الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2727 -
وَعَنْ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ رضي الله عنه: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَزَالُ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِخَيْرٍ مَا عَظَّمُوا هَذِهِ الْحُرْمَةَ حَقَّ تَعْظِيمِهَا، فَإِذَا ضَيَّعُوا ذَلِكَ هَلَكُوا» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.
ــ
2727 -
(وَعَنْ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ) أَخُو أَبِي جَهْلٍ إِلَّا أَنَّهُ أَسْلَمَ قَدِيمًا وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَا تَزَالُ) : بِالتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ (هَذِهِ الْأُمَّةُ) : أَيْ: أُمَّةُ الْإِجَابَةِ (بِخَيْرٍ) : التَّنْوِينُ لِلتَّعْظِيمِ (مَا عَظَّمُوا) : أَيْ: مُدَّةَ تَعْظِيمِهِمْ (هَذِهِ الْحُرْمَةَ) : أَيْ: حَرَمَهَا مَكَّةَ وَحَرَمَهُ الْمَعْهُودَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ بِأَجْمَعِهَا (حَقَّ تَعْظِيمِهَا، فَإِذَا ضَيَّعُوا ذَلِكَ) : أَيِ التَّعْظِيمَ، أَوْ مَا ذَكَرَهُ: مِنَ الْحُرْمَةِ (هَلَكُوا) أَيْ: بِالْإِهَانَةِ وِفَاقًا. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .
[بَابُ حَرَمِ الْمَدِينَةِ]
(15)
بَابُ حَرَمِ الْمَدِينَةِ - حَرَسَهَا اللَّهُ - تَعَالَى -
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
2728 -
عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «مَا كَتَبْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا الْقُرْآنَ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: الْمَدِينَةُ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَمَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ، ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ، وَمَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: "«مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ» ".
ــ
[15]
بَابُ حَرَمِ الْمَدِينَةِ
عُلِمَ أَنَّ لِلْمَدِينَةِ حُرْمَةً، عَنْدَنا لَا حَرَمَ لِمَكَّةَ خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ، فَعِنْدَهُمْ يَحْرُمُ صَيْدُهَا وَقَطْعُ شَجَرِهَا، وَعِنْدَنَا لَا يَحْرُمُ ذَلِكَ. قَالَ فِي الْكَافِي: لِأَنَّ حِلَّ الِاصْطِيَادِ عُرِفَ بِالنُّصُوصِ الْقَاطِعَةِ، فَلَا يَحْرُمُ إِلَّا بِبَرَاهِنَ سَاطِعَةٍ وَمَرْوِيُّهُمْ مُحْتَمَلٌ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً (حَرَسَهَا اللَّهُ - تَعَالَى -) .
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
2728 -
(عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: مَا كَتَبْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا الْقُرْآنَ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قَالَ) : أَيْ عَلِيٌّ: تَفْسِيرًا لِمَا فِي الصَّحِيفَةِ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الْمَدِينَةُ حَرَامٌ) : أَيْ: مُحْتَرَمٌ مَمْنُوعٌ مِمَّا يَقْتَضِي إِهَانَةَ الْمَوْضِعِ الْمُكَرَّمِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْحَرَامُ بِمَعْنَى الْحَرَمِ (مَا بَيْنَ عَيْرٍ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْيَاءِ (وَثَوْرٍ) : بِفَتْحِ الْمُثَلَّثَةِ وَسُكُونِ الْوَاوِ، جَبَلَانِ عَلَى طَرَفَيِ الْمَدِينَةِ، وَقِيلَ الْأَوَّلُ مَعْرُوفٌ بِالْمَدِينَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَالْمَعْرُوفُ أَنَّهُ بِمَكَّةَ، وَفِيهِ الْغَارُ الَّذِي تَوَارَى فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَفِي رِوَايَةٍ: مَا بَيْنَ عَيْرٍ وَأُحُدٍ، فَيَكُونُ ثَوْرٌ غَلَطًا مِنَ الرَّاوِي، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَشْهَرُ فِي الرِّوَايَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ عَيْرًا جِبَلٌ بِمَكَّةَ أَيْضًا، فَالْمَعْنَى أَنَّ حَرَمَ الْمَدِينَةِ بِمِقْدَارِ مَا بَيْنَ عَيْرٍ وَثَوْرٍ حَرَمٌ كَحُرْمَةِ مَا بَيْنَهُمَا، وَبِمَكَّةَ جَبَلٌ يُقَالُ لَهُ: عَيْرُ عَدْوِي، وَجَبَلٌ يُقَالُ لَهُ ثَوْرٌ أَطْحَلُ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِمَا الْحُرْمَتَيْنِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ: " «حُرِّمَ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ عَلَى لِسَانِي» " فَشَبَّهَ إِحْدَى الْحُرْمَتَيْنِ بِعَيْرٍ لِنُتُوٍّ وَسَطَهُ وَنُشُوزِهِ، وَالْأُخْرَى بِثَوْرٍ لِامْتِنَاعِهِ تَشْبِيهًا بِثَوْرِ الْوَحْشِ، أَوْ أَرَادَ بِهِمَا مَأْزِمَيِ الْمَدِينَةِ فَشَبَّهَهُمَا بِعَيْرٍ وَثَوْرٍ، وَفِي الْحَدِيثِ:" «حَرَامٌ مَا بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا» " وَمَا شُعْبَتَانِ تَكْتَنِفَانِهَا، فَشَبَّهَهُمَا بِالْجَبَلَيْنِ اللَّذَيْنِ بِمَكَّةَ، كَذَا حَقَّقَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنَ الشُّرَّاحِ. (فَمَنْ أَحْدَثَ) : أَيْ: أَظْهَرَ (فِيهَا) : أَيْ فِي الْمَدِينَةِ (حَدَثًا) : أَيْ: مُنْكَرًا أَوْ بِدْعَةً، وَهِيَ مَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ (أَوْ آوَى) : بِالْمَدِّ وَيُقْصَرُ (مُحْدِثًا) : بِكَسْرِ الدَّالَّةِ عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ أَيْ: مُبْتَدِعًا، وَقِيلَ: أَيْ: جَانِبًا بِأَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ، وَيُرْوَى بِفَتْحِ الدَّالِ أَيْ أَمْرًا مُبْتَدَعًا وَإِيوَاؤُهُ الرِّضَاءُ بِهِ وَالصَّبْرُ عَلَيْهِ (فَعَلَيْهِ) : أَيْ: فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا (لَعْنَةُ اللَّهِ) : أَيْ: طَرْدُهُ وَإِبْعَادُهُ (وَالْمَلَائِكَةِ) : أَيْ: دُعَاؤُهُمْ عَلَيْهِ عَنْ رَحْمَتِهِ (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) : أَيْ: مِمَّنْ عَدَّ الْمُحْدِثَ وَالْمُؤْوِيَ، أَوْ هُمَا دَاخِلَانِ أَيْضًا لِأَنَّهُمَا مِمَّنْ يَقُولُ:
أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، وَالظُّلْمُ هُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ غَيْرَ مَوْضِعِهِ. (لَا يُقْبَلُ مِنْهُ) : أَيْ قَبُولًا كَامِلًا (صَرْفٌ) : أَيْ فَرْضٌ أَوْ نَافِلَةٌ أَوْ تَوْبَةٌ أَوْ شَفَاعَةٌ (وَلَا عَدْلٌ) ، أَيْ نَافِلَةٌ أَوْ فَرْضَةٌ أَوْ فِدْيَةٌ، لِأَنَّهَا تُعَادِلُ الْمُفْدَى، وَقِيلَ: شَفَاعَةٌ، وَقِيلَ: تَوْبَةٌ (ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ) : أَيْ: عَهْدُهُمْ وَأَمَانُهُمْ (وَاحِدَةٌ) : أَيْ: إِنَّهَا كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَرَاتِبِ، وَلَا الْعَاقِدِ بِهَا، وَكَانَ الَّذِي يَنْقُضُ ذِمَّةَ أَخِيهِ كَالَّذِي يَنْقُضُ ذِمَّةَ نَفْسِهِ، وَهِيَ مَا يُذَمُّ الرَّجُلُ عَلَى إِذَاعَتِهِ مِنْ عَهْدٍ وَأَمَانٍ، كَأَنَّهُمْ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ الَّذِي إِذَا اشْتَكِي بَعْضُهُ اشْتَكِي كُلُّهُ. (يَسْعَى بِهَا) : أَيْ: يَتَوَلَّاهَا وَيَلِي أَمْرَهَا (أَدْنَاهُمْ) أَيْ أَدْنَى الْمُسْلِمِينَ مَرْتَبَةً، وَالْمَعْنَى أَنَّ ذِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ سَوَاءٌ صَدَرَتْ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ شَرِيفٍ أَوْ وَضِيعٍ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: فَإِذَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ آوَى كَافِرًا لَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ نَقْضُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُؤْوَى عَبْدًا، وَأَمَّا إِمَامُنَا الْأَعْظَمُ فَلَمْ يَعْتَبِرْ أَمَانَ الْعَبْدِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فَمَحَلُّهُ الْأَهَمُّ. (فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا) : بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ نَقَضَ عَهْدَهُ وَأَمَانَهُ لِلْكَافِرِ، بِأَنْ قَتَلَ ذَلِكَ الْكَافِرَ أَوْ أَخَذَ مَالَهُ، وَحَقِيقَتُهُ إِزَالَةُ خَفْرَتِهِ أَيْ: عَهْدِهِ وَأَمَانِهِ (فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ) : أَيِ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ، أَوْ كُلِّهِمْ أَجْمَعِينَ لِكَرَاهَتِهِمُ الْعَاصِينَ (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) : وَكَذَا عَلَى مَنِ اقْتَدَى بِهِ أَوْ رَضِيَ بِفِعْلِهِ، فَتَكُونُ اللَّعْنَةُ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْعُقْبَى، (لَا يُقْبَلُ مِنْهُ) : أَيْ مِنَ الْمُخْفِرِ (صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ) : كَمَا تَقَدَّمَ (وَمَنْ وَالَى قَوْمًا) : بِأَنْ يَقُولَ مُعْتَقٌ لِغَيْرِ مُعْتِقِهِ: أَنْتَ مَوْلَايَ (بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ) ، لَيْسَ لِتَقْيِيدِ الْحُكْمِ بِعَدَمِ الْإِذْنِ وَقَصْرِهِ عَلَيْهِ، بَلْ بُنِيَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى الْغَالِبِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْذَنَ مَوَالِيَهُ لَمْ يَأْذَنُوا لَهُ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: قِيلَ: أَرَادَ بِهِ وَلَاءَ الْمُوَلَّاةِ لَا وَلَاءَ الْعِتْقِ، كَمَنِ انْتَسَبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَانِعِ، وَهُوَ إِبْطَالُ حَقِّهِمْ وَأَمَانَتِهِمْ، وَإِيرَادُ الْكَلَامِ عَلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ لَا تَقْيِيدَ حَتَّى يَجُوزَ الِانْتِسَابُ بِالْإِذْنِ. (فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ فِيهِ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) هُوَ يُفِيدُ أَنَّ عَلِيًّا مَا كَتَبَ شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَأْمُرُ بِالْأَمْرِ فَيُؤْتَى، فَيُقَالُ: قَدْ فَعَلْنَا كَذَا وَكَذَا. فَيَقُولُ صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْأَشْتَرُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي تَقُولُ تَفَشَّغَ فِي النَّاسِ، أَهُوَ شَيْءٌ عَهَدَهُ إِلَيْكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: مَا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دُونَ النَّاسِ إِلَّا شَيْئًا جَمَعْتُهُ مِنْهُ فَهُوَ فِي صَحِيفَةٍ فِي قِرَابِ سَيْفِي. قَالَ: فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَخْرَجَ الصَّحِيفَةَ، فَإِذَا فِيهَا:" «مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا» ": الْحَدِيثَ. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: هَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ عَلِيٍ بِإِبْطَالِ مَا يَزْعُمُهُ الشِّيعَةُ وَيَفْتَرُونَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ عَلِيًّا أَوْصَى إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْخِلَافَةِ وَأَسْرَارٍ أُخَرَ، وَخَصَّ أَهْلَ الْبَيْتِ بِمَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ، فَهَذِهِ دَعَاوِي بَاطِلَةٌ وَاخْتِرَاعَاتٌ فَاسِدَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا، وَيَكْفِي فِي إِبْطَالِهِ قَوْلُ عَلِيٍّ هَذَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ كِتَابَةِ الْعِلْمِ، وَمَعْنَى تَفَشَّغَ بِالْفَاءِ وَالشِّينِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَتَيْنِ ; أَيْ: ظَهَرَ وَانْتَشَرَ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ.
(وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا: " مَنِ ادَّعَى) : أَيِ انْتَسَبَ (إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ)، أَيِ: الْمَعْرُوفِ (أَوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ) : هَذَا الْعَطْفُ يُؤَيِّدُ مَنْ فَسَّرَ الْمُوَالَاةَ بِوَلَاءِ الْعِتَاقَةِ (فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ) جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِالْوَعِيدِ، فَإِنَّ الْعِتْقَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لِحْمَةٌ كَلِحْمَةِ النَّسَبِ، فَإِذَا نُسِبَ إِلَى غَيْرِ مَنْ هُوَ لَهُ كَانَ كَالدَّعِيِّ الَّذِي يَتَبَرَّأُ عَمَّنْ هُوَ مِنْهُ، وَأَلْحَقَ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ، فَيَسْتَحِقُّ بِهِ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ بِالطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ عَنِ الرَّحْمَةِ.
