الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ (فَقَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (بِمَ أَهْلَلْتَ؟ قَالَ) أَيْ: عَلِيٌّ رضي الله عنه (بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَهْدِ) أَيْ: فِي وَقْتِ الْهَدْيِ دَمَ الْقِرَانِ (وَامْكُثْ) أَيِ: الْآنَ (حَرَامًا) أَيْ: مُحْرِمًا (قَالَ) أَيْ: جَابِرٌ (وَأَهْدَى) أَيْ: أَتَى بِالْهَدْيِ (لَهُ عَلِيٌّ هَدْيًا) أَيْ: مِنَ الْيَمَنِ كَمَا سَبَقَ، أَوْ ذَبَحَ لِنَفْسِهِ هَدْيًا فِي نُسُكِهِ (فَقَالَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلِعَامِنَا هَذَا) أَيْ: جَوَازُ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، أَوْ جَوَازُ فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ مُخْتَصٌّ بِهَذِهِ السَّنَةِ (أَمْ لِأَبَدٍ؟ قَالَ: لِأَبَدٍ) ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَالثَّانِي قَوْلُ أَحْمَدَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
2560 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَرْبَعٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، أَوْ خَمْسٍ، فَدَخَلَ عَلَيَّ وَهُوَ غَضْبَانُ، فَقُلْتُ: مَنْ أَغْضَبَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ، قَالَ: أَوَمَا شَعَرْتِ أَنِّي أَمَرْتُ النَّاسَ بِأَمْرٍ، فَإِذَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ، وَلَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ مَعِي حَتَّى أَشْتَرِيَهُ، ثُمَّ أَحِلَّ كَمَا حَلُّوا» . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
ــ
2560 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَرْبَعٍ) أَيْ: لَيَالٍ (مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ خَمْسٍ) شَكٌّ مِنْهَا، أَوْ مِنَ الرَّاوِي عَنْهَا (فَدَخَلَ عَلَيَّ وَهُوَ غَضْبَانُ) أَيْ: مَلْآنُ مِنَ الْغَضَبِ حِينَ تَأَخَّرَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ لِإِحْدَى الْعِلَلِ الْمُشْتَهِرَةِ (فَقُلْتُ: مَنْ أَغْضَبَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ) دُعَاءٌ، أَوْ إِخْبَارٌ (قَالَ: أَوَ مَا شَعَرْتِ) أَيْ: أَوَ مَا عَلِمْتِ (أَنِّي أَمَرْتُ النَّاسَ) أَيْ: بَعْضَهُمْ (بِأَمْرٍ)، وَهُوَ فَسْخُ الْحَجِّ (فَإِذَا هُمْ) أَيْ: بَعْضُهُمْ (يَتَرَدَّدُونَ) أَيْ: فِي طَاعَةِ الْأَمْرِ وَمُسَارَعَتِهِ، أَوْ فِي أَنَّ هَذِهِ الْإِطَاعَةَ هَلْ هِيَ نُقْصَانٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَجِّهِمْ ( «وَلَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ مَعِي حَتَّى أَشْتَرِيَهُ» ) أَيِ: الْهَدْيَ بِمَكَّةَ، أَوْ فِي الطَّرِيقِ (ثُمَّ أَحِلَّ) أَيْ: بِالْفَسْخِ (كَمَا حَلُّوا، رَوَاهُ مُسْلِمٌ) رحمه الله تَعَالَى -.
[بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ وَالطَّوَافِ]
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
2561 -
عَنْ نَافِعٍ، قَالَ:«إِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَقْدَمُ مَكَّةَ إِلَّا بَاتَ بِذِي طُوًى حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَغْتَسِلَ وَيُصَلِّيَ، فَيَدْخُلَ مَكَّةَ نَهَارًا، وَإِذَا نَفَرَ مِنْهَا مَرَّ بِذِي طُوًى، وَبَاتَ بِهَا حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
ــ
(3)
بَابٌ: دُخُولُ مَكَّةَ أَيْ: آدَابُ دُخُولِهَا (وَالطَّوَافُ) عَطْفٌ عَلَى الْمُضَافِ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
2561 -
(عَنْ نَافِعٍ) أَيْ: مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ (قَالَ: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَقْدَمُ مَكَّةَ) بِفَتْحِ الدَّالِ أَيْ: لَا يَجِيئُهَا (إِلَّا بَاتَ) أَيْ: نَزَلَ فِي اللَّيْلِ (بِذِي طُوًى) بِفَتْحِ الطَّاءِ، وَضَمِّهَا، وَكَسْرِهَا، وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ، وَأَشْهَرُ، ثُمَّ الضَّمُّ أَكْثَرُ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْقُرَّاءِ، وَيُصْرَفُ، وَلَا يُصْرَفُ، مَوْضِعٌ بِمَكَّةَ دَاخِلَ الْحَرَمِ، وَقِيلَ: اسْمُ بِئْرٍ عِنْدَ مَكَّةَ فِي طَرِيقِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ (حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَغْتَسِلَ، وَيُصَلِّيَ، فَيَدْخُلَ مَكَّةَ نَهَارًا)، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله : فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَدْخُلَهَا نَهَارًا لِيَرَى الْبَيْتَ مِنَ الْبُعْدِ اهـ.
وَقِيلَ: لِيَسْلَمَ عَنِ الْحَرَامِيَّةِ بِمَكَّةَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ يَنْزِلُ لِلِاسْتِرَاحَةِ، وَلِلِاغْتِسَالِ، وَالنَّظَافَةِ (وَإِذَا نَفَرَ) أَيْ: خَرَجَ (مِنْهَا) أَيْ: مِنْ مَكَّةَ (مَرَّ بِذِي طُوًى وَبَاتَ بِهَا حَتَّى يُصْبِحَ) ، انْتِظَارًا لِأَصْحَابِهِ، وَاهْتِمَامًا لِجَمْعِ أَسْبَابِهِ (وَيَذْكُرُ) عَطْفٌ عَلَى " لَا يَقْدَمُ " أَيْ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَذْكُرُ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ) أَيْ: مَا ذَكَرَ فِي وَقْتَيِ الْوُلُوجِ وَالْخُرُوجِ، وَمَا أَحْسَنَ مَنْ قَالَ مِنْ أَرْبَابِ الْحَالِ:
وَسَنَا بَرْقٍ نَفَى عَنِّي الْكَرَى لَمْ يَزَلْ يَلْمَعُ بِي مِنْ ذِي طَوَى مَنْزِلٌ سَلْمَى بِهِ نَازِلَةٌ طَيِّبُ السَّاحَةِ مَعْمُورُ الْفَنَا فِي " النِّهَايَةِ ": لَا يَضُرُّهُ لَيْلًا دَخَلَهَا أَوْ نَهَارًا، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله: لَمَّا رَوَى النَّسَائِيُّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام دَخَلَهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، دَخَلَهَا فِي حَجِّهِ نَهَارًا، وَلَيْلًا فِي عُمْرَتِهِ، وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى عَنِ الدُّخُولِ لَيْلًا، فَلَيْسَ تَقْرِيرًا لِلسُّنَّةِ، بَلْ شَفَقَةً عَلَى الْحَاجِّ مِنَ السُّرَّاقِ.
وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانُوا يَدْخُلُونَ الْحَرَمَ مُشَاةً حُفَاةً، وَيَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، وَيَقْضُونَ الْمَنَاسِكَ حُفَاةً مُشَاةً، وَعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه: أَنَّهُ كَانَ حَجَّ الْبَيْتَ سَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَضَعُونَ نِعَالَهُمْ بِالتَّنْعِيمِ، وَيَدْخُلُونَهَا حُفَاةً تَعْظِيمًا لِلْبَيْتِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2562 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «لَمَّا جَاءَ إِلَى مَكَّةَ دَخَلَهَا مِنْ أَعْلَاهَا، وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2562 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيْ: عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ مَعَهُ حِينَئِذٍ (لَمَّا جَاءَ إِلَى مَكَّةَ) أَيْ: وَصَلَ إِلَى قُرْبِهَا (دَخَلَهَا مِنْ أَعْلَاهَا) وَكَذَا دَخَلَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ مِنْهَا (وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا) أَيْ: لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْهَا، وَالْمُرَادُ بِأَعْلَاهَا ثَنِيَّةُ كَدَاءٍ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْمَدِّ وَالتَّنْوِينِ، وَعَدَمُهُ نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ عَلِمَ الْمَكَانَ، أَوِ الْبُقْعَةَ، وَهِيَ الَّتِي يَنْحَدِرُ مِنْهَا إِلَى الْمَقْبَرَةِ الْمُسَمَّاةِ عِنْدَ الْعَامَّةِ بِالْمَعْلَاةِ، وَتُسَمَّى بِالْحَجُونِ عَنِ الْخَاصَّةِ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الثَّنِيَّةِ الَّتِي قَبْلَهُ بِيَسِيرٍ، وَالثَّنِيَّةُ: الطَّرِيقُ الضَّيِّقُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَبِأَسْفَلِهَا ثَنِيَّةُ كُدًى بِضَمِّ الْكَافِ وَالْكَسْرِ، وَالتَّنْوِينِ، وَتَرْكِهِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى الْآنَ بِبَابِ الشَّبِيكَةِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يُسْتَحَبُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ دُخُولُ مَكَّةَ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا، وَالْخُرُوجُ مِنَ السُّفْلَى، سَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ الثَّنِيَّةُ عَلَى طَرِيقِ مَكَّةَ كَالْمَدَنِيِّ، أَوْ لَا كَالْيَمَنِيِّ، قِيلَ: إِنَّمَا فَعَلَ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْمُخَالَفَةَ فِي الطَّرِيقِ دَاخِلًا، أَوْ خَارِجًا لِلْفَأْلِ بِتَغَيُّرِ الْحَالِ إِلَى أَكْمَلَ مِنْهُ، كَمَا فَعَلَ فِي الْعِيدِ، وَلِيَشْهَدَ لَهُ الطَّرِيقَانِ، وَلِيَتَبَرَّكَ بِهِ أَهْلُهُمَا اهـ.
أَوْ لِمُنَاسَبَةِ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا لِلدَّاخِلِ الْمُقْبِلِ عَلَى وَجْهِ الْبَيْنِ، وَلِمُنَاسَبَةِ السُّفْلَى لِمُوَدِّعِهِ بِالذَّهَابِ إِلَى قَفَاهُ، أَوْ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ إِلَى مَكَّةَ يُنَاسِبُهُ الظُّهُورُ، وَالْإِعْلَانُ، بِخِلَافِ الْخُرُوجِ؛ لِأَنَّهُ يُلَائِمُهُ الْخَفَاءُ، وَالْكِتْمَانُ، فَإِنَّ الدُّخُولَ فِيهِ حَسَنَةٌ، وَالْخُرُوجَ مِنْهَا فِي صُورَةٍ سَيِّئَةٌ، وَلِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام كَانَ عَلَى الْعُلْيَا حِينَ قَالَ:{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] كَمَا رَوَاهُ السُّهَيْلِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ نَادَى عَلَى حَجَرِهِ الْمُسَمَّى بِالْمَقَامِ، وَعَلَى الْعُلْيَا أَيْضًا: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ بَنَى لَكُمْ بَيْتًا فَحُجُّوهُ، فَأَجَابَتْهُ النُّطَفُ فِي الْأَصْلَابِ وَالْأَرْحَامِ: لَبَّيْكَ.
وَكُلُّ مَنْ كُتِبَ لَهُ تَكْرِيرُ النُّسُكِ تَكَرَّرَتْ إِجَابَتُهُ بِقَدْرِ مَا كُتِبَ لَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَجَابَتْهُ الْأَرْوَاحُ، وَالْأَشْبَاحُ الَّتِي قَدَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَقُضِيَ أَنْ تَشْرُفَ بِزِيَارَةِ بَيْتِ اللَّهِ، وَتَسْمَعَ نِدَاءَ مَنْ نَادَاهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2563 -
وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه قَالَ: قَدْ «حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً. ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ، فَإِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ مِثْلَ ذَلِكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2563 -
(وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنها قَالَ: قَدْ حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ) أَيْ: جَدَّدَ الْوُضُوءَ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ، أَوِ الْمُرَادُ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ، وَعَلَى كُلٍّ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى كَوْنِ الطَّهَارَةِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ مَشْرُوعِيَّتَهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي صِحَّةِ الطَّوَافِ بِدُونِهَا، فَعِنْدَنَا أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا شَرْطٌ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:" «وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ» " إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ فِيهِ النُّطْقَ فَمَدْفُوعٌ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ، مَعَ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بِالشَّيْءِ لَا يَسْتَدْعِي الْمُشَارَكَةَ مَعَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، أَلَا تَرَى إِلَى جَوَازِ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ فِي الطَّوَافِ بِالْإِجْمَاعِ مَعَ عَدَمِ جَوَازِهِمَا فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يَنْظُرِ الْجُمْهُورُ إِلَى ضَعْفِ إِسْنَادِ رَفْعِهِ؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ) ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ حُجَّتِهِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ إِفَادَةٌ شَرْطِيَّةٌ (ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ) أَيْ: طَوَافَ الْعُمْرَةِ لِكَوْنِهِ قَارِنًا، أَوْ مُتَمَتِّعًا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ طَوَافَ الْقُدُومِ لِتَدَاخُلِ الْأَفْعَالِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لِلْقَارِنِ، وَهَذَا وَهْمٌ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُفْرِدِ، وَالْقَارِنِ يُسَنُّ لَهُ طَوَافُ الْقُدُومِ اتِّفَاقًا، بَلْ قَالَ مَالِكٌ: بِوُجُوبِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ طَوَافُ الرُّكْنِ حِينَئِذٍ مِنْهُمَا، إِذْ هُوَ فِي حَقِّهِمَا إِنَّمَا يَدْخُلُ وَقْتُهُ بَعْدَ الْوُقُوفِ إِجْمَاعًا، وَطَوَافُ الْقُدُومِ يَفُوتُ بِالْوُقُوفِ إِجْمَاعًا (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ) بِالتَّأْنِيثِ، وَالتَّذْكِيرِ (عُمْرَةً) أَيْ: ثُمَّ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ عُمْرَةٌ، فَإِنَّهُ اكْتَفَى بِالْعُمْرَةِ الْمَقْرُونَةِ بِالْحَجِّ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ: يَعْنِي إِفْرَادَ الْحَجَّ،
وَفِيهِ أَنَّهُ إِفْرَادُ الْحَجِّ بِدُونِ الْعُمْرَةِ بَعْدَ خِلَافِ الْأَفْضَلِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله أَيْضًا، فَكَيْفَ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَيْهِ؟ وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ مِنْهُ عُمْرَةً حَتَّى يُوَفِّيَ أَعْمَالَهَا مِنَ السَّعْيِ وَالْحَلْقِ، بَلِ اقْتَصَرَ عَلَى الطَّوَافِ، كَمَا تُفِيدُهُ رِوَايَةُ: ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ، أَيِ: الطَّوَافُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ طَوَافَهُ لَمْ يَكُنْ إِلَّا لِلْقُدُومِ، وَهُوَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا لِلْمُفْرِدِ، وَلِلْقَارِنِ أَفْعَالٌ تَتَدَاخَلُ، وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَنَا.
(ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ) أَيْ: بَعْدَهُ عليه الصلاة والسلام (فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ) بِالرَّفْعِ (بَدَأَ بِهِ) الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - مِثْلَ ذَلِكَ) بِالنَّصْبِ أَيْ: فَعَلَا مِثْلَ ذَلِكَ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ، أَيْ: فِعْلُهُمَا مِثْلُ ذَلِكَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ جَمِيعِهِمْ عُمْرَةٌ مُفْرَدَةٌ بَعْدَ حَجِّهِمْ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ: إِنَّ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها لِضَرُورَةِ رَفْضِ عُمْرَتِهَا، ثُمَّ إِتْيَانِ قَضَائِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ لِلْمَصَابِيحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: قَوْلُهُ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً، كَذَا فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ، وَمَعْنَاهُ لَمْ يَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِهِمْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ عُرْوَةَ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ نَسَقُ الْكَلَامِ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ عُرْوَةَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه إِلَى تَمَامِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ مِنْ قَوْلِ عُرْوَةَ مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ لِمَا فِي سِيَاقِ حَدِيثِ مُسْلِمٍ رحمه الله، فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَفِيهِ: ثُمَّ حَجَّ عُثْمَانُ رضي الله عنه وَرِوَايَتُهُ: أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافَ، وَبِهِ انْدَفَعَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ رحمه الله: الصَّوَابُ أَنَّ الْكُلَّ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ رضي الله عنها: إِلَّا أَنْ يَصِحَّ بِذَلِكَ نَقْلٌ مِنْ خَارِجٍ، وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ:" ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ " مَكَانَ: " ثُمَّ لَمْ يَكُنْ عُمْرَةً " وَمَعْنَاهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَحَلُّلٌ بِالطَّوَافِ مِنَ الْإِحْرَامِ، بَلْ أَقَامُوا عَلَى إِحْرَامِهِمْ حَتَّى نَحَرُوا هَدْيَهُمْ.
2564 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا طَافَ فِي الْحَجِّ، أَوِ الْعُمْرَةِ أَوَّلَ مَا يَقْدَمُ سَعَى ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ، وَمَشَى أَرْبَعَةً، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2564 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا طَافَ فِي الْحَجِّ)، وَفِي نُسْخَةٍ: بِالْحَجِّ (أَوْ بِالْعُمْرَةِ) الظَّاهِرُ أَنَّ: " أَوْ " لِلتَّنْوِيعِ لِيَسْتَقِيمَ قَوْلُهُ (كَانَ أَوَّلَ مَا يَقْدَمُ) ظَرْفُ (سَعَى) جَوَابٌ لِلشَّرْطِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفَ " طَافَ " أَيْ: رَمَلَ كَمَا فِي رِوَايَةٍ: (ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ) أَيْ: أَشْوَاطٍ، وَنَصْبُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ فِيهِ، لَا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَلَا عَلَى أَنَّهُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ كَمَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله، وَالْمُرَادُ بِالرَّمَلِ: الْخَبَبُ، وَهُوَ أَنْ يُقَارِبَ خُطَاهُ بِسُرْعَةٍ مِنْ غَيْرِ عَدْوٍ، وَلَا وَثْبٍ، وَغَلِطَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ دُونَ الْخَبَبِ،، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ الْعَدْوُ الشَّدِيدُ (وَمَشَى أَرْبَعَةً، ثُمَّ سَجَدَ) أَيْ: صَلَّى (سَجْدَتَيْنِ) أَيْ: رَكْعَتَيْنِ لِلطَّوَافِ (ثُمَّ يَطُوفُ) أَيْ: يَسْعَى (بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِيهِ، وَفِي " يَقْدَمُ " لِحِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2565 -
وَعَنْهُ قَالَ: «رَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا، وَكَانَ يَسْعَى بِبَطْنِ الْمَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2565 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما (قَالَ: رَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْحَجَرِ) أَيِ: الْأَسْوَدِ (إِلَى الْحَجَرِ) فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَرْمُلْ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ (ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا، وَمَنْ يَسْعَى) أَيْ: يُسْرِعُ، وَيَشْتَدُّ عَدْوًا (بِبَطْنِ الْمَسِيلِ) : اسْمُ مَوْضِعٍ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَجَعَلَ عَلَامَتَهُ بِالْأَمْيَالِ الْخُضْرِ (إِذَا طَافَ) أَيْ: سَعَى (بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) .
وَالسَّعْيُ: وَاجِبٌ عِنْدَنَا رُكْنٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَالْإِسْرَاعُ سُنَّةٌ اتِّفَاقًا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) ، اعْلَمْ أَنَّ رَمَلَهُ عليه الصلاة والسلام وَأَصْحَابِهِ الْكِرَامِ مِنَ الْحَجَرِ إِلَى الْحَجَرِ، وَكَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ، فَلِذَا قَدَّمُوهُ عَلَى خَبَرِ مُسْلِمٍ أَيْضًا الْوَاقِعِ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ سَنَةَ سَبْعٍ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا قَدِمُوا لِيَفْعَلُوهَا قَالَ كُفَّارُ مَكَّةَ فِيهِمْ: إِنَّ حُمَّى يَثْرِبَ
وَهَنَتْهُمْ، وَجَلَسُوا مِمَّا يَلِي الْحَجَرَ، فَأَمَرَ عليه الصلاة والسلام أَصْحَابَهُ أَنْ يَرْمُلُوا فِيمَا يَلِي الْحَجَرَ فَقَطْ، فَتَعَجَّبَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ بَقَاءِ جَلَدِهِمْ، وَقُوَّتِهِمْ، وَلِذَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ (كَأَنَّهُمُ الْغِزْلَانُ)، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رِوَايَةُ: لَمْ يَمْنَعْهُ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ، وَاسْتَمَرَّ شَرْعُهُ بِدَلِيلِ فِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام لَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، مَعَ زَوَالِ سَبَبِهِ مِنْ إِظْهَارِ الْقُوَّةِ لِلْكُفَّارِ لِيَسْتَحْضِرَ فَاعِلُهُ سَبَبَهُ، وَهُوَ ظُهُورُ الْكُفَّارِ، لَا سِيَّمَا بِذَلِكَ الْمَحَلَّ الْأَشْرَفَ، ثُمَّ انْطِفَاءَهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَيَزِيدُ شُكْرَهُ لِرَبِّهِ عَلَى إِعْزَازِ دِينِهِ، وَلِيَتَذَكَّرَ أَحْوَالَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَمَا قَاسُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّدَّةِ فِي الْخِدْمَةِ.
وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: فِيمَا الرَّمَلُ وَكَشْفُ الْمَنَاكِبِ فِي الِاضْطِبَاعِ، وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ، وَنَفَى الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا نَتْرُكُ شَيْئًا نَصْنَعُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
2566 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ:«إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَتَى الْحَجَرَ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ مَشَى عَلَى يَمِينِهِ، فَرَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2566 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَتَى الْحَجَرَ) أَيِ: الْأَسْوَدَ الْأَسْعَدَ (فَاسْتَلَمَهُ) أَيْ: لَمَسَهُ، وَقَبَّلَهُ، وَلَيْسَ فِي الْمَشَاهِيرِ السَّجْدَةُ عَلَيْهِ، وَلَا التَّثْلِيثُ لَدَيْهِ (ثُمَّ مَشَى عَلَى يَمِينِهِ) أَيْ: يَمِينِ نَفْسِهِ مِمَّا يَلِي الْبَابَ، وَقِيلَ: عَلَى يَمِينِ الْحَجَرِ، وَالْمَعْنَى يَدُورُ، وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ عَلَى يَسَارِهِ، لِيَكُونَ الْقَلْبُ الَّذِي هُوَ بَيْتُ الرَّبِّ مُحَاذِيًا لِبَيْتِ اللَّهِ فِي مَقَامِ الْقُرْبِ. (فَرَمَلَ ثَلَاثًا) أَيْ: فِي ثَلَاثِ مَرَّاتٍ مِنَ الْأَشْوَاطِ (وَمَشَى أَرْبَعًا) أَيْ: بِالسُّكُونِ وَالْهَيْنَةِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
2567 -
وَعَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ، قَالَ:«سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ، فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
2567 -
(وَعَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هَكَذَا فِي " الْكَاشِفِ " وَالْمَذْكُورُ فِي " جَامِعِ الْأُصُولِ " أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ عَدِيٍّ مِنَ التَّابِعِينَ اهـ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ: إِنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ عَدِيٍّ كُوفِيٌّ تَابِعِيٌّ، سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَرَبِيِّ تَابِعِيٌّ بَصْرِيٌّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - اهـ.
فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ " الْكَاشِفِ " وَ " الْجَامِعِ " عَلَى مَا يُوهِمُهُ نَقْلُ الطِّيبِيِّ، وَالصَّحِيحُ مَا فِي " الْكَاشِفِ " لِأَنَّهُ مَنْ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ.
(قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ عَنِ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ) أَهُوَ سُنَّةٌ؟ (فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُ) أَيْ: بِاللَّمْسِ، وَوَضْعِ الْيَدِ عَلَيْهِ (وَيُقَبِّلُهُ) . (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
2568 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «لَمْ أَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُ مِنَ الْبَيْتِ إِلَّا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2568 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمْ أَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُ مِنَ الْبَيْتِ) : أَيْ: مِنْ أَرْكَانِهِ، أَوْ مِنْ أَجْزَائِهِ (إِلَّا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ) : بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ الْأُولَى، وَيُشَدَّدُ: قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيِ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ، وَالْيَمَانِي، وَالْآخَرَانِ يُسَمَّيَانِ الشَّامِيَّيْنِ اهـ. فَفِيهِمَا تَغْلِيبٌ، وَإِنَّمَا اسْتَلَمَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُمَا بَقِيَا عَلَى بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام، وَاسْتِلَامُ الْحَجَرِ: لَمْسُهُ إِمَّا بِالْيَدِ، أَوْ بِالْقُبْلَةِ، أَوْ بِهِمَا، وَأَمَّا اسْتِلَامُ الْيَمَانِي، فَبِالْيَدِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ مَذْهَبِنَا.
قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ رحمه الله: فِي الْبَيْتِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ؛ الْأَوَّلُ: لَهُ فَضِيلَتَانِ: كَوْنُ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِيهِ، وَكَوْنُهُ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام، وَالثَّانِي: كَوْنُهُ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ فَقَطْ، وَلَيْسَ لَلْآخَرَانِ شَيْءٌ مِنْهُمَا، وَلِذَلِكَ يُقَبَّلُ الْأَوَّلُ، وَيُسْتَلَمُ الثَّانِي، وَلَا يُقَبَّلُ الْآخَرَانِ، وَلَا يُسْتَلَمَانِ، هَذَا عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ، وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ تَقْبِيلَ الرُّكْنِ الْيَمَانِي اهـ.
وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا قِيَاسًا عَلَى الرُّكْنِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2569 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «طَافَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2569 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ) : وَهَذَا فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ إِمَّا لِخُصُوصِيَّةٍ، أَوْ لِعُذْرِيَّةٍ، فَإِنَّ الْمَشْيَ فِي الطَّوَافِ عِنْدَنَا وَاجِبٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: إِنَّمَا طَافَ رَاكِبًا مَعَ أَنَّ الْمَشْيَ أَفْضَلُ، لِيَرَاهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ، وَذَلِكَ لِازْدِحَامِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ.
(يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ) : أَيْ: يُشِيرُ إِلَيْهِ بِعَصًا مُعْوَجَّةِ الرَّأْسِ كَالصَّوْلَجَانِ، وَالْمِيمُ زَائِدَةٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله: أَخْرَجَ السِّتَّةُ إِلَّا التِّرْمِذِيَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ طَافَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِمِحْجَنِهِ، لِأَنْ يَرَاهُ النَّاسُ، وَلِيُشْرِفَ، وَلِيَسْأَلُوهُ، فَإِنَّ النَّاسَ غَشُوهُ.
