَا تُعْرِضُوا (عَنْ آبَائِكُمْ) : أَيْ: عَنِ الِانْتِمَاءِ إِلَيْهِمْ (فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ) : أَيْ: وَانْتَسَبَ إِلَى غَيْرِهِ (فَقَدْ كَفَرَ) : أَيْ قَارَبَ الْكُفْرَ، أَوْ يُخْشَى عَلَيْهِ الْكُفْرُ. فِي النِّهَايَةِ: الدِّعْوَةُ بِالْكَسْرِ فِي النَّسَبِ، وَهُوَ أَنْ يَنْتَسِبَ الْإِنْسَانُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَعَشِيرَتِهِ، وَكَانُوا يَفْعَلُونَهُ فَنُهُوا عَنْهُ، وَالِادِّعَاءُ إِلَى غَيْرِ الْأَبِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ حَرَامٌ، فَمَنِ اعْتَقَدَ إِبَاحَتَهُ كَفَرَ لِمُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ إِبَاحَتَهُ فَمَعْنَى (كَفَرَ) : وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَشْبَهَ فِعْلَهُ فِعْلَ الْكُفَّارِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَافِرٌ نِعْمَةَ الْإِسْلَامِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ عَلَى الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ، وَعَلَى الثَّانِي تَغْلِيظٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَلَفَظُ ابْنِ الْهُمَامِ: " «مَنِ ادَّعَى أَبًا فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ أَبِيهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ، فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ» ) : وَأَمَّا لَفْظُ الْكِتَابِ فَمُطَابِقٌ لِمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
(وَذُكِرَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: وَقَدْ ذُكِرَ (حَدِيثُ عَائِشَةَ: " «مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ» ) : قَالَ السُّيُوطِيُّ: بِالنَّصْبِ حِجَازِيَّةٌ، وَالرَّفْعِ تَمِيمِيَّةٌ، وَتَمَامُهُ:(أَنْ يَزْنِيَ عَبْدَهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ) . فِي (بَابِ صَلَاةِ الْخُسُوفِ) : أَيْ: ذُكِرَ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثٍ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ وَحُذِفَ هَاهُنَا لِتَكْرَارِهِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الْفَصْلُ الثَّانِي
3316 -
«عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْمُلَاعَنَةِ: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ ; فَلَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، احْتَجَبَ اللَّهُ مِنْهُ وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
3316 -
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْمُلَاعَنَةِ) : أَيْ: حِينَ نُزُولِهَا (أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ) : أَيْ: بِالِانْتِسَابِ الْبَاطِلِ (مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ) : أَيِ: الْمَرْأَةُ (مِنَ اللَّهِ) : أَيْ: مِنْ دِينِهِ أَوْ رَحْمَتِهِ (فِي شَيْءٍ) : أَيْ: شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ (وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ) قَالَ التُّورِبِشَتِيُّ: أَيْ مَعَ مَنْ يَدْخُلُهَا مِنَ الْمُحْسِنِينَ، بَلْ يُؤَخِّرُهَا أَوْ يُعَذِّبُهَا مَا شَاءَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ كَافِرَةً فَيَجِبُ عَلَيْهَا الْخُلُودُ. (وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ) : أَيْ: أَنْكَرَهُ وَنَفَاهُ (وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ) : أَيِ: الْوَلَدُ (وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ) : أَيْ: إِلَى الرَّجُلِ، فَفِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى قِلَّةِ شَفَقَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَكَثْرَةِ قَسَاوَةِ قَلْبِهِ وَغِلْظَتِهِ، أَوْ وَالْحَالُ أَنَّ الرَّجُلَ يَنْظُرُ إِلَى وَلَدِهِ، وَهُوَ أَظْهَرُ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ التُّورِبِشَتِيِّ: وَذِكْرُ النَّظَرِ تَحْقِيقٌ لِسُوءِ صَنِيعِهِ، وَتَعْظِيمٌ لِلذَّنْبِ الَّذِي ارْتَكَبَهُ حَيْثُ لَمْ يَرْضَ بِالْفُرْقَةِ حَتَّى أَمَاطَ جِلْبَابَ الْحَيَاءِ عَنْ وَجْهِهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ قَوْلَهُ: (وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ) : تَتْمِيمٌ لِلْمَعْنَى وَمُبَالَغَةٌ فِيهِ اهـ. قِيلَ: مَعْنَى (وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ) : أَيْ: وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ وَلَدُهُ فَيَكُونُ قَيْدًا احْتِرَازِيًّا (احْتَجَبَ اللَّهُ مِنْهُ) : أَيْ: حَجَبَهُ وَأَبْعَدَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26]، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الِاحْتِجَابِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْأَلْبَابِ. (وَفَضَحَهُ) : أَيْ: أَخْزَاهُ (عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ) : أَيْ: عِنْدَهُمْ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَشْهِيرِهِ (فِي الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ) : أَيْ: فِي جَمْعِهِمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِفَضْحِهِ، وَعَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مُؤَكِّدَةً مِنَ الْخَلَائِقِ أَيْ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) . وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ:" يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".