2729 -
وَعَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ: أَنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهَا، أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا " وَقَالَ: " الْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَلَا يَدَعُهَا أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا إِلَّا أَبْدَلَ اللَّهُ بِهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَلَا يَثْبُتُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا وَجَهْدِهَا إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2729 -
(وَعَنْ سَعْدٍ) : أَيِ ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَحَدِ الْعَشْرَةِ الْمُبَشَّرَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنِّي أُحَرِّمُ) : أَيْ أُعَظِّمُ أَوْ أَمْنَعُ (مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ) : أَيْ: جَانِبَيْهَا مِنَ الْجِبَالِ، قِيلَ: اللَّابَةُ الْحَرَّةُ وَهِيَ الْأَرْضُ ذَاتُ الْحِجَارَةِ السُّودِ كَأَنَّهَا أُحْرِقَتْ بِالنَّارِ، وَأَرَادَ بِهِمَا حَرَّتَيْنِ تَكْتَنِفَانِهَا (أَنْ يُقْطَعَ) : بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الْمَفْعُولِ
(عِضَاهُهَا) : جَمْعُ عِضَةٍ بِحَذْفِ الْهَاءِ الْأَصْلِيَّةِ، كَمَا فِي شَفَةٍ، وَهِيَ كُلُّ شَجَرٍ عَظِيمٍ لَهُ شَوْكٌ (أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا) : حَمَلَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى النَّهْيِ التَّنْزِيهِيِّ كَمَا سَيَجِيءُ (وَقَالَ: " الْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ) : أَيْ لِأَهْلِهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى، وَذَلِكَ مُطْلَقٌ إِنْ كَانَ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَمُقَيَّدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِنْ كَانَ بَعْدَهُ، أَوِ الْمُرَادُ بِالْخَيْرِيَّةِ مِنْ جِهَةِ بَرَكَةِ الْمَعِيشَةِ، فَلَا يُنَافِي بَرَكَةَ الْفَضِيلَةِ الزَّائِدَةِ الثَّابِتَةِ لِمَكَّةَ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ، (وَلَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) : أَيْ: مَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ لَمَا فَارَقُوهَا وَمَا اخْتَارُوا غَيْرَهَا عَلَيْهَا، وَمَا تَجَوَّلُوا لِلتَّوْسِعَةِ فِي الدُّنْيَا. (لَا يَدَعُهَا) اسْتِئْنَافٌ مُبِيِّنٌ، أَيْ لَا يَتْرُكُهَا (أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا) : إِعْرَاضًا، احْتِرَازًا مِنْ تَرْكِهَا ضَرُورَةً (إِلَّا أَبْدَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ) ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَضُرُّ الْمَدِينَةَ عَدَمُهُ، بَلْ يَنْفَعُهَا فَقْدُهُ، وَذَهَبَ إِلَى غَيْرِهَا شَرُّهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] قِيلَ: هَذَا الْإِبْدَالُ فِي زَمَنِهِ عليه الصلاة والسلام وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُطْلَقٌ وَشَامِلٌ لِجَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَيَّامِ (وَلَا يَثْبُتُ أَحَدٌ) : أَيْ: بِالصَّبْرِ (عَلَى لَأْوَائِهَا) : بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ الْأُولَى وَيُبَدَّلُ أَيْ: شِدَّةِ جُوعِهَا (وَجُهْدِهَا) : بِفَتْحِ الْجِيمِ وَضَمِّهَا أَيْ: مَشَقَّتِهَا مِمَّا يَجِدُ فِيهِ مِنْ شِدَّةَ الْحَرِّ وَكُرْبَةِ الْغُرْبَةِ وَأَذِيَّةِ مَنْ فِيهَا مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: اللَّأْوَاءُ: الشِّدَّةُ ; لَكِنَّ الْمُرَادَ هُنَا ضِيقُ الْمَعِيشَةِ وَالْقَحْطُ لِمَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا، فَلَا بُدَّ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي مَعْنَاهَا وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ تَفْسِيرِيًّا وَتَأْكِيدًا لِأَنَّ التَّأْسِيسَ أَوْلَى، وَالْأَصْلُ فِي الْعَطْفِ التَّغَايُرُ. (إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا) : قِيلَ: أَوْ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّ كَثِيرِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ رَوَوْهُ كَذَلِكَ، وَيَبْعُدُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الشَّكِّ، وَقِيلَ: تَقْسِيمٌ أَيْ: شَفِيعًا لِلْعَاصِي شَهِيدًا لِلْمُطِيعِ، أَوْ شَهِيدًا لِمَنْ مَاتَ فِي زَمَانِهِ شَفِيعًا لِمَنْ مَاتَ بَعْدَهُ، وَقِيلَ:" أَوْ " بِمَعْنَى الْوَاوِ. (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بِشَارَةِ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ.
قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: وَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ لِلْمُذْنِبِينَ عَامَّةً، وَعَلَى شَهَادَتِهِ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ " «أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ» "، فَيَكُونُ تَخْصِيصُهُمْ بِذَلِكَ مَزِيَّةَ مَرْتَبَةٍ وَرِفْعَةَ مَنْزِلَةٍ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ صَابِرًا، بَلْ شَاكِرًا عَلَى إِقَامَتِهِ فِي الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى مَا فِيمَا عَدَاهُمَا مِنَ النِّعَمِ الصُّورِيَّةِ ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالنِّعَمِ الْحَقِيقِيَّةِ الْأُخْرَوِيَّةِ لِحَدِيثِ:" «اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ» ". وَلِحَدِيثِ: " «مَنْ صَبَرَ عَلَى حَرِّ مَكَّةَ سَاعَةً تَبَاعَدَ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ مِائَتَيْ سَنَةٍ» ". وَنِعْمَ مَا قَالَ:
إِذَا لَمْ يَطِبْ فِي طِيبِهِ عِنْدَ طَيِّبٍ
تَطِيبُ بِهِ الدُّنْيَا فَأَيْنَ تَطِيبُ
وَقَدْ قَالَ عَزَّ وَعَلَا: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] وَقَالَ عز وجل: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ - الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 - 4] وَأَصْلُ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ فِي وُصُولِ الرِّزْقِ وَحُصُولِ الْأَمْنِ الَّذِي بِهِ كَمَالُ الرِّفْقِ.
2730 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَاءِ الْمَدِينَةِ وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2730 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَاءِ الْمَدِينَةِ وَشِدَّتِهَا» ) أَيْ: مِنَ الْجُوعِ وَالْحَرِّ (أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) : قِيلَ مَخْصُوصٌ بِزَمَانِ حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم وَقِيلَ: عَامٌّ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
2731 -
ــ
2731 -
(وَعَنْهُ) : أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: كَانَ النَّاسُ) : أَيِ الصَّحَابَةُ (إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرَةِ) : وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الْبَاكُورَةَ وَالْأُنْمُوذَجَ (جَاءُوا بِهِ) : أَيْ: بِأَوَّلِ التَّمْرِ وَفِي نُسْخَةٍ " بِهَا " وَالتَّأْنِيثُ اكْتُسِبَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ (إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) : أَيْ طَلَبًا لِلْبَرَكَةِ فِيمَا حَدَّدَ اللَّهُ بِهِ مِنَ النِّعْمَةِ (فَإِذَا أَخَذَهُ قَالَ: " اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا) أَيْ بَرَكَةً حِسِّيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً (وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا) ، أَيْ فِي ذَاتِهَا مِنْ جِهَةِ سَعَتِهَا وَسَعَةِ أَهْلِهَا، وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ عليه الصلاة والسلام بِأَنْ وَسَّعَ نُفُوسَ الْمَسْجِدِ وَمَا حَوْلَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَكَثَّرَ الْخَلْقَ فِيهَا ; حَتَّى عُدَّ مِنَ الْفَرَسِ الْمُعَدِّ لِلْقِتَالِ الْمُهَيَّأِ بِهِمَا فِي زَمَنِ عُمَرَ أَرْبَعُونَ أَلْفَ فَرَسٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَرَكَةِ هُنَا مَا يَشْمَلُ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ. (وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا) أَيْ: فِيمَا يُكَالُ بِهِ كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً (وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا) ;: وَهُوَ كَيْلٌ دُونَ الصَّاعِ (اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ) : آثَرَهُ عَلَى رَسُولِكَ ; لِأَنَّ مَقَامَ النُّبُوَّةِ يَخْتَصُّ بِالْحَقِّ - تَعَالَى - وَلِذَا فَضَّلَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَلَى مَقَامِ الرِّسَالَةِ، يَعْنِي أَنَّ نُبُوَّةَ الرَّسُولِ أَفْضَلُ مِنْ رِسَالَتِهِ ; لِأَنَّ تِلْكَ تَتَعَلَّقُ بِالْحَقِّ وَهَذِهِ بِالْخَلْقِ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ رحمه الله: لَكِنَّهُ مَرْدُودٌ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ الرَّسُولَ أَفْضَلُ مِنَ النَّبِيِّ غَيْرِ الرَّسُولِ ; لِأَنَّ هَذَا فِيهِ مَا فِيهِ ذَاكَ، وَزِيَادَةُ خَطَأٍ مِنْ وَجْهَيْنِ فِي تَعْلِيلِهِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَعَارُضٍ وَتَنَاقُضٍ بَيْنَ نَقْلِيَّةِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ أَفْضَلُ مِنَ النَّبِيِّ الَّذِي هُوَ غَيْرُ رَسُولٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ هُوَ الَّذِي أُوْحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ سَوَاءٌ أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ أَمْ لَا. وَالرَّسُولُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِالتَّبْلِيغِ، فَالرَّسُولُ جَامِعٌ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ مِنَ الْكَمَالِ فِي نَفْسِهِ وَالْإِكْمَالِ لِغَيْرِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّكْمِيلَ أَكْبَرُ مَرْتَبَةً مِنَ الْكَمَالِ فِي مَقَامِ التَّحْصِيلِ، نَعَمِ النُّبُوَّةُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَخْذُ الْفَيْضِ مِنَ الْحَقِّ أَفْضَلُ مِنَ الرَّحْمَةِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ إِيصَالٌ لَهُ إِلَى الْخَلْقِ ; وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: الْوِلَايَةُ أَفْضَلُ مِنَ النُّبُوَّةِ بِتَأْوِيلِ أَنَّ وِلَايَةَ النَّبِيِّ، وَهُوَ مَعْنَى النُّبُوَّةِ أَشْرَفُ مِنْ رِسَالَتِهِ، وَالتَّحْقِيقُ - وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ - أَنَّ مَرْتَبَةَ الرِّسَالَةِ الَّتِي هِيَ مَقَامُ جَمْعِ الْجَمْعِ حَيْثُ لَا تَحْجُبُهُ الْكَثْرَةُ عَنِ الْوَحْدَةِ، وَلَا تَحْجِزُهُ الْوَحْدَةُ عَنِ الْكَثْرَةِ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ مِنَ النُّبُوَّةِ الَّتِي هِيَ مَقَامُ الْجَمْعِ الصِّرْفِ الْمُتَخَلَّصِ عَنْ مَقَامِ التَّفْرِقَةِ، بَلْ قَدْ يُقَالُ: النَّبِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْعَابِدِ الْمُشْتَغِلِ بِحَالِ نَفْسِهِ، وَالرَّسُولُ فِي مَرْتَبَةِ الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ فِي أَمْرِهِ وَأَمْرِ غَيْرِهِ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:(فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ) . وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ: " «عُلَمَاءُ أُمَّتِي كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ» " وَإِنْ تُكُلِّمَ فِي إِسْنَادِهِ، وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله تَبَعًا لِغَيْرِهِ فِي الْقَوْلِ بِالتَّرَادُفِ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالرَّسُولِ، فَيَرُدُّهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ} [الحج: 52] وَحَدِيثُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ إِنَّ الرُّسُلَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ جَمًّا غَفِيرًا (وَإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ) : وَلَعَلَّهُ تَرَكَ وَحَبِيبَكَ تَوَاضُعًا مِنْهُ عليه الصلاة والسلام أَوْ نَسِيَانًا مِنَ الرَّاوِي، أَوْ وَقَعَ هَذَا قَبْلَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ حَبِيبٌ (وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ) : أَيْ: بِقَوْلِهِ: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37](وَأَنَا أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ) : أَيْ: بِمِثْلِ ذَلِكَ الْمِثْلِ (مَعَهُ) : وَالْمَعْنَى بِضِعْفِ مَا دَعَا إِبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام (ثُمَّ قَالَ) : أَيْ أَبُو هُرَيْرَةَ (يَدْعُو) : أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ فِي الْمَصَابِيحِ قَالَ: ثُمَّ يَدْعُو، وَأَظُنُّهُ الصَّوَابَ (أَصْغَرَ وَلِيدٍ) : أَيْ مَوْلُودٍ وَلَوْ قِنًّا. رُوِيَ مُكَبَّرًا وَقِيلَ مُصَغَّرًا أَيْ وَلَدٍ صَغِيرٍ (لَهُ) قَالَ فِي الْمَفَاتِيحِ، يَعْنِي إِذَا فَرَغَ مِنَ الدُّعَاءِ يَدْعُو أَصْغَرُ طِفْلٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، أَوْ قِيلَ مَنْ أُمَّتِهِ (فَيُعْطِيهِ) : أَيِ الْوَلَدَ (ذَلِكَ الثَّمَرَ) : لِيَفْرَحَ ذَلِكَ الطِّفْلُ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَفِي رِوَايَةٍ: " «ثُمَّ يُعْطِي أَصْغَرَ وَلِيدٍ يَحْضُرُهُ مِنَ الْوِلْدَانِ» " اهـ.
وَهُوَ قَابِلُ التَّقْيِيدِ وَالْإِطْلَاقِ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّعَدُّدِ، قِيلَ: تَخْصِيصُ الصَّغِيرِ لِشِدَّةِ فَرَحِ الْوِلْدَانِ بِالْبَاكُورَةِ، وَفِي أَنَّهَا حَدِيثُ الْعَهْدِ بِالْإِيجَادِ، وَقِيلَ: وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ النُّفُوسَ الْكَامِلَةَ لَا يَنْبَغِي لَهَا تَنَاوُلُ شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَاكُورَةِ إِلَّا بَعْدَمَا يَعُمُّ وُجُودُهَا وَيَتِمُّ شُهُودُهَا، وَيَقْدِرُ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى أَكْلِهَا.
قَالَ الطِّيبِيُّ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُطْلَقَةٌ، مَا فِي الْمَتْنِ مُقَيَّدٌ، فَإِمَّا أَنْ يُؤَوَّلَ مَا فِي الْمَتْنِ، وَهُوَ الْأَنْسَبُ، أَوْ يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ.
وَقَالَ عِصَامُ الدِّينَ رحمه الله فِي شَرْحِ الشَّائِلِ، وَقَوْلُهُ: يَدْعُو أَصْغَرُ وَلِيدٍ لِيَسْتَمِدَّ بِسُرُورِ قَلْبِهِ عَلَى إِجَابَةِ دُعَائِهِ، وَهَذَا أَلْطَفُ مِمَّا قَالُوا مِنْ أَنَّ ذَلِكَ لِشِدَّةِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْبَاكُورَةِ وَالْوَلِيدِ فِي قُرْبِ عَهْدِهِمَا مِنَ الْإِيجَادِ.
قُلْتُ: وَفِيهِ بَحْثٌ مَعَ أَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ قَالَ: وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرُ وَلِيدٍ لَهُ، وَلَعَلَّ قَوْلَهَ " لَهُ " مُتَعَلِّقٌ بِيَدْعُو، وَلَيْسَ قَيْدًا لِلْوَلِيدِ أَيْ: يَدْعُو لِلتَّمْرِ فَلَا يُخَالِفُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ اهـ.
وَبَعْدَهُ لَا يَخْفَى، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ مَحْمُولَتَانِ عَلَى الْحَالَتَيْنِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ وَلِيدٌ لَهُ أَعْطَاهُ، أَوْ وَلِيدٌ آخَرُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ أَعْطَاهُ، إِذْ لَا شَكَّ أَنَّهُمَا لَوِ اجْتَمَعَا لَشَارَكَ بَيْنَهُمَا، نَعَمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ حَاضِرًا عِنْدَهُ فَلَا شُبْهَةَ أَنَّهُ يُنَادِي أَحَدًا مِنْ أَوْلَادِ أَهْلِهِ ; لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِبِرِّهِ مِنْ غَيْرِهِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
2732 -
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ فَجَعَلَهَا حَرَامًا، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ حَرَامًا مَا بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا أَنْ لَا يُهْرَاقَ فِيهَا دَمٌ، وَلَا يُحْمَلَ فِيهَا سِلَاحٌ لِقِتَالٍ، وَلَا يُخْبَطَ فِيهَا شَجَرَةٌ إِلَّا لِعَلَفٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2732 -
(وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ) : أَيِ الْخِدْرِيِّ (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنْ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ) أَيْ أَظْهَرَ تَحْرِيمَهَا (فَجَعَلَهَا حَرَامًا) ، أَيْ بَيَّنَهَا وَعَيَّنَهَا بَعْدَ انْدِرَاسِهَا (وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ حَرَامًا) نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ إِمَّا " لِحَرَّمْتُ " عَلَى غَيْرِ لَفْظِهِ، أَوْ عَلَى حَذْفِ الزَّوَائِدِ أَيْ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ أَيْ: حَرَّمْتُ فَحُرِّمَتْ (مَا بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا) : مَفْعُولٌ ثَانٍ كَذَا قِيلَ، وَالْأَظْهَرُ الْعَكْسُ، وَالْمَأْزِمُ بِالْفَتْحِ وَسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَيُبَدَّلُ وَبِكَسْرِ الزَّايِ، الْمَوْضِعُ الضَّيِّقُ بَيْنَ الْجِبَالِ، حَيْثُ يَلْتَقِي بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَيَتَّسِعُ مَا وَرَاءَهُ، وَالْمُرَادُ مَا بَيْنَ جَانِبَيِ الْمَدِينَةِ وَطَرَفَيْهَا (أَنْ لَا يُهَرَاقَ) : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَيُسَكَّنُ أَيْ بِأَنْ لَا يُرَاقَ (فِيهَا دَمٌ)، لِأَنَّ إِرَاقَةَ دَمِ الْمُسْلِمِ فِيهَا أَقْبَحُ مِنْ غَيْرِهَا. قِيلَ: إِنَّهُ مَفْعُولُ حَرَّمْتُ عَلَى زِيَادَةِ لَا مِثْلَ: فَلَا يَعْلَمُ أَهْلُ الْكِتَابِ) أَيْ لِكَيْ يَعْلَمَ أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ أَيْ: لِئَلَّا يُهْرَاقَ أَوْ يَكُونُ تَفْسِيرًا لِمَا حُرِّمَ أَيْ: هُوَ أَنْ لَا يُسْفَكَ بِهَا دَمٌ، وَالْمُرَادُ مِنْ نَهْيِ إِرَاقَةِ الدَّمِ النَّهْيُ عَنِ الْقِتَالِ الْمُفْضِي إِلَى إِرَاقَةِ الدَّمِ، لِأَنَّ إِرَاقَةَ الدَّمِ، الْحَرَامِ مَمْنُوعٌ عَنْهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْمُبَاحُ مِنْهُ لَمْ نَجِدْ فِيهِ اخْتِلَافًا يُعْتَدُّ بِهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ إِلَّا فِي حَرَمِ مَكَّةَ، وَقِيلَ: لَا يُسْفَكُ دَمٌ ; حَرَامٌ لِأَنَّ سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ فِي مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ أَشَدُّ تَحْرِيمًا. ( «وَلَا يُحْمَلَ فِيهَا سِلَاحٌ لِقِتَالٍ» ) : هَذَا يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الثَّانِي ; لِأَنَّ التَّأْسِيسَ أَوْلَى مِنَ التَّأْكِيدِ (وَلَا تُخْبَطَ) بِالتَّأْنِيثِ وَالتَّذْكِيرِ أَيْ لَا تُقْطَعُ (فِيهَا شَجَرَةٌ) : وَقِيلَ: لَا تُضْرَبُ لِيَسْقُطَ أَوْرَاقُهَا وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِقَوْلِهِ: (إِلَّا لِعَلَفٍ) : بِتَحْرِيكِ اللَّامِ وَإِسْكَانِهَا.
فِي النِّهَايَةِ: بِإِسْكَانِ اللَّامِ مَصْدَرُ عَلَفْتُ عَلَفًا، وَبِالْفَتْحِ اسْمُ الْحَشِيشِ وَالتِّبْنِ وَالشَّعِيرِ وَنَحْوِهَا، وَفِيهِ جَوَازُ أَخْذِ أَوْرَاقِ الشَّجَرِ لِلْعَلَفِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ، صَاحِبُ شَرْحِ مُسْلِمٍ، أَوَّلُ شُرَّاحِ الْمَصَابِيحِ: قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: " «حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ» "، أَرَادَ بِذَلِكَ تَحْرِيمَ التَّعْظِيمِ دُونَ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْحَرَمِ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ: " «لَا يُتَخَبَّطُ مِنْهَا شَجَرَةٌ إِلَّا لِعَلَفٍ» " وَأَشْجَارُ حَرَمِ مَكَّةَ لَا يَجُوزُ خَبْطُهَا بِحَالٍ، وَأَمَّا صَيْدُ الْمَدِينَةِ وَإِنْ رَأَى تَحْرِيمَهُ نَفَرٌ يَسِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ الْجُمْهُورَ مِنْهُمْ لَمْ يُنْكِرُوا اصْطِيَادَ الطُّيُورِ بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَهْيٌ مِنْ طَرِيقٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ. اهـ. كَلَامُهُ.
وَأَيْضًا قَالَ أَصْحَابُنَا: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ: " أُحَرِّمُ " مِنَ الْحُرْمَةِ لَا مِنَ التَّحْرِيمِ ; بِمَعْنَى أُعَظِّمُ الْمَدِينَةَ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَبِهِ نَقُولُ فَنُعَظِّمُهَا وَنُوَقِّرُهَا أَشَدَّ التَّوْقِيرِ وَالتَّعْظِيمِ ; لَكِنْ لَا نَقُولُ بِالتَّحْرِيمِ ; لِعَدَمِ الْقَاطِعِ احْتِرَازًا عَنِ الْجَرَاءَةِ عَلَى تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ - تَعَالَى -. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ شِبْهُ التَّحْرِيمِ بِمَكَّةَ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْحَمْلُ عَلَى التَّعْظِيمِ؟ أُجِيبُ: بِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّشْبِيهَ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، أَوْ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ ; فَلَا يَصِحُّ الْحَمْلُ عَلَى مَا حَمَلْتُمْ عَلَيْهِ قَوْلَهُ:" كَتَحْرِيمِ إِبْرَاهِيمَ مَكَّةَ " فَقُلْتُمْ فِي الْحُرْمَةِ فَقَطْ لَا فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَإِنْ قُلْتُمْ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ فَلَا نُسَلِّمُ؟ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم إِلَّا عَنْ سَعْدٍ فَقَطْ، وَعَنْ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ سَلْبُ الْقَاطِعِ وَالصَّائِدِ، وَقَدْ أَجْمَعْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ فِي حَرَمِ مَكَّةَ، فَكَيْفَ يَجِبُ هُنَاكَ؟ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَكَمَا حَمَلْتُمْ عَلَى شَيْءٍ سَاغَ لَنَا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى آخَرَ، وَهَذَا لِأَنَّ تَشْبِيهَ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ يَصِحُّ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يُشْبِهُهُ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59] يَعْنِي: مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ تَخْلِيقُهُ بِغَيْرِ أَبٍ، فَكَذَلِكَ نَقُولُ: إِنَّ تَشْبِيهَهُ بِمَكَّةَ فِي تَحْرِيمِ التَّعْظِيمِ فَقَطْ لَا فِي التَّحْرِيمِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ أُخَرُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ التَّعَارُضَ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَبِالْحَمْلِ عَلَى مَا قُلْنَا يُدْفَعُ، وَدَفْعُهُ هُوَ الْمَطْلُوبُ مَهْمَا أَمْكَنَ بِالْإِجْمَاعِ، فَصَارَ الْمَصِيرُ إِلَى مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أَوْلَى وَأَرْجَحَ بِلَا نِزَاعٍ، مَا أَبْعَدَ مَنِ اسْتَبْعَدَ وَهَذَا الْحَمْلُ مَعَ وُجُودِ فِعْلِ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، فَمِنْهَا مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ - غَيْرُ الشَّافِعِيِّ - فِي حَدِيثِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «إِنَّ صَيْدُوجَ وَعِضَاهَةً حَرَمٌ مُحَرَّمٌ لِلَّهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَدِ اتَّفَقَ الثَّلَاثَةُ عَلَى عَدَمِ تَحْرِيمِ صَيْدِ وَجٍّ وَقَطْعِ شَجَرِهِ، مَعَ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنَ التَّأْكِيدِ، وَأَوَّلُوهُ أَوْ حَمَلُوهُ عَلَى النَّسْخِ، فَكَذَا هَذَا مِثْلُهُ. فَالْجَوَابُ الَّذِي لَهُمْ فِي ذَلِكَ هُوَ جَوَابُنَا فِي هَذَا.
وَلِنُورِدَ بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي نَتَمَسَّكُ عَلَى عَدَمِ تَحْرِيمِهَا. فَمِنْهَا: عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ لِأَبِي طَلْحَةَ ابْنٌ مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ، يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُضَاحِكُهُ إِذَا دَخَلَ، وَكَانَ لَهُ طَيْرٌ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَى أَبَا عُمَيْرٍ حَزِينًا فَقَالَ: " مَا شَأْنُ أَبِي عُمَيْرٍ؟ " فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَاتَ نُغَيْرُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ» " قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ قَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ فِي كِتَابَيْهِمَا، وَكَذَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
قَالَ الطَّحَاوِيُّ: فَهَذَا كَانَ فِي الْمَدِينَةِ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُ صَيْدِهَا حُكْمُ صَيْدِ مَكَّةَ لَمَا أَطْلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَبْسَ النُّغَيْرِ، وَلَا اللَّعِبَ بِهِ كَمَا يُطْلَقُ ذَلِكَ بِمَكَّةَ.
وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: لَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يَسْكُتْ عَنْهُ فِي وَضْعِ الْحَاجَةِ. فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِقَبَاءَ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الْحَرَمِ. قِيلَ لَهُ: هَبْ أَنَّهُ كَمَا ذَكَرْتَهُ ; وَلَكِنْ لِمَ قُلْتَ أَنَّ قَبَاءَ لَيْسَتْ مِنَ الْحَرَمِ ; لِأَنَّهُ رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ فِي تَحْدِيدِ حَرَمِهَا بَرِيدًا فِي بَرِيدٍ، وَالْبَرِيدُ: أَرْبَعُ فَرَاسِخَ، وَقَبَاءُ لَا تَبْلُغُ مِنَ الْمَدِينَةِ فَرْسَخًا. فَإِنْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ حَدِيثَ النُّغَيْرِ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ، أَوْ أَنَّهُ صَادَ مِنَ الْحِلِّ. قِيلَ لَهُ: هَذَا احْتِمَالُ تَأْوِيلٍ، وَتَأْوِيلُ الرَّاوِي لَيْسَ بِحُجَّةٍ، فَكَيْفَ تَأْوِيلُ غَيْرِهِ؟ وَقَوْلُهُ: أَوْ صَادَهُ مِنَ الْحِلِّ لَا يَلْزَمُنَا عَلَى أَصْلِنَا، لِأَنَّ صَيْدَ الْحِلِّ إِذَا دَخَلَ الْحَرَمَ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْحَرَمِ عِنْدَنَا، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْنَا بَلْ عَلَيْهِمْ.
قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: طَاعِنًا فِينَا، وَلَكِنَّ أَصْلَهُمْ هَذَا ضَعِيفٌ فَيُرَدُّ عَلَيْهِمُ اهـ.
وَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ هَذَا، مَعَ أَنَّ اسْتِدْلَالَنَا بِالنَّصِّ وَاسْتِدْلَالَهُمْ بِالْقِيَاسِ فَلَا جَرَمَ أَنْ يُقَدَّمَ النَّصُّ عَلَى الْقِيَاسِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ قَاسُوا حُكْمَ الصَّيْدِ عَلَى مَسْأَلَةِ الِاسْتِرْقَاقِ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُهُ وَلَا يَرْفَعُهُ، حَتَّى إِذَا ثَبَتَ حَالُ الْكُفْرِ ثُمَّ طَرَأَ إِسْلَامٌ لَا يَرْتَفِعُ مِنْهُ حَقُّ الشَّرْعِ، وَلَنَا: أَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ فِي الْحَرَمِ صَارَ مِنْ صَيْدِهِ، فَلَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لَهُ، كَمَا إِذَا دَخَلَ هُوَ بِنَفْسِهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّعَرُّضُ بِالنَّصِّ ; لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِصَيْدِ الْحَرَمِ إِلَّا مَا كَانَ حَالًّا فِيهِ، وَهَذَا فِيهِ فَوَجَبَ تَرْكُ التَّعَرُّضِ لَهُ لِإِطْلَاقِ النَّصِّ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ فِي الرِّقِّ.
وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَائِشَةَ رضي الله عنهم وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً، وَتَقْلِيدُهُمْ أَوْلَى مِنَ الْقِيَاسِ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ، فَعَلِمْنَا مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ دَلِيلَهُمْ أَضْعَفُ أَصْلًا.
وَمِنْهَا: فِي الصَّحِيحَيْنِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «لَمَّا أَخَذَهُ كَانَ نَخْلٌ وَقُبُورٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَخُرِّبَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالنَّخْلِ فَقُطِعَ» . . الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ: أَخَذَهُ أَيْ مَكَانَ الْمَسْجِدِ، فَعِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ قَطْعُ نَخْلِ الْحَرَمِ، فَلَوْ كَانَ حَرَمًا لَمَا أَمَرَ بِالْقَطْعِ عَلَى أَصْلِهِمْ.
وَمِنْهَا: مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ زَبَالَةَ وَغَيْرُهُ، عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِمَسْلَمَةَ:" «أَمَا إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ تَصِيدَهُ بِالْعَقِيقِ لَشَيَّعْتُكَ إِذًا ذَهَبْتَ وَتَلَقَّيْتُكَ إِذَا جِئْتَ فَإِنِّي أُحِبُّ الْعَقِيقَ» " رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَحْوَهُ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَّنَهُ الْمُنْذِرِيُّ قَالَ فِي النُّخْبَةِ: وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَوَازُ صَيْدِ الْمَدِينَةِ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعَقِيقَ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ مُخَالِفٌ، وَزِيَادَةُ تَرْغِيبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صَيْدِهَا عَنْ غَيْرِهَا وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ لِكَوْنِ لَحْمِهَا تَرَبَّى مِنْ نَبَاتِ الْمَدِينَةِ فَكَانَ لِلَحْمِهَا مَزِيَّةٌ عَلَى لُحُومِ الصَّيْدِ الَّذِي لَيْسَ مِنْهَا، كَمَا أَنَّ لِثَمَرِهَا مَزِيَّةً عَلَى بَقِيَّةِ الْأَثْمَارِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ:«قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَيْنَ كُنْتَ " قُلْتُ فِي الصَّيْدِ قَالَ: " أَيْنَ " فَأَخْبَرْتُهُ بِالنَّاحِيَةِ الَّتِي كُنْتُ فِيهَا فَكَأَنَّهُ كَرِهَ تِلْكَ النَّاحِيَةَ وَقَالَ: " لَوْ كُنْتَ تَذْهَبُ إِلَى الْعَقِيقِ» " الْحَدِيثَ، وَمِنْهَا مَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَفِيهِ كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ وَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا:«أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ فَإِذَا جِئْتُمُوهُ فَكُلُوا مِنْ شَجَرَةٍ وَلَوْ مِنْ عِضَاهِهِ» ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِثْلَهُ وَالْأَكْلُ مِنْهَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بِقَطْعٍ أَوْ قَلْعٍ، وَقَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْمَنْعِ فِي غَيْرِ أُحُدٍ مَنْعُ اسْتِحْبَابٍ لَا تَحْرِيمٍ، أَوْ كَانَ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ لِلْبَيْعِ لَا لِلْأَكْلِ لِئَلَّا يُضَيِّقَ عَلَيْهِمْ وَلِتَتَوَفَّرَ الصُّيُودُ بِهَا فَنَهَاهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّشْدِيدِ إِرَادَةً لِلتَّوْسِعَةِ عَلَيْهِمْ فِي الِاصْطِيَادِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، كَمَا قَالَ الْمُنَازِعُونَ فِي تَأْوِيلِ حَدِيثِ صَيْدِ وَجٍّ وَأَشْجَارِهِ وَهُوَ مَا قَالَهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: حَمَاهُ أَيْ وَادِي وَجٍّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَظَرًا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِإِبِلِ الصَّدَقَةِ وَنَعَمِ الْجِزْيَةِ، فَيَجُوزُ الِاصْطِيَادُ فِيهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَنْعُ الْكَلَأِ مِنَ الْعَامَّةِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ: وَلَا أَعْلَمُ لِتَحْرِيمِهِ صلى الله عليه وسلم وَجًّا مَعْنًى إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْحُمَّى لِنَوْعٍ مِنْ مَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ، إِلَى أَنْ قَالَ مَا حَاصِلُهُ وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ لِلتَّحْرِيمِ ثُمَّ نُسِخَ، فَكَمَا أَوَّلُوا ذَلِكَ الْحَدِيثَ لَنَا أَنْ نُئَوِّلَ هَذَا، ثُمَّ إِنْ صَحَّ مُرَادُ التَّحْرِيمِ فَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ النَّهْيِ عَنْ صَيْدِ الْمَدِينَةِ وَقَطْعِ شَجَرِهَا كَوْنَ الْهِجْرَةُ إِلَيْهَا وَاجِبَةً فَكَانَ يَفْعَلُهُ بَقَاءً لِزِينَتِهَا لِيَسْتَطِيبُوهَا وَيَأْلَفُوهَا، لِأَنَّ بَقَاءَ ذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُ فِي زِينَتِهَا وَيَدْعُو إِلَيْهَا كَمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «نَهَى عَنْ هَضْمِ آطَامِ الْمَدِينَةِ فَإِنَّهَا مِنْ زِينَتِهَا، فَلَمَّا انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ زَالَ ذَلِكَ، فَكَذَا هَذَا» ، فَإِنْ قِيلَ فَصَارَ الْأَمْرُ مُحْتَمِلًا؛ أُجِيبُ فَعَادَ عَلَى مَا كَانَ وَهُوَ عَدَمُ التَّحْرِيمِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَإِنَّمَا أَطْنَبْنَا الْكَلَامَ مَعَ إِنَّهُ خِلَافُ الْمُرَادِ رَدًّا لِلْجَاهِلِ بِعِلْمِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَالْمُجْتَهِدِ الْأَعْلَمِ الَّذِي صَارَ عِيَالُهُ فِي الْفِقْهِ جَمِيعَ الْفُقَهَاءِ، وَقَدِ انْفَرَدَ بِكَوْنِهِ تَابِعِيًّا مِنْ بَيْنِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ حَيْثُ قَالَ فِي حَقِّهِ: لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ الْمَنْعِ أَوْ بَلَغَهُ فَخَالَفَهُ بِالرَّأْيِ وَالدَّفْعِ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ.
2733 -
وَعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ سَعْدًا رَكِبَ إِلَى قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا أَوْ يَخْبِطُهُ فَسَلَبَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ جَاءَهُ أَهْلُ الْعَبْدِ فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى غُلَامٍ أَوْ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ مِنْ غُلَامِهِمْ، فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
ــ
2733 -
(وَعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ) أَيِ ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ هُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ (أَنَّ سَعْدًا) فَهُوَ أَبُوهُ (رَكِبَ إِلَى قَصْرِهِ) أَيْ مَوْضِعٍ هَيَّأَهُ لَهُ (بِالْعَقِيقِ) اسْمُ مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ فَكَأَنَّهُ مِنْ طُرُقِهَا (فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا) أَيْ شَجَرَ حَرَمِ الْمَدِينَةِ (أَوْ يَخْبِطُهُ) بِكَسْرِ الْبَاءِ أَيْ يَخْبِطُ وَرَقَ شَجَرٍ بِضَرْبٍ أَوْ رَمْيِ حَجَرٍ (فَسَلَبَهُ) أَيْ أَخَذِ ثِيَابِهِ وَالسَّلَبُ بِفَتْحَتَيْنِ الْمَسْلُوبُ (فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ) أَيْ إِلَى الْمَدِينَةِ (جَاءَهُ أَهْلُ الْعَبْدِ فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى غُلَامِهِمْ أَوْ عَلَيْهِمْ) شَكَّ الرَّاوِي (مَا أَخَذَ مِنْ غُلَامِهِمْ فَقَالَ مَعَاذَ اللَّهِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ أَيْ أُعُوذُ بِاللَّهِ مَعَاذًا (أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وَفِي رِوَايَةٍ «فَلَا أَرُدُّ عَلَيْكُمْ طُعْمَةً أَطْعَمَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَكِنْ إِنْ شِئْتُمْ دَفَعْتُ إِلَيْكُمْ ثَمَنَهُ» ، وَفِي أُخْرَى إِنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ فَيَجِدُ الْحَاطِبَ مَعَهُ شَجَرٌ رَطْبٌ فَيَسْأَلُهُ فَيُكَلِّمُ فِيهِ فَيَقُولُ: لَا أَدَعُ غَنِيمَةً غَنَّمَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ مَالًا. هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ، أَوْ قَوْلٌ كَمَا تَقَدَّمَ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ فِي صَيْدِ الْمَدِينَةِ وَقَطْعِ شَجَرِهَا، بَلْ ذَلِكَ حَرَامٌ بِلَا ضَمَانٍ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَجِبُ الْجَزَاءُ كَحَرَمِ مَكَّةَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَحْرُمُ أَيْضًا اهـ. وَهُوَ مَذْهَبُنَا إِلَّا إِنَّهُ يُكْرَهُ كَمَا تَقَدَّمَ.
2734 -
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ " «لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2734 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وُعِكَ) عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ هُمْ (أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله الْوَعْكُ الْحُمَّى، وَقِيلَ أَلَمُهَا وَقِيلَ نَعْتُ الْحُمَّى وَهُوَ مُمَارَسَتُهَا الْمُحْرِمَ حَتَّى تَصْرَعَهُ (فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ) أَيْ بِمَا صَدَرَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه حِينَ قُلْتُ لَهُ يَا أَبَتِ كَيْفَ تَجِدُكَ وَقَدْ أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ:
كُلُّ امْرِئٍ مُصْبِحٍ فِي أَهْلِهِ
…
وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
وَبِمَا قَالَ بِلَالٌ إِذَا قَلَعَ عَنْهُ الْحُمَّى يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَيَقُولُ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً
…
بِوَادٍ وَعِنْدِي إِذْخَرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مِجَنَّةٍ
…
وَهَلْ تَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ
وَهُمَا جَبَلَانِ، وَالْجَلِيلُ وَمِيَاهُ مِجَنَّةَ عَيْنٌ بِقُرْبِ مَكَّةَ، وَالْحَاصِلُ إِنَّهُ كَانَ يَذْكُرُ مَكَّةَ وَصِحَّةَ هَوَائِهَا، وَعُذُوبَةَ مَائِهَا، وَلَطَافَةَ جِبَالِهَا وَنَبَاتِهَا، وَنَفْخَةَ رِيَاحِ نَبَاتِهَا الَّذِي بِمَنْزِلَةِ بَنَاتِهَا وَأَبْنَائِهَا (فَقَالَ:«اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ وَأَشَدَّ» ) أَيْ بَلْ أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ فِي رِوَايَةٍ وَأَشَدَّ وَأَمَّا تَجْوِيزُ ابْنِ حَجَرٍ رحمه الله وَغَيْرُهُ يَكُونُ أَوْ لِلشَّكِّ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَبَعِيدٌ عَنْ تَحْقِيقِ الْمَرَامِ فَإِنَّهُ يَنْحَلُّ الْكَلَامُ كَحُبِّنَا أَشَدَّ، وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ عِنْدَ الْأَعْلَامِ ثُمَّ لَا يُنَافِي هَذَا مَا سَبَقَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ لِمَكَّةَ «إِنَّكِ أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَيَّ، وَإِنَّكِ أَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ:«لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكِ أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ» ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ مُجَاوِرَةَ الْمَدِينَةِ وَتَّرْكَ التَّوَطُّنِ وَالسُّكُونَ بِمَكَّةَ السَّكِينَةِ طَلَبَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزِيدَ مَحَبَّةَ الْمَدِينَةِ فِي قُلُوبِ أَصْحَابِهِ ; لِئَلَّا يَمِيلُوا بِأَدْنَى الْمَيْلِ غَرَضًا، إِذِ الْمُرَادُ بِالْمَحَبَّةِ الزَّائِدَةِ الْمُلَائِمَةُ لِمَلَاذِ النَّفْسِ، وَنَفْيُ مَشَاقِّهَا لَا الْمَحَبَّةُ الْمُرَتَّبَةُ عَلَى كَثْرَةِ الْمَثُوبَةِ، فَالْحَيْثِيَّةُ مُخْتَلِفَةٌ وَيُؤَيِّدُ مَا قَرَّرْنَاهُ فِيمَا حَرَّرْنَاهُ قَوْلُهُ (وَصَحِّحْهَا) أَيِ اجْعَلْ هَوَاءَهَا وَمَاءَهَا صَحِيحًا (وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا) وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ:«اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ» ، وَهُوَ لَا يُنَافِي مُضَاعَفَةَ الْمَثُوبَةِ بِمَكَّةَ الْمُخْتَصَّةِ بِهَا دُونَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ (وَانْقُلْ) أَيْ حَوِّلْ (حُمَّاهَا) أَيْ وَبَاءَهَا وَشِدَّتَهَا وَكَثْرَتَهَا (فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ كَانَ سَاكِنُوا الْجُحْفَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَهُودًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، فَإِنَّ الْحُمَّى انْتَقَلَتْ إِلَيْهَا حَتَّى مَنْ شَرِبَ مِنْ مَائِهَا حُمَّ بَلْ لَوْ مَرَّ الطَّيْرُ فِي هَوَائِهِ حُمَّ.