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ جَابِرٍ إِلَى قَوْلِهِ:" لِأَنْ يَرَاهُ النَّاسُ " وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ:«رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ، وَيُقَبِّلُ الْمِحْجَنَ» ، وَهُنَا إِشْكَالٌ حَدِيثِيٌّ، وَهُوَ أَنَّ الثَّابِتَ بِلَا شُبْهَةٍ أَنَّهُ رَمَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ الطَّوِيلُ، فَارْجِعْ إِلَيْهِ، وَهَذَا يُنَافِي طَوَافَهُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَإِنْ أُجِيبَ بِحَمْلِ حَدِيثِ الرَّاحِلَةِ عَلَى الْعُمْرَةِ دَفَعَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي مُسْلِمٍ (طَافَ عليه الصلاة والسلام فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ كَرَاهِيَةَ أَنْ يَنْصَرِفَ النَّاسُ عَنْهُ) وَمَرْجِعُ الضَّمِيرِ فِيهِ أَنَّهُ احْتَمَلَ كَوْنَهُ لِلرُّكْنِ، يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ طَافَ مَاشِيًا لَانْصَرَفَ النَّاسُ عَنِ الْحَجَرِ كُلَّمَا مَرَّ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوْقِيرًا لَهُ أَنْ يُزَاحِمَ، لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ كَوْنَ مَرْجِعِهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي لَوْ لَمْ يَرْكَبْ لَانْصَرَفَ النَّاسُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ رَامَ الْوُصُولَ إِلَيْهِ لِسُؤَالٍ، أَوْ لِرُؤْيَةٍ، أَوْ لِاقْتِدَاءٍ لَا يَقْدِرُ لِكَثْرَةِ الْخَلْقِ حَوْلَهُ، فَيَنْصَرِفُ مِنْ غَيْرِ تَحْصِيلِ حَاجَتِهِ، فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ لِمُوَافَقَةِ هَذَا الِاحْتِمَالِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فَيَحْصُلُ اجْتِمَاعُ الْحَدِيثَيْنِ دُونَ تَعَارُضِهِمَا.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ فِي الْحَجِّ لِلْآفَاقِيِّ طَوْفَةً، فَيُمْكِنُ كَوْنُ الْمَرْوِيِّ مِنْ رُكُوبِهِ كَانَ فِي طَوَافِ الْفَرْضِ يَوْمَ النَّحْرِ لِيُعَلِّمَهُمْ، وَمَشْيُهُ كَانَ طَوَافَ الْقُدُومِ، وَهُوَ الَّذِي يُفِيدُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ الطَّوِيلُ؛ لِأَنَّهُ حُكِيَ فِي طَوَافِهِ الَّذِي بَدَأَ بِهِ أَوَّلَ دُخُولِ مَكَّةَ، كَمَا يُفِيدُهُ سَوْقُهُ لِلنَّاظِرِ فِيهِ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَهَلْ يُجْمَعُ بَيْنَ مَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهُ إِنَّمَا طَافَ رَاكِبًا لِيُشْرِفَ، وَيَرَاهُ النَّاسُ، فَيَسْأَلُونَهُ، وَبَيْنَ مَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ إِنَّمَا طَافَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَشْتَكِي، كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، أَنَّهُ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مَعَ عِكْرِمَةَ، فَجَعَلَ حَمَّادٌ يَصْعَدُ الصَّفَا، وَعِكْرِمَةُ لَا يَصْعَدُهَا، فَقَالَ حَمَّادٌ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَلَا تَصْعَدُ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ؟ فَقَالَ: هَكَذَا كَانَ طَوَافُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ حَمَّادٌ رحمه الله: فَلَقِيتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنَّمَا طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَهُوَ شَاكٍ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ بِمِحْجَنٍ، فَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَمَنْ أَحَلَّ ذَلِكَ لَمْ يَصْعَدْ. اهـ.
فَالْجَوَابُ: نَعَمْ؛ بِأَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْعُمْرَةِ، فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ ثَبَتَ فِي مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّمَا سَعَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَمَلَ بِالْبَيْتِ؟ لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ، وَهَذَا لَازِمٌ أَنْ يَكُونَ فِي الْعُمْرَةِ إِذْ لَا مُشْرِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمَكَّةَ، فَالْجَوَابُ: يُحْمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى عُمْرَةٍ غَيْرِ الْأُخْرَى، وَالْمُنَاسِبُ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَوْنُهُ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ ; لِأَنَّ الْإِرَادَةَ تُفِيدُهُ، فَلْيَكُنْ ذَلِكَ الرُّكُوبُ لِلشِّكَايَةِ فِي غَيْرِهَا، وَهِيَ عُمْرَةُ الْجِعِرَّانَةِ اهـ.
وَلَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْعِلَلِ، لِرُكُوبِهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ نَقُولُ: حَمَلَ الْمُطَّلِعُ عَلَى الشِّكَايَةِ رُكُوبَهُ لِعُذْرِ الْمَرَضِ، وَغَيْرُ الْمَطَّلِعِ حَمَلَهُ عَلَى مَا رَأَى مِنْ رَأْيِهِ، وَهَذَا عِنْدِي هُوَ الْجَوَابُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ حَمَلَ رُكُوبَهُ عَلَى أَنْ لَا يَنْصَرِفَ النَّاسُ عَنِ الرُّكْنِ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْعِلَّةِ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مَانِعَةً عَنِ الْأَمْرِ الْأَفْضَلِ، فَضْلًا عَنِ الْوَاجِبِ، فَتَأَمَّلْ، وَاخْتَرْ أَحْسَنَ الْعِلَلِ لِئَلَّا تَقَعَ فِي الزَّلَلِ، وَالْخَطَلِ.
ثُمَّ رَأَيْتُ الْجَمْعَ الذَّي اخْتَارَهُ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله غَيْرَ مَنْطَبِقٍ عَلَى مَا فِي ظَاهِرِ الْحَدِيثِ الْآتِي عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ اعْتَمَرُوا مِنَ الْجِعِرَّانَةِ، فَهَلُّوا بِالْبَيْتِ، وَحَمَلَهُ عَلَى فِعْلِ الصَّحَابَةِ دُونَ فِعْلِهِ فِي غَايَةٍ مِنَ الْبُعْدِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ مِنَ الْغَرِيبِ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: طَافَ عليه الصلاة والسلام رَاكِبًا، فَلَمْ يَكُنْ يَمَسُّ بِمَا فِي يَدِهِ الْحَجَرَ، بَلْ مَا فَوْقَهُ مِنَ الرُّكْنِ الْمُحَاذِي لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ أَنَّ الرَّاكِبَ يَتَمَكَّنُ مِنْ إِشَارَةِ يَدِهِ إِلَى مُحَاذَاةِ الرُّكْنِ حَقِيقَةً، فَمَا الْحَاجَةُ إِلَى ارْتِكَابِ الْمَجَازِ فِي صَنْعَتِهِ؟ وَكَأَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ مِنْ فَوْقِ جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ، وَنَحْوِهِ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ كَمَا لَا يَخْفَى.
2570 -
وَعَنْهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَافَ بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ وَكَبَّرَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
2570 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَافَ بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ) أَيِ: الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ (أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَ لَا يُشَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الِاسْتِلَامِ، كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِنَا. (وَكَبَّرَ) أَيْ: قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ)، وَفِي الطَّبَرَانِيِّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ: كَانَ إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ قَالَ: " بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ " وَكَانَ كُلَّمَا أَتَى الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ قَالَ: " اللَّهُ أَكْبَرُ ".
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " بِلَفْظِ: " وَقُولُوا «بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ إِيمَانًا بِاللَّهِ، وَتَصْدِيقًا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم» - " وَصَحَّ عَنْ عَلَيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ:" بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ إِيمَانًا بِكَ، وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ، وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ". وَالْمُرَادُ بِالْعَهْدِ: عَهْدُ الْمِيثَاقِ.
وَفِي خَبَرِ الطَّبَرَانِيِّ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ عِنْدَ الرُّكْنِ الْيَمَانِي، وَاللَّهُ أَكْبَرُ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ فِي الرُّكْنَيْنِ.
2571 -
وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ رضي الله عنه قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ، وَيُقَبِّلُ الْمِحْجَنَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2571 -
(وَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ رضي الله عنه، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ بِالْبَيْتِ) أَيْ: رَاكِبًا (وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ) أَيْ: يُشِيرُ إِلَيْهِ (بِمِحْجَنٍ مَعَهُ، وَيُقَبِّلُ الْمِحْجَنَ) أَيْ: بَدَلَ الْحَجَرِ لِلْمَاشِي (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
2572 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا نَذْكُرُ إِلَّا الْحَجَّ، فَلَمَّا كُنَّا بِسَرِفَ طَمِثْتُ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَبْكِي، فَقَالَ: (لَعَلَّكِ نَفِسْتِ؟) قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: " فَإِنَّ ذَلِكِ شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ؟ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
ــ
2572 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا نَذْكُرُ) أَيْ: فِي تَلْبِيَتِنَا، أَوْ فِي مُحَاوَرَتِنَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَيْ: لَا تَقْصِدُ (إِلَّا الْحَجَّ) فَإِنَّهُ الْأَصْلُ الْمَطْلُوبُ، وَأَمَّا الْعُمْرَةُ، فَإِنَهَا أَمْرٌ مَنْدُوبٌ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِهَا فِي اللَّفْظِ عَدَمُ وُجُودِهَا فِي النِّيَّةِ (فَلَمَّا كُنَّا بِسَرِفَ) أَيْ: نَازِلِينَ بِهَا، أَوْ وَاصِلِينَ إِلَيْهَا، وَهُوَ بِفَتْحِ السِّينِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ مَمْنُوعًا، وَمَصْرُوفًا بِتَأْوِيلِ الْبُقْعَةِ، أَوِ الْمَكَانِ اسْمُ مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنْ مَكَّةَ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ، أَوِ اثْنَى عَشَرَ، كَذَا قِيلَ، وَالْأَخِيرَانِ لَا يَصِحَّانِ. (طَمِثْتُ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَيُكْسَرُ أَيْ: حِضْتُ (فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَبْكِي) أَيْ: ظَنًّا مِنِّي أَنَّ الْحَيْضَ يَمْنَعُ الْحَجَّ (فَقَالَ: لَعَلَّكِ نُفِسْتِ؟) بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّهَا، وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ أَيْ: حِضْتِ، وَأَمَّا الْوِلَادَةُ، فَيُقَالُ فِيهِ: نُفِسْتِ بِالضَّمِّ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله (قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: " فَإِنَّ ذَلِكِ) بِكَسْرِ الْكَافِ أَيْ: نِفَاسَكِ بِمَعْنَى حَيْضِكِ (شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ) أَيْ: قَدَّرَهُ (عَلَى بَنَاتِ آدَمَ) تَبَعًا لِأُمِّهِنَّ حَوَّاءَ لَمَّا أَكَلَتْ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَأَدْمَتْهَا، فَقَالَ - تَعَالَى - لَهَا: لَئِنْ أَدْمَتْهَا لَأُدْمِيَنَّكِ وَبَنَاتِكِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لَهَا إِذِ الْبَلِيَّةُ إِذَا عَمَّتْ طَابَتْ. ( «فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْمَفْعُولِ بِهِ، و " لَا " زَائِدَةٌ. (حَتَّى تَطْهُرِي) أَيْ: بِالِانْقِطَاعِ، وَالِاغْتِسَالِ، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ: " حَتَّى تَغْتَسِلِي ".