3317 -
«وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ لِي امْرَأَةً لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " طَلِّقْهَا ": قَالَ: إِنِّي أُحِبُّهَا. قَالَ: " فَأَمْسِكْهَا إِذَنْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: رَفَعَهُ أَحَدُ الرُّوَاةِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَحَدُهُمْ لَمْ يَرْفَعْهُ. وَقَالَ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِثَابِتٍ.
ــ
3317 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ لِيَ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِهَا (امْرَأَةً) : بِالنَّصْبِ عَلَى اسْمِ إِنَّ (لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ) . أَيْ: لَا تَمْنَعُ نَفْسَهَا عَمَّنْ يَقْصِدُهَا بِفَاحِشَةٍ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (طَلِّقْهَا) : قَالَ: إِنِّي أُحِبُّهَا. قَالَ: (فَأَمْسَكْهَا إِذَنْ) : أَيْ: فَاحْفَظْهَا لِئَلَّا تَفْعَلَ فَاحِشَةً، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنْ تُطِيقَ مِثْلَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَدَّمَ الطَّلَاقَ عَلَى الْإِمْسَاكِ، فَلَوْ لَمْ يَتَيَسَّرْ تَطْلِيقُهَا بِأَنْ يَكُونَ يُحِبُّهَا، أَوْ يَكُونَ لَهُ مِنْهَا وُلِدٌ يَشُقُّ مُفَارَقَةُ الْوَلَدِ الْأُمَّ، أَوْ يَكُونَ لَهَا عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ قَضَاؤُهُ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ لَا يُطْلِّقَهَا، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَمْنَعَهَا عَنِ الْفَاحِشَةِ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْنَعَهَا عَنِ الْفَاحِشَةِ يَعْصِي بِتَرْكِ تَطْلِيقِهَا. قَالَ مِيرَكُ نَاقِلًا عَنِ التَّصْحِيحِ لِلْجَزَرِيِّ: اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ، فَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ مِنَ الْفُجُورِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا مُطَاوِعَةٌ لِمَنْ أَرَادَهَا، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ، فَقَالَ بَابُ تَزَوُّجِ الزَّانِيَةِ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: تُعْطَى مِنْ مَالِهِ، يَعْنِي
أَنَّهَا سَفِيهَةٌ لَا تَرُدُّ مَنْ أَرَادَ الْأَخْذَ مِنْهُ، وَهَذَا أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنَّهَا زَانِيَةً لَكَانَ قَذْفًا، وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيُقِرَّهُ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيَأْخُذَ فِي إِمْسَاكِهَا. وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: مَعْنَاهُ أَنَّهَا مُطَاوَعَةٌ لِمَنْ أَرَادَهَا لَا تُرَدُّ يَدُهُ، قَالَ التُّورِبِشَتِيُّ: هَذَا وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ يَقْتَضِيهِ احْتِمَالًا فَإِنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (فَامْسِكْهَا إِذَنْ) : يَأْبَاهُ، وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي إِمْسَاكِ مَنْ لَا تَمَاسُكَ لَهَا عَنِ الْفَاحِشَةِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ، وَإِنَّمَا الْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ الرَّجُلَ شَكَا إِلَيْهِ خُرْقَهَا وَتَهَاوُنَهَا بِحِفْظِ مَا فِي الْبَيْتِ، وَالتَّسَارُعَ إِلَى بَذْلِ ذَلِكَ لِمَنْ أَرَادَهُ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا التَّوْجِيهُ ضَعِيفٌ ; لِأَنَّ إِمْسَاكَ الْفَاجِرَةِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، حَتَّى لَا يُؤْذَنَ فِيهِ سِيَّمَا إِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُولَعًا بِهَا فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَصْطَبِرَ عَنْهَا لَوْ طَلَّقَهَا، فَيَقَعُ هُوَ أَيْضًا فِي الْفُجُورِ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّبَهَا وَيَجْتَهِدَ فِي حِفْظِهَا. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْفَاجِرَةِ وَإِنْ كَانَ الِاخْتِيَارُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: رَفَعَهُ أَحَدُ الرُّوَاةِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَحَدُهُمْ لَمْ يَرْفَعْهُ وَقَالَ) : أَيِ: النَّسَائِيُّ (وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِثَابِتٍ) : أَيْ: وَصْلُهُ.
قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَسَكَتَ عَلَيْهِ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: وَرِجَالُ إِسْنَادِهِ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَلَى الِاتِّفَاقِ وَالِانْفِرَادِ، اهـ. وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُسْنَدِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ هَارُونَ بْنِ رِئَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَاقَهُ بِلَفْظِهِ مُرْسَلًا. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُسْنَدًا وَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِثَابِتٍ، اهـ كَلَامُ الشَّيْخِ. وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ وَصْلَ هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ بِثَابِتٍ، وَالْمُرْسَلَ أَصَحُّ، لِأَنَّ أَصْلَ الْحَدِيثِ لَيْسَ بِثَابِتٍ، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، تَأَمَّلْ. ذَكَرَهُ مِيرَكُ.
3318 -
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ كُلَّ مُسْتَلْحَقٍ اسْتُلْحِقَ بَعْدَ أَبِيهِ الَّذِي يُدْعَى لَهُ ادَّعَاهُ وَرَثَتُهُ فَقَضَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَمَةٍ يَمْلِكُهَا يَوْمَ أَصَابَهَا فَقَدْ لَحِقَ بِمَنِ اسْتَلْحَقَهُ، وَلَيْسَ لَهُ مِمَّا قُسِمَ قَبْلَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ، وَمَا أَدْرَكَ مِنْ مِيرَاثٍ لَمْ يُقْسَمْ فَلَهُ نَصِيبُهُ، وَلَا يَلْحَقُ إِذَا كَانَ أَبُوهُ الَّذِي يُدْعَى لَهُ أَنْكَرَهُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَمَةٍ لَمْ يَمْلِكْهَا أَوْ حُرَّةٍ عَاهَرَ بِهَا فَإِنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِ وَلَا يَرِثُ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي يُدْعَى لَهُ هُوَ الَّذِي ادَّعَاهُ فَهُوَ وَلَدُ زِنْيَةٍ مِنْ حُرَّةٍ كَانَ أَوْ أَمَةٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
3318 -
(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى) : أَيْ: أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ (أَنَّ كُلَّ مُسْتَلْحَقٍ) : هُوَ بِفَتْحِ الْحَاءِ الَّذِي طَلَبَ الْوَرَثَةَ أَنْ يُلْحِقُوهُ بِهِمْ، وَاسْتَلْحَقَهُ أَيْ أَدَّ، وَقَوْلُهُ:(اسْتُلْحِقَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ صِفَةً لِقَوْلِهِ مُسْتَلْحَقٌ (بَعْدَ أَبِيهِ) : أَيْ: بَعْدَ مَوْتِ أَبِي الْمُسْتَلْحَقِ (الَّذِي يُدْعَى) : بِالتَّخْفِيفِ أَيِ الْمُسْتَلْحَقُ (لَهُ) : أَيْ: لِأَبِيهِ يَعْنِي يَنْسُبُهُ إِلَيْهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِ تِلْكَ الْأَمَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ أَبُوهُ حَتَّى مَاتَ. قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَوْلُهُ: (ادَّعَاهُ وَرَثَتُهُ) : خَبَرُ إِنَّ وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: (فَقَضَى) : تَفْصِيلِيَّةٌ أَيْ: أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقْضِيَ فَقَضَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] قِيلَ: قَوْلُهُ (ادَّعَاهُ) : صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِمُسْتَلْحَقٍ، وَخَبَرُ أَنَّ مَحْذُوفٌ أَيْ (مَنْ كَانَ) : دَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ أَعْنِي قَوْلَهُ: فَقَضَى (أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَمَةٍ) : أَيْ: كُلُّ وَلَدٍ حَصَلَ مِنْ جَارِيَةٍ (يَمْلِكُهَا) : أَيْ: سَيُّدُهَا (يَوْمَ أَصَابَهَا) : أَيْ: فِي وَقْتِ جِمَاعِهَا (فَقَدْ لَحِقَ بِمَنِ اسْتَلْحَقَهُ) : يَعْنِي: إِنْ لَمْ يُنْكِرْ نَسَبَهُ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَلَيْسَ لَهُ) : أَيْ: لِلْوَلَدِ (مِمَّا قُسِمَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ (قَبْلَهُ) : أَيْ: قَبْلَ الِاسْتِلْحَاقِ (مِنَ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ) : ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْمِيرَاثَ وَقَعَتْ قِسْمَتُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْإِسْلَامُ يَعْفُو عَمَّا وَقَعَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ (وَمَا أَدْرَكَ) : أَيِ: الْوَلَدُ (مِنْ مِيرَاثٍ لَمْ يُقْسَمْ فَلَهُ نَصِيبُهُ) : أَيْ: فَلِلْوَلَدِ حِصَّتُهُ (وَلَا يَلْحَقُ) : بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمِّهِ أَيْ: لَا يَلْحَقُ الْوَلَدُ (إِذَا كَانَ أَبُوهُ الَّذِي يُدْعَى لَهُ) : أَيْ: يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ (أَنْكَرَهُ) : أَيْ: أَبُوهُ ; لِأَنَّ الْوَلَدَ انْتَفَى عَنْهُ بِإِنْكَارِهِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا ادَّعَى الِاسْتِبْرَاءَ بِأَنْ يَقُولَ: مَضَى عَلَيْهَا حَيْضٌ بَعْدَمَا أَصَابَهَا، وَمَا وَطِئَ بَعْدَ مُضِيِّ الْحَيْضِ حَتَّى وَلَدَتْ
وَحَلَفَ عَلَى الِاسْتِبْرَاءِ، فَحِينَئِذٍ يَنْتَفِي عَنْهُ الْوَلَدُ، (فَإِنْ كَانَ) : أَيِ: الْوَلَدُ (مِنْ أَمَةٍ لَمْ يَمْلِكْهَا أَوْ حُرَّةٍ عَاهَرَ بِهَا) : أَيْ: زَنَى بِهَا (فَإِنَّهُ) : أَيِ: الْوَلَدُ (لَا يَلْحَقُ) : بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ أَوِ الْمَجْهُولِ (وَلَا يَرِثُ) : أَيْ: وَلَا يَأْخُذُ الْإِرْثَ (وَإِنْ كَانَ الَّذِي يُدْعَى لَهُ) : وَصْلِيَّةٌ تَأْكِيدٌ وَمُبَالَغَةٌ لِمَا قَبْلَهُ (هُوَ ادَّعَاهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: (هُوَ الَّذِي ادَّعَاهُ) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيِ انْتَسَبَهُ (فَهُوَ وَلَدُ زِنْيَةٍ) : بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ (مِنْ حُرَّةٍ كَانَ) : أَيِ: الْوَلَدُ (أَوْ أَمَةٍ) . أَيْ مِنْ جَارِيَةٍ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذِهِ أَحْكَامٌ قَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ وَمَبَادِئِ الشَّرْعِ، وَهِيَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَاتَ وَاسْتَلْحَقَ لَهُ وَرَثَتُهُ وَلَدًا، فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ الَّذِي يُدْعَى الْوَلَدُ لَهُ وَرَثَتُهُ قَدْ أَنْكَرَ أَنَّهُ مِنْهُ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ وَلَمْ يَرِثْ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَنْكَرَهُ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَمَتِهِ لَحِقَهُ وَوَرِثَ مِنْهُ مَا لَمْ يُقْسَمْ بَعْدُ مِنْ مَالِهِ وَلَمْ يَرِثْ مَا قُسِمَ قَبْلَ الِاسْتِلْحَاقِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمَةِ غَيْرِهِ كَابْنِ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ أَوْ مِنْ حُرَّةٍ زَنَى بِهَا لَا يُلْحَقُ بِهِ وَلَا يَرِثُ، بَلْ لَوِ اسْتَلْحَقَهُ الْوَاطِئُ لَمْ يُلْحَقْ بِهِ ; فَإِنَّ الزِّنَى لَا يُثْبِتُ النَّسَبَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ إِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ زَوْجَةٌ أَوْ مَمْلُوكَةٌ صَارَتْ فِرَاشًا لَهُ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِمُدَّةِ الْإِمْكَانِ لَحِقَهُ وَصَارَ وَلَدًا لَهُ يَجْرِي بَيْنَهُمَا التَّوَارُثُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَحْكَامِ الْوِلَادَةِ، سَوَاءٌ كَانَ مُوَافِقًا لَهُ فِي الشَّبَهِ أَوْ مُخَالِفًا لَهُ، نَقَلَهُ السُّيُوطِيُّ رحمه الله. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