2735 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي رُؤْيَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَدِينَةِ «رَأَيْتُ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ خَرَجَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ حَتَّى نَزَلَتْ مَهْيَعَةَ، فَتَأَوَّلْتُهَا أَنَّ وَبَاءَ الْمَدِينَةِ نُقِلَ إِلَى مَهْيَعَةَ وَهِيَ الْجُحْفَةُ» ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
2735 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي رُؤْيَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَدِينَةِ رَأَيْتُ امْرَأَةً سَوْدَاءَ) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ قَالَ فِي حَدِيثِ رُؤْيَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي شَأْنِ الْمَدِينَةِ رَأَيْتُ، فَيَكُونُ رَأَيْتُ حِكَايَةَ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (ثَائِرَةَ الرَّأْسِ) أَيْ مُنْتَشِرَةَ شَعْرِ الرَّأْسِ (خَرَجَتْ مِنَ الْمَدِينَةِ حَتَّى نَزَلَتْ مَهْيَعَةَ) بِسُكُونِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الْبَقِيَّةِ الْأَرْضُ الْمَبْسُوطَةُ الْوَاسِعَةُ (فَتَأَوَّلْتُهَا) أَيْ أَوَّلْتُهَا وَالتَّأْوِيلُ تَفْسِيرُ الشَّيْءِ بِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ (أَنَّ وَبَاءً بِالْمَدِينَةِ) وَهُوَ بِالْمَدِّ وَيُقْصَرُ؛ مَرَضٌ عَامٌّ، أَوْ مَوْتٌ ذَرِيعٌ وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْأَرْضِ الْوَخْمَةِ الَّتِي تَكْثُرُ فِيهَا الْأَمْرَاضُ لَا سِيَّمَا لِلْغُرَبَاءِ، أَيْ حُمَّاهَا وَأَمْرَاضِهَا (نُقِلَ إِلَى مَهْيَعَةَ) يُقَالُ: أَرْضٌ مَهْيَعَةٌ، أَيْ مَبْسُوطَةٌ وَبِهَا كَانَتْ تُعَرَفُ فَلَمَّا ذَهَبَ السَّيْلُ بِأَهْلِهَا سُمِّيَتْ جُحْفَةٌ فَقَوْلُهُ (وَهِيَ الْجُحْفَةُ) تَفْسِيرٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: لَمْ يَلِدْ بِغَدِيرِ خُمٍّ أَخَذَ فَعَاشَ إِلَى أَنْ يَحْتَلِمَ إِلَّا أَنْ يَتَحَوَّلَ مِنْهَا، وَغَدِيرُ خُمٍّ مَوْضِعٌ بِالْجُحْفَةِ، وَاسْتَشْكَلَ كَيْفَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ مَعَ كَوْنِهَا وَبِيَّةً، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ نَهَى عَنِ الْقُدُومِ إِلَى الْوَبَاءِ، فَأَجَابَ النَّوَوِيُّ بِمَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَهُوَ: أَنَّ هَذَا الْقُدُومَ كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ، أَوْ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْقُدُومِ عَلَى الْوَبَاءِ الذَّرِيعِ وَالطَّاعُونِ، وَمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانَ مُجَرَّدَ حُمَّى تَشْتَدُّ وَتَطُولُ مُدَّتُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْغُرَبَاءِ، وَلَا يَغْلِبُ الْمَوْتُ بِسَبَبِهَا.
2736 -
وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يُفْتَحُ الْيَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَيُفْتَحُ الشَّامُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَيُفْتَحُ الْعِرَاقُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
ــ
2736 -
(وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ) بِالتَّصْغِيرِ (قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ يُفْتَحُ الْيَمِينُ) بِالتَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ (فَيَأْتِي قَوْمٌ) أَيْ فَيَذْهَبُونَ إِلَى الْيَمَنِ فَيَعْجِبُ بَعْضًا بِلَادُهُمْ، وَهَنِيَّةُ عِيشَتِهِمْ فَيَحْمِلُهُمْ عَلَى الْمُهَاجَرَةِ إِلَيْهَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَهَالِيهِمْ فَيَأْتُونَ (يَبُسُّونَ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ وَبِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْبَاءِ وَالسِّينُ مُشَدَّدَةً، يُقَالُ: أَبْسَسْتُ الدَّابَّةَ وَبَسَسْتُهَا: أَيْ سُقْتُهَا أَيْ يَسِيرُونَ سَيْرًا شَدِيدًا (فَيَتَحَمَّلُونَ) أَيْ يَرْتَحِلُونَ (بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ) أَيِ انْقَادَ لَهُمْ مِنَ الْأَجَانِبِ فِي السَّفَرِ مَعَهُمْ (وَالْمَدِينَةُ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الْمَدِينَةَ (خَيْرٌ لَهُمْ) مِنْ غَيْرِهَا لِأَنَّهَا حَرَمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَهْبِطُ الْوَحْيِ وَمَنْزِلُ الْبَرَكَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ (لَوْ كَانُوا يَعْمَلُونَ) أَيْ أَنَّ الْمَدِينَةَ خَيْرٌ لَهُمْ لِمَا فَارَقُوهَا، وَلِمَا اخْتَارُوا عَلَيْهَا غَيْرَهَا مِنَ الْبِلَادِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ لَوْ لِلتَّمَنِّي، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَرْتَحِلُ قَوْمٌ مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ بَعْدَ فَتْحِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى يَكْثُرَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا تَرَكُوهُ مِنَ الْبِلَادِ (وَيُفْتَحُ الشَّامُ) بِالْوَجْهَيْنِ (فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ وَيُفْتَحُ الْعِرَاقُ) بِالتَّذْكِيرِ فَقَطْ (فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ) أَيْ مِنَ الْيَمَنِ، وَلَا الشَّامِ، وَالْعِرَاقِ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ كَمَا قَالَ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) وَفِي الْحَدِيثِ أَنْوَاعٌ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ الْوَاقِعَاتِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2737 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَأُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى» . يَقُولُونَ يَثْرِبَ وَهِيَ الْمَدِينَةُ تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
ــ
2737 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرْتُ) أَيْ فِي الْهِجْرَةِ (بِقَرْيَةٍ) أَيْ بِنُزُولِهَا أَوِ اسْتِيطَانِهَا (تَأْكُلُ الْقُرَى) أَيْ تَغْلِبُهَا وَتَظْهَرُ عَلَيْهَا، وَالْمَعْنَى يَغْلِبُ أَهْلُهَا وَهُمُ الْأَنْصَارُ بِالْإِسْلَامِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ قُرَى وَالْأَنْصَارِ، وَفِي الْفَائِقِ أَيْ يَفْتَحُ أَهْلُهَا الْقُرَى وَيَقْتَسِمُونَ أَمْوَالَهَا، فَجَعَلَ ذَلِكَ أَكْلًا مِنْهَا لِلْقُرَى عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْضِيلًا لَهَا عَلَى الْقُرَى كَقَوْلِهِمْ: هَذَا حَدِيثٌ يَأْكُلُ الْأَحَادِيثَ أَيْ يُفَضِّلُهَا، وَمِنَ اللَّطَائِفِ الْوَاقِعَةِ فِي زَمَانِنَا أَنَّ شَخْصًا جَاوَبَ الْقَصِيدَةَ الْبُرْدَةَ بِشِعْرٍ سَخِيفٍ، وَنَظْمٍ ضَعِيفٍ، وَكَانَ قَرَأَ قَصِيدَتَهُ وَيَمْدَحُهَا فِي أَثْنَاءِ قِرَاءَتِهِ وَيَقُولُ: هَذَا الْبَيْتُ يَبْلُعُ الْبُرْدَةَ، وَكَانَ وَاحِدٌ مِنَ الظُّرَفَاءِ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ فَلَمَّا أَكْثَرَ مِنْ قَوْلِهِ هَذَا يَبْلُعُ.
الْبُرْدَةَ قَالَ: يَا فُلَانُ إِنَّا لَمْ نَرِدِ الْبَالُوعَةَ، فَخَجِلَ الشَّاعِرُ وَبَهَتَ الْفَاجِرُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَصْلُ الْأَكْلِ لِلشَّيْءِ الْإِفْنَاءُ لَهُ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِافْتِتَاحِ الْبِلَادِ وَسَلْبِ الْأَمْوَالِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ يَأْكُلُ أَهْلُهَا الْقُرَى، أَوْ أَضَافَ الْأَكْلَ إِلَيْهَا لِأَنَّ أَمْوَالَ تِلْكَ الْبِلَادِ تُجْمَعُ إِلَيْهَا وَتُفْنَى فِيهَا (يَقُولُونَ) أَيِ النَّاسُ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى لَهَا (يَثْرِبَ) أَوْ هِيَ يَثْرِبُ (وَهِيَ الْمَدِينَةُ) أَيْ يُسَمُّونَهَا هَذَا الِاسْمَ وَالِاسْمُ الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ هُوَ الْمَدِينَةُ لِدَلَالَتِهَا عَلَى التَّعْظِيمِ، وَأَمَّا التَّثْرِيبُ فَهُوَ اللَّوْمُ وَالتَّوْبِيخُ قَالَ - تَعَالَى - حِكَايَةً {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} [يوسف: 92] (تَنْفِي النَّاسَ) أَيِ الْخَبِيثِينَ (كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ) قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ يَثْرِبُ مِنْ أَسْمَاءِ الْمُدُنِ، وَقِيلَ هُوَ اسْمُ أَرْضِهَا سُمِّيَتْ بِاسْمِ رَجُلٍ مِنَ الْعَمَالِقَةِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ نَزَلَهَا وَبِهِ كَانَتْ تُسَمَّى قَبْلَ الِاسْمِ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ غَيَّرَ هَذَا الِاسْمَ فَقَالَ بَلْ هِيَ طَابَةُ، وَجَعَلَ الْمَدِينَةَ مَكَانَهَا وَكَأَنَّهُ كَرِهَ هَذَا الِاسْمَ لِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ مِنَ التَّثْرِيبِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ أَيْ مِنْ أَنَّهُ اسْمُ رَجُلٍ مِنَ الْعَمَالِقَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ يَقُولُونَ يَثْرِبَ وَهِيَ الْمَدِينَةُ ; أَيِ الِاسْمُ الْحَقِيقِيُّ بِأَنْ تُدْعَى بِهِ هِيَ الْمَدِينَةُ فَإِنَّهَا يَلِيقُ بِأَنْ تُتَّخَذَ دَارَ إِقَامَةٍ مِنْ مُدُنٍ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ، تَنْفِي النَّاسَ أَيْ شِرَارَهُمْ وَهَمَجَهُمْ، يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّشْبِيهُ بِالْكِيرِ فَإِنَّهُ يَنْفِي خَبَثَ الْحَدِيدِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالْبَاءِ وَبِالْمُثَلَّثَةِ رَدِيئَهُ، ثُمَّ كُورُ الْحَدَّادِ بِضَمِّ الْكَافِ تَوَقُّدُ النَّارِ مِنَ الطِّينِ وَالْكِيرُ زِقُّهُ الَّذِي يُنْفُخُ فِيهِ، وَالْمُرَادُ مَا بُنِيَ مِنَ الطِّينِ اهـ. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله قَدْ حُكِيَ عَنْ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ: أَنَّ مَنْ سَمَّاهَا يَثْرِبَ كُتِبَ عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا فِي الْقُرْآنِ بِيَثْرِبَ فَهِيَ حِكَايَةُ قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ تَحْرِيمُ تَسْمِيَةِ الْمَدِينَةِ بِيَثْرِبَ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ الْبَرَاءِ مَرْفُوعًا:«مَنْ سَمَّى الْمَدِينَةَ يَثْرِبَ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، هِيَ طَابَةُ هِيَ طَابَةُ» قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ يُحَقِّرُ شَأْنَ مَا عَظَّمَهُ اللَّهُ وَمَنْ وَصَفَ مَا سَمَّاهُ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ ; يَسْتَحِقُّ أَنْ يُسَمَّى عَاصِيًا، بَلْ هُوَ كَافِرٌ وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَقَالَ فِي الْفَائِقِ: أُسْنِدَ تَسْمِيَتُهَا بِيَثْرِبَ إِلَى النَّاسِ تَحَاشِيًا عَنْ مَعْنَى التَّثْرِيبِ، وَكَانَ يُسَمِّيهَا طَابَةَ وَطِيبَةَ وَيَقُولُونَ صِفَةً لِلْقَرْيَةِ وَالرَّاجِعُ مِنْهَا إِلَيْهَا مَحْذُوفٌ، وَالْأَصْلُ يَقُولُونَ لَهَا.