وَهَذَا الْحَدِيثُ بِظَاهِرِهِ يُنَافِي قَوْلَهَا السَّابِقَ: وَلَمْ أُهْلِلْ إِلَّا بِعُمْرَةٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ قَوْلُهَا: لَا نَذْكُرُ إِلَّا الْحَجَّ أَيْ: مَا كَانَ قَصْدُنَا الْأَصْلِيُّ مِنْ هَذَا السَّفَرِ إِلَّا الْحَجَّ بِأَحَدِ أَنْوَاعِهِ مِنَ الْقِرَانِ، وَالتَّمَتُّعِ، وَالْإِفْرَادِ، فَمِنَّا مَنْ أَفْرَدَ وَمِنَّا مَنْ قَرَنَ، وَمِنَّا مَنْ تَمَتَّعَ، وَأَنِّي قَصَدْتُ التَّمَتُّعَ فَاعْتَمَرْتُ، ثُمَّ لَمَّا حَصَلَ لِي عُذْرُ الْحَيْضِ، وَاسْتَمَرَّ إِلَى يَوْمِ عَرَفَةَ، وَوَقْتِ وُقُوفِ الْحَجِّ، أَمَرَنِي أَنْ أَرْفُضَهَا وَأَفْعَلَ جَمِيعَ أَفْعَالِ الْحَجِّ إِلَّا الطَّوَافَ، وَكَذَلِكَ السَّعْيُ إِذْ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ الطَّوَافِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا تَقْدِيرُ ابْنِ حَجْرٍ، " فَدَخَلَ عَلَيَّ، فَقَالَ: أَهِلِّي بِالْحَجِّ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ ثَانِيًا، وَأَنَا أَبْكِي " فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا مَرَّ " فَتَدَبَّرْ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2573 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ فِي رَهْطٍ، أَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ:( «أَلَا لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ» ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2573 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ) أَيْ: أَرْسَلَنِي (فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ: جَعَلَهُ أَمِيرَ قَافِلَةِ الْحَجِّ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ (عَلَيْهَا) مُتَعَلِّقٌ بِأَمْرِهِ أَيْ: عَلَى الْحَجَّةِ (قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ) أَيْ: بِسَنَةٍ (يَوْمَ النَّحْرِ) ظَرْفُ " بَعَثَ "(فِي رَهْطٍ) أَيْ: فِي جُمْلَةِ رَهْطٍ، أَيْ: مَعَ رَهْطٍ (أَمَرَهُ) بِالتَّخْفِيفِ (يُؤَذِّنَ) بِالتَّشْدِيدِ، وَفِي نُسْخَةٍ:(أَنْ يُؤْذِنَ) ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الرَّهْطِ، وَالْإِفْرَادُ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى الِالْتِفَاتِ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله قُلْتُ: أَوْ عَلَى التَّجْرِيدِ، أَوِ التَّقْدِيرِ، أَمَرَ أَحَدَ الرَّهْطِ أَنْ يُنَادِيَ (فِي النَّاسِ: " أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ (لَا يَحُجُّ) بِضَمِّ الْجِيمِ نَهْيٌ، أَوْ نَفْيٌ مَعْنَاهُ نَهْيٌ، وَيُفْتَحُ، وَيُكْسَرُ عَلَى أَنَّهُ نَهْيٌ، وَيُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ: لَا يَحُجَّنَّ (بَعْدَ الْعَامِ) أَيْ: بَعْدَ هَذِهِ السَّنَةِ (مُشْرِكٌ) أَيْ: كَافِرٌ، أَيْ: لِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28](وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ) أَيْ: مُطْلَقًا فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِعَامٍ دُونَ عَامٍ، لِقَوْلِهِ - تَعَالَى:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَزَلَ رَدًّا لِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ مَعَ الْعُرْيِ، يَعْنِي زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ رَبَّهُمْ فِي ثِيَابٍ أَذْنَبُوا فِيهَا، وَلِلْإِيمَاءِ إِلَى كَمَالِ التَّجْرِيدِ عَنِ الذُّنُوبِ، أَوْ تَفَاؤُلًا بِالتَّعَرِّي مِنَ الْعُيُوبِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
الْفَصْلُ الثَّانِي
2574 -
عَنِ الْمُهَاجِرِ الْمَكِّيِّ، قَالَ:«سُئِلَ جَابِرٌ عَنِ الرَّجُلِ يَرَى الْبَيْتَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ، فَقَالَ: قَدْ حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ نَكُنْ نَفْعَلُهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
2574 -
(وَعَنِ الْمُهَاجِرِ الْمَكِّيِّ) الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَابِعِيٌّ، لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ. (قَالَ: سُئِلَ جَابِرٌ عَنِ الرَّجُلِ يَرَى الْبَيْتَ) ، وَفِي نُسْخَةٍ: عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي يَرَى الْبَيْتَ (يَرْفَعُ يَدَيْهِ) أَيْ: هُوَ مَشْرُوعٌ أَمْ لَا؟ (فَقَالَ: قَدْ حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ نَكُنْ نَفْعَلُهُ) أَيْ: رَفْعَ الْيَدِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ فِي الدُّعَاءِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ رحمهم الله تَعَالَى، خِلَافًا لِأَحْمَدَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ - تَعَالَى، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ أَيْضًا، فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا أَنَّهُ يُسَنُّ إِذَا رَأَى الْبَيْتَ، أَوْ وَصَلَ لِمَحَلٍّ يَرَى مِنْهُ الْبَيْتَ، إِنْ لَمْ يَرَهُ لِعَمًى، أَوْ فِي ظُلْمَةٍ أَنْ يَقِفَ، وَيَدْعُوَ رَافِعًا يَدَيْهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ) .
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله تَعَالَى: أَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: سَمِعْتُ مِنْ عُمَرَ رضي الله عنه كَلِمَةً مَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ سَمِعَهَا غَيْرِي، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِذَا رَأَى الْبَيْتَ قَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، فَحَيِّنَا بِالسَّلَامِ.
وَأَسْنَدَ الشَّافِعِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «كَانَ إِذَا رَأَى الْبَيْتَ رَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: (اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا، وَتَعْظِيمًا، وَتَكْرِيمًا، وَمَهَابَةً، وَزِدْ مَنْ شَرَّفَهُ، وَكَرَّمَهُ مِمَّنْ حَجَّهُ، وَاعْتَمَرَهُ تَشْرِيفًا، وَتَكْرِيمًا، وَتَعْظِيمًا، وَبِرًّا) » . وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ مُرْسَلٍ مُعْضَلٍ، وَيُعَضِّدُهُ الْخَبَرُ الضَّعِيفُ بِرَفْعِ الْأَيْدِي فِي اسْتِقْبَالِ الْبَيْتِ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَهُوَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ.
وَأَمَّا خَبَرُ التِّرْمِذِيِّ، وَحَسَّنَهُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا كُنْتُ أَرَى أَحَدًا يَفْعَلُ هَذَا، أَيِ: الرَّفْعَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ إِلَّا الْيَهُودَ. قَدْ حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفَكُنَّا نَفْعَلُهُ، أَوْ لَا؟
فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ الْمُثْبِتِينَ لِلرَّفْعِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَعَهُمْ زِيَادَةُ عِلْمٍ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رحمه الله: رِوَايَةُ غَيْرِ جَابِرٍ: فِي إِثْبَاتِ الرَّفْعِ أَشْهَرُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْقَوْلُ فِي مِثْلِ هَذَا قَوْلُ مَنْ أَثْبَتَ.
أَقُولُ: الْأَوْلَى الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يُحْمَلَ الْإِثْبَاتُ عَلَى أَوَّلِ رُؤْيَةٍ، وَالنَّفْيُ عَلَى كُلِّ مَرَّةٍ.
2575 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ «أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ مَكَّةَ، فَأَقْبَلَ إِلَى الْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ أَتَى الصَّفَا، فَعَلَاهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى الْبَيْتِ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَذْكُرُ اللَّهَ مَا شَاءَ وَيَدْعُو» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
2575 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْ: تَوَجَّهَ مِنَ الْمَدِينَةِ (فَدَخَلَ مَكَّةَ) أَيْ: لِلْحَجِّ، أَوْ لِلْعُمْرَةِ (فَأَقْبَلَ إِلَى الْحَجَرِ) أَيْ: تَوَجَّهَ إِلَيْهِ، أَوْ (إِلَى) بِمَعْنَى (عَلَى) (فَاسْتَلَمَهُ) أَيْ: بِاللَّمْسِ، وَالتَّقْبِيلِ (ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ) أَيْ: سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ (ثُمَّ أَتَى الصَّفَا) أَيْ: بَعْدَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ (فَعَلَاهُ) أَيْ: صَعِدَهُ (حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى الْبَيْتِ) ، وَرَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ جَابِرٍ، فَرَقَى عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ، وَأَنَّهُ فَعَلَ فِي الْمَرْوَةِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا كَانَ فِي الصَّفَا بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الزَّمَنِ، وَأَمَّا الْآنَ، فَالْبَيْتُ يُرَى مِنْ بَابِ الصَّفَا قَبْلَ رَقْيَةٍ، لِمَا حَدَثَ مِنِ ارْتِفَاعِ الْأَرْضِ ثَمَّةَ حَتَّى انْدَفَنَ كَثِيرٌ مِنْ دَرَجِ الصَّفَا، وَقِيلَ: بِوُجُوبِ الرُّقِيِّ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الرُّقِيُّ الْآنَ فِي الْمَرْوَةِ، فَلَا يُمْكِنُ كَمَا أَنَّ رُؤْيَةَ الْبَيْتِ مِنْهَا لَا تُمْكِنُ، لَكِنْ يَصْدُرُ الْعَقْدُ الْمُشْرِفُ عَلَيْهَا دَكَّةً، فَيُسْتَحَبُّ رُقِيُّهَا عَمَلًا بِالْوَارِدِ مَا أَمْكَنَ (فَرَفَعَ يَدَيْهِ) أَيْ: لِلدُّعَاءِ عَلَى الصَّفَا لَا لِرُؤْيَةِ الْبَيْتِ لِمَا سَبَقَ، وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ الْعَوَامُّ مِنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ مَعَ التَّكْبِيرِ عَلَى هَيْئَةِ رَفْعِهِمَا فِي صَلَاةٍ، فَلَا أَصْلَ لَهُ (فَجَعَلَ يَذْكُرُ اللَّهَ مَا شَاءَ) أَيْ: مِنَ التَّكْبِيرِ، وَالتَّهْلِيلِ، وَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّوْحِيدِ (وَيَدْعُو) : أَيْ: بِمَا شَاءَ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُخْتَارِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَنْ لَا تَعْيِينَ فِي دَعَوَاتِ الْمَنَاسِكِ؛ لِأَنَّهُ يُورِثُ خُشُوعَ النَّاسِكِ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: لِأَنَّ تَوْقِيتَهَا يَذْهَبُ بِالرِّقَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَمَنْ يُكَرِّرُ مَحْفُوظَهُ، وَإِنْ تَبَرَّكَ بِالْمَأْثُورِ فَحَسَنٌ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
2576 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «الطَّوَافُ حَوْلَ الْبَيْتِ مِثْلُ الصَّلَاةِ، إِلَّا أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلَا يَتَكَلَّمَنَّ إِلَّا بِخَيْرٍ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ، وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ جَمَاعَةً وَقَفُوهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.
ــ
2576 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " الطَّوَافُ حَوْلَ الْبَيْتِ) احْتِرَازٌ مِنَ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ (مِثْلُ الصَّلَاةِ) بِالرَّفْعِ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ، وَجُوِّزَ النَّصْبُ أَيْ: نَحْوَهَا (إِلَّا أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ) أَيْ: تَعْتَادُونَ الْكَلَامَ فِيهِ، إِمَّا مُتَّصِلٌ أَيْ مِثْلُهَا فِي كُلِّ مُعْتَبَرٍ فِيهَا وَجُودًا وَعَدَمًا إِلَّا التَّكَلُّمَ يَعْنِي: وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْمُنَافِيَاتِ مِنَ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ، وَإِمَّا مُنْقَطِعٌ أَيْ: لَكِنْ رُخِّصَ لَكُمْ فِي الْكَلَامِ، وَفِي الْعُدُولِ - عَنْ قَوْلِهِ:" إِلَّا الْكَلَامَ " إِلَى مَا قَالَ - نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ لَا تَخْفَى، وَيُعْلَمُ مِنْ فِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام عَدَمُ شَرْطِيَّةِ الِاسْتِقْبَالِ، وَلَيْسَ لِأَصْلِ الطَّوَافِ وَقْتٌ مَشْرُوطٌ، وَبَقِيَ بَقِيَّةُ شُرُوطِ الصَّلَاةِ مِنَ الطَّهَارَةِ الْحُكْمِيَّةِ، وَالْحَقِيقِيِّةِ، وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، فَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، كَالصَّلَاةِ وَوَاجِبَاتٍ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مِثْلِ الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ مُشَارِكًا لَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ مِنَ الْآحَادِ، وَهُوَ ظَنِّيٌّ لَا تَثْبُتُ بِهِ الْفَرْضِيَّةُ، مَعَ الِاتِّفَاقِ أَنَّهُ يُعْفَى عَنِ النَّجَاسَةِ الَّتِي بِالْمَطَافِ إِذَا شَقَّ اجْتِنَابُهَا؛ لِأَنَّ فِي زَمَنِهِ عليه الصلاة والسلام وَزَمَنِ أَصْحَابِهِ الْكِرَامِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ نَزَلَ فِيهِ نَجَاسَةُ ذَرَقِ الطُّيُورِ وَغَيْرِهَا، وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنَ الطَّوَافِ بِهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَلَا أَمَرَ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ بِتَطْهِيرِ مَا هُنَالِكَ. (فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلَا يَتَكَلَّمَنَّ إِلَّا بِخَيْرٍ) : أَيْ: مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَإِفَادَةِ عِلْمٍ اسْتَفَادَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُشَوِّشُ عَلَى الطَّائِفِينَ، وَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِمَّا يَتَكَلَّمُ الْعَوَامُّ فِي طَوَافِهِمْ هَذِهِ الْأَيَّامَ مِنْ كَلَامِ الدُّنْيَا، بَلْ مِنْ مُوجِبَاتِ الْآثَامِ، فَالنَّهْيُ الْمُؤَكَّدُ مَحْمُولٌ عَلَى كَرَاهَةِ التَّحْرِيمِ، أَوِ التَّنْزِيهِ، وَفِي قَوْلِ:" مِثْلُ الصَّلَاةِ " تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ مِنَ الطَّوَافِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالدَّارِمِيُّ) : أَيْ: مَرْفُوعًا، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ رحمه الله، وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ فِيهِ النُّطْقَ، فَمَنْ نَطَقَ لَا يَنْطِقُ إِلَّا بِخَيْرٍ. (وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ جَمَاعَةً) : أَيْ: مِنَ الرُّوَاةِ (وَقَفُوهُ) : أَيِ: الْحَدِيثَ (عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ) : أَيْ: وَلَمْ يَرْفَعُوهُ عَنْهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ.
2577 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «نَزَلَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَهُوَ أَشَدُّ (بَيَاضًا) مِنَ اللَّبَنِ، فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ــ
2577 -
وَعَنْهُ: أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «نَزَلَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ» " جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ) أَيْ: صَارَتْ ذُنُوبُ بَنِي آدَمَ الَّذِينَ
يَمْسَحُونَ الْحَجَرَ سَبَبًا لِسَوَادِهِ، وَالْأَظْهَرُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، إِذْ لَا مَانِعَ نَقْلًا. وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ عُلَمَائِنَا: هَذَا الْحَدِيثُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَنْظِيمِ شَأْنِ الْحَجَرِ، وَتَفْظِيعِ أَمْرِ الْخَطَايَا، وَالذُّنُوبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحَجَرَ لِمَا فِيهِ مِنَ الشَّرَفِ، وَالْكَرَامَةِ، وَالْيُمْنِ، وَالْبَرَكَةِ شَارَكَ جَوَاهِرَ الْجَنَّةِ، فَكَأَنَّهُ نَزَلَ مِنْهَا، وَأَنَّ خَطَايَا بَنِي آدَمَ تَكَادُ تُؤَثِّرُ فِي الْجَمَادِ، فَتَجْعَلُ الْمُبَيَّضَ مِنْهُ أَسْوَدَ، فَكَيْفَ بِقُلُوبِهِمْ؟ أَوْ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُكَفِّرٌ لِلْخَطَايَا مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ كَأَنَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَمِنْ كَثْرَةِ تَحَمُّلِهِ أَوْزَارَ بَنِي آدَمَ صَارَ كَأَنَّهُ ذُو بَيَاضٍ شَدِيدٍ، فَسَوَّدَتْهُ الْخَطَايَا، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّهُ كَانَ فِيهِ نُقَطٌ بِيضٌ، ثُمَّ لَا زَالَ السَّوَادُ يَتَرَاكَمُ عَلَيْهَا حَتَّى عَمَّهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا أَذْنَبَ نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ أُخْرَى، وَهَكَذَا حَتَّى يَسْوَدَّ قَلْبُهُ جَمِيعُهُ، وَيَصِيرُ مِمَّنْ قَالَ فِيهِمْ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] » . وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَجَرَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ الْبَيْضَاءِ فِي غَايَةٍ مِنَ الصَّفَاءِ، وَيَتَغَيَّرُ بِمُلَاقَاةِ مَا لَا يُنَاسِبُهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ حَتَّى يَسْوَدَّ لَهَا جَمِيعُ الْأَجْزَاءِ، وَفَى الْجُمْلَةِ الصُّحْبَةُ لَهَا تَأْثِيرٌ بِإِجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) .
وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، عَنْ أَنَسٍ، وَالنَّسَائِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَفِي رِوَايَةِ مَيْمُونَةَ، عَنْ أَنَسٍ: الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنْ حِجَارَةِ الْجَنَّةِ. وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، وَابْنِ عَدِيٍّ، وَالْبَيْهَقِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَكَانَ أَشَدَّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ حَتَّى سَوَّدَتْهُ خَطَايَا أَهْلِ الشِّرْكِ. وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْهُ: الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنْ حِجَارَةِ الْجَنَّةِ، وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنَ الْجَنَّةِ غَيْرُهُ، وَكَانَ أَبْيَضَ كَالْمَاءِ، وَلَوْلَا مَسَّهُ مِنْ رِجْسِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا مَسَّهُ ذُو عَاهَةٍ إِلَّا بَرِئَ.
2578 -
وَعَنْهُ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَجَرِ: " وَاللَّهِ لَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ، يَشْهَدُ عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ.
ــ
2578 -
(وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَجَرِ) : أَيْ: فِي شَأْنِهِ، وَوَصْفِهِ (وَاللَّهِ لَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : أَيْ: لَيُظْهِرَنَّهُ حَوْلَ كَوْنِهِ (لَهُ عَيْنَانِ) : أَيْ: ظَاهِرَانِ (يُبْصِرُ بِهِمَا) : وَيَعْرِفُ الْمُبْطِلَ مِنَ الْمُحِقِّ، وَالْمُتَأَدِّبَ مِنْ غَيْرِهِ (وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ، يَشْهَدُ) : أَيْ: يُثْنِي ثَنَاءً جَمِيلًا (عَلَى مَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ) : وَقِيلَ: (عَلَى) بِمَعْنَى اللَّامِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ التَّوْحِيدُ، وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ الْأَكِيدِ، وَلِذَا يُقَالُ: اللَّهُمَّ إِيمَانًا بِكَ، وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ، وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) : وَالْبَيْهَقِيُّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
2579 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " «إِنَّ الرُّكْنَ وَالْمَقَامَ يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ، طَمَسَ اللَّهُ نُورَهُمَا، وَلَوْ لَمْ يَطْمِسْ نُورَهُمَا لَأَضَاءَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
2579 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِنَّ الرُّكْنَ) أَيِ: الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ (وَالْمَقَامَ) : أَيْ: مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام ( «يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ» ) : الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمَا مِنْ يَوَاقِيتِ الْجَنَّةِ (طَمَسَ اللَّهُ) أَيْ: أَذْهَبَ (نُورَهُمَا) : أَيْ: بِمِسَاسِ الْمُشْرِكِينَ لَهُمَا، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي طَمْسِهِمَا لِيَكُونَ الْإِيمَانُ غَيْبِيًّا لَا عَيْنِيًّا (وَلَوْ لَمْ يَطْمِسْ) : عَلَى بِنَاءِ الْفَاعِلِ، وَيَجُوزُ الْمَفْعُولِ (نُورَهُمَا لَأَضَاءَا) : بِالتَّثْنِيَةِ ( «مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ، وَالْمَغْرِبِ» ) : فَأَضَاءَهُ مُتَعَدٍّ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ، أَيْ: لَأَضَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِمَا أَعْلَمُ، أَوْ هِيَ لَازِمٌ أَيْ: لَاسْتَنَارَ بِهِمَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.
(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا صَحَّ أَيْضًا، وَلَوْلَا مَا مَسَّهُمَا مِنْ خَطَايَا بَنِي آدَمَ لَأَضَاءَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَإِنَّهُمَا لَمَّا مَسَّتْهُمَا تِلْكَ الْخَطَايَا طَمَسَ اللَّهُ نُورَهُمَا، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ كَوْنَ الرُّكْنِ مِنَ الْجَنَّةِ، أَنَّهُ لَمَّا أَخَذَتْهُ الْكَفَرَةُ الْقَرَامِطَةُ بَعْدَ أَنْ غَلَبُوا بِمَكَّةَ حَتَّى مَلَئُوا الْمَسْجِدَ، وَزَمْزَمَ مِنَ الْقَتْلَى، وَضَرَبَ الْحَجَرَ بَعْضُهُمْ بِدَبُّوسٍ، قَالَ: إِلَى كَمْ تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ ثُمَّ ذَهَبُوا بِهِ إِلَى بِلَادِهِمْ نِكَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَكَثَ عِنْدَهُمْ بِضْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، ثُمَّ لَمَّا صُولِحُوا بِمَالٍ كَثِيرٍ عَلَى رَدِّهِ قَالُوا: إِنَّهُ اخْتَلَطَ بَيْنَ حِجَارَةٍ عِنْدَنَا، وَلَمْ نُمَيِّزْهُ الْآنَ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَتْ لَكُمْ عَلَامَةٌ تُمَيِّزُهُ فَأْتُوا بِهَا وَمَيِّزُوهُ، فَسُئِلَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَنْ عَلَامَةٍ تُمَيِّزُهُ؟ فَقَالُوا: إِنَّ النَّارَ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْجَنَّةِ، فَذَكَرُوا لَهُمْ ذَلِكَ، فَامْتَحَنُوا وَصَارَ كُلُّ حَجَرٍ يُلْقُونَهُ فِي النَّارِ يَنْكَسِرُ حَتَّى جَاءُوا إِلَيْهِ، فَلَمْ تَقْدِرِ النَّارُ عَلَى أَدْنَى تَأْثِيرٍ فِيهِ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ هُوَ فَرَدُّوهُ. قِيلَ: وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّهُ فِي الذَّهَابِ مَاتَ تَحْتَهُ مِنْ شِدَّةِ ثِقَلِهِ إِبِلٌ كَثِيرَةٌ، وَفِي الْعَوْدِ حَمَلَهُ جَمَلٌ أَجْوَبُ إِلَى مَكَّةَ، وَلَمْ يَتَأَثَّرْ بِهِ.
2580 -
وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ رضي الله عنه، «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُزَاحِمُ عَلَى الرُّكْنَيْنِ زِحَامًا مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُزَاحِمُ عَلَيْهِ. قَالَ: إِنْ أَفْعَلْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" إِنَّ مَسْحَهُمَا كَفَّارَةٌ لِلْخَطَايَا " وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " مَنْ طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ أُسْبُوعًا، فَأَحْصَاهُ كَانَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ " وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " لَا يَضَعُ قَدَمًا وَلَا يَرْفَعُ أُخْرَى إِلَّا أَحَطَّ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً وَكَتَبَ لَهُ حَسَنَةً» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
2580 -
(وَعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ) : بِالتَّصْغِيرِ فِيهِمَا. قَالَ الْمُؤَلِّفُ: يُكَنَّى أَبَا عَاصِمٍ اللَّيْثِيَّ الْحِجَازِيَّ قَاضِيَ أَهْلِ مَكَّةِ، وُلِدَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيُقَالُ: رَآهُ وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي كِبَارِ التَّابِعِينَ، سَمِعَ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ، وَرَوَى عَنْهُ نَفَرٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وَمَاتَ قَبْلَ ابْنِ عُمَرَ. أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُزَاحِمُ) : أَيْ: يُغَالِبُ النَّاسَ (عَلَى الرُّكْنَيْنِ زِحَامًا) : أَيْ: غَيْرَ مُؤْذٍ وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ: زِحَامًا عَظِيمًا، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِي جَمِيعِ الْأَشْوَاطِ، أَوْ فِي أَوَّلِهِ، وَأَخِرِهِ، فَإِنَّهُمَا آكَدُ أَحْوَالِهَا، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ ": وَلَا أُحِبُّ الزِّحَامَ فِي الِاسْتِلَامِ إِلَّا فِي بَدْءِ الطَّوَافِ، وَآخِرِهِ، لَكِنَّ الْمُرَادَ ازْدِحَامٌ لَا يَحْصُلُ فِيهِ أَذًى لِلْأَنَامِ، لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لَعُمَرَ:«إِنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ لَا تُزَاحِمْ عَلَى الْحَجَرِ فَتُؤْذِيَ الضَّعِيفَ، إِنْ وَجَدْتَ خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ وَإِلَّا فَاسْتَقْبِلْهُ، وَهَلِّلْ، وَكَبِّرْ» ". رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ. (مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُزَاحِمُ عَلَيْهِ ": أَيْ: عَلَى مَا ذَكَرَ، أَوْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّهُ رُبَّمَا دَمِيَ أَنْفُهُ مِنْ شِدَّةِ تَزَاحُمِهِ، وَكَأَنَّهُمْ تَرَكُوهُ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَذَى، فَالِاقْتِدَاءُ بِفِعْلِهِمْ سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ أَوْلَى.
(قَالَ) : ابْنُ عُمَرَ اسْتِدْلَالًا لِفِعْلِهِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيِ: اعْتِذَارًا، وَلَا يَخْفَى (إِنْ أَفْعَلْ) : أَيْ: هَذَا الزِّحَامَ فَلَا أُلَامُ، فَإِنْ شَرْطِيَّةٌ، وَالْجَزَاءُ مُقَدَّرٌ، وَدَلِيلُ الْجَوَابِ قَوْلُهُ:(فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِنَّ مَسْحَهُمَا) : أَيْ: لَمْسَهُمَا (كَفَّارَةٌ لِلْخَطَايَا) : أَيْ: مِنَ الصَّغَائِرِ. (وَسَمِعْتُهُ) : أَيْ: رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا، وَأَبْعَدَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: قَالَ الرَّاوِي: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ الثَّانِي، وَالثَّالِثُ مَوْقُوفَيْنِ، عَلَى أَنَّهُمَا فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ؛ فَتَدَبَّرْ. (يَقُولُ: مَنْ طَافَ هَذَا الْبَيْتَ أُسْبُوعًا) : أَيْ: سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ كَمَا فِي رِوَايَةٍ (فَأَحْصَاهُ ") : بِأَنْ يُكْمِلَهُ، وَيُرَاعِيَ مَا يُعْتَبَرُ فِي الطَّوَافِ مِنَ الشُّرُوطِ، وَالْآدَابِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: يُحْصِيهِ أَيْ: يَعُدُّهُ، وَقَالَ الْمُظْهِرُ: أَيْ: سَبْعَةَ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ بِحَيْثُ يَعُدُّهَا، وَلَا يَتْرُكُ بَيْنَ الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ يَوْمًا اهـ. وَهُوَ غَيْرُ مَفْهُومٍ مِنَ الْحَدِيثِ كَمَا لَا يَخْفَى (وَكَانَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ، وَسَمِعْتُهُ) : أَيْ: أَيْضًا (يَقُولُ: " لَا يَضَعُ) : أَيِ: الطَّائِفُ. (قَدَمًا وَلَا يَرْفَعُ أُخْرَى) : الظَّاهِرُ لَا يَرْفَعُهَا، فَكَأَنَّهُ عَدَّ أُخْرَى بِاخْتِلَافِ وَصْفِ الْوَضْعِ، وَالرَّفْعِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَضَعُ قَدَمًا مَرَّةً وَلَا يَرْفَعُ قَدَمًا مَرَّةً أُخْرَى (إِلَّا حَطَّ اللَّهُ) : أَيْ: وَضَعَ، وَمَحَا (عَنْهُ بِهَا) : أَيْ: بِكُلِّ قَدَمٍ، أَوْ بِكُلِّ مَرَّةٍ مِنَ الْوَضْعِ، وَالرَّفْعِ (خَطِيئَةً، وَكَتَبَ لَهُ بِهَا حَسَنَةً) : وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَفًّا وَنَشْرًا، فَبِوَضْعِ الْقَدَمِ وَضْعُ السَّيِّئَةِ، وَبِرَفْعِهَا إِثْبَاتُ الْحَسَنَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِرَفْعِ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ، ثُمَّ هَذَا الْأَجْرُ وَالثَّوَابُ إِنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ قَامَ بِالْآدَابِ، وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ الْعَوَامُّ مِنَ الزِّحَامِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى أَذَى الْأَنَامِ كَالْمُدَافَعَةِ، وَالْمُسَابَقَةِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَهُوَ مُوجِبٌ لِزِيَادَةِ الْآثَامِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
2581 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ رضي الله عنه قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] » . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
2581 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ) هُوَ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ، أَخَذَ عَنْهُ أَهْلُ مَكَّةَ الْقِرَاءَةَ (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ) : أَيْ: يَدْعُو، وَيَقْرَأُ (رَبَّنَا) : مَنْصُوبٌ بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ (آتِنَا) : أَيْ: أَعْطِنَا (فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) : أَيِ: الْعِلْمَ، وَالْعَمَلَ، أَوِ الْعَفْوَ، وَالْعَافِيَةَ، وَالرِّزْقَ الْحَسَنَ، أَوْ حَيَاةً طَيِّبَةً، أَوِ الْقَنَاعَةَ، أَوْ ذُرِّيَّةً صَالِحَةً (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) : أَيِ: الْمَغْفِرَةَ، وَالْجَنَّةَ، وَالدَّرَجَةَ الْعَالِيَةَ، أَوْ مُرَافَقَةَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوِ الرِّضَاءَ، أَوِ الرُّؤْيَةَ، أَوِ اللِّقَاءَ (وَقِنَا) : أَيِ: احْفَظْنَا (عَذَابَ النَّارِ) أَيْ: شَدَائِدَ جَهَنَّمَ مِنْ حَرِّهَا، وَزَمْهَرِيرِهَا، وَسَمُومِهَا، وَجُوعِهَا، وَعَطَشِهَا، وَنَتْنِهَا، وَضِيقِهَا، وَعَقَارِبِهَا، وَحَيَّاتِهَا، وَفَسَّرَ عَلِيٌّ رضي الله عنه الْحَسَنَةَ الْأُولَى بِالْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ، وَالثَّانِيَةَ بِالْحُورِ الْعِينِ، وَعَذَابَ النَّارِ بِالْمَرْأَةِ السَّلِيطَةِ، وَذَكَرَ شَيْخُنَا السَّيِّدُ زَكَرِيَّا، عَنْ شَيْخِهِ قُطْبِ الْبَارِي أَبِي الْحَسَنِ الْبَكْرِيِّ: أَنَّ فِي الْآيَةِ سَبْعِينَ قَوْلًا، أَحْسَنُهَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَسَنَةِ الْأُولَى اتِّبَاعُ الْمَوْلَى، وَالثَّانِيَةِ الرَّفِيقُ الْأَعْلَى، وَبِعَذَابِ النَّارِ حِجَابُ الْمَوْلَى. وَعِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَسَنَةِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَسَنَةِ أَيُّ حَسَنَةٍ كَانَتْ، وَالنَّكِرَةُ قَدْ تُفِيدُ الْعُمُومَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى:{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 14] وَكَذَلِكَ يُرَادُ بِالْعَذَابِ أَنْوَاعُ الْعِقَابِ، وَأَصْنَافُ الْعِتَابِ، وَإِنْ كَانَ أَشَدُّ الْعَذَابِ هُوَ الْحِجَابَ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
2582 -
وَعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: أَخْبَرَتْنِي بِنْتُ أَبِي تُجْرَاةَ قَالَتْ: دَخَلْتُ مَعَ نِسْوَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ دَارَ آلِ أَبِي حُسَيْنٍ، نَنْظُرُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَرَأَيْتُهُ يَسْعَى، وَإِنَّ مِئْزَرَهُ لَيَدُورُ مِنْ شِدَّةِ السَّعْيِ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:( «اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ» ) . رَوَاهُ فِي: " شَرْحِ السُّنَّةِ " وَرَوَاهُ أَحْمَدُ مَعَ اخْتِلَافٍ.
ــ
2582 -
(وَعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ) : أَيِ: الْحَجَبِيِّ، اخْتُلِفَ فِي رُؤْيَتِهَا صلى الله عليه وسلم قَالَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَتْ: أَخْبَرَتْنِي بِنْتُ أَبَى تُجْرَاةَ) : بِضَمِّ التَّاءِ، وَسُكُونِ الْجِيمِ، وَقِيلَ: بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بِتَاءٍ فَوْقِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ، فَجِيمٍ سَاكِنَةٍ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْمُصَنِّفُ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْهُمَامِ: اسْمُهَا: حَبِيبَةُ، إِحْدَى نِسَاءِ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ. (قَالَتْ: دَخَلْتُ مَعَ نِسْوَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ دَارَ آلِ أَبِي حُسَيْنٍ، نَنْظُرُ (إِلَى) رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) : أَيْ: لِنَتَشَرَّفَ بِرُؤْيَتِهِ، وَلِنَسْتَفِيدَ مِنْ عِلْمِهِ، وَبَرَكَتِهِ (فَرَأَيْتُهُ يَسْعَى) : أَيْ: يُسْرِعُ (وَإِنَّ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَالْوَاوُ لِلْحَالِ (مِئْزَرَهُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ، وَيُبْدَلُ (لَيَدُورُ) : أَيْ: حَوْلَ رِجْلَيْهِ (مِنْ شِدَّةِ السَّعْيِ) : يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَاشِيًا. وَجَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي حَدِيثٍ حَسَنٍ، وَلَا يُنَافِيهِ مَا وَرَدَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام سَعَى رَاكِبًا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لَا مَكَانَ الْجَمْعِ، بِأَنَّ مَشْيَهُ كَانَ فِي سَعْيِ عُمْرَةٍ مِنْ عُمَرِهِ، أَوْ كَانَ مَشْيُهُ فِي سَعْيِ الْحَجِّ بَعْدَ مَشْيِهِ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَرُكُوبُهُ فِي سَعْيِ عُمْرَتِهِ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ رَاكِبًا، وَأَمَّا الْجَمْعُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله بِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَسْعَى مَاشِيًا، فَتَزَاحَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَرَكِبَ فِيمَا بَقِيَ، فَبَعِيدٌ جِدًّا، وَقَدْ نَقَلَ التِّرْمِذِيُّ، عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ كَرَاهَةَ الرُّكُوبِ بِلَا عُذْرٍ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ رحمه الله عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَقَوْلُ النَّوَوِيِّ رحمه الله: مَذْهَبُنَا أَنَّ الرُّكُوبَ بِلَا عُذْرٍ خِلَافُ الْأُولَى، لَا مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُوَجَّهٍ. (وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ) : أَيْ: فِي السَّعْيِ ( «اسْعَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ: فَرَضَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ فَرْضٌ؛ مَنْ لَمْ يَسْعَ بَطَلَ حَجُّهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ رحمهم الله تَعَالَى - اهـ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله: السَّعْيُ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ ظَنِّيٌّ، وَكَذَا الْمَشْيُ فِيهِ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَبِتَرْكِ الْوَاجِبِ يَجِبُ دَمٌ. (رَوَاهُ) : أَيِ: الْمُصَنِّفُ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : أَيْ: بِإِسْنَادِهِ (وَرَوَاهُ) : وَفِي نُسْخَةٍ: وَرَوَى (أَحْمَدُ مَعَ اخْتِلَافٍ) : فِي لَفْظِهِ.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ بِلَفْظِ: إِنَّهُ عليه الصلاة والسلام اسْتَقْبَلَ النَّاسَ فِي الْمَسْعَى وَقَالَ: " «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اسْعَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ» ". وَقَدْ قَالَ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَنَسٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ التَّابِعِينَ رحمهم الله: إِنَّ السَّعْيَ تَطَوُّعٌ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} [البقرة: 158] الْآيَةَ. فَالْأَوْسَطُ الْأَعْدَلُ أَنَّهُ وَاجِبٌ لَا فَرْضٌ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَالْجَوَابُ: إِنَّا قُلْنَا بِمُوجَبِهِ إِذْ مِثْلُهُ لَا يَزِيدُ عَلَى إِفَادَةِ الْوُجُوبِ، وَقَدْ قُلْنَا بِهِ. وَأَمَّا الرُّكْنُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَنَا بِدَلِيلٍ بِهِ، فَإِثْبَاتُهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ إِثْبَاتٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ.
ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ سِيَاقَ الْحَدِيثِ يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّعْيِ الْمَكْتُوبِ الْجَرْيُ الْكَائِنُ فِي بَطْنِ الْوَادِي إِذَا رَجَعْتَهُ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِلَا خِلَافٍ نَعْلَمُهُ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّعْيِ الطَّوَافُ بَيْنَهُمَا، اتَّفَقَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ لَهُمْ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الْجَرْيِ الشَّدِيدِ الْمَسْنُونِ، لَمَّا وَصَلَ إِلَى مَحَلِّهِ شَرْعًا أَعْنِي بَطْنَ الْوَادِي، وَلَا يُسَنُّ جَرْيٌ شَدِيدٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ، بِخِلَافِ الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ إِنَّمَا هُوَ مَشْيٌ فِيهِ شِدَّةٌ وَتَصَلُّبٌ، ثُمَّ قِيلَ فِي سَبَبِ شَرْعِيَّةِ الْجَرْيِ فِي بَطْنِ الْوَادِي: أَنَّ هَاجَرَ رضي الله عنها لَمَّا تَرَكَهَا إِبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام عَطِشَتْ، فَخَرَجَتْ تَطْلُبُ الْمَاءَ وَهِيَ تُلَاحِظُ إِسْمَاعِيلَ عليه الصلاة والسلام خَوْفًا عَلَيْهِ، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَى بَطْنِ الْوَادِي، تَغَيَّبَ عَنْهَا، فَسَعَتْ لِتُسْرِعَ الصُّعُودَ مِنْهُ فَتَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَجُعِلَ ذَلِكَ نُسُكًا إِظْهَارًا لِتَشَرُّفِهِمَا، وَتَفْخِيمًا لِأَمْرِهِمَا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام لَمَّا أُمِرَ بِالْمَنَاسِكِ عَرَضَ الشَّيْطَانُ لَهُ عِنْدَ السَّعْيِ، فَسَابَقَهُ فَسَبَقَهُ إِبْرَاهِيمُ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَقِيلَ: إِنَّمَا سَعَى سَيِّدُنَا وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم إِظْهَارًا لِلْمُشْرِكِينَ النَّاظِرِينَ إِلَيْهِ فِي الْوَادِي الْجَلَدَ، وَمَحْمَلُ هَذَا الْوَجْهِ مَا كَانَ مِنَ السَّعْيِ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، ثُمَّ بَقِيَ بَعْدَهُ كَالرَّمَلِ، إِذْ لَمْ يَبْقَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مُشْرِكٌ بِمَكَّةَ، وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنْ لَا يُشْتَغَلَ بِطَلَبِ الْمَعْنَى فِيهِ، وَفِي نَظَائِرِهِ مِنَ الرَّمْيِ، وَغَيْرِهِ، بَلْ هِيَ أُمُورٌ تَوْقِيفِيَّةٌ يُحَالُ الْعِلْمُ فِيهَا إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْمَسْعَى: هُوَ الْمَكَانُ الْمَعْرُوفُ الْيَوْمَ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَيْهِ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ، وَلَا يُنَافِيهِ كَلَامُ الْأَذْرَعِيِّ أَنَّ أَكْثَرَهُ فِي الْمَسْجِدِ، كَمَا تَوَهَّمَ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فَتَدَبَّرْ.
2583 -
وَعَنْ قُدَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ رضي الله عنه قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى بَعِيرٍ، لَا ضَرْبَ، وَلَا طَرْدَ، وَلَا إِلَيْكَ إِلَيْكَ» ، رَوَاهُ فِي:" شَرْحِ السُّنَّةِ ".
ــ
2583 -
(وَعَنْ قُدَامَةَ) : بِضَمِّ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ (ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمَّارٍ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى بَعِيرٍ» ) : أَيْ: فِي وَقْتٍ غَيْرِ مَا سَبَقَ (لَا ضَرْبَ وَلَا طَرْدَ) : بِالْفَتْحِ، وَالرَّفْعِ مُنَوَّنًا فِيهِمَا (وَلَا إِلَيْكَ) : أَيْ: ابْعُدْ (إِلَيْكَ) : أَيْ: تَنَحَّ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ مَا كَانَ يَضْرِبُونَ النَّاسَ، وَلَا يَطْرُدُونَهُمْ، وَلَا يَقُولُونَ: تَنَحَّوْا عَنِ الطَّرِيقِ كَمَا هُوَ عَادَةُ الْمُلُوكِ، وَالْجَبَابِرَةِ، وَالْمَقْصُودُ التَّعْرِيضُ بِالَّذِينِ كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ اهـ.
وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ رحمه الله: أَنَّ أَوَّلَ بِدْعَةٍ ظَهَرَتْ قَوْلُ النَّاسِ: الطَّرِيقَ الطَّرِيقَ. أَقُولُ: قَدْ رَضِينَا فِي هَذَا الزَّمَانِ بِإِلَيْكَ وَإِلَيْكَ، وَبِ (الطَّرِيقَ الطَّرِيقَ) عَلَيْكَ، فَإِنَّهُ نَشَأَ نَاسٌ يَدْفَعُونَ بِأَيْدِيهِمْ، وَأَرْجُلِهِمْ، وَيَدُوسُونَ بِدَوَابِّهِمْ، وَهُمْ سَاكِتُونَ. {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179] . (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) .
2584 -
وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَافَ بِالْبَيْتِ مُضْطَبِعًا بِبُرْدٍ أَخْضَرَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ.
ــ
2584 -
(وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَافَ بِالْبَيْتِ مُضْطَبِعًا) : بِكَسْرِ الْبَاءِ (بِبُرْدٍ) : أَيْ: يَمَانِيٍّ (أَخْضَرَ) : أَيْ: فِيهِ خُطُوطٌ خُضْرٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الضَّبْعُ وَسَطُ الْعَضُدِ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْإِبِطِ، وَالِاضْطِبَاعُ: أَنْ يَجْعَلَ وَسَطَ رِدَائِهِ تَحْتَ الْإِبِطِ الْأَيْمَنِ، وَيُلْقِيَ طَرَفَيْهِ عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ مِنْ جِهَتَيْ صَدْرِهِ، وَظَهْرِهِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِإِبْدَاءِ الضَّبْعَيْنِ.
قِيلَ: إِنَّمَا فَعَلَهُ إِظْهَارًا لِلتَّشْجِيعِ كَالرَّمَلِ اهـ. وَهُوَ وَالرَّمَلُ سُنَّتَانِ فِي كُلِّ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ، وَالِاضْطِبَاعُ سُنَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأَشْوَاطِ، بِخِلَافِ الرَّمَلِ، وَلَا يُسْتَحَبُّ الِاضْطِبَاعُ فِي غَيْرِ الطَّوَافِ، وَمَا يَفْعَلُهُ الْعَوَامُّ مِنَ الِاضْطِبَاعِ مِنِ ابْتِدَاءِ الْإِحْرَامِ حَجًّا، أَوْ عُمْرَةً لَا أَصْلَ لَهُ، بَلْ يُكْرَهُ حَالَ الصَّلَاةِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَسْقُطُ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ إِذَا كَانَ لَابِسًا. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله: وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ.
2585 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ اعْتَمَرُوا مِنَ الْجِعْرَانَةِ فَرَمَلُوا بِالْبَيْتِ ثَلَاثًا، وَجَعَلُوا أَرْدِيَتَهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ، ثُمَّ قَذَفُوهَا عَلَى عَوَاتِقِهِمُ الْيُسْرَى. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
2585 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ اعْتَمَرُوا مِنَ الْجِعِرَّانَةِ) : قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله الْأَفْصَحُ التَّخْفِيفُ. فَرَمَلُوا بِالْبَيْتِ ثَلَاثًا، وَجَعَلُوا) : أَيْ: حِينَ أَرَادُوا الشُّرُوعَ فِي الطَّوَافِ (أَرْدِيَتَهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ) : بِالْأَلِفِ مَمْدُودَةً جَمْعُ إِبِطٍ (ثُمَّ قَذَفُوهَا) : أَيْ: طَرَحُوهَا (عَلَى عَوَاتِقِهِمُ الْيُسْرَى) : أَيِ: اسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ إِلَى أَنْ فَرَغُوا مِنَ الطَّوَافِ: (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله: سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ، وَحَسَّنَهُ غَيْرُهُ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ: رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، وَقَدْ أَغْرَبَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي قَوْلِهِ: يُسَنُّ الِاضْطِبَاعُ فِي السَّعْيِ قِيَاسًا عَلَى الطَّوَافِ، مَعَ تَرْكِهِ عليه الصلاة والسلام الِاضْطِبَاعَ فِي السَّعْيِ، وَعَدَمِ الْعِلَّةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الرَّمَلِ وَالِاضْطِبَاعِ فِي الطَّوَافِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِمَا صَحَّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ طَارِحًا رِدَاءَهُ، فَغَرِيبٌ، وَمَسْلَكٌ عَجِيبٌ لِدَلَالَتِهِ عَلَى خِلَافِ الْمُدَّعَى كَمَا لَا يَخْفَى.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
2586 -
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «مَا تَرَكْنَا اسْتِلَامَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ: الْيَمَانِي وَالْحَجَرِ فِي شِدَّةٍ وَلَا رَخَاءٍ مُذْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُمَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
2586 -
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا تَرَكْنَا اسْتِلَامَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ: الْيَمَانِي) بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ، وَتَشْدِيدِهَا مَجْرُورًا (وَالْحَجَرِ) : أَيِ: الْأَسْوَدِ (فِي شِدَّةٍ) : أَيْ: زِحَامٍ (وَلَا رَخَاءٍ) : أَيْ: خَلَاءٍ (مُذْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُمَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي خَبَرِ الْبَيْهَقِيِّ، بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَتَى الْحَجَرَ فَقَبَّلَهُ، وَاسْتَلَمَ الْيَمَانِيَ، فَقَبَّلَ يَدَهُ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ خَبَرَ أَحْمَدَ، أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَبَّلَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَ، وَوَضَعَ خَدَّهُ الْأَيْمَنَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا غَيْرُ ثَابِتٍ كَمَا قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ، أَوْ ضَعِيفٌ، وَإِنْ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ اهـ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَدِيثَ الْبَيْهَقِيِّ مَعَ ضَعْفِهِ لَا يُعَارِضُهُ حَدِيثُ أَحْمَدَ مَعَ تَقْوِيَتِهِ بِتَصْحِيحِ الْحَاكِمِ لِسَنَدِهِ، فَالْأَوْلَى أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى وُقُوعِهِ حَالَ نُدْرَتِهِ، ثُمَّ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: لَا قَائِلَ بِهِ غَفْلَةً عَنْ قَوْلِ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ رحمه الله مِنْ أَنَّهُ قَالَ: حُكْمُ الرُّكْنَيْنِ سَوَاءٌ، ثُمَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، مَا أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحَجَرَ إِلَّا أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يَتِمَّ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام» ، وَهُمَا الشَّامِيَّانِ، وَيُسَمَّيَانِ الْعِرَاقِيَّيْنِ وَالْغَرْبِيَّيْنِ، وَأَمَّا اسْتِلَامُ جَمْعٍ مِنْهُمُ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وَمُعَاوِيَةُ لَهُمَا، فَهُوَ مَذْهَبٌ لَهُمْ خَالَفُوا فِيهِ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ، وَمِنْ ثَمَّ خَالَفَهُمَا جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ، وَأَمَّا قَوْلُ مُعَاوِيَةَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْبَيْتِ مَهْجُورًا. فَأَجَابَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: بِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ اسْتِلَامَهُمَا هَجْرًا لِلْبَيْتِ، وَلَكِنْ يُسْتَلَمُ مَا اسْتَلَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيُمْسَكُ عَمَّا أَمْسَكَ عَنْهُ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْخِلَافَ انْقَرَضَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمَا لَا يُسْتَلَمَانِ، وَفِي هَذَا الْإِجْمَاعِ خِلَافٌ لِلْأُصُولِيِّينَ، كَذَا حَقَّقَهُ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ.
2587 -
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: قَالَ نَافِعٌ: «رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَبَّلَ يَدَهُ، وَقَالَ: مَا تَرَكْتُهُ مُنْذُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ» .
ــ
2587 -
(وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ (قَالَ نَافِعٌ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَبَّلَ يَدَهُ) : وَلَعَلَّ هَذَا فِي وَقْتِ الزِّحَامِ. قَالَ فِي " الْبِدَايَةِ ": وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَمَسَّ الْحَجَرُ شَيْئًا فِي يَدِهِ، أَوْ يَمَسَّهُ بِيَدِهِ، وَيُقَبِّلَ مَا مَسَّ بِهِ فَعَلَ، وَذَكَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِيخَانْ مَسْحَ الْوَجْهِ بِالْيَدِ مَكَانَ تَقْبِيلِ الْيَدِ. (وَقَالَ: مَا تَرَكْتُهُ مُنْذُ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ) : أَيْ: الِاسْتِلَامُ الْمُطْلَقُ، أَوِ الْمَخْصُوصُ. إِذْ ثَبَتَ الِاسْتِلَامُ، وَالتَّقْبِيلُ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي مُسْنَدِهِ «أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَبَّلَهُ وَسَجَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ رضي الله عنه قَبَّلَهُ، وَسَجَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ هَكَذَا» ، فَفَعَلْتُ. وَرَوَى الْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام سَجَدَ عَلَى الْحَجَرِ حِينَ قَبَّلَهُ بِجَبْهَتِهِ» ، وَشَذَّ مَالِكٌ كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ عِيَاضٌ، وَغَيْرُهُ فِي إِنْكَارِهِ نَدْبَ تَقْبِيلِ الْيَدِ: وَقَوْلُهُ: إِنَّ السُّجُودَ عَلَيْهِ بِدْعَةٌ.
2588 -
ــ
2588 -
(وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي أَشْتَكِي) : أَيْ: شَكَوْتُ إِلَيْهِ أَنِّي مَرِيضَةٌ، وَالشِّكَايَةُ: الْمَرَضُ. (فَقَالَ: " «طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ، وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ» ) : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ رَاكِبًا لَيْسَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ عليه الصلاة والسلام. (فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي) : أَيْ: صَلَاةَ الصُّبْحِ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ رحمه الله. (إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ) : أَيْ: مُتَّصِلًا إِلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَهُ كَانُوا مُتَحَلِّقِينَ حَوْلَهَا (يَقْرَأُ " {وَالطُّورِ - وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 1 - 2] أَيْ: بِهَذِهِ السُّورَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا هُوَ عَادَتُهُ صلى الله عليه وسلم وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَرَأَهَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ. وَكَانَ الْأَوْلَى لِلرَّاوِي أَنْ يَقُولَ: يَقْرَأُ " الطُّورَ " وَيَكْتَفِي بِالطُّورِ، وَلَمْ يَقُلْ:" {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 2] "(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَقَدْ صَحَّتِ الْأَحَادِيثُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام رَكِبَ، وَأَنَّهُ مَشَى، وَجُمِعَ بِحَمْلِ الْأَوَّلِ عَلَى طَوَافِ الرُّكْنِ، وَالثَّانِي عَلَى طَوَافِ الْقُدُومِ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله وَالْأَوْلَى عَكْسُ هَذَا الْجَمْعِ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ فِي الرُّكْنِ أَنْسَبُ وَالرُّكُوبَ فِي الْقُدُومِ أَقْرَبُ.
2589 -
وَعَنْ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ رضي الله عنه قَالَ: " «رَأَيْتُ عُمَرَ يُقَبِّلُ الْحَجَرَ، وَيَقُولُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ مَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2589 -
(وَعَنْ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ رضي الله عنه يُقَبِّلُ الْحَجَرَ، وَيَقُولُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ مَا تَنْفَعُ)، وَفِي نُسْخَةٍ:(لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ) أَيْ: فِي حَدِّ الذَّاتِ (وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ) ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ مِنْهُ رضي الله عنه إِلَى أَنَّ هَذَا أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ فَنَفْعَلُ، وَعَنْ عِلَّتِهِ لَا نَسْأَلُ، وَإِيمَاءٌ إِلَى التَّوْحِيدِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الْعَمَلِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ بَعْضُ قَرِيبِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ مِمَّنْ أَلِفُوا عِبَادَةَ الْأَحْجَارِ، فَيَعْتَقِدُونَ نَفْعَهُ، وَضُرَّهُ بِالذَّاتِ، فَبَيَّنَ رضي الله عنه أَنَّهُ لَا يَضُرُّ، وَلَا يَنْفَعُ لِذَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ امْتِثَالُ مَا شُرِعَ فِيهِ يَنْفَعُ بِاعْتِبَارِ الْجَزَاءِ، وَلِيَشِيعَ فِي الْمَوْسِمِ، فَيَشْتَهِرَ ذَلِكَ فِي الْبُلْدَانِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَفِيهِ الْحَثُّ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَقْبِيلِهِ اهـ.
وَفِيهِ أَنْ لَا يُظَنَّ بِأَرْبَابِ الْعُقُولِ - وَلَوْ كَانُوا كُفَّارًا - أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّ الْحَجَرَ يَنْفَعُ وَيَضُرُّ بِالذَّاتِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يُعَظِّمُونَ الْأَحْجَارَ، أَوْ يَعْبُدُونَهَا، مُعَلِّلِينَ بِأَنَّ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ، وَمُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، فَهُمْ كَانُوا
يَمْسَحُونَهَا، وَيُقَبِّلُونَهَا تَسَبُّبًا لِلنَّفْعِ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ الْأَشْيَاءَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، بِخِلَافِ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ إِلَى الْكَعْبَةِ بِنَاءً عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ، وَيُقَبِّلُونَ الْحَجَرَ بِنَاءً عَلَى مُتَابَعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ فِي حَدِّ الذَّاتِ، وَلَا فِي نَظَرِ الْعَارِفِ بِالْمَوْجُودَاتِ بَيْنَ بَيْتٍ وَبَيْتٍ، وَلَا بَيْنَ حَجَرٍ وَحَجَرٍ، فَسُبْحَانَ مَنْ عَظَّمَ مَا شَاءَ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ مِنَ الْأَفْرَادِ الْإِنْسَانِيَّةِ، كَرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْحَيَوَانِيَّةِ كَنَاقَةِ اللَّهِ، وَالْجَمَادِيَّةِ ; كَبَيْتِ اللَّهِ، وَالْمَكَانِيَّةِ كَحَرَمِ اللَّهِ، وَالزَّمَانِيَّةِ كَلَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَسَاعَةِ الْجُمُعَةِ، وَخَلَقَ خَوَاصَّ الْأَشْيَاءِ فِي مَكْتُوبَاتِهِ، وَجَعَلَ التَّفَاوُتَ وَالتَّمَايُزَ بَيْنَ أَجْزَاءِ أَرْضِهِ وَسَمَاوَاتِهِ.
(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)، قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله: وَرَوَى الْحَاكِمُ حَدِيثَ عُمَرَ، وَزَادَ فِيهِ: فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: بَلَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ، وَلَوْ عَلِمْتَ تَأْوِيلَ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَقُلْتَ كَمَا أَقُولُ ; {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] فَلَمَّا أَقَرُّوا أَنَّهُ الرَّبُّ عز وجل، وَأَنَّهُمُ الْعَبِيدُ كَتَبَ مِيثَاقَهُمْ فِي رَقٍّ، وَأَلْقَمَهُ فِي هَذَا الْحَجَرِ، وَأَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَهُ عَيْنَانِ، وَلِسَانٌ، وَشَفَتَانِ يَشْهَدُ لِمَنْ وَافَاهُ، فَهُوَ أَمِينُ اللَّهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَقَالَ لَهُ عُمَرَ رضي الله عنه: لَا أَبْقَانِي اللَّهُ بِأَرْضٍ لَسْتَ بِهَا يَا أَبَا الْحَسَنِ. وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، فَإِنَّهُمَا لَمْ يَحْتَجَّا بِأَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ، وَمِنْ غَرَائِبِ الْمُتُونِ مَا فِي ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي آخِرِ مُسْنَدِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، قَالَ رَجُلٌ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام وَقَفَ عِنْدَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: " إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ، وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَمَرَنِي رَبِّي أَنْ أُقَبِّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ» " فَلْيُرَاجَعْ إِسْنَادُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، فَإِنْ صَحَّ يُحْكَمُ بِبُطْلَانِ حَدِيثِ الْحَاكِمِ لِبُعْدِ أَنْ يَصْدُرَ هَذَا الْجَوَابُ عَنْ عَلِيٍّ، أَعْنِي قَوْلَهُ: " بَلْ يَضُرُّ، وَيَنْفَعُ " بَعْدَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:" لَا يَضُرُّ، وَلَا يَنْفَعُ " ; لِأَنَّهُ صُورَةُ مُعَارَضَةٍ، لَا جَرَمَ أَنَّ الذَّهَبِيَّ قَالَ فِي مُخْتَصَرِهِ عَنِ الْعَبْدِيِّ: إِنَّهُ سَاقِطٌ، وَعُمَرُ رضي الله عنه إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ، أَوِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِزَالَةً لِوَهْمِ الْجَاهِلِيَّةِ عَنِ اعْتِقَادِ الْحِجَارَةِ الَّتِي هِيَ أَصْنَامٌ اهـ.
فَمَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ ( «لَوْلَا أَمَرَنِي رَبِّي أَنْ أُقَبِّلَكَ لَمَا قَبَّلْتُكَ» ) إِيمَاءً إِلَى الْعُبُودِيَّةِ عَلَى الطَّرِيقَةِ التَّعَبُّدِيَّةِ، وَالتَّنَزُّلِ وَالتَّوَاضُعِ تَحْتَ الْأَحْكَامِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَإِلَّا فَالْعَقْلُ يَتَحَيَّرُ فِي تَقْبِيلِ سَيِّدِ الْكَوْنَيْنِ - الَّذِي لَوْلَاهُ لَمَا خُلِقَ الْأَفْلَاكُ - لِحَجَرٍ مِنَ الْأَحْجَارِ الَّذِي مِنْ جِنْسِ الْجَمَادَاتِ الَّذِي مِنْ أَحْقَرِ أَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَوْ أَنَّهُ مِنْ يَوَاقِيتِ الْجَنَّةِ حَقِيقَةً، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَيْنَانِ وَلِسَانٌ، وَفِي جَوْفِهِ مِيثَاقُ الرَّحْمَنِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ تَنَزُّلَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَالتَّجَلِّيَاتِ السُّبْحَانِيِّةِ حَيْثُ جَعَلَ لِعَبِيدِهِ حَرَمًا يَأْوُونَ إِلَيْهِ، وَيَلْتَجِئُونَ لَدَيْهِ، وَيَتَوَجَّهُونَ، وَيُقْبِلُونَ عَلَيْهِ عِنْدَ صَلَاتِهِمْ، وَسَائِرِ عِبَادَاتِهِمْ، وَحَلَالَاتِهِمْ، وَيَمِينًا يُقَبِّلُونَهَا، وَيَمْسَحُونَ أَيْدِيَهُمْ، وَيَضَعُونَ وُجُوهَهُمْ عَلَيْهَا، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم " «الْحَجَرُ يَمِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ يُصَافِحُ بِهَا عِبَادَهُ» ". رَوَاهُ الْخَطِيبُ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ جَابِرٍ، مَرْفُوعًا. وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا ( «الْحَجَرُ يَمِينُ اللَّهِ فَمَنْ مَسَحَهُ فَقَدْ بَايَعَ اللَّهَ» ) ، وَهَذَا كُلُّهُ تَأْنِيسٌ لِعِبَادِهِ حَيْثُ غَلَبَ عَلَى أَغْلَبِهِمُ التَّعَلُّقُ بِالْأَمْرِ الْمَحْسُوسِ فِي بِلَادِهِ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله: فِيهِ أَنَّ هَذَا التَّقْبِيلَ لَا يَكُونُ لَهُ صَوْتٌ، وَهَلْ يُسْتَحَبُّ السُّجُودُ عَلَى الْحَجَرِ عَقِيبَ التَّقْبِيلِ؟ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ يُقَبِّلُهُ، وَيَسْجُدُ عَلَيْهِ بِجَبْهَتِهِ، وَقَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ قَبَّلَهُ، ثُمَّ سَجَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ، فَفَعَلْتُهُ» . رَوَاهُ الْمُنْذِرِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، إِلَّا أَنَّ الشَّيْخَ قِوَامَ الدِّينِ الْكَاكِيَّ قَالَ: وَعِنْدَنَا الْأَوْلَى أَنْ لَا يَسْجُدَ لِعَدَمِ الرِّوَايَةِ فِي الْمَشَاهِيرِ، وَنَقَلَ السُّجُودَ عَنْ أَصْحَابِنَا الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فِي مَنَاسِكِهِ اهـ.
أَقُولُ: الْأَوْلَى أَنْ يَسْجُدَ بَعْضَ الْأَيَّامِ عِنْدَ عَدَمِ الزِّحَامِ، أَوْ فِي أَوَّلِهِ، وَأَخِرِهِ تَبَرُّكًا بِفِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام، لِجَوَازِ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ، وَلَوْ ضَعِيفًا، فَكَيْفَ وَقَدْ صَحَّحُوهُ؟ ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:«اسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَجَرَ، ثُمَّ وَضَعَ شَفَتَهُ عَلَيْهِ يَبْكِي طَوِيلًا، ثُمَّ الْتَفَتَ، فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَبْكِي، فَقَالَ: " يَا عُمَرُ، هَاهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ» ".
2590 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «وُكِّلَ بِهِ سَبْعُونَ مَلَكًا - يَعْنِي الرُّكْنَ الْيَمَانِيَ - فَمَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ - قَالُوا: آمِينَ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
ــ
2590 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ (وُكِّلَ بِهِ سَبْعُونَ مَلَكًا يَعْنِي) أَيْ: يُرِيدُ بِمَرْجِعِ الضَّمِيرِ (الرُّكْنَ الْيَمَانِيَ) : بِالتَّخْفِيفِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالْقَائِلُ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَوْ غَيْرُهُ بِطَرِيقِ الِاعْتِرَاضِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ عَلَى طَرِيقِ التَّفْسِيرِ. " «فَمَنْ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ» ) : أَيْ: عَنِ الذُّنُوبِ (وَالْعَافِيَةَ) أَيْ: عَنِ الْعُيُوبِ (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَفًّا وَنَشْرًا مُشَوَّشًا (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، قَالُوا: أَمِينَ) : وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ ; لِأَنَّهُ إِذَا وَصَلَ إِلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِي، وَشَرَعَ فِي هَذَا الدُّعَاءِ وَهُوَ مَارٌّ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَقَعُ بَيْنَهُمَا، إِذْ لَا يَجُوزُ الْوُقُوفُ لِلدُّعَاءِ فِي الطَّوَافِ كَمَا يَفْعَلُهُ جَهَلَةُ الْعَوَامِّ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله بَعْدَ مَا ذَكَرَ الْأَدْعِيَةَ الْمَأْثُورَةَ عَنِ الْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ: وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَسْتَوْفِيَ مَا أُثِرَ مِنَ الْأَدْعِيَةِ، وَالْأَذْكَارِ فِي الطَّوَافِ كَانَ وُقُوفُكَ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ أَكَثَرَ مِنْ مَشْيِكَ بِكَثِيرٍ، وَإِنَّمَا أَثَرْتَ هَذِهِ بِتَأَنٍّ، وَمُهْلَةٍ لَا رَمَلٍ، ثُمَّ وَقَعَ لِبَعْضِ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنَّهُ قَالَ فِي مَوْطِنِ كَذَا كَذَا، وَلِآخَرَ فِي آخَرَ كَذَا، وَلِآخَرَ فِي نَفْسِ أَحَدِهِمَا شَيْئًا آخَرَ، فَجَمَعَ الْمُتَأَخِّرُونَ الْكُلَّ، لَا أَنَّ الْكُلَّ وَقَعَ فِي الْأَصْلِ الْوَاحِدِ، بَلِ الْمَعْرُوفُ فِي الطَّوَافِ مُجَرَّدُ ذِكْرِ اللَّهِ، وَلَمْ نَعْلَمْ خَبَرًا رُوِيَ فِيهِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الطَّوَافِ. قُلْتُ: وَلَعَلَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَقْرَأْ فِي الطَّوَافِ شَيْئًا: الْقُرْآنَ بِقَصْدِ الْقِرَاءَةِ لِيُعْلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَرْكَانِ الطَّوَافِ، فَيَكُونُ مُسْتَثْنًى أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ:" الطَّوَافُ كَالصَّلَاةِ ". (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، إِلَّا أَنَّهُ مَقْبُولٌ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ، أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ:" «مَا انْتَهَيْتُ إِلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِي قَطُّ إِلَّا وَجَدْتُ جِبْرِيلَ عِنْدَهُ، قَالَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ، قُلْتُ: قُلْ: وَمَا أَقُولُ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَاقَةِ، وَمَوَاقِفِ الْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ " ثُمَّ قَالَ جِبْرِيلُ: " إِنَّ بَيْنَهُمَا سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ هَذَا قَالُوا: آمِينَ» ". وَفِي رِوَايَةٍ: " سَبْعُونَ " بِالْوَاوِ، وَعَلَى الْإِهْمَالِ لُغَةٌ فِي الْأَعْمَالِ، أَوْ عَلَى أَنَّ فِي (أَنَّ) ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَلَيْسَ نَظِيرُهُ:" «إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي مُلْهَمُونَ» " كَمَا تَوَهَّمَ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله لَا مَكَانَ كَوْنِ كَانَ تَامَّةً أَيْ: إِنْ وُجِدَ فِي أُمَّتِي مُلْهَمُونَ.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ: " «مَا مَرَرْتُ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِي إِلَّا وَعِنْدَهُ مَلَكٌ يُنَادِي يَقُولُ: آمِينَ آمِينَ؟ فَإِذَا مَرَرْتُمْ بِهِ فَقُولُوا: " اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: " «عَلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِي مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهِ مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ، وَالْأَرْضَ ; فَإِذَا مَرَرْتُمْ بِهِ فَقُولُوا: {رَبَّنَا آتِنَا} [البقرة: 200] الْآيَةَ. فَإِنَّهُ يَقُولُ: آمِينَ آمِينَ» ".
وَرَوَى الْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَقُولُ بَيْنَ الْيَمَانِيَيْنِ:" اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي، وَبَارِكْ فِيهِ، وَاخَلُفْ عَلَيَّ كُلَّ غَائِبَةٍ لِي بِخَيْرٍ» ". وَأَخْرَجَ الْأَزْرَقِيُّ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، أَنَّهُ كَانَ إِذَا مَرَّ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِي قَالَ:" بِسْمِ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ، السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْفَقْرِ وَمَوَاقِفِ الْخِزْي فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] ، وَجَاءَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلًا لِابْنِ الْمُسَيَّبِ، لَكِنْ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ زَادَ بَعْضُهُمْ لَهُ: «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقُولُ هَذَا، وَإِنْ كُنْتُ مُسْرِعًا؟ قَالَ: " نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ أَسْرَعَ مِنْ بَرْقِ الْخُلَّبِ» وَهُوَ سَحَابٌ لَا مَطَرَ فِيهِ.