3319 -
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ رضي الله عنه «أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مِنَ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ، وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللَّهُ ; فَأَمَّا الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ، وَأَمَّا الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ، وَإِنَّ مِنَ الْخُيَلَاءِ مَا يُبْغِضُ اللَّهُ، وَمِنْهَا مَا يُحِبُّ اللَّهُ ; فَأَمَّا الْخُيَلَاءُ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ عِنْدَ الْقِتَالِ، وَاخْتِيَالُهُ عِنْدَ الصَّدَقَةِ، وَأَمَّا الَّتِي يُبْغِضُ اللَّهُ فَاخْتِيَالُهُ فِي الْفَخْرِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: " فِي الْبَغْيِ ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
ــ
3319 -
(وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ بَعْدَهَا تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: كُنْيَتُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، شَهِدَ بَدْرًا وَجَمِيعَ الْمَشَاهِدِ بَعْدَهَا. (أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ: " مِنَ الْغَيْرَةِ ": بِفَتْحِ أَوَّلِهِ، أَيْ عَلَى أَهْلِهِ (مَا يُحِبُّ اللَّهُ) . أَيْ: يَرْضَاهُ وَيَسْتَحْسِنُهُ (وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللَّهُ) : أَيْ: يَكْرَهُهُ وَيَسْتَقْبِحُهُ (فَأَمَّا الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ) : تَفْصِيلٌ عَلَى طَرِيقِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ (فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ) : بِالْكَسْرِ أَيْ فِي مَوْضِعِ التُّهْمَةِ، وَالشَّكُّ مَا تَتَرَدَّدُ فِيهِ النَّفْسُ كَمَظْهَرِ فَائِدَةِ الْغَيْرَةِ وَهِيَ الرَّهْبَةُ وَالِانْزِجَارُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي مَوْقِعِهَا فَتُورِثُ الْبُغْضَ وَالشَّنَآنَ وَالْفِتَنَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:(وَأَمَّا الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ) : وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ، بِأَنْ يَقَعَ فِي خَاطِرِهِ ظَنُّ سُوءٍ مِنْ غَيْرِ أَمَارَةٍ كَخُرُوجٍ مِنْ بَابٍ، أَوْ ظُهُورٍ مِنْ شُبَّاكٍ، أَوْ تَكَشُّفٍ عَلَى أَجْنَبِيٍّ، أَوْ مُكَالَمَةٍ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ (كَانَ مِنَ الْخُيَلَاءِ) : بِضَمٍّ فَفَتْحٍ فِي النِّهَايَةِ: الْخُيَلَاءُ بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ الْكِبْرُ وَالْعُجْبُ (مَا يُبْغِضُ اللَّهُ، وَمِنْهَا مَا يُحِبُّ اللَّهُ) : فِي تَقْدِيمِ الْمَبْغُوضِ هَاهُنَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ وَالْغَالِبَ فِي الْخُيَلَاءِ أَنَّهُ مَبْغُوضٌ وَفِي الْغَيْرَةِ عَكْسُهُ، (فَأَمَّا الْخُيَلَاءُ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ) : تَفْصِيلٌ عَلَى طَرِيقِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُشَوَّشِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106] . (فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ عِنْدَ الْقِتَالِ) : أَيِ: الْمُقَاتَلَةِ مَعَ أَعْدَاءِ اللَّهِ بِأَنْ يَتَقَدَّمَ فِيهَا بِنَشَاطٍ وَجَرَاءَةٍ وَإِظْهَارِ شَجَاعَةٍ وَقُوَّةٍ وَتَبَخْتُرٍ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَاسْتِهَانَةٍ بِالْعَدُوِّ وَجَلَادَةٍ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم:( «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ» ) : (وَاخْتِيَالُهُ عِنْدَ الصَّدَقَةِ) : بِأَنْ تَهُزَّهُ الْأَرْيَحِيَّةُ وَالسَّخَاءُ فَيُعْطِيَهَا طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ فَلَا يَسْتَكْثِرُ كَثِيرًا، وَلَا يُعْطِي مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا وَهُوَ يَعُدُّهُ قَلِيلًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِأَنْ يَقُولَ مَعَ نَفْسِهِ إِنْ أُعْطِ صَدَقَةً كَثِيرَةً إِنِّي غَنِيٌّ وَلِي صِلَةٌ وَتَوَكُّلٌ عَلَى اللَّهِ، فَالتَّكَبُّرُ عِنْدَ الْمُجَاهِدَتَيْنِ مُجَاهَدَةِ الْبَدَنِ وَمُجَاهَدَةِ الْمَالِ مَحْمُودٌ. (وَأَمَّا الَّتِي يُبْغِضُ اللَّهُ، فَاخْتِيَالُهُ) : أَيِ: الرَّجُلِ (فِي الْفَخْرِ) : أَيِ: الْفَخْرِ فِي النَّسَبِ بِأَنْ يَقُولَ: أَنَا أَشْرَفُ وَأَكْرَمُ أَبًا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى جل جلاله {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وَقَالَ تَعَالَى سُبْحَانَهُ: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58] أَيْ: بِالْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ، وَفِي نُسْخَةٍ:(فِي الْفَقْرِ) : أَيْ: تَكَبُّرُهُ فِي حَالِ فَقْرِهِ، فَإِنَّهُ أَقْبَحُ مِنْهُ فِي حَالِ غِنَاهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَذْمُومًا إِذَا كَانَ تَكَبُّرُهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ، أَمَّا إِذَا كَانَ تَكَبُّرُهُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، فَهُوَ مَحْمُودٌ إِذِ التَّكَبُّرُ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ صَدَقَةٌ. (وَفِي رِوَايَةٍ: " فِي الْبَغْيِ) . أَيْ فِي الظُّلْمِ، وَقِيلَ: فِي الْحَسَدِ، وَالْمُرَادُ بِغَيْرِ الْحَقِّ الِاسْتِحْقَاقُ، وَأَنْوَاعُهُ كَثِيرَةٌ. (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
3320 -
عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ:«قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ فَلَانًا ابْنِي؟ عَاهَرْتُ بِأُمِّهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا دِعْوَةَ فِي الْإِسْلَامِ، ذَهَبَ أَمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
3320 -
(عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَامَ رَجُلٌ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ فَلَانًا ابْنِي) : خَبَرُ إِنَّ وَقَوْلُهُ (عَاهَرْتُ) : أَيْ: زَنَيْتُ (بِأُمَّهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) . مُسْتَأْنَفٌ لِإِثْبَاتِ الدِّعْوَةِ (فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا دِعْوَةَ) : بِكَسْرِ الدَّالِ أَيْ لَا دَعْوَى نَسَبٍ (فِي الْإِسْلَامِ ذَهَبَ أَمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ) : أَيْ: تَبَعٌ لِلْمَرْأَةِ (وَلِلْعَاهِرِ) : أَيْ: لِلزَّانِي (الْحَجَرُ) : أَيِ: الرَّجْمُ أَوِ الْحِرْمَانُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَتَقَدَّمُ أَنَّ قَوْلَهُ (الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ) : إِلَخْ أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ وَالْأَرْبَعَةُ مِنْ طُرُقٍ.