2738 -
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «إِنَّ اللَّهَ سَمَّى الْمَدِينَةَ طَابَةَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2738 -
(وَعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - سَمَّى الْمَدِينَةَ طَابَةَ» ) وَفِي رِوَايَةٍ طِيبَةَ، وَكَثْرَةُ الْأَسْمَاءِ تَدُلُّ عَلَى عَظْمَةِ مُسَمَّاهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ سَمَّاهَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، أَوْ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يُسَمِّيَهَا بِهَا رَدًّا عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي تَسْمِيَتِهَا بِيَثْرِبَ ; إِيمَاءً إِلَى تَثْرِيبِهِمْ فِي الرُّجُوعِ إِلَيْهَا، وَكَانَ اللَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ هِيَ طَابَةُ فِي ذَاتِهَا يِسْتَوِي فِي الطِّيبَةِ دُخُولُهَا وَخُرُوجُهَا، لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا الْحَادِثَةِ عَلَيْهَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
2739 -
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَصَابَ الْأَعْرَابِيَّ وَعَكٌ بِالْمَدِينَةِ، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى. ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى فَخَرَجَ الْأَعْرَابِيُّ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
ــ
2739 -
(وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا) أَيْ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله وَكَانَ مِمَّنْ هَاجَرَ (بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ عَلَى الْمَقَامِ عِنْدَهُ (فَأَصَابَ الْأَعْرَابِيَّ وَعَكٌ) وَأَحَبَّ الْخُرُوجَ مِنْهَا أَوْ تَشَاءَمَ بِالْبَيْعَةِ لِمَا حَصَلَ لَهُ مِنَ الْمِحْنَةِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج: 11] الْآيَةَ (فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ أَقِلْنِي بَيْعَتِي) اسْتِعَارَةٌ مِنْ إِقَالَةِ الْبَيْعِ وَهُوَ إِبْطَالُهُ فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَإِنَّمَا أَبَى لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِقَالَةُ بَيْعَةِ الْإِسْلَامِ وَلَا إِقَالَةُ بَيْعَةِ الْإِقَالَةِ مَعَهُ اهـ. وَلَعَلَّ الْأَوَّلَ لِتَضَمُّنِهِ الرِّضَا بِالْكُفْرِ وَالتَّسَبُّبِ لَهُ، وَالثَّانِي لِاشْتِمَالِهِ عَلَى هُجْرَانِ الْمُهَاجَرَةِ (ثُمَّ جَاءَهُ) أَيْ ثَانِيًا (فَقَالَ أَقِلْنِي بَيْعَتِي) ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَجُوزُ قِيَاسًا لَهُ عَلَى الْبَيْعِ فَإِنَّ الْإِقَالَةَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي الْبَيْعِ، وَلِذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَقَالَ نَادِمًا أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (فَأَبَى) لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بَيِّنٌ
(ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى فَخَرَجَ) أَيْ مِنَ الْمَدِينَةِ (الْأَعْرَابِيُّ) مِنْ غَيْرِ إِذْنِهِ صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا) بِفَتْحَتَيْنِ يَعْنِي مَا تُبْرِزُهُ النَّارُ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمَعْدِنِيَّةِ الَّتِي تَصْلُحُ لِلطَّبْعِ فَتُخَلِّصُهَا بِمَا تُبْرِزُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَرُوِيَ بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ الْبَاءِ يَعْنِي بِهِ الشَّيْءَ الْخَبِيثَ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ لِمُنَاسَبَةِ الْكِيرِ (وَيَنْصَعُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ هُوَ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ، أَيْ يَصْفُو وَيَخْلُصُ وَيَتَمَيَّزُ (طِيبُهَا) بِفَتْحِ الطَّاءِ وَكَسْرِ الْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ، وَيُرْوَى بِكَسْرِ الطَّاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَالْأَوَّلُ هُوَ أَقْوَمُ مَعْنًى، لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي مُقَابَلَةِ الْخَبِيثِ، وَأَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْكِيرِ وَالطِّيبِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: رُوِيَ بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ النُّونِ وَهِيَ أَشَدُّ الرِّوَايَاتِ لَفْظًا وَمَعْنًى مِنْ نَصَعَ لَوْنُهُ نُصُوعًا إِذَا اشْتَدَّ بَيَاضُهُ وَخَلْعِي، وَأَنْصَعَهُ غَيْرُهُ عَلَى اللُّغَةِ الْقِيَاسِيَّةِ، وَفِي مَعْنَاهُ مُنَصَّعٌ بِتَشْدِيدِ الصَّادِ، وَالرِّوَايَةُ بِالتَّشْدِيدِ أَكْثَرُ، وَطَيَّبَهَا بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْبَاءِ ; جَعَلَ مَثَلَ الْمَدِينَةِ وَمَا يُصِيبُ سَاكِنِيهَا مِنَ الْجُهْدِ وَالْبَلَاءِ كَمَثَلِ الْكِيرِ وَمَا يُوقَدُ عَلَيْهِ فِي النَّارِ، فَيُمَيَّزُ بِهِ الْخَبِيثُ مِنَ الطِّيبِ فَيَذْهَبُ الْخَبِيثُ وَيَبْقَى الطَّيِّبُ فِيهِ أَزْكَى مَا كَانَ وَأَخْلَصُ، كَمَا فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَإِنَّهُ أَخْرَجَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَأَظْهَرَ الْعَدْلَ وَالْإِحْسَانَ، وَفِي التَّنْزِيلِ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي حَقِّ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مِنْ جِهَةِ التَّمْثِيلِ {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جَفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17]
(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2740 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2740 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ) أَيْ تُخْرِجَ (شِرَارَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ) أَيْ يُذْهِبُ (خَبَثَ الْحَدِيدِ) أَيْ وَسَخَهُ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي زَمَنِهِ عليه الصلاة والسلام لِأَنَّ بِعْثَتَهُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَأَنْ يَكُونَ حِينَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ وَقَصْدِهِ الْمَدِينَةَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
2741 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلَا الدَّجَّالُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2741 -
(وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ) جَمْعُ نَقْبٍ بِسُكُونِ الْقَافِ وَهُوَ الطَّرِيقُ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، قَالَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مُطْلَقُ الطَّرِيقِ، أَوْ أُرِيدَ بِالْأَنْقَابِ الْأَبْوَابُ وَالْمُرَادُ مَلَائِكَةُ حَرَسِهِ (لَا يَدْخُلُهَا) أَيِ الْمَدِينَةَ أَوْ أَنِقَابَهَا (الطَّاعُونُ وَلَا الدَّجَّالُ) وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا مُسْتَقِلًّا، وَكَوْنُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْأَنْقَابِ بِمَنْزِلَةِ الْحُجَّابِ، وَاقِفِينَ عَلَى بَابِهِ تَعْظِيمًا لِجَنَابِهِ، وَأَنْ يَكُونَ حُكْمًا مُرَتَّبًا عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنْ يَكُونُوا مَانِعِينَ دُخُولَ الْجِنِّ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ مِنْ أَثَرِ ضَرْبِهِمْ وَطَعْنِهِمْ ظُهُورُ الطَّاعُونِ وَدُخُولُ الدَّجَّالِ الَّذِي هُوَ مَسْحُورٌ وَمُسَخَّرٌ لَهُمْ، أَوْ هُمْ مُسَخَّرُونَ لَهُ ابْتِلَاءً مِنْهُ - تَعَالَى - عَلَى عِبَادِهِ فَحَفِظَ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْهُ أَهْلَ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ بِبَرَكَةِ مَا فِيهِمَا مِنَ الْبُقْعَتَيْنِ الْمَنِيعَتَيْنِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2742 -
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَئُوهُ الدَّجَّالُ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ لَيْسَ نَقْبٌ مِنْ أَنِقَابِهَا إِلَّا عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا فَيَنْزِلُ السَّبِخَةَ فَتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا. ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ كُلُّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2742 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَئُوهُ الدَّجَّالُ) أَيْ يَدُوسُهُ وَيَدْخُلُهُ وَيُفْسِدُهُ (إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ (لَيْسَ نَقْبٌ مِنْ أَنِقَابِهَا) أَيْ أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ أَوْ أَنَقَابِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا (إِلَّا عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ) أَيْ عَلَى ذَلِكَ النَّقْبِ، وَفِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ رحمه الله: عَلَيْهَا وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأُصُولِ وَتَكَلُّفٌ لَهُ بِقَوْلِهِ أَنَّثَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ الطَّرِيقُ وَهُوَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ (صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا) أَيْ يَحْفَظُونَ أَهْلَهَا (فَيَنْزِلُ) أَيِ الدَّجَّالُ بَعْدَ أَنْ مَنَعَتْهُ الْمَلَائِكَةُ (السَّبِخَةَ) بِكَسْرِ الْبَاءِ صِفَةٌ، وَهُوَ الْأَرْضُ الَّتِي تَعْلُوهَا الْمُلُوحَةُ وَلَا تَكَادُ تُنْبِتُ إِلَّا بَعْضَ الشَّجَرِ، وَبِفَتْحِهَا اسْمٌ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْمَدِينَةِ (فَتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ) بِضَمِّ الْجِيمِ أَيْ تَضْطَرِبُ (بِأَهْلِهَا)
أَيْ مُلْتَبِسَةٌ بِهِمْ وَقِيلَ الْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ، أَيْ تُحَرِّكُهُمْ وَتُزَلْزِلُهُمْ (ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ) بِفَتْحِ الْجِيمِ (فَخَرَجَ إِلَيْهِ) أَيْ إِلَى الدَّجَّالِ (كُلُّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْبَاءُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ تَتَزَلْزَلُ وَتَضْطَرِبُ بِسَبَبِ أَهْلِهَا لِيَنْفَضَّ إِلَى الدَّجَّالِ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا ; أَيْ تَرْجُفُ مُلْتَبِسَةً ثُمَّ نَقَلَ عَنِ الْمُظْهِرِ: تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا أَيْ تَحَرِّكُهُمْ وَتُلْقِي مَيْلَ الدَّجَّالِ فِي قَلْبِ مَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ خَالِصِ الْعَقْلِ قَالَ: فَعَلَى هَذَا الْبَاءُ صِلَةُ الْفِعْلِ اهـ. قَالَ مِيرَكُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاءَ عَلَى هَذَا لِلتَّعْدِيَةِ، قُلْتُ لَا يَظْهَرُ غَيْرُ هَذَا الظَّاهِرِ وَهُوَ لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ صِلَةَ الْفِعْلِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2743 -
وَعَنْ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَكِيدُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ إِلَّا انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2743 -
(وَعَنْ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَكِيدُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ) أَيْ بِالْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ (إِلَّا انْمَاعَ) أَيْ ذَابَ وَهَلَكَ (كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2744 -
وَعَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَنَظَرَ إِلَى جُدُرَانِ الْمَدِينَةِ أَوْضَعَ رَاحِلَتَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ حَرَّكَّهَا مِنْ حُبِّهَا» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
2744 -
(وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَنَظَرَ إِلَى جُدُرَانِ الْمَدِينَةِ) بِضَمِّ الْأُولَيَيْنِ جَمْعُ جُدُرٍ جَمْعُ جِدَارٍ (أَوْضَعَ) أَيْ أَسْرَعَ (رَاحِلَتَهُ) الْإِيضَاعُ مَخْصُوصٌ بِالْبَعِيرِ وَالرَّاحِلَةِ النَّجِيبِ وَالنَّجِيبَةِ مِنَ الْإِبِلِ، فِي الْحَدِيثِ «النَّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لَا تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً» (وَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ) كَالْبَغْلِ وَالْفَرَسِ (حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا) تَنَازَعَ فِيهِ الْفِعْلَانِ أَيْ مِنْ أَجْلِ حُبِّهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهَا أَوْ أَهْلَهَا أَوْ مِنْ أَجْلِ حُبِّهَا لَهُ صلى الله عليه وسلم وَأُنْشِدَ فِي مَعْنَاهُ:.
إِذَا دَنَتِ الْمَنَازِلُ زَادَ شَوْقِي
…
فَلَمْحُ الْعَيْنِ دُونَ الْحَجَرِ شَهْرُ
وَلَا سِيَّمَا إِذَا بَدَتِ الْخِيَامُ
…
فَرَجْعُ الطَّرْفِ دُونَ الشَّهْرِ عَامُ
وَقَوْلُهُ:
وَأَعْظَمُ مَا يَكُونُ الشَّوْقُ يَوْمًا
…
إِذَا دَنَتِ الْخِيَامُ مِنَ الْخِيَامِ
(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
2745 -
وَعَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ فَقَالَ هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2745 -
(وَعَنْهُ) أَيْ عَنِ النَّبِيِّ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَلَعَ) أَيْ ظَهَرَ (لَهُ أُحُدٌ فَقَالَ: هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ) قِيلَ مَحَبَّةُ الْحَيِّ لِلْجَمَادِ إِعْجَابُهُ وَسُكُونُ النَّفْسِ إِلَيْهِ وَالْمُؤَانَسَةُ بِهِ ; لِمَا يُرَى فِيهِ مِنْ نَفْعِ وَمَحَبَّةِ الْجَمَادِ لِلْحَيِّ ; مَجَازٌ عَنْ كَوْنِهِ نَافِعًا إِيَّاهُ سَادًّا مَانِعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُؤْذِيهِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يُرِيدُ أَهْلَ أُحُدٍ مِنَ الشُّهَدَاءِ وَالْأَحْيَاءِ حَوَالَيْهِ، وَقَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ: الْأَوْلَى إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَا يُنْكَرُ وَصْفُ الْجَمَادَاتِ بِحُبِّ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَأَهْلِ الطَّاعَةِ ; كَمَا حَنَّتِ الْأُسْطُوَانَةُ عَلَى مُفَارَقَتِهِ حَتَّى سَمِعَ الْقَوْمُ حَنِينَهَا، كَمَا أَخْبَرَ أَنَّ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْوَحْيِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: لَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ جَبَلُ أُحُدٍ وَجَمِيعُ أَجْزَاءِ الْمَدِينَةِ كَانَتْ تُحِبُّهُ وَتَحِنُّ إِلَى لِقَائِهِ حَالَ مُفَارَقَتِهِ (اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ) أَيْ أَظْهَرَ تَحْرِيمَهَا (وَإِنِّي أُحَرِّمُ) أَيْ أُعَظِّمُ (مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا) أَيْ طَرَفَيِ الْمَدِينَةِ أَوْ أُحَرِّمُ تَخْرِيبَ مَا بَيْنَهُمَا أَوْ تَضْيِيعَ مَا فِيهِمَا مِنْ زِينَةِ الْبَلَدِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِثْلَ تَحْرِيمِ مَكَّةَ بِالْإِجْمَاعِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2746 -
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
2746 -
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» ) وَلَعَلَّ وَجْهَ تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ لِتَحَرُّكِهِ بِهِ سُرُورًا لَمَّا رَقَى عَلَيْهِ مَعَ أَصْحَابِهِ الثَّلَاثَةِ ; فَقَالَ لَهُ: «اثْبُتْ أُحُدُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ، وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ عَنْ سُوَيْدِيِّ بْنِ عَامِرٍ الْأَنْصَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنْ أَبِي عُمَيْسِ بْنِ جُبَيْرٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ بِلَفْظِ:«أُحُدٌ هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ وَإِنَّهُ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهَذَا عَيْرٌ جَبَلٌ يُبْغِضُنَا وَنُبْغِضُهُ وَإِنَّهُ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ» وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ «أُحُدٌ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْجَنَّةِ» .
