الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْجَوَازِ بِلَا إِسَاءَةٍ، وَاللَّيْلُ وَقْتُ الْجَوَازِ مَعَ الْإِسَاءَةِ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله: وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ مَحَلِّ ثُبُوتِ الْإِسَاءَةِ عَدَمَ الْعُذْرِ، حَتَّى لَا يَكُونَ رَمْيُ الضَّعَفَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَرَمْيُ الرِّعَاءِ لَيْلًا يُلْزِمُهُمُ الْإِسَاءَةَ، وَكَيْفَ بِذَلِكَ بَعْدَ التَّرْخِيصِ اهـ. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الرِّعَاءِ، وَأَمَّا فِي الضَّعَفَةِ، فَضَعِيفٌ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي حَقِّهِمْ:" «لَا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» " ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله: وَلَوْ أَخَّرَهُ إِلَى غَدِهِ رَمَاهُ، وَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله خِلَافًا لَهُمْ. اهـ.
فَقَوْلُهُ: أَمْسَيْتُ ضِدُّ أَصْبَحْتُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ، فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ بَعْدَ الْغُرُوبِ، وَأَمَّا تَفْسِيرُ الطِّيبِيِّ رحمه الله بِمَا بَعْدَ الْعَصْرِ فَغَرِيبٌ، ثُمَّ الْوَقْتُ الْمَسْنُونُ فِي الْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَمَا بَعْدَ الْمَغْرِبِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَقْتٌ مَكْرُوهٌ، وَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ فَقَدْ فَاتَ وَقْتُ الْأَدَاءِ عِنْدَ الْإِمَامِ خِلَافًا لَهُمَا، وَبَقِيَ وَقْتُ الْقَضَاءِ اتِّفَاقًا، وَإِذَا غَرُبَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَقَدْ فَاتَ وَقْتُ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ بِالْإِجْمَاعِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
الْفَصْلُ الثَّانِي
2657 -
عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ:«أَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَفَضْتُ قَبْلَ أَنْ أَحْلِقَ، فَقَالَ: " احْلِقْ، أَوْ قَصِّرْ، وَلَا حَرَجَ ". وَجَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ. قَالَ: " ارْمِ، وَلَا حَرَجَ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
2657 -
(عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: أَتَاهُ) : أَيِ: النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَفَضْتُ) : أَيْ: طُفْتُ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ (قَبْلَ أَنْ أَحْلِقَ، قَالَ: " احْلِقْ، أَوْ قَصِّرْ) : " أَوْ " لِلتَّخْيِيرِ (وَلَا حَرَجَ) : أَيْ: لَا إِثْمَ، وَلَا فِدْيَةَ (وَجَاءَ آخَرُ، فَقَالَ: ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ: " ارْمِ وَلَا حَرَجَ) : أَيْ: لَا إِثْمَ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَى الْمُفْرِدِ، وَأَمَّا الْقَارِنُ، وَالْمُتَمَتِّعُ فَلَيْسَ عَلَيْهِمَا الْإِثْمُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ عَمْدٍ لَكِنْ عَلَيْهِمَا الْكَفَّارَةُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
2658 -
عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ رضي الله عنه، قَالَ:«خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم حَاجًّا، فَكَانَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ، فَمِنْ قَائِلٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَعَيْتُ قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ، أَوْ أَخَّرْتُ شَيْئًا، أَوْ قَدَّمْتُ شَيْئًا، فَكَانَ يَقُولُ: " لَا حَرَجَ إِلَّا عَلَى رَجُلٍ اقْتَرَضَ عِرْضَ مُسْلِمٍ وَهُوَ ظَالِمٌ، فَذَلِكَ الَّذِي حَرَجَ وَهَلَكَ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
2658 -
(عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ) : بِفَتْحِ الشِّينِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ (قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاجًّا) : أَيْ: مُرِيدَ الْحَجِّ (فَكَانَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ فَمِنْ قَائِلٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، سَعَيْتُ) : أَيْ: لِلْحَجِّ عَقِيبَ الْإِحْرَامِ بَعْدَ طَوَافِ قُدُومِ الْآفَاقِيِّ، أَوْ طَوَافِ نَفْلٍ لِلْمَكِّيِّ (قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ) : أَيْ: طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَهُوَ ظَاهِرُهُ يَشْمَلُ الْآفَاقِيَّ، وَالْمَكِّيَّ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا عَلَى اخْتِلَافٍ فِي أَفْضَلِيَّةِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ حَيْثُ قَيَّدَهُ بِالْأَفَاقِيِّ (أَوْ أَخَّرْتُ شَيْئًا، أَوْ قَدَّمْتُ شَيْئًا) : أَيْ: فِي أَفْعَالِ أَيَّامِ مِنًى (فَكَانَ يَقُولُ: لَا حَرَجَ ": أَيْ: لَا إِثْمَ إِلَّا عَلَى رَجُلٍ) : الِاسْتِثْنَاءُ يُؤَيِّدُ أَنَّ مَعْنَى الْحَرَجِ هُوَ: الْإِثْمُ (اقْتَرَضَ) : بِالْقَافِ أَيِ: اقْتَطَعَ (عِرْضَ مُسْلِمٍ) : أَيْ: نَالَ مِنْهُ وَقَطَعَهُ بِالْغِيبَةِ، أَوْ غَيْرِهَا (وَهُوَ) : أَيْ: وَالْحَالُ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ (ظَالِمٌ) : فَيَخْرُجُ حَرَجُ الرُّوَاةِ، وَالشُّهُودِ، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ (فَذَلِكَ الَّذِي) : أَيِ: الرَّجُلُ الْمَوْصُوفُ (حَرِجَ) : بِكَسْرِ الرَّاءِ، أَيْ: وَقَعَ مِنْهُ حَرَجٌ (وَهَلَكَ) : أَيْ: بِالْإِثْمِ، وَالْعَطْفُ تَفْسِيرِيٌّ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) : وَقَدْ جَاءَ فِي أَحَادِيثَ: " إِنَّ سِتًّا وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً بِالْأُمِّ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ أَهْوَنُ مِنْ عِرْضِ مُسْلِمٍ ".
[بَابٌ خُطْبَةُ يَوْمِ النَّحْرِ وَرَمْيُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَالتَّوْدِيعُ]
(10)
بَابٌ: خُطْبَةُ يَوْمِ النَّحْرِ، وَرَمْيُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَالتَّوْدِيعُ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
2659 -
ــ
[10]
بَابُ خُطْبَةِ يَوْمِ النَّحْرِ
الْخُطْبَةُ: الْمُرَاجَعَةُ فِي الْكَلَامِ، وَمِنْهُ: الْخُطْبَةُ وَالْخِطْبَةُ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ بِالضَّمِّ مُخْتَصَّةٌ بِالْمَوْعِظَةِ، وَالْخِطْبَةِ بِالْكَسْرِ بِطَلَبِ الْمَرْأَةِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ. (وَرَمْيُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ) : عَطْفٌ عَلَى خُطْبَةٍ (وَالتَّوْدِيعُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: عَطْفٌ عَلَى " التَّشْرِيقِ " أَيِ: الْأَيَّامِ الَّتِي تَسْتَتْبِعُ طَوَافَ الْوَدَاعِ اهـ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ: عَطْفٌ عَلَى " رَمْيُ " أَوْ " خُطْبَةُ " فَإِنَّهُ مَا وَقَعَ طَوَافُ وَدَاعِهِ عليه الصلاة والسلام إِلَّا فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي بَعْدَ أَيَّامٍ، وَلِلِاتِّفَاقِ عَلَى جَوَازِهِ فِي أَيَّامٍ، وَمَا بَعْدَهَا، بَلِ الْأَوْلَى عِنْدَ الْكُلِّ تَأْخِيرُهُ إِلَى حِينِ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ، فَلَا وَجْهَ لِتَقْيِيدِهِ بِأَيَّامٍ، مَعَ أَنَّهُ تَكْرَارٌ مَحْضٌ لَا إِفَادَةَ فِي إِعَادَتِهِ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
2659 -
(عَنْ أَبِي بَكْرَةَ) : أَيِ: الثَّقَفِيِّ (قَالَ: خَطَبَنَا) : أَيْ: وَعَظَنَا (النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ) : يُسْتَحَبُّ الْخُطْبَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَعِنْدَنَا فِي الثَّانِي مِنْ أَيَّامِهِ، وَتَقْيِيدُهُ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ يُؤَيِّدُ مَذْهَبَنَا، وَبِهِ اسْتَشْكَلَ النَّوَوِيُّ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ مِنْ قَوْلِهِمْ: يُسَنُّ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ، أَوْ نَائِبُهُ النَّاسَ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى خُطْبَةً فَرْدَةً، يُعَلِّمُ فِيهَا الْمَنَاسِكَ إِلَى أَنْ قَالَ: فَقَوْلُهُمْ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهَا كَانَتْ تُضَحِّي اهـ.