3321 -
وَعَنْهُ، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَرْبَعٌ مِنَ النِّسَاءِ لَا مُلَاعَنَةَ بَيْنَهُنَّ: النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْيَهُودِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْحُرَّةُ تَحْتَ الْمَمْلُوكِ، وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الْحُرِّ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
ــ
3321 -
(وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " أَرْبَعٌ مِنَ النِّسَاءِ لَا مُلَاعَنَةَ بَيْنَهُنَّ) : أَيْ: وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ كَمَا فِي نُسْخَةِ عَفِيفٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَلَابُدَّ مِنْ هَذَا التَّقْدِيرِ لِأَنَّ قَوْلَهُ (النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْيَهُودِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْحُرَّةُ تَحْتَ الْمَمْلُوكِ، وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الْحَرِّ) . تَفْصِيلٌ لَهُ فَفِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ: فَإِنْ كَانَ - أَيِ الزَّوْجُ الْقَاذِفُ - عَبْدًا أَوْ كَافِرًا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ، حُدَّ أَيْ: وَلَا لِعَانَ، وَإِنْ صَلَحَ هُوَ شَاهِدًا وَهِيَ أَمَةٌ أَوْ كَافِرَةٌ أَوْ مَحْدُودَةٌ فِي قَذْفٍ أَوْ صَبِيَّةٌ أَوْ مَجْنُونَةٌ أَوْ زَانِيَةٌ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا لِعَانَ (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) . أَيْ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَطَاءٍ أَبِيهِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مِنْ قَوْلِهِ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ. ثُمَّ أَخْرَجَهُ كَذَلِكَ مَوْقُوفًا، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ مَطَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَضَعَّفَ رُوَاتَهُ، وَأَنْتَ عَلِمْتَ أَنَّ الضَّعِيفَ إِذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ كَانَتْ حُجَّةً وَهَذَا كَذَلِكَ، خُصُوصًا وَقَدِ اعْتَضَدَ بِرِوَايَةِ الْإِمَامَيْنِ إِيَّاهُ مَوْقُوفًا عَلَى جَدِّ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ.
3322 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ رَجُلًا حِينَ أَمَرَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يَتَلَاعَنَا أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ عَلَى فِيهِ وَقَالَ: " إِنَّهَا مُوجِبَةٌ» . رَوَاهُ النَّسَائِيُّ.
ــ
3322 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ رَجُلًا حِينَ أَمَرَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ) : أَيِ: الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ اللَّذَيْنِ يُرِيدَانِ التَّلَاعُنَ (أَنْ يَتَلَاعَنَا) : مُتَعَلِّقٌ بِـ " أَمَرَ " الثَّانِي (أَنْ يَضَعَ يَدَهُ) : مُتَعَلِّقٌ بِـ " أَمَرَ " الْأَوَّلِ (عِنْدَ الْخَامِسَةِ) : أَيْ: مِنَ الشَّهَادَاتِ (عَلَى فِيهِ) : أَيْ فِي الرَّجُلِ أَيْ فَمِهِ (وَقَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (إِنَّهَا) : أَيِ: الْخَامِسَةَ (مُوجِبَةٌ) . بِالْكَسْرِ أَيْ مُثْبِتَةٌ لِلْحُكْمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَلْقِينٌ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ وَضْعِ يَدِهِ عَلَى فِيهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ ضَمِيرُ " قَالَ " إِلَيْهِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ بِتَقْدِيرِ قَدْ. (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ) .
3323 -
ــ
3323 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلًا، أَيْ سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ (قَالَتْ: فَغِرْتُ عَلَيْهِ) : بِكَسْرٍ أَيْ فَجَاءَتْنِي الْغَيْرَةُ عَلَى خُرُوجِهِ مِنْ عِنْدِي فَاضْطَرَبَ أَفْعَالِي وَتَغَيَّرَ أَحْوَالِي (فَجَاءَ فَرَأَى مَا أَصْنَعُ فَقَالَ: " مَا لَكِ يَا عَائِشَةُ! أَغِرْتِ؟ " فَقُلْتُ: وَمَا لِي لَا يَغَارُ مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ؟) : أَيْ: كَيْفَ لَا يَغَارُ