(الْفَصْلُ الثَّانِي)
2747 -
ــ
(الْفَصْلُ الثَّانِي)
2747 -
(عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ) بِالتَّكْبِيرِ (قَالَ رَأَيْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ أَخَذَ رَجُلًا) أَيْ عَبْدًا (يَصِيدُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ الَّذِي حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ حَدَّهُ (فَسَلَبَهُ ثِيَابَهُ) بَدَلُ اشْتِمَالٍ (فَجَاءَ مَوَالِيهِ فَكَلَّمُوهُ فِيهِ) أَيْ فِي شَأْنِ الْعَبْدِ وَرَدِّ سَلَبِهِ (قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَرَّمَ هَذَا الْحَرَمَ) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: دَلَّ عَلَى أَنَّهُ اعْتَقَدَ أَنَّ تَحْرِيمَهَا كَتَحْرِيمِ مَكَّةَ اهـ. لَا يَظْهَرُ وَجْهُ دَلَالَتِهِ لَا مِنْ لَفْظِ التَّحْرِيمِ وَلَا مِنْ أَخْذِ السَّلَبِ فَإِنَّ التَّحْرِيمَ بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ، وَالْحَرَمُ بِمَعْنَى الْمُحْتَرَمِ الْمُعَظَّمِ، وَإِنَّ أَخْذَ السَّلَبِ يُنَافِي كَوْنَ تَحْرِيمِهَا كَتَحْرِيمِ مَكَّةَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي حَرَمٍ سَلْبُ الثِّيَابِ فِي جَزَاءِ الْعِقَابِ إِجْمَاعًا، مَعَ أَنَّهُ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ (وَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ - صَلِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مَنْ أَخَذَ أَحَدًا يَصِيدُ فِيهِ فَلْيَسْلُبْهُ) هَذَا آخِرُ الْحَدِيثِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ (فَلَا أَرُدُّ عَلَيْكُمْ طُعْمَةً) أَيْ بِالضَّمِّ أَيْ رِزْقًا (أَطْعَمَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ عَيَّنَهُ وَلَا أُبَالِي (وَلَكِنْ إِنْ شِئْتُمْ دَفَعْتُ إِلَيْكُمْ ثَمَنَهُ) أَيْ تَبَرُّعًا قَالَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله أَوِ احْتِيَاطِيًّا لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
2748 -
وَعَنْ صَالِحٍ مَوْلًى لِسَعْدٍ «أَنَّ سَعْدًا وَجَدَ عَبِيدًا مِنْ عَبِيدِ الْمَدِينَةِ يَقْطَعُونَ مِنْ شَجَرِ الْمَدِينَةِ، فَأَخَذَ مَتَاعَهُمْ وَقَالَ: - يَعْنِي لِمَوَالِيهِمْ - سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى أَنْ يُقْطَعَ مِنْ شَجَرِ الْمَدِينَةِ شَيْءٌ وَقَالَ: مَنْ قَطَعَ مِنْهُ شَيْئًا فَلِمَنْ أَخَذَهُ سَلَبُهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
2748 -
(وَعَنْ صَالِحٍ مَوْلًى لِسَعْدٍ) صَوَابُهُ عَنْ صَالِحٍ عَنْ مَوْلًى لَسَعِدٍ قَالَ الشَّيْخُ الْجَزَرِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ عَنْ مَوْلًى لِسَعْدٍ، وَمَوْلَى سَعْدٍ مَجْهُولٌ، وَصَالِحٌ مُوَثَّقٌ رَوَى لَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ بِالْقَوَيِّ، وَقَالَ أَحْمَدُ: صَالِحُ الْحَدِيثِ اهـ. فَعَلَى هَذَا أُسْقِطَ لَفْظَةٌ عَنْ مِنْ قَلَمِ نُسَّاخِ الْمِشْكَاةِ أَوْ وَقَعَ سَهْوٌ مِنَ الْمُصَنِّفِ قَالَ مِيرَكُ: وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ إِنَّ مَنْ صَنَّفَ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِ الْكُتُبِ لَمْ يَذْكُرْ لِسَعْدٍ مَوْلًى يُقَالُ لَهُ صَالِحٌ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ (إِنَّ سَعْدًا وَجَدَ عَبِيدًا مِنْ عَبِيدِ الْمَدِينَةِ يَقْطَعُونَ مِنْ شَجَرِ الْمَدِينَةِ) أَيْ مِنْ بَعْضِ) أَشْجَارِهَا (فَأَخَذَ مَتَاعَهُمْ) أَيْ ثِيَابَهُمْ (وَقَالَ يَعْنِي لِمَوَالِيهِمْ) تَفْسِيرٌ مِنَ الرَّوَاي عَنْهُ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى أَنْ يُقْطَعَ مِنْ شَجَرِ الْمَدِينَةِ) أَيْ بَعْضِ أَشْجَارِهَا (شَيْءٌ وَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ قَطَعَ مِنْهُ) أَيْ مِنْ شَجَرِهَا (شَيْئًا فَلِمَنْ) أَيْ لِلَّذِي (أَخَذَهُ) أَيِ الْقَاطِعُ (سَلَبُهُ) أَيْ مَا عَلَيْهِ مِنَ الثِّيَابِ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
2749 -
وَعَنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِنَّ صَيْدَ وَجٍّ وَعِضَاهَهُ حِرْمٌ مُحَرَّمٌ لِلَّهِ» ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ: وَجٌّ ذَكَرُوا أَنَّهَا مِنْ نَاحِيَةِ الطَّائِفِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: أَنَّهُ بَدَلُ أَنَّهَا.
ــ
2749 -
(وَعَنِ الزُّبَيْرِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ صَيْدَ وَجٍّ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ، فِي النِّهَايَةِ: مَوْضِعٌ بِنَاحِيَةِ الطَّائِفِ، وَفِي الْقَامُوسِ: اسْمُ وَادٍ بِالطَّائِفِ لَا بَلَدَ بِهِ، وَغَلَطَ الْجَوْهَرِيُّ وَهُوَ مَا بَيْنَ جَبَلِ الْمُعْتَرِقِ ولأميعدين وَمِنْهُ آخِرُ وَطْأَةٍ وَطْأَهَا اللَّهُ بِوَجٍّ يُرِيدُ غَزْوَةَ حُنَيْنٍ لَا الطَّائِفِ، وَغَلَطَ الْجَوْهَرِيُّ، وَحُنَيْنٌ وَادٍ قَبْلَ وَجٍّ، وَأَمَّا غَزْوَةُ الطَّائِفِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا قِتَالٌ (وَعِضَاهَهَ) أَيْ أَشْجَارُ شَوْكِهِ (حِرْمٌ) بِكَسْرٍ فَسُكُونٍ قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ: حِرْمٌ وَحَرَامٌ لُغَتَانِ كَحِلٍّ وَحَلَالٍ، قُلْتُ: وَقُرِئَ بِهِمَا قَوْلُهُ - تَعَالَى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95](مُحَرَّمٌ) تَأْكِيدٌ لِحَرَمٍ
(لِلَّهِ) مُتَعَلِّقٌ بِمُحَرَّمٍ أَيْ لِأَمْرِهِ أَوْ لِأَجْلِ أَوْلِيَائِهِ، إِذْ رُوِيَ أَنَّهُ حَرَّمَهُ عَلَى سَبِيلِ الْحُمَّى لِأَفْرَاسِ الْغُزَاةِ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ، ثُمَّ نُسِخَ، ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله إِنَّهُ لَا يُصَادُ فِيهِ وَلَا يُقْطَعْ شَجَرُهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ ضَمَانًا وَفِي مَعْنَاهُ النَّقِيعُ أَيْ بِالنُّونِ، وَتَقَدَّمَ نَقْلُ شَرْحِ السُّنَّةِ وَحَاصِلُهُ مَا يُوَافِقُ مَذْهَبَنَا مِنْ أَنَّ النَّقِيعَ حَمَاهُ صلى الله عليه وسلم لِإِبِلِ الصَّدَقَةِ وَنَعَمِ الْجِزْيَةِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى حَلِّ صَيْدِهِ وَقَطْعِ نَبَاتِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَنْعُ الْكَلَإِ مِنَ الْعَامَّةِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ النَّقِيعِ وَلَا بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ أَشْجَارِهِ كَالْمَوْقُوفِ، وَقَالَ شَارِحٌ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ عَلَى سَبِيلِ الْحُرْمَةِ وَالتَّعْظِيمِ لَهُ لِيَصِيرَ حِمًى لِلْمُسْلِمِينَ أَيْ مَرْعًى لِأَفْرَاسِ الْمُجَاهِدِينَ لَا يَرْعَاهَا غَيْرُهَا، وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ إِنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُرِيدُ غَزْوَةَ الطَّائِفِ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مَعَهُ الْجَمُّ الْغَفِيرُ فَرَأَى ذَلِكَ التَّحْرِيمَ لِيَرْتَفِقَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
قَالَ مِيرَكُ: حَدِيثُ الزُّبَيْرِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَفِيهِ قِصَّةٌ وَفِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانَ الطَّائِفِيُّ وَأَبُوهُ، وَقَدْ سُئِلَ أَبُو حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدٍ فَقَالَ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَفِي حَدِيثِهِ نَظَرٌ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَذَكَرَ لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَ: لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، وَذَكَرَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا وَقَالَ لَمْ يَصِحَّ حَدِيثُهُ وَكَذَا قَالَ ابْنُ حَبَّانَ. اهـ. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ عَدَمُ صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى حُكْمٍ عَظِيمٍ مُشْتَمِلٍ عَلَى تَحْرِيمٍ (وَقَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ) أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ (وَجٌّ، ذَكَرُوا) أَيِ الْعُلَمَاءُ (أَنَّهَا مِنْ نَاحِيَةِ الطَّائِفِ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله: الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِضَافَةَ بَيَانِيَّةٌ، أَيْ نَاحِيَةٌ هِيَ الطَّائِفُ فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ جَمِيعَ الطَّائِفِ حَرَمٌ، وَلَا أَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا قَالَ بِهِ مَعَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَقْوَالِ اللُّغَوِيِّينَ، وَمُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِ أَيْضًا فِي بَيَانِ سَبَبِ جَعْلِهِ حَرَمًا ; إِنَّهُ جَاءَ فِي وَجْهِ تَسْمِيَةِ الطَّائِفِ أَنَّ جِبْرِيلَ اقْتَلَعَ تِلْكَ الْأَرْضَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ ثُمَّ حَمَلَهَا عَلَى جَنَاحِهِ وَأَتَى بِهَا مَكَّةَ، فَطَافَ بِهَا بِالْبَيْتِ سَبْعًا ثُمَّ وَضَعَهَا ثَمَّةَ، وَلَا بُعْدَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ قِطْعَةً مِنْ تِلْكَ الْأَرْضِ لِيُتَذَكَّرَ سَبَبُ تَحْرِيمِهَا فَيَسْتُرَ تَعْظِيمَ الطَّائِفِ جَمِيعَهَا، وَلَمْ يُحَرَّمْ كُلُّهُ لِأَنَّ فِيهِ مَشَقَّةً عَلَى النَّاسِ لِشِدَّةِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى نَبَاتِهِ وَصَيْدِهِ اهـ. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الْمُنَاقَضَةِ وَكَذَا الْمُعَارَضَةُ بِمَا فِي تَحْرِيمِ مَكَّةَ إِجْمَاعًا، وَتَحْرِيمُ الْمَدِينَةِ عِنْدَهُمْ إِذَا الْمَشَقَّةُ عَامَّةٌ بَلْ فِي الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ أَكْثَرُ فَتَدَبَّرْ (وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ) أَيْ فِي مَعَالِمِ السُّنَنِ (أَنَّهُ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ (بَدَلَ أَنَّهَا) وَهُوَ أَمْرٌ سَهْلٌ لِأَنَّ التَّذْكِيرَ بِاعْتِبَارِ الْمَوْضِعِ، وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ الْبُقْعَةِ.
2750 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا ; فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا.
ــ
2750 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ) أَيْ يُقِيمُ بِهَا حَتَّى يُدْرِكَهُ الْمَوْتُ ثَمَّةَ (فَلْيَمُتْ بِهَا) أَيْ فَلْيُقِمْ بِهَا حَتَّى يَمُوتَ بِهَا (فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا) أَيْ فِي مَحْوِ سَيِّئَاتِ الْعَاصِينَ، وَرَفْعِ دَرَجَاتِ الْمُطِيعِينَ، وَالْمَعْنَى: شَفَاعَةٌ مَخْصُوصَةٌ بِأَهْلِهَا لَمْ تُوجَدْ لِمَنْ لَمْ يَمُتْ بِهَا، وَلِذَا قِيلَ الْأَفْضَلُ لِمَنْ كَبُرَ عُمُرُهُ أَوْ ظَهَرَ أَمْرُهُ بِكَشْفٍ وَنَحْوِهِ مَنْ قُرْبِ أَجَلِهِ ; أَنْ يَسْكُنَ الْمَدِينَةَ لِيَمُوتَ فِيهَا، وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ قَوْلُ عُمَرَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ وَاجْعَلْ مَوْتِي بِبَلَدِ رَسُولِكَ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صُحِيحٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا) وَلَيْسَ هَذَا صَرِيحًا فِي أَفْضَلِيَّةِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ مُطْلَقًا، إِذْ قَدْ يَكُونُ فِي الْمَفْضُولِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْفَاضِلِ مِنْ حَيْثِيَّةٍ، وَتِلْكَ بِسَبَبِ تَفْضِيلِ بُقْعَةِ الْبَقِيعِ عَلَى الْحَجُونِ، إِمَّا لِكَوْنِهِ تُرْبَةَ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ، أَوْ لِقُرْبِ ضَجِيعِهِ عليه الصلاة والسلام وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُهَاجِرُونَ فَإِنَّهُ ذَمَّ لَهُمُ الْمَوْتَ بِمَكَّةَ كَمَا قَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ.
2751 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «آخِرُ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْإِسْلَامِ خَرَابًا الْمَدِينَةُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
ــ
2751 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «آخِرُ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْإِسْلَامِ خَرَابًا الْمَدِينَةُ» ) خَبَرٌ، وَآخِرُ مُبْتَدَأٌ وَيَجُوزُ عَكْسُهُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ عِمَارَةَ الْإِسْلَامِ مَنُوطَةٌ بِعِمَارَتِهَا وَهَذَا بِبَرَكَةِ وَجُودِهِ فِيهَا صلى الله عليه وسلم (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ) .