فَالصَّوَابُ أَنَّ هَذِهِ الْخُطْبَةَ كَانَتْ خُطْبَةَ مَوْعِظَةٍ، وَأَنَّ الْخُطْبَةَ الْمَعْرُوفَةَ كَانَتْ ثَانِيَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (قَالَ: إِنَّ الزَّمَانَ) : هُوَ اسْمٌ لِقَلِيلِ الْوَقْتِ وَكَثِيرِهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا السَّنَةُ. (قَدِ اسْتَدَارَ) : أَيْ: دَارَ (كَهَيْئَتِهِ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْهَيْئَةُ صُورَةُ الشَّيْءِ وَشَكْلُهُ وَحَالَتُهُ، وَالْكَافُ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيِ: اسْتَدَارَ اسْتِدَارَةً مِثْلَ حَالَتِهِ (يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ) : أَيْ: وَمَا فِيهَا مِنَ النَّيِّرَيْنِ اللَّذَيْنِ بِهِمَا تُعْرَفُ الْأَيَّامُ، وَاللَّيَالِي، وَالسَّنَةُ وَالْأَشْهُرُ، وَفِي نُسْخَةٍ:" كَهَيْئَةِ يَوْمٍ " بِالْإِضَافَةِ، وَهُوَ خِلَافُ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ (وَالْأَرْضَ) : أَيْ: عَادَ وَرَجَعَ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي ابْتَدَأَ مِنْهُ، يَعْنِي: الزَّمَانَ فِي انْقِسَامِهِ إِلَى الْأَعْوَامِ، وَالْأَعْوَامَ إِلَى الْأَشْهُرِ عَادَ إِلَى أَصْلِ الْحِسَابِ، وَالْوَضْعِ الَّذِي اخْتَارَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - وَوَضَعَهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَائِنَا: أَيْ: دَارَ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي اخْتَارَهُ اللَّهُ، وَوَضَعَهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ عَامٍ اثْنَى عَشَرَ شَهْرًا، وَكُلُّ شَهْرٍ مَا بَيْنَ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ إِلَى ثَلَاثِينَ يَوْمًا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ غَيَّرُوا ذَلِكَ ; فَجَعَلُوا عَامًا اثْنَى عَشَرَ شَهْرًا، وَعَامًا ثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُنْسِئُونَ الْحَجِّ فِي كُلِّ عَامَيْنِ مِنْ شَهْرٍ إِلَى شَهْرٍ آخَرَ بَعْدَهُ، وَيَجْعَلُونَ الشَّهْرَ الَّذِي أَنْسَئُوهُ مُلْغًى، فَتَصِيرُ تِلْكَ السَّنَةُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَتَتَبَدَّلُ أَشْهُرُهَا، فَيُحِلُّونَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ، وَيُحَرِّمُونَ غَيْرَهَا، كَمَا قَالَ - تَعَالَى:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37] الْآيَةَ. فَأَبْطَلَ اللَّهُ - تَعَالَى - ذَلِكَ، وَقَرَّرَهُ عَلَى مَدَارِهِ الْأَصْلِيِّ، فَالسَّنَةُ الَّتِي حَجَّ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاعِ هِيَ السَّنَةُ الَّتِي وَصَلَ ذُو الْحِجَّةِ إِلَى مَوْضِعِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ) يَعْنِي أَمَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يَكُونُ ذُو الْحِجَّةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، فَاحْفَظُوهُ، وَاجْعَلُوا الْحَجَّ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَلَا تُبَدِّلُوا شَهْرًا بِشَهْرٍ كَعَادَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ اهـ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: كَانُوا إِذَا جَاءَ شَهْرٌ حَرَامٌ، وَهُمْ مُحَارِبُونَ أَحَلُّوهُ، وَحَرَّمُوا مَكَانَهُ شَهْرًا آخَرَ، حَتَّى رَفَضُوا خُصُوصَ الْأَشْهُرِ، وَاعْتَبَرُوا مُجَرَّدَ الْعَدَدِ اهـ. فَكَأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي النَّسِيءِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا) : جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى، قَالَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) : قَالَ - تَعَالَى: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) .
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ رحمه الله: أَيْ: بِهَتْكِ حُرْمَتِهَا، وَارْتِكَابِ حَرَامِهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ الْمُقَاتَلَةِ فِيهَا مَنْسُوخَةٌ، وَأَوَّلُوا الظُّلْمَ بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي فِيهِنَّ، فَإِنَّهُ أَعْظَمُ وِزْرًا كَارْتِكَابِهَا فِي الْحَرَمِ، وَحَالَ الْإِحْرَامِ. وَعَنْ عَطَاءٍ: لَا يَحِلُّ لِلنَّاسِ أَنْ يَغْزُوا فِي الْحَرَمِ وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، إِلَّا أَنْ يُقَاتَلُوا، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَاصَرَ الطَّائِفَ، وَغَزَا هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ فِي شَوَّالٍ وَذِي الْقَعْدَةِ (ثَلَاثٌ) : أَيْ: لَيَالِي (مُتَوَالِيَاتٌ) : أَيْ: مُتَتَابِعَاتٌ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: اعْتَبَرَ ابْتِدَاءَ الشُّهُورِ مِنَ اللَّيَالِي، فَحَذَفَ التَّاءَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ تَغْلِيبٌ لِلَّيَالِي هُنَا كَمَا فِي " أَرْبَعَةٌ " تَغْلِيبٌ لِلْأَيَّامِ. (ذُو الْقَعْدَةِ) : بِفَتْحِ الْقَافِ، وَيُكْسَرُ (وَذُو الْحِجَّةِ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَقَدْ يُحْذَفُ مِنْهَا ذُو (وَالْمُحَرَّمُ) : عَطْفٌ عَلَى " ذُو الْقَعْدَةِ " كَانَ الْعَرَبُ يُؤَخِّرُونَ الْمُحَرَّمَ إِلَى صَفَرٍ مَثَلًا، لِيُقَاتِلُوا فِيهِ، وَهُوَ النَّسِيءُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ، وَهَكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، فَيَدُورُ الْمُحَرَّمُ فِي جَمِيعِ الشُّهُورِ، فَفِي سَنَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَادَ الْمُحَرَّمُ إِلَى أَصْلِهِ قَبْلُ، فَلِذَلِكَ أَخَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحَجَّ إِلَى تِلْكَ السَّنَةِ اهـ.
لَكِنْ يُشْكِلُ حَيْثُ أَمَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ، وَأَمَرَهُ بِالْحَجِّ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، مَعَ أَنَّ الْحَجَّ لَا يُصْبِحُ فِي غَيْرِ الْحَجَّةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ كَتَبْتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِسَالَةً مُسْتَقِلَّةً، ثُمَّ رَأَيْتُ ابْنَ حَجَرٍ رحمه الله وَافَقَنِي فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ حَيْثُ قَالَ: وَمِمَّا يَتَعَيَّنُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْحَجَّ سَنَةَ ثَمَانٍ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ أَمِيرُ مَكَّةَ، وَسَنَةَ تِسْعٍ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ، إِنَّمَا كَانَتْ فِي الْحِجَّةِ، كَانَ الزَّمَانُ اسْتَدَارَ فِيهِمَا لِاسْتِحَالَةِ أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم لِلنَّاسِ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ الْحِجَّةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا يُنَافِي ذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ:" قَدِ اسْتَدَارَ " صَادِقٌ بِهَذِهِ الْحِجَّةِ وَمَا قَبْلَهَا، فَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى الْعَامِلِينَ قَبْلَهَا أَيْضًا، كَمَا قَطَعَتْ بِهِ الْقَوَاعِدُ الشَّرْعِيَّةُ. (وَرَجَبُ مُضَرَ) : عَلَى وَزْنِ عُمَرَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ. قَبِيلَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْعَرَبِ أُضِيفَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَهُ فَوْقَ مَا يُعَظِّمُونَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَشْهُرِ، وَكَانُوا يُعَظِّمُونَهُ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ، وَلَا يُوَافِقُونَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْعَرَبِ فِي اسْتِحْلَالِهِ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى " ثَلَاثٌ " وَأَمَّا تَعْرِيفُهُ بِقَوْلِهِ:(الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَفَتْحِ الدَّالِ وَبَعْدَهُ أَلِفٌ، وَرَسْمُهُ بِالْيَاءِ (وَشَعْبَانَ) : فَلِإِزَاحَةِ الِارْتِيَابِ الْحَادِثِ فِيهِ مِنَ النَّسِيءِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ (وَقَالَ: " أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟) : أَرَادَ بِهَذَا الِاسْتِفْهَامِ أَنْ يُقَرِّرَ فِي نُفُوسِهِمْ حُرْمَةَ الشَّهْرِ، وَالْبَلْدَةِ، وَالْيَوْمِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ مَا أَرَادَهُ (قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) : رِعَايَةً لِلْأَدَبِ، وَتَحَرُّزًا عَنِ التَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَوَقُّفًا فِيمَا لَا يُعْلَمُ الْغَرَضُ مِنَ السُّؤَالِ عَنْهُ (فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. فَقَالَ: أَلَيْسَ) : أَيْ: هَذَا الشَّهْرُ أَوِ اسْمُهُ (ذَا الْحِجَّةِ) قُلْنَا: بَلَى، قَالَ:" أَيُّ بَلَدٍ هَذَا " قُلْنَا: (اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ) : بِلَا فَاءٍ (أَلَيْسَ) : أَيِ: الْبَلَدُ (الْبَلْدَةَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: غَلَبَتِ الْبَلْدَةُ عَلَى مَكَّةَ كَالْبَيْتِ عَلَى الْكَعْبَةِ اهـ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَيِ: الْبَلْدَةَ الَّتِي تَعْلَمُونَهَا مَكَّةَ، وَقِيلَ: هِيَ اسْمُ مَكَّةَ اهـ.
وَالْأَظْهَرُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَلَدِ الْأَرْضُ بِقَرِينَةِ الْإِشَارَةِ بِهَذَا فِي مِنًى، وَالْبَلْدَةُ وَإِنْ كَانَتِ اسْمَ مَكَّةَ لَكِنْ قَدْ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا أَرْضُ الْحَرَمِ كُلُّهَا مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الْجُزْءِ، وَإِرَادَةِ الْكُلِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى:{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} [النمل: 91] وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّحْرِيمَ يَعُمُّ مَوَاضِعَ الْحَرَمِ كُلَّهَا (وَقُلْنَا: بَلَى. قَالَ: " فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ " قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ قَالَ: " أَلَيْسَ) : أَيْ: هَذَا الْيَوْمُ (يَوْمَ النَّحْرِ؟) قُلْنَا: (بَلَى) : وَلَعَلَّ فَائِدَةَ السُّؤَالِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ مَعَ تَكَرُّرِ الْحَالِ ; لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي الْقَلْبِ، وَأَحْفَظَ فِي النَّفْسِ (قَالَ: " فَإِنَّ دِمَائَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ) : أَيْ: تَعَرُّضَكُمْ لِبَعْضِكُمْ فِي دِمَائِكُمْ، وَأَمْوَالِكُمْ، وَأَعْرَاضِكُمْ:
الْعِرْضُ - بِالْكَسْرَةِ - مَوْضِعُ الْمَدْحِ، وَالذَّمِّ مِنَ الْإِنْسَانِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي نَفْسِهِ، أَوْ سَلَفِهِ (عَلَيْكُمْ حَرَامٌ) : أَيْ: مُحَرَّمٌ حُرْمَةً شَدِيدَةً (كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا) : وَالْمُشَبَّهُ بِهِ قَدْ لَا يَكُونُ أَقْوَى بَأَنْ يَكُونَ أَشْهَرَ، وَأَظْهَرَ، وَكَانَ كَذَلِكَ سُنَّةُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ (وَفِي بَلَدِكُمْ هَذَا) : فَالْمَعْصِيَةُ بِهِ عَظِيمَةٌ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رحمه الله، وَجَمْعٌ مِنْ أَتْبَاعِهِ بِمُضَاعَفَةِ السَّيِّئَاتِ بِمَكَّةَ كَمَا تُضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ بِهَا، لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ أَنَّ السَّيِّئَةَ بِهَا تُضَاعَفُ كَيْفِيَّةً لَا كَمِّيَّةً، لِئَلَّا يُخَالِفَ حَصْرَ قَوْلِهِ:{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] : وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا لِلتَّعَدُّدِ الَّذِي ادَّعُوهُ، بَلْ لِلْعِظَمِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ (فِي شَهْرِكُمْ هَذَا) : إِنَّمَا شَبَّهَهَا فِي الْحُرْمَةِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرَوْنَ اسْتِبَاحَةَ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، وَانْتِهَاكَ حُرْمَتِهَا بِحَالٍ (وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ) : أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ (فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ) : أَيِ: الْقَلِيلَةِ وَالْكَثِيرَةِ (أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي) : أَيْ: لَا تَصِيرُوا بَعْدَ وَفَاتِي (ضُلَّالًا) : بِضَمِّ الضَّادِ، وَتَشْدِيدِ اللَّامِ جَمْعُ ضَالٍّ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَيُرْوَى كُفَّارًا أَيْ: مُشَبَّهِينَ بِهِمْ فِي الْأَعْمَالِ (يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ أَوْ حَالٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ (أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (هَلْ بَلَّغْتُ؟) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ، أَيْ: أَعْلَمْتُكُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيَّ مِنْ رَبِّي؟ (قَالُوا) : نَعَمْ قَالَ: " اللَّهُمَّ اشْهَدْ) : أَيْ: لِي وَعَلَيْهِمْ (فَلْيُبَلِّغِ) : بِالتَّشْدِيدِ، وَيُخَفَّفُ، أَيْ: لِيُخْبِرِ (الشَّاهِدُ) : أَيِ: الْحَاضِرُ (الْغَائِبَ) : أَيْ: حَقِيقَةً، أَوْ حُكْمًا (فَرُبَّ مُبَلَّغٍ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ، أَيْ: مَنْ يَبْلُغُهُ الْحَدِيثُ (أَوْعَى) أَيْ: أَحْفَظُ لِمَبْنَاهُ، وَأَفْهَمُ لِمَعْنَاهُ (مِنْ سَامِعٍ) : فِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلْغَائِبِينَ، وَتَقْوِيَةٌ لِلتَّابِعِينَ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ بَابَ اللَّهِ مَفْتُوحٌ لِلسَّالِكِينَ، وَلَا يَطْرُدُ عَنْ بَابِهِ إِلَّا الْهَالِكِينَ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2660 -
وَعَنْ وَبَرَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما: مَتَى أَرْمِي الْجِمَارَ؟ قَالَ: إِذَا رَمَى إِمَامُكَ فَارْمِهِ، فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ فَقَالَ: كُنَّا نَتَحَيَّنُ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
2660 -
(وَعَنْ وَبَرَةَ) : بِفَتَحَاتٍ، وَقِيلَ: بِسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْمُؤَلِّفُ وَهُوَ: ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ التَّابِعِيُّ (قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ: مَتَى أَرْمِي الْجِمَارَ؟) : أَيْ: فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَمَا بَعْدَهُ (قَالَ: إِذَا رَمَى إِمَامُكَ) : أَيِ: اقْتَدِ فِي الرَّمْيِ بِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ بِوَقْتِ الرَّمْيِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله، وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ تَبِعَ عَالِمًا لَقِيَ اللَّهَ سَالِمًا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، أَيِ: الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ إِنْ حَضَرَ الْحَجَّ، وَإِلَّا فَأَمِيرُ الْحَجِّ، فَفِيهِ أَنَّهُمْ لَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي زَمَانِنَا. (فَارْمِهِ) : بِهَاءِ الضَّمِيرِ، أَوِ السَّكْتِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ تَقْدِيرُهُ:" ارْمِ " مَوْضِعَ " الْجَمْرَةِ " أَوِ ارْمِ الرَّمْيَ أَوِ الْحَصَى (فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ) : أَرَدْتُ تَحْقِيقَ وَقْتِ رَمْيِ الْجَمْرَةِ (فَقَالَ: كُنَّا نَتَحَيَّنُ) : أَيْ: نَطْلُبُ الْحِينَ وَالْوَقْتَ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ: نَنْتَظِرُ دُخُولَ وَقْتِ الرَّمْيِ (فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا) : بِلَا ضَمِيرٍ أَيِ: الْجَمْرَةَ، وَفِي نُسْخَةٍ: رَمَيْنَاهُ أَيِ: الْحَصَى، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِتَقْدِيمِ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
2661 -
ــ
2661 -
(وَعَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ) : أَيْ: أَبِيهِ (أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي جَمْرَةَ الدُّنْيَا) : أَيِ: الْبُقْعَةَ الْقُرْبَى، وَهِيَ الْجَمْرَةُ الْأُولَى لِأَنَّهَا أَقْرَبُ مَنَازِلِ النَّازِلِينَ عِنْدَ مَسْجِدِ الْخَيْفِ، وَهُنَاكَ كَانَ مُنَاخُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ) : فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ) : بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَبِفَتْحِهِمَا، أَيْ: عَقِيبَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْحَصَى، وَفِي رِوَايَةٍ " كُلِّ حَصَاةٍ " وَفِي رِوَايَةٍ " عِنْدَ كُلِّ حَصَاةٍ " وَهُوَ أَعَمُّ، وَالْمُرَادُ بِالْمَعِيَّةِ: خُرُوجُ الْجَمْرَةِ مِنَ الْيَدِ، فَهُوَ مَعَ الرَّمْيِ بِاعْتِبَارِ الِابْتِدَاءِ، أَوْ أَثَرِهِ بِاعْتِبَارِ الِانْتِهَاءِ. قَالَهُ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله. كَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَكَذَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ، وَظَاهِرُ الْمَرْوِيَّاتِ مِنْ ذَلِكَ الِاقْتِصَارُ عَلَى " اللَّهُ أَكْبَرُ " يَعْنِي وَفِي بَعْضِهَا زِيَادَةُ: بِسْمِ.
اللَّهِ، وَفِي بَعْضِهَا رَغْمًا لِلشَّيْطَانِ، وَرِضًا لِلرَّحْمَنِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا، وَسَعْيًا مَشْكُورًا، وَذَنْبًا مَغْفُورًا. (ثُمَّ يَتَقَدَّمُ) : أَيْ: يَذْهَبُ قَلِيلًا مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ (حَتَّى يُسْهِلَ) : بِضَمِّ الْيَاءِ، وَكَسْرِ الْهَاءِ، أَيْ: يَدْخُلَ الْمَكَانَ السَّهْلَ، وَهُوَ اللَّيِّنُ ضِدَّ الْحَزْنِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ أَيِ: الصَّعْبِ (فَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ مُقَابِلَ الْكَعْبَةِ، وَفِي التَّعْبِيرِ بِالْقِبْلَةِ إِشْعَارٌ بِاعْتِبَارِ الْجِهَةِ، ثُمَّ قَوْلُهُ (فَيَقُومُ) : مَرْفُوعٌ عَطْفًا عَلَى " يَتَقَدَّمُ "(طَوِيلًا) : أَيْ: قِيَامًا، أَوْ زَمَانًا طَوِيلًا، وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ (وَيَدْعُو) : أَيْ: (قَدْرَ) سُورَةِ الْبَقَرَةِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. (وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ) : خِلَافًا لِمَالِكٍ (ثُمَّ يَرْمِي الْوُسْطَى) : أَيِ: الْجَمْرَةَ الَّتِي بَيْنَ الْأُولَى وَالْأُخْرَى (بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: هَلْ هَذَا التَّرْتِيبُ مُتَعَيَّنٌ، أَوْ أَوْلَى؟ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالَّذِي يَقْوَى عِنْدِي اسْتِنَانُ التَّرْتِيبِ لَا تَعْيِينُهُ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ. أَقُولُ: وَالْأَحْوَطُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُوَالَاةَ سُنَّةٌ كَمَا فِي الْوُضُوءِ، أَوْ وَاجِبٌ وَفْقَ مَذْهَبِ مَالِكٍ رحمه الله هُنَالِكَ (يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ) : ظَاهِرُهُ تَأْخِيرُ التَّكْبِيرِ عَنِ الرَّمْيِ، لَكِنْ يُئَوَّلُ بِمَا تَقَدَّمَ (ثُمَّ يَأْخُذُ بِذَاتِ الشِّمَالِ فَيُسْهِلُ) : أَيْ: يَذْهَبُ عَلَى شِمَالِ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَوْضِعٍ سَهْلٍ (وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ يَدْعُو، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَيَقُومُ طَوِيلًا) كَمَا تَقَدَّمَ (ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ الْعَقَبَةِ) : بِإِضَافَةِ الْجَمْرَةِ (مِنْ بَطْنِ الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ) : فِي " الْهِدَايَةِ ": لَوْ رَمَاهَا مِنْ فَوْقِ الْعَقَبَةِ أَجْزَأَهُ، إِلَّا أَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فَفِعْلُهُ عليه الصلاة والسلام مِنْ أَسْفَلِهَا سُنَّةٌ لَا أَنَّهُ الْمُتَعَيَّنُ، وَلِذَا ثَبَتَ رَمْيُ خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ أَعْلَاهَا، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ، وَلَا أَعْلَنُوا بِالنِّدَاءِ بِذَلِكَ فِي النَّاسِ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ نَاسًا يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذَا وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَكَانَ وَجْهُ اخْتِيَارِهِ عليه الصلاة والسلام لِذَلِكَ هُوَ وَجْهُ اخْتِيَارِهِ حَصَى الْخَذْفِ، فَإِنَّهُ يُتَوَقَّعُ الْأَذَى إِذَا رَمَوْا مِنْ أَعْلَاهَا لِمَنْ أَسْفَلَهَا، فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ مُرُورِ النَّاسِ فَيُصِيبُهُمْ، بِخِلَافِ الرَّمْيِ مِنْ أَسْفَلَ مَعَ الْمَارِّينَ مِنْ فَوْقِهَا اهـ.
وَيُؤَيِّدُهُ جَوَازُ الرَّمْيِ مِنَ الْجَوَانِبِ سَائِرَ الْجِهَاتِ، مَعَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام مَا رَمَى إِلَّا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ (يُكَبِّرُ عِنْدَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَلَا يَقِفُ) : أَيْ: لِلدُّعَاءِ (عِنْدَهَا) . قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله: وَلَمْ تَظْهَرْ حِكْمَةُ تَخْصِيصِ الْوُقُوفِ وَالدُّعَاءِ بِغَيْرِهَا مِنَ الْجَمْرَتَيْنِ، فَإِنْ تَخَايَلَ أَنَّهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لِكَثْرَةِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الشُّغْلِ كَالذَّبْحِ، وَالْحَلْقِ، وَالْإِفَاضَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَهُوَ مُنْعَدِمٌ فِيمَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَيَّامِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَوْنُ الْوُقُوفِ يَقَعُ فِي جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فِي الطَّرِيقِ، فَيُوجِبُ قَطْعَ سُلُوكِهَا عَلَى النَّاسِ وَشِدَّةَ ازْدِحَامِ الْوَاقِفِينَ، وَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى ضَرَرٍ عَامٍّ بِخِلَافِهِ فِي بَاقِي الْجِمَارِ، فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ فِي نَفْسِ الطَّرِيقِ، بَلْ بِمَعْزِلٍ مُعْتَصَمٍ عَنْهُ (ثُمَّ يَنْصَرِفُ) : أَيِ: ابْنُ عُمَرَ (فَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) : رحمه الله تَعَالَى -.
2662 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «اسْتَأْذَنَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ» ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2662 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «اسْتَأْذَنَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ» ) : أَيِ: الَّتِي بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، الْمَمْلُوءَةِ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ الْمَنْدُوبِ الشُّرْبُ مِنْهَا عَقِبَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَغَيْرِهِ إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرِ الشُّرْبُ مِنَ الْبِئْرِ لِلْخَلْقِ الْكَثِيرِ، وَهِيَ الْآنَ بِرْكَةٌ، وَكَانَتْ حِيَاضًا فِي يَدِ قُصَيٍّ، ثُمَّ مِنْهُ لِابْنِهِ عَبْدِ مَنَافٍ، ثُمَّ مِنْهُ لِابْنِهِ هَاشِمٍ، ثُمَّ مِنْهُ لِابْنِهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ثُمَّ مِنْهُ لِابْنِهِ الْعَبَّاسِ، ثُمَّ مِنْهُ لِابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ، ثُمَّ مِنْهُ لِابْنِهِ عَلِيٍّ، وَهَكَذَا إِلَى الْآنَ، لَكِنْ لَهُمْ نُوَّابٌ يَقُومُونَ بِهَا. قَالُوا: وَهِيَ لِآلِ عَبَّاسٍ أَبَدًا (فَأَذِنَ لَهُ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: يَجُوزُ لِمَنْ هُوَ مَشْغُولٌ بِالِاسْتِقَاءِ مِنْ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ لِأَجْلِ النَّاسِ أَنْ يَتْرُكَ الْمَبِيتَ بِمِنًى لَيَالِيَ مِنًى، وَيَبِيتَ بِمَكَّةَ، وَلِمَنْ لَهُ عُذْرٌ شَدِيدٌ أَيْضًا اهـ. فَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ السُّنَّةِ إِلَّا بِعُذْرٍ، وَمَعَ الْعُذْرِ تَرْتَفِعُ عَنْهُ الْإِسَاءَةُ، وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَيَجِبُ الْمَبِيتُ فِي أَكْثَرِ اللَّيَالِي، وَمِنَ الْأَعْذَارِ: الْخَوْفُ عَلَى نَفْسٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ ضَيَاعُ مَرِيضٍ، أَوْ حُصُولُ مَرَضٍ لَهُ يَشُقُّ مَعَهُ الْمَبِيتُ مَشَقَّةً لَا تُحْتَمَلُ عَادَةً.
2663 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ إِلَى السِّقَايَةِ، فَاسْتَسْقَى، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا فَضْلُ، إِلَى أُمِّكَ فَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَرَابٍ مِنْ عِنْدِهَا، فَقَالَ: " اسْقِنِي " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أَيْدِيَهُمْ فِيهِ. قَالَ: " اسْقِنِي " فَشَرِبَ فِيهِ، ثُمَّ أَتَى زَمْزَمَ، وَهُمْ يَسْقُونَ، وَيَعْمَلُونَ فِيهَا، فَقَالَ: " اعْمَلُوا، فَإِنَّكُمْ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ " ثُمَّ قَالَ: " لَوْلَا أَنْ تُغْلَبُوا، لَنَزَلْتُ حَتَّى أَضَعَ الْحَبْلَ عَلَى هَذِهِ ". وَأَشَارَ إِلَى عَاتِقِهِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
2663 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ إِلَى السِّقَايَةِ» ) : أَيْ: سِقَايَةِ الْحَاجِّ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ (فَاسْتَسْقَى) : أَيْ: طَلَبَ الْمَاءَ بِلِسَانِ الْقَالِ، أَوْ بَيَانِ الْحَالِ (فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا فَضْلُ، اذْهَبْ إِلَى أُمِّكَ، فَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَرَابٍ) : أَيْ: مَاءٍ خَالِصٍ خَاصٍّ مَا وَصَلَهُ اسْتِعْمَالٌ (مِنْ عِنْدِهَا، فَقَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام (اسْقِنِي) بِهَمْزَةِ وَصْلٍ، أَوْ قَطْعٍ، أَيْ: مِنْ هَذَا الْمَاءِ الْحَاضِرِ فِي السِّقَايَةِ (فَقَالَ) : أَيِ: الْعَبَّاسُ (يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ) : أَيِ النَّاسَ (يَجْعَلُونَ أَيْدِيَهُمْ فِيهِ) : أَيْ: فِي هَذَا الْمَاءِ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ عَدَمُ النَّظَافَةِ. (قَالَ:" اسْقِنِي " فَشَرِبَ مِنْهُ) : وَيُوَافِقُهُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُحِبُّ الشُّرْبَ مِنْ فَضْلِ وُضُوءِ النَّاسِ تَبَرُّكًا بِهِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ فِي " الْإِفْرَادِ " مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا، عَنْ أَنَسٍ:" «مِنَ التَّوَاضُعِ أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ مِنْ سُؤْرِ أَخِيهِ» ". وَأَمَّا حَدِيثُ «سُؤْرِ الْمُؤْمِنِ شِفَاءٌ» ، فَغَيْرُ مَعْرُوفٍ. (ثُمَّ أَتَى زَمْزَمَ، وَهُمْ يَسْقُونَ) : أَيِ: النَّاسَ عَلَيْهَا (وَيَعْمَلُونَ) : أَيْ: يَكْدَحُونَ (فِيهَا) : أَيْ: بِالْجَذْبِ، وَالصَّبِّ (فَقَالَ:" اعْمَلُوا فَإِنَّكُمْ عَلَى عَمَلٍ) : أَيْ: قَائِمُونَ، أَوْ ثَابِتُونَ أَيْ: تَسْعَوْنَ عَلَى عَمَلٍ (صَالِحٍ) : أَيْ: خَيْرٍ لِأَنَّ خَيْرَ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ (ثُمَّ قَالَ: " لَوْلَا أَنْ تُغْلَبُوا) : أَيْ: لَوْلَا كَرَاهَةُ أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ، وَيَأْخُذُوا هَذَا الْعَمَلَ الصَّالِحَ مِنْ أَيْدِيكُمْ (لَنَزَلْتُ) : أَيْ: عَنْ نَاقَتِي (حَتَّى أَضَعَ) : بِالنَّصْبِ وَالرَّفْعِ (الْحَبْلَ عَلَى هَذِهِ ". وَأَشَارَ إِلَى عَاتِقِهِ) : وَهُوَ أَحَدُ طَرَفَيْ رَقَبَتِهِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«جَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى زَمْزَمَ، فَنَزَعْنَا لَهُ دَلْوًا فَشَرِبَ، ثُمَّ مَجَّ فِيهَا، ثُمَّ أَفْرَغْنَهَا فِي زَمْزَمَ، ثُمَّ قَالَ: " لَوْلَا أَنْ تُغْلَبُوا عَلَيْهِ لَنَزَعْتُ بِيَدِي» " وَفِي رِوَايَةٍ: عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم (لَمَّا أَفَاضَ نَزَعَ الدَّلْوَ) أَيْ: مِنْ زَمْزَمَ، وَلَمْ يَنْزِعْ مَعَهُ أَحَدٌ، فَشَرِبَ، ثُمَّ أَفْرَغَ بَاقِيَ الدَّلْوِ فِي الْبِئْرِ، وَوَجْهُ الْجَمْعِ لَا يَخْفَى.
2664 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ، وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ، وَالْعَشَاءَ، ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ، فَطَافَ بِهِ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
2664 -
(وَعَنْ أَنَسٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً» ) : أَيْ: نَامَ نَوْمَةً خَفِيفَةً (بِالْمُحَصَّبِ) : بِفَتْحِ الصَّادِ الْمُشَدَّدَةِ، تَنَازَعَ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ صَلَّى وَرَقَدَ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ كُلُّ مَوْضِعٍ كَثُرَ حَصَاؤُهُ، وَالْمُرَادُ الشِّعْبُ الَّذِي أَحَدُ طَرَفَيْهِ مِنًى، وَالْآخَرُ مُتَّصِلٌ بِالْأَبْطَحِ. وَيَنْتَهِي عِنْدَهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُفَرِّقِ الرَّاوِي بَيْنَهُمَا، فَرُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ صَلَّى بِالْمُحَصَّبِ، وَفِي حَدِيثِهِ الْآخَرِ أَنَّهُ صَلَّى بِالْأَبْطَحِ، وَيُقَالُ لَهُ الْبَطْحَاءُ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ، قَالَ فِي الْإِمَامِ: وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى، وَهُوَ إِلَى مِنًى أَقْرَبُ، وَهَذَا لَا تَحْدِيدَ فِيهِ أَيْ: لَا تَحْقِيقَ لَهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ فِنَاءُ مَكَّةَ وَحْدَهُ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ الْمُتَّصِلَيْنِ بِالْمَقَابِرِ إِلَى الْجِبَالِ الْمُقَابِلَةِ لِذَلِكَ مُصْعِدًا فِي الشِّقِّ الْأَيْسَرِ، وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى مِنًى مُرْتَفِعًا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَلَيْسَتِ الْمَقْبَرَةُ مِنَ الْمُحَصَّبِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا خَيْفَ بَنِي كِنَانَةَ، وَأَصْلُ الْخَيْفِ مَعْنَاهُ سَفْحُ الْجَبَلِ مُطْلَقًا. (ثُمَّ رَكِبَ) : أَيْ: مِنَ الْمُحَصَّبِ مُتَوَجِّهًا (إِلَى الْبَيْتِ، فَطَافَ بِهِ) : أَيْ: طَوَافَ الْوَدَاعِ يُحْتَمَلُ رَاكِبًا وَمَاشِيًا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: التَّحْصِيبُ هُوَ أَنَّهُ إِذَا نَفَرَ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ لِلتَّوْدِيعِ ; يَنْزِلُ بِالشِّعْبِ الَّذِي يَخْرُجُ بِهِ إِلَى الْأَبْطَحِ، وَيَرْقُدُ فِيهِ سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرَاهُ سُنَّةً، وَهُوَ الْأَصَحُّ. قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يَحْتَرِزُ بِهِ عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَمْ يَكُنْ قَصْدًا، فَلَا يَكُونُ سُنَّةً لِمَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَيْسَ التَّحْصِيبُ بِشَيْءٍ، إِنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَمْ يَأْمُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَنْزِلَ الْأَبْطَحَ حِينَ خَرَجَ مِنْ مِنًى، وَلَكِنْ جِئْتُ، وَضَرَبْتُ قُبَّتَهُ فَجَاءَ فَنَزَلَ، وَوَجْهُ الْمُخْتَارِ مَا أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا فِي حَجَّتِكَ؟ فَقَالَ:" هَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مَنْزِلًا " ثُمَّ قَالَ: " «نَحْنُ نَازِلُونَ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْكُفْرِ " يَعْنِي: الْمُحَصَّبَ» ، الْحَدِيثَ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ بِمِنًى: نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ، حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ " وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَبَنِي كِنَانَةَ تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ، وَلَا يُبَايِعُوهُمْ، حَتَّى يُسَلِّمُوا إِلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُحَصَّبَ» اهـ.
فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ نَوَاهُ قَصْدًا لِيَرَى لُطْفَ صُنْعِ اللَّهِ بِهِ، وَلِيَتَذَكَّرَ فِيهِ نِعَمَهُ - سُبْحَانَهُ - عَلَيْهِ عِنْدَ مُقَايَسَتِهِ نُزُولَهُ بِهِ الْآنَ إِلَى حَالِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، أَعْنِي حَالَ انْحِصَارِهِ مِنَ الْكُفَّارِ فِي ذَاتِ اللَّهِ - تَعَالَى، وَهَذَا أَمْرٌ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْعِبَادَةِ، ثُمَّ هَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي شَمِلَتْهُ عليه الصلاة والسلام مِنَ النَّصْرِ، وَالِاقْتِدَارِ عَلَى إِقَامَةِ التَّوْحِيدِ، وَتَقْرِيرِ قَوَاعِدِ الْوَضْعِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي دَعَا اللَّهُ - تَعَالَى - إِلَيْهِ عِبَادَهُ ; لِيَنْتَفِعُوا بِهِ فِي دُنْيَاهُمْ، وَمَعَادِهِمْ، لَا شَكَّ فِي أَنَّهَا النِّعْمَةُ الْعُظْمَى عَلَى أُمَّتِهِ، لِأَنَّهُمْ مَظَاهِرُ الْمَقْصُودِ مِنْ ذَلِكَ الْمُؤَيَّدِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَدِيرٌ بِتَفَكُّرِهَا، وَالشُّكْرِ التَّامِّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ أَيْضًا، فَكَانَ سُنَّةً فِي حَقِّهِمْ ; لِأَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي هَذَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا، وَعَنْ هَذَا حَصَبَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ. أَخْرَجَ مُسْلِمٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا يَعْرِفُونَ الْأَبْطَحَ، وَأُخْرِجَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَرَى التَّحْصِيبَ سُنَّةً، وَكَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ النَّفْرِ بِالْمُحَصَّبِ، قَالَ نَافِعٌ: قَدْ حَصَّبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ اهـ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ كَالرَّمَلِ، وَلَا عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْإِرَاءَةَ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يُرَادَ بِهَا إِرَاءَةُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ مُشْرِكٌ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، بَلِ الْمُرَادُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانَ لَهُمْ عِلْمٌ بِالْحَالِ الْأَوَّلِ.
2665 -
وَعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، قَالَ:«سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ عَقَلْتَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؟ قَالَ: بِمِنًى؟ [قَالَ] : فَأَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ؟ قَالَ: بِالْأَبْطَحِ. ثُمَّ قَالَ: افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2665 -
(وَعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ) : بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، أَسَدِيٌّ مَكِّيٌّ، سَكَنَ الْكُوفَةَ، وَهُوَ مِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ، وَثِقَاتِهِمْ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، قُلْتُ) : بَدَلٌ مِنْ " سَأَلْتُ " أَوْ بَيَانٌ (أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ عَقَلْتَهُ) : بِفَتْحِ الْقَافِ، أَيْ: عَلِمْتَهُ، وَحَفِظْتَهُ (عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؟) : أَيِ: الْيَوْمَ الثَّامِنَ (قَالَ: بِمِنًى، قَالَ) : فِيهِ الْتِفَاتٌ، إِذْ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ:[قَالَ] : " فَأَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ؟) أَيِ: الثَّانِيَ، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. (قَالَ: بِالْأَبْطَحِ) : الْمُتَبَادِرُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَوَّلُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا فِي الْأَبْطَحِ هُوَ الْعَصْرُ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ السَّابِقُ عَلَيْهِ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ الظُّهْرُ، لَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لَهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فِي تَقْدِيمِ الظُّهْرِ عَلَى الرَّمْيِ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ رَمْيَهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ بَعْدَ تَحَقُّقِ الزَّوَالِ، وَإِنَّ جَوَازَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ مَعَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُ، وَغَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: الْحِكْمَةُ فِي تَأْخِيرِ ظُهْرِهِ حِينَ نَفَرَ إِظْهَارُ الرُّخْصَةِ بَعْدَ بَيَانِ الْعُزْلَةِ، وَالْإِيمَاءُ إِلَى السُّرْعَةِ الْجَامِعَةِ بَيْنَ نَوْعٍ مِنَ التَّعْجِيلِ وَالتَّأَخُّرِ فِي الْآيَةِ اللَّامِعَةِ.
(ثُمَّ قَالَ) : أَيْ: أَنَسٌ (افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ) : أَيْ: لَا تُخَالِفْهُمْ، فَإِنْ نَزَلُوا بِهِ فَانْزِلْ بِهِ، وَإِنْ تَرَكُوهُ فَاتْرُكْهُ حَذَرًا مِمَّا يَتَوَلَّدُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ مِنَ الْمَفَاسِدِ، فَيُفِيدُ أَنَّ تَرْكَهُ لِعُذْرٍ لَا بَأْسَ بِهِ، لَا كَمَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله، يَعْنِي مَا ذَكَرَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِنُسُكٍ مِنَ الْمَنَاسِكِ حَتَّى وَجَبَ عَلَيْكَ فِعْلُهُ، نَعَمْ غَيْرُ وَاجِبٍ إِجْمَاعًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ سُنَّةً أَمْ لَا. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2666 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: نُزُولُ الْأَبْطَحِ لَيْسَ بِسُنَّةٍ، إِنَّمَا «نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ كَانَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ إِذَا خَرَجَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2666 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: نُزُولُ الْأَبْطَحِ) : أَيِ: النُّزُولُ فِيهِ (لَيْسَ بِسُنَّةٍ) : أَيْ: قَصْدِيَّةٍ، أَوْ مِنْ سُنَنِ الْحَجِّ، بِدَلِيلِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الصَّحِيحَةِ عَنْهَا لَيْسَ مِنَ الْمَنَاسِكِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهَا لَيْسَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ، أَوْ مِنَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَاتِ (إِنَّمَا نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ كَانَ أَسْمَحَ) : أَيْ: أَسْهَلَ (لِخُرُوجِهِ) : أَيْ: إِلَى الْمَدِينَةِ (إِذَا خَرَجَ) : أَيْ: إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ، وَقِيلَ: أَسْهَلَ لِخُرُوجِهِ وَقْتَ الْخُرُوجِ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ لِطَوَافِ الْوَدَاعِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَتْرُكُ فِيهِ ثِقَلَهُ وَمَتَاعَهُ، أَيْ: كَانَ نُزُولُهُ بِالْأَبْطَحِ لِيَتْرُكَ ثِقَلَهُ وَمَتَاعَهُ هُنَاكَ، وَيَدْخُلَ مَكَّةَ، فَيَكُونُ خُرُوجُهُ مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَةِ أَسْهَلَ اهـ. وَفِيهِ أَنَّهُ مَا يُنَافِيهِ قَصْدُ النُّزُولِ بِهِ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَرَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ، وَقَدْ وَافَقَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنَّهُ عَبَّرَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله، لَكِنَّ الْمَعْنَى لَيْسَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَنَاسِكِ، أَوْ لَيْسَ بِشَيْءٍ يَلْزَمُ، وَخَالَفَهُمَا فِي ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ، فَكَانَ يَرَاهُ سُنَّةً، وَيَسْتَدِلُّ بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ يَنْزِلُونَ بِهِ.
2667 -
وَعَنْهَا قَالَتْ: «أَحْرَمْتُ مِنَ التَّنْعِيمِ بِعُمْرَةٍ، فَدَخَلْتُ، فَقَضَيْتُ عُمْرَتِي، وَانْتَظَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى فَرَغْتُ، فَأَمَرَ النَّاسَ بِالرَّحِيلِ، فَخَرَجَ، فَمَرَّ بِالْبَيْتِ، فَطَافَ بِهِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ» ". هَذَا الْحَدِيثُ مَا وَجَدْتُهُ بِرِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ، بَلْ بِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مَعَ اخْتِلَافٍ يَسِيرٍ فِي آخِرِهِ.
ــ
2667 -
(وَعَنْهَا) : أَيْ: عَنْ عَائِشَةَ (قَالَتْ: أَحْرَمْتُ مِنَ التَّنْعِيمِ، بِعُمْرَةٍ، فَدَخَلْتُ) : أَيْ: مَكَّةَ (فَقَضَيْتُ عُمْرَتِي) : أَيِ: الْعُمْرَةَ الَّتِي تَحَلَّلْتُ مِنْهَا بِسَبَبِ حَيْضِهَا (وَانْتَظَرَنِي) بِالنُّونِ، وَفِي نُسْخَةِ ابْنِ حَجَرٍ بِاللَّامِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ مَعَ احْتِيَاجِهِ إِلَى تَأْوِيلِ " انْتَظَرَ لِأَجْلِي " (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْأَبْطَحِ حَتَّى فَرَغْتُ) : أَيْ: مِنَ الْعُمْرَةِ (فَأَمَرَ النَّاسَ بِالرَّحِيلِ، فَخَرَجَ) : أَيْ: مِنَ الْأَبْطَحِ (فَمَرَّ بِالْبَيْتِ، فَطَافَ بِهِ) : أَيْ: طَوَافَ الْوَدَاعِ (قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، أَوْ بَعْدَهَا. (هَذَا الْحَدِيثُ مَا وَجَدْتُهُ بِرِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ) : أَيْ: أَحَدِهِمَا (بَلْ) : أَيْ: وَجَدْتُهُ (بِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مَعَ اخْتِلَافٍ يَسِيرٍ) : أَيْ: بَيْنَهُ، وَبَيْنَ رِوَايَةِ الْمَصَابِيحِ (فِي آخِرِهِ) : فِيهِ اعْتِرَاضَانِ عَلَى صَاحِبِ الْمَصَابِيحِ حَيْثُ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَحَيْثُ خَالَفَ لَفْظَ أَبِي دَاوُدَ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
2668 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ:«كَانَ النَّاسُ يَنْصَرِفُونَ فِي كُلِّ وَجْهٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ، إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْحَائِضِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2668 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ) : أَيْ: بَعْدَ حَجِّهِمْ (يَنْصَرِفُونَ فِي كُلِّ وَجْهٍ) : أَيْ: طَرِيقٍ طَائِفًا، وَغَيْرِ طَائِفٍ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَنْفِرَنَّ أَحَدُكُمْ) : أَيِ: النَّفْرَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ، أَوْ لَا يَخْرُجْنَّ أَحَدُكُمْ مِنْ مَكَّةَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْآفَاقِيُّ (حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتَ) : أَيْ: بِالطَّوَافِ بِهِ كَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: دَلَّ عَلَى وُجُوبِ طَوَافِ الْوَدَاعِ، وَخَالَفَ فِيهِ مَالِكًا (إِلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: طَوَافُ الْوَدَاعِ (عَنِ الْحَائِضِ) : وَفِي مَعْنَاهَا النُّفَسَاءُ، وَعَلَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ اتِّفَاقُ الْعُلَمَاءِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: طَوَافُ الْوَدَاعِ وَاجِبٌ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَهُ آخِرَ طَوَافِهِ فِي " الْكَافِي " لِلْحَاكِمِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقِيمَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ طَوَافُهُ حِينَ يَخْرُجُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَالْحَسَنِ، وَإِذَا اشْتَغَلَ بَعْدَهُ بِعَمَلٍ بِمَكَّةَ يُعِيدُهُ لِلصَّدْرِ، وَإِنَّمَا يُعْتَدُّ بِهِ إِذَا فَعَلَهُ حِينَ يَصْدُرُ. وَأُجِيبَ: بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَدِمَ مَكَّةَ لِلنُّسُكِ، فَحِينَ تَمَّ فَرَاغُهُ مِنْهُ جَاءَ أَوَانُ السَّفَرِ، فَطَوَافُهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ إِذِ الْحَالُ أَنَّهُ عَلَى عَزْمِ الرُّجُوعِ. نَعَمْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله أَنَّهُ إِذَا طَافَ لِلصَّدْرِ، ثُمَّ أَقَامَ إِلَى الْعِشَاءِ قَالَ: أُحِبُّ أَنْ يَطُوفَ طَوَافًا آخَرَ كَيْلَا يَكُونَ بَيْنَ طَوَافِهِ، وَنَفْرِهِ حَائِلٌ، لَكِنَّ هَذَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ تَحْصِيلًا لِمَفْهُومِ الِاسْمِ عَقِيبَ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَتْمٍ إِذْ لَا يُسْتَغْرَبُ فِي الْعُرْفِ تَأْخِيرُ السَّفَرِ عَنِ الْوَدَاعِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ، وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ، وَكَذَا مَنِ اتَّخَذَ مَكَّةَ دَارًا، ثُمَّ بَدَا لَهُ الْخُرُوجُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ طَوَافُ صَدْرٍ، وَكَذَا فَائِتُ الْحَجِّ لِأَنَّ الْعَوْدَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ صَارَ كَالْمُعْتَمِرِ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُعْتَمِرِ طَوَافُ الصَّدْرِ - ذَكَرَهُ فِي التُّحْفَةِ. وَفِي إِثْبَاتِهِ عَلَى الْمُعْتَمِرِ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِي " الْبَدَائِعِ " قَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَطُوفَ الْمَكِّيُّ طَوَافَ الصَّدْرِ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ لَخَتْمِ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ وَفِي أَهْلِ مَكَّةَ.
2669 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«حَاضَتْ صَفِيَّةُ لَيْلَةَ النَّفْرِ، فَقَالَتْ: مَا أُرَانِي إِلَّا حَابِسَتَكُمْ. قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: عَقْرَى حَلْقَى، أَطَافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ؟ " قِيلَ: نَعَمْ. قَالَ: " فَانْفِرِي» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2669 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: حَاضَتْ صَفِيَّةُ) : أَيْ: إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ الْيَهُودِيِّ الْخَيْبَرِيِّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ سِبْطِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (لَيْلَةَ النَّفْرِ) : أَيْ: لَيْلَةَ يَوْمِ النَّفْرِ؛ لِأَنَّ النَّفْرَ لَمْ يُشْرَعْ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ بَلْ فِي يَوْمِهَا، وَالنَّفْرُ يَحْتَمِلُ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ، فَتَدَبَّرْ. (فَقَالَتْ) : أَيْ: صَفِيَّةُ لِلنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ الْكِرَامِ: (مَا أُرَانِي) : بِصِيغَةُ الْمَجْهُولِ مِنَ الْإِرَاءَةِ أَيْ: مَا أَظُنُّ نَفْسِي (إِلَّا حَابِسَتَكُمْ) : بِكَسْرِ الْبَاءِ، وَفَتْحِ التَّاءِ نَصْبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَفِي
نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ أَيْ: مَانِعَتُكُمْ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ، بَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَى أَنْ أَظْهَرَ، فَأَطُوفَ طَوَافَ الْوَدَاعِ، ظَنًّا مِنْهَا أَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ كَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِالْأَعْذَارِ، وَلَمَّا ظَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَلَغَهُ حَدِيثُهَا أَنَّهَا قَالَتْ قَوْلَهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَطُفْ لِلزِّيَارَةِ ( «قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: عَقْرَى حَلْقَى» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هَكَذَا رُوِيَ عَلَى وَزْنِ فَعْلَى بِلَا تَنْوِينٍ، وَالظَّاهِرُ عَقْرًا، وَحَلْقًا بِالتَّنْوِينِ، أَيْ: عَقَرَهَا وَحَلَّقَهَا اللَّهُ حَلْقًا، يَعْنِي قَتَلَهَا وَجَرَحَهَا، أَوْ أَصَابَ حَلْقَهَا بِوَجَعٍ، وَهَذَا دُعَاءٌ لَا يُرَادُ وُقُوعُهُ، بَلْ عَادَةُ الْعَرَبِ: التَّكَلُّمُ بِمِثْلِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّلَطُّفِ، وَقِيلَ: هُمَا صِفَتَانِ لِلْمَرْأَةِ، يَعْنِي أَنَّهَا تُحَلِّقُ قَوْمَهَا، وَتَعْقِرُهُمْ، أَيْ: تَسْتَأْصِلُهُمْ مِنْ شُؤْمِهَا اهـ.
وَقِيلَ: إِنَّهُمَا مَصْدَرَانِ، وَالْعَقْرُ الْجَرْحُ وَالْقَتْلُ وَقَطْعُ الْعَصَبِ، وَالْحَلْقُ إِصَابَةُ وَجَعٍ فِي الْحَلْقِ أَوِ الضَّرْبُ عَلَى الْحَلْقِ، أَوِ الْحَلْقُ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ؛ لِأَنَّهُنَّ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ عِنْدَ شِدَّةِ الْمُصِيبَةِ، وَحَقُّهُمَا أَنْ يُنَوَّنَا، لَكِنْ أُبْدِلَ التَّنْوِينُ بِالْأَلِفِ إِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ اهـ.
وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يُسَاعِدُهُ رَسْمُهَا بِالْيَاءِ، وَقِيلَ: إِنَّهَا تَأْنِيثُ فَعْلَانَ، أَيْ: جَعَلَهَا عَقْرَى، أَيْ: عَاقِرًا أَيْ: عَقِيمًا، وَحَلْقَى أَيْ: جَعَلَهَا صَاحِبَةَ وَجَعِ الْحَلْقِ، ثُمَّ هَذَا وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِثْلُ: تَرِبَتْ يَدَاهُ، وَثَكِلَتْهُ أُمُّهُ، مِمَّا يَقَعُ فِي كَلَامِهِمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَهْوِيلِ الْخَبَرِ، وَأَنَّ مَا سَمِعَهُ لَا يُوَافِقُهُ لَا لِلْقَصْدِ إِلَى وَقُوعِ مَدْلُولِهِ الْأَصْلِيِّ، وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْتِمَاسِهِ (أَطَافَتْ) : أَيْ: صَفِيَّةُ (يَوْمَ النَّحْرِ) أَيْ: طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَلَمَّا أَعْرَضَ عَنْهَا، وَسَأَلَ مِنْ غَيْرِهَا ظَنًّا أَنَّهَا قَصَّرَتْ فِي تَأْخِيرِ طَوَافِ فَرْضِهَا (قَالَ: نَعَمْ) : فِي جَوَابِهِ ثُمَّ لَمَّا الْتَفَتَ إِلَيْهَا حِينَ تَبَيَّنَ عَدَمَ تَقْصِيرِهَا (قَالَ) : إِذَا كُنْتِ طُفْتِ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ (فَانْفِرِي) : بِكَسْرِ الْفَاءِ أَيِ اخْرُجِي إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ طَوَافِ الْوَدَاعِ، فَإِنَّ وُجُوبَهُ سَاقِطٌ بِالْعُذْرِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
الْفَصْلُ الثَّانِي
2670 -
عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ رضي الله عنه، قَالَ:«سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: " أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ " قَالُوا: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ. قَالَ: " فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَجْنِي جَانٍ عَلَى وَلَدِهِ، وَلَا مَوْلُودٌ عَلَى وَالِدِهِ، أَلَا وَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَبَدًا، وَلَكِنْ سَتَكُونُ لَهُ طَاعَةٌ فِيمَا تُحَقِّرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَسَيَرْضَى بِهِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
2670 -
(عَنْ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) : أَيْ: يَوْمَ النَّحْرِ كَمَا سَبَقَ (أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ " قَالُوا: يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) : قَالَ - تَعَالَى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ} [التوبة: 3] أَيْ: إِعْلَامٌ {يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: أَيْ: يَوْمَ الْعِيدِ لِأَنَّ فِيهِ تَمَامُ الْحَجِّ، وَمُعْظَمُ أَفْعَالِهِ، وَلِأَنَّ الْإِعْلَامَ كَانَ فِيهِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ يَوْمَ النَّحْرِ عِنْدَ الْجَمَرَاتِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ (فَقَالَ:" وَهَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ". وَقِيلَ: يَوْمُ عَرَفَةَ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:(الْحَجُّ عَرَفَةُ) ، وَوَصَفَ الْحَجَّ بِالْأَكْبَرِ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ الْحَجُّ الْأَصْغَرُ، أَوْ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَجِّ مَا يَقَعُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ أَعْمَالِهِ، فَإِنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ بَاقِي الْأَعْمَالِ، أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ الْحَجَّ اجْتَمَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ، وَوَافَقَ عَلَيْهِ أَعْيَادُ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَوْ لِأَنَّهُ ظَهَرَ فِيهِ عِزُّ الْمُسْلِمِينَ، وَذُلُّ الْمُشْرِكِينَ اهـ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ، إِذْ مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ، فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، أَوْ يُسَمَّى بِالْحَجِّ الْأَكْبَرِ لِأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ حَجُّ الْمَسَاكِينِ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي حَجَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ حَجُّ الْمُسْلِمِينَ - ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ - أَوْ لِأَنَّهُ وَافَقَ يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ الْمُشْتَهِرُ بِالْحَجِّ الْأَكْبَرِ الَّذِي وَرَدَ فِي حَقِّهِ: إِنَّ حَجَّهُ كَسَبْعِينَ حَجَّةً، وَفِيهِ: كَتَبْتُ رِسَالَةً مُسْتَقِلَّةً، أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ الْحَجَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا الْمُسْلِمُونَ، ثُمَّ قَوْلُهُمْ: يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ بِظَاهِرِهِ يُنَافِي جَوَابَهُمُ السَّابِقَ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. وَلَعَلَّ هَذَا فِي يَوْمٍ آخَرَ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ، أَوْ أَحَدُ الْجَوَابَيْنِ صَدَرَ عَنْ بَعْضِهِمْ. (قَالَ: " فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ) : احْتِرَازٌ عَنِ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ (حَرَامٌ) : أَيْ: مُحَرَّمٌ مَمْنُوعٌ (كَحُرْمَةِ يَوْمِكِمْ هَذَا فِي بَلَدِكِمْ) : أَيْ: حَرَمِكُمْ (هَذَا) : وَلَعَلَّ تَرْكَ الشَّهْرِ اقْتِصَارٌ مِنَ الرَّاوِي.
(أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] أَيْ: لَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ كَمَا صَدَرَ عَنْ بَعْضِ الْجَهَلَةِ، وَهُوَ نَفْيٌ مَعْنَاهُ نَهْيٌ نَحْوُ قَوْلِهِ - تَعَالَى:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] كَمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَنَظِيرُهُ الدُّعَاءُ: بِغَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَرَحِمَهُ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ أَبْلَغُ مِنِ اغْفِرْهُ وَارْحَمْهُ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: خَبَرٌ فِي مَعْنَى النَّهْيِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ، يَعْنِي كَأَنَّهُ نَهَاهُ، فَقَصَدَ أَنْ يَنْتَهِيَ فَأَخْبَرَهُ بِهِ، وَالْمُرَادُ الْجِنَايَةُ عَلَى الْغَيْرِ، إِلَّا أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ سَبَبًا لِلْجِنَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ أَنْذَرَهَا فِي صُورَتِهَا لِيَكُونَ أَدْعَى إِلَى الِامْتِنَاعِ، وَيَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ رَوَى فِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ خَبَرًا بِحَسْبِ الْمَعْنَى. (أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ ( «لَا يَجْنِي جَانٍ عَلَى وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ عَلَى وَالِدِهِ» ) : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ النَّهْيَ عَنِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ لِاخْتِصَاصِهَا بِمَزِيدِ قُبْحٍ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَأْكِيدَ " لَا يَجْنِي جَانٍ عَلَى نَفْسِهِ "، فَإِنَّ عَادَتَهُمْ جَرَتْ بِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَقَارِبَ الشَّخْصِ بِجِنَايَتِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا ظُلْمٌ يُؤَدِّي إِلَى ظُلْمٍ آخَرَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا نَفْيٌ فَيُوَافِقُ قَوْلَهُ - تَعَالَى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وَإِنَّمَا خُصَّ الْوَلَدُ وَالْوَالِدُ لِأَنَّهُمَا أَقْرَبُ الْأَقَارِبِ، فَإِذَا لَمْ يُؤَاخَذْ بِفِعْلِهِ فَغَيْرُهُمَا أَوْلَى، وَفِي رِوَايَةٍ: لَا يُؤْخَذُ الرَّجُلُ بِجَرِيمَةِ أَبِيهِ وَضُبِطَ بِالْوَجْهَيْنِ (أَلَا وَإِنَّ الشَّيْطَانَ) : وَهُوَ إِبْلِيسُ الرَّئِيسُ، أَوِ الْجِنْسُ الْخَسِيسُ (قَدْ يَئِسَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: أَيِسَ أَيْ قَنَطَ (أَنْ يُعْبَدَ) : أَيْ: مِنْ أَنْ يُطَاعَ فِي عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ عَبَدَهُ أَحَدٌ مِنَ الْكُفَّارِ (فِي بَلَدِكُمْ هَذَا) : أَيْ: مَكَّةَ (لَا أَبَدًا) : أَيْ: عَلَانِيَةً إِذْ قَدْ يَأْتِي الْكُفَّارُ مَكَّةَ خِفْيَةً (وَلَكِنْ سَتَكُونُ لَهُ طَاعَةٌ) : أَيِ انْقِيَادٌ أَوْ إِطَاعَةٌ (فِيمَا تَحْتَقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ) : أَيْ: مِنَ الْقَتْلِ وَالنَّهْبِ، وَنَحْوِهِمَا مِنَ الْكَبَائِرِ وَتَحْقِيرِ الصَّغَائِرِ، (فَسَيَرْضَى) : بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمَجْهُولِ أَيِ: الشَّيْطَانُ (بِهِ) : أَيْ: بِالْمُحْتَقَرِ حَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الذَّنْبُ الْأَكْبَرُ، وَلِهَذَا تَرَى الْمَعَاصِيَ مِنَ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَنَحْوِهِمَا تُوجَدُ كَثِيرًا فِي الْمُسْلِمِينَ، وَقَلِيلًا فِي الْكَافِرِينَ، لِأَنَّهُ قَدْ رَضِيَ مِنَ الْكُفَّارِ بِالْكُفْرِ فَلَا يُوَسْوِسُ لَهُمْ فِي الْجُزْئِيَّاتِ، وَحَيْثُ لَا يَرْضَى عَنِ الْمُسْلِمِينَ بِالْكُفْرِ فَيَرْمِيهِمْ فِي الْمَعَاصِي.
وَرُويَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: الصَّلَاةُ الَّتِي لَيْسَ لَهَا وَسْوَسَةٌ إِنَّمَا هِيَ صَلَاةُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَمِنَ الْأَمْثَالِ: لَا يَدْخُلُ اللِّصُّ فِي بَيْتٍ إِلَّا فِيهِ مَتَاعٌ نَفِيسٌ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: قَوْلُهُ: (فِيمَا تَحْتَقِرُونَ) أَيْ مِمَّا يَتَهَجَّسُ فِي خَوَاطِرِكُمْ، وَتَتَفَوَّهُونَ عَنْ هَنَّاتِكُمْ وَصَغَائِرِ ذُنُوبِكُمْ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى هَيْجِ الْفِتَنِ وَالْحُرُوبِ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ مِنْ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحَرُّشِ بَيْنَهُمْ "(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ) .
2671 -
وَعَنْ رَافِعِ بْنِ عَمْرٍو الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ النَّاسَ بِمِنًى حِينَ ارْتَفَعَ الضُّحَى عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ، وَعَلِيٌّ يُعَبِّرُ عَنْهُ، وَالنَّاسُ بَيْنَ قَائِمٍ وَقَاعِدٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
2671 -
(وَعَنْ رَافِعِ بْنِ عَمْرٍو الْمُزَنِيِّ) : نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةِ مُزَيْنَةَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الزَّايِ (قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ النَّاسَ بِمِنًى) : أَيْ: أَوَّلَ النَّحْرِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: (حِينَ ارْتَفَعَ الضُّحَى عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ) : أَيْ: بَيْضَاءَ يُخَالِطُهَا قَلِيلُ سَوَادٍ، وَلَا يُنَافِيهِ حَدِيثُ قُدَامَةَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَرْمِي الْجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى نَاقَةٍ صَهْبَاءَ. (وَعَلِيٌّ يُعَبِّرُ عَنْهُ) : أَيْ: يُبَلِّغُ حَدِيثَهُ مَنْ هُوَ بَعِيدٌ عَنِ النَّبِيِّ، فَهُوَ رضي الله عنه وَقَفَ حَيْثُ يَبْلُغُهُ صَوْتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَفْهَمُهُ فَيُبَلِّغُهُ لِلنَّاسِ وَيُفْهِمَهُمْ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: بِزِيَادَةِ بَيَانٍ فَلَيْسَ فِي مَحَلِّهِ (وَالنَّاسُ بَيْنَ قَائِمٍ وَقَاعِدٍ) : أَيْ بَعْضُهُمْ قَاعِدُونَ وَبَعْضُهُمْ قَائِمُونَ، وَهُمْ كَثِيرُونَ حَيْثُ بَلَغُوا مِائَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ)
2672 -
وَعَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَّرَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ إِلَى اللَّيْلِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
2672 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَّرَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ) : أَيْ: جَوَّزَ تَأْخِيرَهُ (يَوْمَ النَّحْرِ إِلَى اللَّيْلِ) : إِمَّا مُطْلَقًا أَوْ لِلنِّسَاءِ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ أَوْ مِنًى قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَوَّلُ وَقْتِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ لَيْلَةَ الْعِيدِ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ بَعْدَ طُلُوعِ فَجْرِ الْعِيدِ وَآخِرُهُ مَتَى طَافَ جَازَ اهـ. لَكِنْ يَجِبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَقَعَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْهَا لَزِمَهُ دَمٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .
2673 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرْمُلْ فِي السَّبْعِ الَّذِي أَفَاضَ فِيهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
2673 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرْمُلْ) : بِضَمِّ الْمِيمِ (فِي السَّبْعِ الَّذِي أَفَاضَ فِيهِ) : أَيْ: فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ لِتَقَدُّمِ السَّعْيِ عَلَيْهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .
2674 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِذَا رَمَى أَحَدُكُمْ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ» " رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ " وَقَالَ: إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
ــ
2674 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِذَا رَمَى أَحَدُكُمْ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ) : أَيْ: وَحَلَقَ أَوْ قَصَّرَ (فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ: أَيْ: جِمَاعَهُنَّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَنِكَاحُهُنَّ (رَوَاهُ) : أَيْ: صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ) : أَيْ: بِسَنَدِهِ " وَقَالَ: إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ ".
2675 -
وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " «إِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ» ".
ــ
2675 -
(وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ، وَالنَّسَائِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) : بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا (قَالَ: إِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ) : أَيْ: جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَحَلَقَ وَلَوْ قَبْلَ الذَّبْحِ (فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ) : أَيْ: جِمَاعَهُنَّ بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَلَوْ قَبْلَ السَّعْيِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها الْحَدِيثَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ فِيهِ الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ آخَرَ هُوَ فِيهِ أَيْضًا. وَقَالَ:" «إِذَا رَمَيْتَ وَحَلَقْتُمْ وَذَبَحْتُمْ» ". وَقَالَ: لَمْ يَرْوِهِ إِلَّا الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَيَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ بِطِيبٍ فِيهِ مِسْكٌ» ، فَلَا يُعَارِضُهُ مَا اسْتَدَلَّ لِمَالِكٍ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: مِنْ سُنَّةِ الْحَجِّ إِنْ رَمَى الْجَمْرَةَ الْكُبْرَى حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ حَتَّى يَزُورَ الْبَيْتَ» وَقَالَ: عَلَى شَرْطِهِمَا اهـ.
وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ مِنَ السَّنَةِ حُكْمُهُ الرَّفْعُ، وَكَذَا مَا عَنْ عُمَرَ بِطْرِيقٍ مُنْقَطِعٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ مَا حُرِّمَ إِلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ، ذَكَرَهُ وَانْقِطَاعُهُ فِي الْإِمَامِ، كَذَا حَقَّقَهُ ابْنُ الْهُمَامِ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ السَّمْعِيَّاتِ يُفِيدُ أَنَّهُ أَيِ: الرَّمْيُ هُوَ السَّبَبُ لِلتَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، وَعَنْ هَذَا نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله: أَنَّ الْحَلْقَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَنَا لِأَنَّ التَّحَلُّلَ وَالْوَاجِبَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِهِ، وَيَحْمِلُونَ مَا ذَكَرْنَا عَلَى إِضْمَارِ الْحَلْقِ أَيْ: إِذَا رَمَى وَحَلَقَ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا فِي بَعْضِ نُسَخِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَطْفِهِ عَلَى الشَّرْطِ. وَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ: قَوْلُهُ - تَعَالَى: {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] هُوَ الْحَلْقُ وَاللُّبْسُ عَلَى مَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَقَوْلُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ إِنَّهُ الْحَلْقُ وَقَصُّ الْأَظْفَارِ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ} [الفتح: 27] الْآيَةَ. أَخْبَرَ بِدُخُولِهِمْ مُحَلِّقِينَ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ الْمُحَلِّقِينَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَالَةَ الدُّخُولِ فِي الْعُمْرَةِ، لِأَنَّهَا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، ثُمَّ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِيَارِهِمْ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْوُجُوبِ الْحَامِلِ عَلَى الْوُجُودِ، فَيُوجَدُ الْمُخْبَرُ بِهِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا، لِيُطَابِقَ الْأَخْبَارَ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ ظَنِّيٌ، فَيَثْبُتُ بِهِ الْوُجُوبُ لَا الْقَطْعُ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: يُسَنُّ تَأْخِيرُ الْوَطْءِ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عَلَى مَا قَالُوهُ فَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: " «أَيَّامُ مِنًى أَكْلٌ وَشُرْبٌ وَبِعَالٌ» " أَيْ جِمَاعٌ.