2752 -
«وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَيَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ نَزَلْتَ، فَهِيَ دَارُ هِجْرَتِكَ الْمَدِينَةِ أَوِ الْبَحْرَيْنِ أَوْ قِنَّسْرِينَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
2752 -
(وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ) أَيِ الْبَجَلِيِّ (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَيَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ) مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِقَوْلِهِ (نَزَلْتَ) أَيْ لِلْإِقَامَةِ بِهَا وَالِاسْتِيطَانِ فِيهَا وَقُدِّمَ عَلَيْهِ لِلِاسْتِفْهَامِ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَأَغْرَبَ فِي قَوْلِهِ كَذَا قَالَهُ شَارِحٌ وَهُوَ عَجِيبٌ لِأَنَّهَا هُنَا لَيْسَتِ اسْتِفْهَامِيَّةً كَمَا هُوَ وَاضِحٌ اهـ. وَالْخَطَأُ فِي كَلَامِهِ لَائِحٌ (فَهِيَ دَارُ هِجْرَتِكَ الْمَدِينَةِ) بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ الثَّلَاثَةِ (أَوِ الْبَحْرِينِ) وَهُوَ مَوْضِعٌ مَشْهُورٌ إِلَى الْآنَ، وَقِيلَ: مَوْضِعٌ بَيْنَ بَصْرَةَ وَعُمَانَ، وَقِيلَ: بِلَادٌ مَعْرُوفَةٌ بِالْيَمَنِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: جَزِيرَةٌ بِبَحْرِ عُمَانَ (أَوْ قِنَّسْرِينَ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ النُّونِ الْأُولَى الْمُشَدَّدِ وَيُكْسَرُ، بَلَدٌ بِالشَّامِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ ضَبْطُ الْمَدِينَةِ بِالنَّصْبِ فَيَكُونُ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، وَفِي أُخْرَى بِرَفْعِهَا عَلَى تَقْدِيرِ هِيَ وَفِي الْبَحْرِينِ لُغَاتٌ تَقَدَّمَتْ وَقِنَّسْرِينَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَهُوَ مُشْكِلٌ فَإِنَّ الَّتِي رَآهَا وَهُوَ بِمَكَّةَ أَنَّهَا دَارُ هِجْرَتِهِ، وَأَمَرَ بِالْهِجْرَةِ إِلَيْهَا هِيَ الْمَدِينَةُ كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَصَحُّ مِنْ هَذَا، وَقَدْ يُجْمَعُ بِأَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ عُيِّنَ لَهُ إِحْدَاهَا وَهِيَ أَفْضَلُهَا.
2753 -
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ) عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، لَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
2753 -
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)(وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ رُعْبُ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ وَيُضَمُّ أَيْ خَوْفُهُ (لَهَا) أَيْ لِسُورِهَا (يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) أَيْ طُرُقٍ وَأَنْقَابٍ (عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ) أَيِ اثْنَانِ أَوْ نَوْعَانِ يَمِينًا وَشِمَالًا يَحْفَظَانِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
2754 -
وَعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2754 -
(وَعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ الْبَرَكَةِ» ) أَيْ مِثْلَيْهِ فِي الْأَقْوَاتِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي كَوْنَ مَكَّةَ أَفْضَلَ مِنْهَا بِاعْتِبَارِ مُضَاعَفَةِ الْحَسَنَاتِ ; فَإِنَّ الْأَوَّلَ ارْتِفَاقٌ حِسِّيٌّ دُنْيَوِيٌّ، وَالثَّانِي أُخْرَوِيٌّ مَعْنَوِيٌّ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يُوَافِقُ مَا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ. بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ بِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2755 -
وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ الْخَطَّابِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ زَارَنِي مُتَعَمِّدًا كَانَ فِي جِوَارِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَكَنَ الْمَدِينَةَ وَصَبَرَ عَلَى بَلَائِهَا كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا وَشَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَاتَ فِي أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ بَعَثَهُ اللَّهُ مِنَ الْآمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
ــ
2755 -
(وَعَنْ رَجُلٍ مِنْ آلِ الْخَطَّابِ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ عَلَى مَا فِي النُّسَخِ، وَكَتَبَ مِيرَكُ عَلَى الْهَامِشِ آلَ حَاطِبٍ بِالْحَاءِ الْمُهْمِلَةِ وَكَسْرِ الطَّاءِ وَوَضَعَ عَلَيْهِ الظَّاهِرَ وَكَتَبَ تَحْتَهُ كَذَا فِي التَّرْغِيبِ لِلْمُنْذِرِيِّ (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ زَارَنِي مُتَعَمِّدًا) أَيْ لَا يَقْصِدُ غَيْرَ زِيَارَتِي مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُقْصَدُ فِي إِتْيَانِ الْمَدِينَةِ مِنَ التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا، وَالْمَعْنَى لَا يَكُونُ مَشُوبًا بِسُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ وَأَغْرَاضٍ فَاسِدَةٍ، بَلْ يَكُونُ عَنِ احْتِسَابٍ وَإِخْلَاصِ ثَوَابٍ، وَعَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ أَنَّهُ حَجَّ وَلَمْ يَزُرْهُ، وَقَالَ أَتَجَرَّدُ لِلزِّيَارَةِ فَكَأَنَّهُ أَخَذَ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَبَقِيَّةُ الْعُلَمَاءِ وَسَائِرُ الْعُرَفَاءِ نَظَرُوا إِلَى خُلَاصَةِ الْمَعْنَى، وَلِهَذَا اسْتُحِبَّ لِلزَّائِرِ أَنْ يَنْوِيَ زِيَارَةَ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ النَّبَوِيِّ وَمَقْبَرَةِ الْبَقِيعِ وَقُبُورِ الشُّهَدَاءِ وَسَائِرِ الْمَشَاهِدِ، إِذْ لَا تَنَافِي بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، أَمَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يُؤَدِّي رَكْعَتَيْنِ بِنِيَّاتٍ مُخْتَلِفَةٍ كَشُكْرِ الْوُضُوءِ وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَسُنَّةٍ أَوْ فَرْضٍ، وَهَذَا أَحَدُ مَعَانِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» ، وَمَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله إِلَى قَوْلِهِ الْعَارِفِ وَقَالَ: الْأَوْلَى تَجْرِيدُ النِّيَّةِ لِلزِّيَادَةِ، ثُمَّ إِنْ حَصَلَ لَهُ إِذَا قَدِمَ زِيَارَةَ الْمَسْجِدِ، أَوْ يَسْتَفْتِحْ فَضْلَ اللَّهِ - سُبْحَانَهُ - فِي مَرَّةٍ أُخْرَى يَنْوِيهِمَا فِيهَا لِأَنَّ فِي ذَلِكَ زِيَادَةُ تَعْظِيمِهِ صلى الله عليه وسلم -
(كَانَ فِي جِوَارِي) بِكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ فِي مُجَاوَرَتِي أَوْ مُحَافَظَتِي (يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَكَنَ الْمَدِينَةَ) أَيْ أَقَامَ أَوِ اسْتَوْطَنَ بِهَا (وَصَبَرَ عَلَى بَلَائِهَا) مِنْ حَرِّهَا وَضِيقِ عَيْشِهَا، وَفِتْنَةِ مَنْ يَسْكُنُهَا مِنَ الرَّوَافِضِ الَّتِي فِيهَا نَظِيرُ مَا كَانَ يَقَعُ لِلصَّحَابَةِ مِنْ مُنَافِقِيهَا (كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا) أَيْ لِطَاعَتِهِ (وَشَفِيعًا) لِمَعْصِيَتِهِ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ (وَمَنْ: مَاتَ فِي أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ) أَيْ مُؤْمِنًا (بَعَثَهُ اللَّهُ مِنَ الْآمِنِينَ) أَيْ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ أَوْ مِنْ كُلِّ كُدُورَةٍ (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) .
2756 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «مَنْ حَجَّ فَزَارَ قَبْرِي بَعْدَ مَوْتِي كَانَ كَمَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي» . رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.
ــ
2756 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا مَنْ حَجَّ فَزَارَ قَبْرِيَ بَعْدَ مَوْتِي) الْفَاءُ التَّعْقِيبِيَّةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَنْسَبَ أَنْ تَكُونَ الزِّيَارَةُ بَعْدَ الْحَجِّ ; كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ تَقْدِيمِ الْفَرْضِ عَلَى السُّنَّةِ، وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَفْصِيلًا حَسَنًا وَهُوَ أَنَّهُ: إِنْ كَانَ الْحَجُّ فَرْضًا فَالْأَحْسَنُ لِلْحَاجِّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْحَجِّ ثُمَّ يُثْنِي بِالزِّيَارَةِ، وَإِنْ بَدَأَ بِالزِّيَارَةِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ الْحَجُّ نَفْلًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ فَيَبْدَأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ اهـ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْحَجِّ أَوْلَى لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ وَلِتَقْدِيمِ حَقِّ اللَّهِ عَلَى حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِذَا تُقَدَّمَ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ عَلَى زِيَارَةِ الْمَشْهَدِ الْمُصْطَفَى (كَانَ كَمَنْ زَارَنِي فِي حَيَاتِي) لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَيٌّ يُرْزَقُ وَيُسْتَمَدُّ مِنْهُ الْمَدَدُ الْمُطْلَقُ (رَوَاهُمَا) أَيِ الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ (الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ، وَفَضَائِلُ الزِّيَارَةِ شَهِيرَةٌ، وَمَنْ أَنْكَرَهَا إِنَّمَا أَنْكَرَ مَا فِيهَا مِنْ بِدَعٍ نَكِيرَةٍ غَالِبُهَا كَبِيرَةٌ، وَقَدْ بَسَطْتُ الْكَلَامَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَقَامِ بِهِ يَتِمُّ نِظَامُ الْمَرَامِ.
2757 -
وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ جَالِسًا وَقَبْرٌ يُحْفَرُ بِالْمَدِينَةِ، فَاطَّلَعَ رَجُلٌ فِي الْقَبْرِ فَقَالَ بِئْسَ مَضْجَعِ الْمُؤْمِنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بِئْسَمَا قُلْتَ، قَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا، إِنَّمَا أَرَدْتُ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا مِثْلَ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا عَلَى الْأَرْضِ بُقْعَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَكُونَ قَبْرِي بِهَا مِنْهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» . رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا.
ــ
2757 -
(وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ جَالِسًا) أَيْ فِي الْمَقْبَرَةِ (وَقَبْرٌ يُحْفَرُ بِالْمَدِينَةِ فَاطَّلَعَ) بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ نَظَرَ (رَجُلٌ فِي الْقَبْرِ فَقَالَ بِئْسَ مَضْجَعُ الْمُؤْمِنِ) بِفَتْحِ الْجِيمِ مَرْقَدُهُ وَمَدْفَنُهُ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ هَذَا الْقَبْرُ، يَعْنِي: الْمَخْصُوصَ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى كَوْنُ الْمُؤْمِنِ يَضَّجِعُ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَكَانِ لَيْسَ مَحْمُودًا (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِئْسَ مَا قُلْتَ) أَيْ حَيْثُ أَطْلَقْتَ الذَّمَّ عَلَى مَضْجَعِ الْمُؤْمِنِ مَعَ أَنَّ قَبْرَهُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ (قَالَ الرَّجُلُ إِنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا) أَيْ هَذَا الْمَعْنَى أَوْ هَذَا الْإِطْلَاقَ (وَإِنَّمَا أَرَدْتُ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ لَهُ، أَوْ أَرَدْتُ أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَوْتِ عَلَى الْفِرَاشِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) تَقْرِيرًا لِمُرَادِهِ (لَا مِثْلَ الْقَتْلِ) بِالنَّصْبِ، أَيْ لَيْسَ شَيْءٌ مِثْلَ الْقَتْلِ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ثُمَّ ذَكَرَ فَضِيلَةَ مَنْ يَمُوتُ وَيُدْفَنُ فِي الْمَدِينَةِ سَوَاءٌ يَكُونُ بِشَهَادَةٍ أَوْ غَيْرِهَا وَقَالَ (مَا عَلَى الْأَرْضِ بُقْعَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ) بِالرَّفْعِ وَقِيلَ بِالنَّصْبِ (أَنْ يَكُونَ قَبْرِي بِهَا) أَيْ بِتِلْكَ الْبُقْعَةِ (مِنْهَا) أَيْ مِنَ الْمَدِينَةِ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) ظَرْفٌ لِجَمِيعِ الْمَقُولِ الثَّانِي، أَوْ لِلْفَصْلِ الثَّانِي مِنَ الْكَلَامِ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَوْتَ بِالْمَدِينَةِ أَفَضَلُ، بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ إِنَّ الْمُجَاوِرَةَ بِمَكَّةَ أَفَضَلُ أَوْ بِالْمَدِينَةِ أَكَمَلُ، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ دُعَاءِ عُمَرَ رضي الله عنه اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ وَاجْعَلْ مَوْتِي بِبَلَدِ رَسُولِكَ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: مَعْنَاهُ إِنِّي مَا أَرَدْتُ أَنَّ الْقَبْرَ بِئْسَ مَضْجَعُ الْمُؤْمِنِ مُطْلَقًا، بَلْ أَرَدْتُ أَنَّ مَوْتَ الْمُؤْمِنِ فِي الْغُرْبَةِ شَهِيدًا خَيْرٌ مِنْ مَوْتِهِ فِي فِرَاشِهِ وَبَلَدِهِ، وَأَجَابَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ لَا مِثْلَ الْقَتْلِ أَيْ لَيْسَ الْمَوْتُ بِالْمَدِينَةِ مِثْلَ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيِ الْمَوْتِ فِي الْغُرْبَةِ بَلْ هُوَ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ، فَوُضِعَ قَوْلُهُ (مَا عَلَى الْأَرْضِ بُقْعَةٌ إِلَخْ) مَوْضِعَ قَوْلِهِ (بَلْ هُوَ أَفْضَلُ وَأَكْمَلُ) فَإِذًا لَا بِمَعْنَى لَيْسَ، وَاسْمُهُ مَحْذُوفٌ وَالْقَتْلُ خَبَرُهُ. اهـ. وَهُوَ بِظَاهِرِهِ يُخَالِفُ مَا عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ مِنْ أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ مُجَرَّدُ الْمَوْتِ بِالْمَدِينَةِ، بَلْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى