الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2552 -
وَعَنْ عِمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ سَأَلَ اللَّهَ رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ، وَاسْتَعْفَاهُ بِرَحْمَتِهِ مِنَ النَّارِ (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ) .
ــ
2552 -
(وَعَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، (ابْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِيهِ) أَيْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، يُعْرَفُ بِذِي الشَّهَادَتَيْنِ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا بَعْدَهَا، كَانَ مَعَ عَلِيٍّ يَوْمَ صِفِّينَ فَلَمَّا قُتِلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ جَرَّدَ سَيْفَهُ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، (عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ سَأَلَ اللَّهَ رِضْوَانَهُ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا أَيْ رِضَاهُ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى، (وَالْجَنَّةَ) أَيِ الْعُقْبَى، فَإِنَّهَا مَرْضَى الْمَوْلَى، (وَاسْتَعْفَاهُ) أَيْ طَلَبَ عَفْوَهُ، فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى سَأَلَ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ وَرَوَى اسْتِغْفَارَهُ فَيَكُونُ عَنْ عَطْفًا عَلَى رِضْوَانِهِ اهـ. وَفِي الْحِصْنِ بِلَفْظِ اسْتَعْتَقَهُ، (بِرَحْمَتِهِ) أَيْ بِسَبَبِ رَحْمَتِهِ تَعَالَى، لَا بِكَسْبِ نَفْسِهِ، (مِنَ النَّارِ) أَيْ نَارِ الْعَذَابِ أَوْ نَارِ الْحِجَابِ، فَإِنْهُ أَشَدُّ الْعِقَابِ قَالَ أَصْحَابُنَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا فَرَغَ مِنَ التَّلْبِيَةِ، وَيَخْفِضَ صَوْتَهُ بِذَلِكَ، وَأَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ رِضْوَانَهُ وَالْجَنَّةَ، وَيَسْتَعِيذَ بِهِ مِنَ النَّارِ، وَيَدْعُوَ بِمَا أَحَبَّ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ أَحَبَّ، وَيَسْتَحِبُّ أَنْ يُكَرِّرَ التَّلْبِيَةَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَأَنْ يَأْتِيَ بِهَا عَلَى الْوَلَاءِ، وَلَا يَقْطَعَهَا بِكَلَامٍ، وَلَوْ رَدَّ السَّلَامَ فِي خِلَالِهَا جَازَ وَلَكِنْ يُكْرَهُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَإِذَا رَأَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ قَالَ (لَبَّيْكَ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ) ثُمَّ التَّلْبِيَةُ مَرَّةً شَرْطٌ عِنْدَنَا، وَالزِّيَادَةُ سُنَّةٌ حَتَّى يَلْزَمَ الْإِسَاءَةُ بِتَرْكِهَا، (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ) وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْهُمَامِ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يُصَلِّي عَلَى نَفْسِهِ بَعْدَ تَلْبِيَتِهِ، وَضَعَّفَهُ الْجُمْهُورُ كَالَّذِي قَبْلَهُ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَضُرُّ لِأَنَّهُ مِنْ أَحَادِيثِ الْفَضَائِلِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ صَوْتُهُ بِهِ أَخْفَضَ مِنَ التَّلْبِيَةِ لِتَظْهَرَ الْمَزِيَّةُ.
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)
2553 -
عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرَادَ الْحَجَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فَاجْتَمَعُوا، فَلَمَّا أَتَى الْبَيْدَاءَ أَحْرَمَ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
2553 -
(عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَرَادَ الْحَجَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] الْآيَةَ أَيْ نَادَى بَيْنَهُمْ بِأَنْ أُرِيدُ الْحَجَّ، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَإِلَّا ظَهَرَ أَنَّهُ أَمَرَ مُنَادِيًا بِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ الْحَجَّ كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ، (فَاجْتَمَعُوا) أَيْ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي الْمَدِينَةِ، (فَلَمَّا أَتَى الْبَيْدَاءَ) وَهِيَ الْمَفَازَةُ الَّتِي لَا شَيْءَ فِيهَا، وَهِيَ هُنَا اسْمُ مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ عِنْدَ ذِي الْحُلَيْفَةِ، (أَحْرَمَ) أَيْ كَرَّرَ إِحْرَامَهُ أَوْ أَظْهَرَهُ، وَهُوَ أَظْهَرُ لِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ أَحْرَمَ ابْتِدَاءً فِي مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ بَعْدَ رَكْعَتِي الْإِحْرَامِ، (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) رحمه الله وَفِي رِوَايَةٍ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام (صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، فَلَمَّا عَلَا عَلَى جَبَلِ الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «مَا أَهَلَّ إِلَّا عِنْدَ الْمَسْجِدِ» ، يَعْنِي مَسْجِدَ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ مَا أَهَلَّ إِلَّا عِنْدَ الْمَسْجِدِ حِينَ قَامَ بِهِ بِعِيرُهُ، وَفِي أُخْرَى حِينَ وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ وَاسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمًا: أَهَلَّ عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَفِي أُخْرَى لِأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ لَمَّا أَرَادَ الْحَجَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فَاجْتَمَعُوا لَهُ فَلَمَّا أَتَى الْبَيْدَاءَ أَحْرَمَ.
2554 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَيْلَكُمْ قَدْ قَدْ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، يَقُولُونَ هَذَا وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
ــ
2554 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيْلَكُمْ قَدْ قَدْ) بِسُكُونِ الدَّالِ وَكَسْرِهَا مَعَ التَّنْوِينِ فِيهِمَا، أَيْ كَفَاكُمْ هَذَا الْكَلَامُ فَاقْتَصِرُوا عَلَيْهِ وَلَا تَقُولُوا، (إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ) مَا نَافِيَةٌ: وَقِيلَ مَوْصُولَةٌ قَالَ الطِّيبِيُّ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ (لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ) فَإِذَا انْتَهَى كَلَامُهُمْ إِلَى لَا شَرِيكَ لَكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَدْ أَيِ اقْتَصِرُوا عَلَيْهِ، وَلَا تَتَجَاوَزُوا عَنْهُ إِلَى مَا بَعْدَهُ.
وَقَوْلُهُ إِلَّا شَرِيكًا الظَّاهِرُ فِيهِ الرَّفْعُ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ الْمَحَلِّ كَمَا فِي كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، فَاخْتِيرَ فِي الْكَلِمَةِ السُّفْلَى اللُّغَةُ السَّافِلَةُ، كَمَا اخْتِيرَ فِي الْكَلِمَةِ الْعُلْيَا الْعَالِيَةُ، (يَقُولُونَ) أَيِ الْمُشْرِكُونَ، وَهُوَ مَقُولُ ابْنِ عَبَّاسٍ (هَذَا) أَيْ هَذَا الْقَوْلُ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ إِلَّا شَرِيكًا مَعَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ (وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
[بَابُ قِصَّةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ]
(بَابُ قِصَّةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ)
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ)
2555 -
(
بَابٌ فِي قِصَّةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ)
بِفَتْحِ الْوَاوِ مَصْدَرُ وَدَّعَ تَوْدِيعًا، كَسَلَّمَ سَلَامًا، وَكَلَّمَ كَلَامًا، وَقِيلَ بِكَسْرِ الْوَاوِ، فَيَكُونُ مَصْدَرُ الْمُوَادَعَةِ، وَهُوَ إِمَّا لِوَدَاعِهِ النَّاسَ أَوِ الْحَرَمَ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ، وَهِيَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا قَالَ الشُّمُنِّيُّ لَمْ يُسْمَعْ فِي حَاءِ ذِي الْحِجَّةِ إِلَّا الْكَسْرُ قَالَ صَاحِبُ الصِّحَاحِ الْحَجَّةَ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ، وَهُوَ مِنَ الشَّوَاذِّ لِأَنَّ الْقَيَّاسَ الْفَتْحُ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
2555 -
(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَثَ) بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِهَا أَيْ لَبَثَ، (بِالْمَدِينَةِ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ) أَيْ لَكِنَّهُ اعْتَمَرَ كَمَا مَرَّ قَالَ الطِّيبِيُّ: وَقَدْ فُرِضَ الْحَجُّ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ اهـ. وَقِيلَ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَقِيلَ سَنَةَ تِسْعٍ كَمَا سَبَقَ.
(ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ) أَيْ أَمَرَ بِأَنْ يُنَادَى بَيْنَهُمْ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ نَادَى مُنَادِيًا بِإِذْنِهِ، (فِي الْعَاشِرَةِ) أَيِ السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، (أَنَّ) أَيْ بِأَنَّ، (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاجٌّ) أَيْ مُرِيدٌ لِلْحَجِّ وَقَاصِدُهُ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْكَسْرِ فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَقُولِ وَإِنَّمَا أَذَّنَ لِيَكْثُرُوا: فَيُشَاهِدُوا مَنَاسِكَهُ: فَيَنْقُلُوا إِلَى غَيْرِهِمْ، (فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ) تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج: 27] أَيْ مُشَاةً {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] أَيْ رَاكِبِينَ عَلَى كُلِّ بَعِيرٍ ضَعِيفٍ {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] أَيْ طَرِيقٍ بِعِيدٍ {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ} [الحج: 28] لَهُمْ أَيْ لِيَحْضُرُوا مَنَافِعَ دِينِيَّةً وَدُنْيَوِيَّةً وَأُخْرَوِيَّةٍ، وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ: كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ، قِيلَ وَقَدْ بَلَغَ جُمْلَةُ مَنْ مَعَهُ عليه الصلاة والسلام مِنْ أَصْحَابِهِ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ تِسْعِينَ أَلْفًا، وَقِيلَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ أَلْفًا، (فَخَرَجْنَا مَعَهُ) أَيْ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَنَسٍ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ حَجَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ يُسَاوِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، (حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ) فَنَزَلَ بِهَا فَصَلَّى الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ بِهَا وَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعَشَاءَ وَالصُّبْحَ وَالظُّهْرَ، وَكَانَ نِسَاؤُهُ كُلُّهُنَّ مَعَهُ: فَطَافَ عَلَيْهِنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ اغْتَسَلَ غُسْلًا ثَانِيًا لِإِحْرَامِهِ غَيْرَ غُسْلِ الْجِمَاعِ الْأَوَّلِ.
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام (صَلَّى الظُّهْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ دَعَا بِنَاقَتِهِ، فَأَشْعَرَهَا فِي صَفْحَةِ سِنَامِهَا الْأَيْمَنِ وَسَلَتَ الدَّمَ عَنْهَا) أَيْ بِيَدِهِ كَمَا فِي رِوَايَةٍ، أَوْ بِإِصْبَعِهِ كَمَا فِي أُخْرَى (وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ) وَالْمُرَادُ بِالنَّاقَةِ فِيهَا الْجِنْسُ، أَوِ الْوَاحِدَةُ مِنْهَا: لِتَعْبِيرِ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ بِالْهَدْيِ فِي التَّقْلِيدِ وَالْإِشْعَارِ، وَلِرِوَايَةِ النَّسَائِيِّ «أَشْعَرَ بَدَنَةً مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ وَسَلَتَ الدَّمَ عَنْهَا وَقَلَّدَهَا» ، وَفِي رِوَايَةٍ «أَمَرَ بِبَدَنَتِهِ فَأَشْعَرَ فِي سَنَامِهَا مِنَ الشِّقِّ الْأَيْمَنِ ثُمَّ سَلَتَ عَنْهَا الدَّمَ وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ» ، وَتَقْدِيمُ الْإِشْعَارِ هُوَ الَّذِي صَحَّ فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيمِ التَّقْلِيدِ وَإِنْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله، وَصَحَّ مِنْ فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما فَتَدَبَّرْ (فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ) زَوْجَةُ الصِّدِّيقِ رضي الله عنهما بَعْدَ مَوْتِ جَعْفَرٍ وَتَزَوَّجَهَا عَلِيٌّ بَعْدَ مَوْتِ الصِّدِّيقِ وَوَلَدَتْ لَهُ يَحْيَى (بِنْتُ عُمَيْسٍ) بِالتَّصْغِيرِ (مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ) وَهُوَ مِنْ أَصْغَرِ الصَّحَابَةِ قَتَلَهُ أَصْحَابُ مُعَاوِيَةَ بِمِصْرَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ (فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ أَصْنَعُ) أَيْ فِي بَابِ الْإِحْرَامِ (قَالَ اغْتَسِلِي) دَلَّ عَلَى أَنَّ اغْتِسَالَ النُّفَسَاءِ لِلْإِحْرَامِ سُنَّةٌ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله وَهُوَ لِلنَّظَافَةِ لَا لِلطَّهَارَةِ وَلِهَذَا لَا يَنُوبُهُ التَّيَمُّمُ، وَكَذَا فِي الْحَائِضِ (وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ) أَيِ اجْعَلِي ثَوْبًا بَيْنَ فَخْذَيْكِ وَشُدِّي فَرْجَكِ بِمَنْزِلَةِ الثَّفْرِ لِلدَّابَّةِ (وَأَحْرِمِي) أَيْ بِالنِّيَّةِ وَالتَّلْبِيَةِ (فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ رَكْعَتَيْنِ سُنَّةَ الْإِحْرَامِ (فِي الْمَسْجِدِ) أَيْ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ.
قَالَ ابْنُ الْعَجَمِيِّ فِي مَنْسِكِهِ: يَنْبَغِي إِنْ كَانَ فِي الْمِيقَاتِ مَسْجِدٌ أَنْ يُصَلِّيَهُمَا فِيهِ، وَلَوْ صَلَّاهُمَا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ فَلَا بَأْسَ، وَلَوْ أَحْرَمَ بِغَيْرِ صَلَاةٍ جَازَ، وَلَا يُصَلِّي فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ وَتُجْزِئُ الْمَكْتُوبَةُ عَنْهُمَا كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ.
وَقِيلَ صَلَّى الظُّهْرَ وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ وَلَمْ يَنْقُلْ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صَلَّى لِلْإِحْرَامِ رَكْعَتَيْنِ غَيْرَ فَرْضِ الظُّهْرِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ تَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ كَانَ صلى الله عليه وسلم «يَرْكَعُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ النَّاقَةُ قَائِمَةً عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ» أَهَلَّ اهـ.
وَجْهُ غَرَابَتِهِ لَا يَخْفَى إِذْ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْمُدَّعَى (ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ) بِالْمَدِّ مَعَ فَتْحِ الْقَافِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالضَّمِّ وَالْقَصْرِ وَهُوَ خَطَأٌ، كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ اسْمٌ لِنَاقَتِهِ صلى الله عليه وسلم قِيلَ كُلُّ مَا قُطِعَ أُذُنُهُ فَهُوَ جَدْعٌ فَإِذَا بَلَغَ الْقَطْعُ الرُّبْعَ فَهُوَ قَصْوٌ وَإِنْ جَاوَزَ فَهُوَ عَضْبٌ، وَقِيلَ هِيَ الَّتِي قُطِعَ طَرَفُ أُذُنِهَا، وَقِيلَ سُمِّيَتْ بِهَا لِسَبْقِهَا أَيْ كَانَ عَدْوُهَا أَقْصَى السَّيْرِ وَغَايَةَ الْجَرْيِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ التَّابِعِيُّ: إِنَّ الْقَصْوَاءَ وَالْجَدْعَاءَ اسْمٌ لِنَاقَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ) تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ (أَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ أَحْرَمَ رَافِعًا صَوْتَهُ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ وَلَا يَخْفَى تَكَلُّفُهُ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ حَجَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ إِفْرَادًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهُ رَفْعُ صَوْتِهِ بِالتَّوْحِيدِ وَبَيَانُهُ (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ) وَفِيهِ دَلَالَةٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله فِي اشْتِرَاطِهِ صِحَّةَ نِيَّةِ الْإِحْرَامِ بِانْضِمَامِ التَّلْبِيَةِ إِلَيْهَا، فَالتَّلْبِيَةُ بِمَنْزِلَةِ تَكْبِيرِ التَّحْرِيمَةِ الْمُقَارَنِ بِالنِّيَّةِ فِي أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَلِذَا أُقِيمَ كُلُّ ذِكْرٍ مَقَامَهَا.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله: لَفْظُهَا مَصْدَرٌ مُثَنًّى تَثْنِيَةً يُرَادُ بِهَا التَّكْثِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] أَيْ كَرَّاتٍ كَثِيرَةً وَهُوَ مَلْزُومُ النَّصْبِ وَالْإِضَافَةِ كَمَا تَرَى، وَالنَّاصِبُ لَهُ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ تَقْدِيرُهُ أَجَبْتُ إِجَابَتَكَ إِجَابَةً بَعْدَ إِجَابَةٍ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَكَأَنَّهُ مِنْ أَلَبَّ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ، وَيُعْرَفُ بِهَذَا مَعْنَاهُ فَيَكُونُ مَصْدَرًا مَحْذُوفَ الزَّوَائِدِ وَهِيَ إِجَابَةٌ: فَقِيلَ لِدُعَاءِ الْخَلِيلِ عَلَى مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ (لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ قَالَ رَبِّ فَرَغْتُ، فَقَالَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ قَالَ رَبِّي وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي؟ قَالَ أَذِّنْ وَعَلَيَّ الْبَلَاغُ قَالَ رَبِّي كَيْفَ أَقُولُ؟ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ) حَجُّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (فَسَمِعَهُ مَنْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَجِيئُونَ مِنْ أَقْصَى الْأَرْضِ يُلَبُّونَ، وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ، وَأَخْرَجَهُ غَيْرُهُ بِأَلْفَاظٍ تَزِيدُ وَتَنْقُصُ.
وَأَخْرَجَ الْأَزْرَقِيُّ فِي تَارِيخِ مَكَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: لَمَّا أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ قَامَ عَلَى الْمَقَامِ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى مَا تَحْتَهُ الْحَدِيثَ، وَأُخْرِجَ عَنْ مُجَاهِدٍ (قَامَ إِبْرَاهِيمُ عليه الصلاة والسلام فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَجِيبُوا رَبَّكُمْ، فَقَالُوا لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ) فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ فَهُوَ مِمَّنْ أَجَابَ إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام يَوْمَئِذٍ (إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ) قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ رحمه الله بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ لَا بِفَتْحِهَا.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: يَعْنِي فِي الْوَجْهِ الْأَوْجَهِ، وَأَمَّا فِي الْجَوَازِ فَيَجُوزُ وَالْكَسْرُ عَلَى اسْتِئْنَافِ الثَّنَاءِ، وَتَكُونُ التَّلْبِيَةُ لِلَذَّاتِ وَالْفَتْحُ عَلَى أَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِلتَّلْبِيَةِ، أَيْ لَبَّيْكَ لِأَنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، وَلَا يَخْفَى تَعْلِيقُ الْإِجَابَةِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا إِلَّا بِالذَّاتِ أَوْلَى مِنْهُ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ هَذَا، وَإِنْ كَانَ اسْتِئْنَافُ الثَّنَاءِ لَا يَتَعَيَّنُ مَعَ الْكَسْرِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ تَعْلِيلًا مُسْتَأْنَفًا كَمَا فِي قَوْلِكَ: عَلِّمِ ابْنَكَ الْعِلْمَ إِنَّ الْعِلْمَ نَافِعُهُ وَقَالَ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] وَهَذَا مُقَرَّرٌ فِي مَسَالِكِ الْعِلَّةِ مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ، لَكِنْ لَمَّا جَازَ فِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا يُحْمَلُ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَوْلَوِيَّتِهِ بِخِلَافِ الْفَتْحِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ سِوَى أَنَّهُ تَعْلِيلٌ (لَا شَرِيكَ لَكَ) أَيْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ جَابِرٌ: وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ شَيْئًا وَلَزِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَلْبِيَتَهُ.
قَالَ الْقَاضِي: فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا رَوَى مِنْ زِيَادَةِ النَّاسِ فِي التَّلْبِيَةِ مِنَ الذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ، كَذَا فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ.
(قَالَ جَابِرٌ لَسْنَا نَنْوِي) أَيْ شَيْئًا مِنَ النِّيَّاتِ (إِلَّا الْحَجَّ) أَيْ نِيَّتَهُ (لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ) أَيْ مَعَ الْحَجِّ، وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِلْحَصْرِ السَّابِقِ قَبْلَ، أَيْ لَا نَرَى الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ اسْتِصْحَابًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ كَوْنِ الْعُمْرَةِ مَحْظُورَةً فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ، وَقِيلَ مَا قَصَدْنَاهَا وَلَمْ تَكُنْ فِي ذِكْرِنَا، وَالْمَعْنَى لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ مَقْرُونَةً بِالْحَجَّةِ، أَوِ الْعُمْرَةَ الْمُفْرَدَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ الصَّحَابَةَ خَرَجُوا مَعَهُ لَا يَعْرِفُونَ إِلَّا الْحَجَّ، فَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ وُجُوهَ الْإِحْرَامِ، وَجَوَّزَ لَهُمُ الِاعْتِمَارَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيُهِلَّ (حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ) أَيْ وَصَلْنَاهُ بَعْدَ مَا نَزَلْ بِذِي طُوًى بَاتَ بِهَا، وَاغْتَسَلَ فِيهَا، وَدَخَلَ مَكَّةَ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا صَبِيحَةَ الْأَحَدِ رَابِعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَقَصَدَ الْمَسْجِدَ مِنْ شَقِّ بَابِ السَّلَامِ، وَلَمْ يُصَلِّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ لِأَنَّ تَحِيَّةَ الْبَيْتِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ هُوَ الطَّوَافُ، فَمِنْ ثَمَّ اسْتَمَرَّ عليه الصلاة والسلام عَلَى مُرُورِهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ حَتَّى (اسْتَلَمَ الرُّكْنَ) أَيِ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، وَالِاسْتِلَامُ افْتِعَالٌ مِنَ السَّلَامِ بِمَعْنَى التَّحِيَّةِ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ يُسَمُّونَ الرُّكْنَ بِالْمُحَيَّا لِأَنَّ النَّاسَ يُحَيُّونَهُ بِالسَّلَامِ، وَقِيلَ: مِنَ السِّلَامِ بِكَسْرِ السِّينِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ، يُقَالُ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ إِذَا لَثَمَهُ وَتَنَاوَلَهُ، وَالْمَعْنَى وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ وَقَبَّلَهُ، وَقِيلَ: وَضَعَ الْجَبْهَةَ أَيْضًا عَلَيْهِ (فَرَمَلَ) أَيْ أَسْرَعَ يَهُزُّ مَنْكِبَيْهِ (ثَلَاثًا) أَيْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنَ الْأَشْوَاطِ السَّبْعَةِ (وَمَشَى) أَيْ عَلَى السُّكُونِ وَالْهَيْنَةِ (أَرْبَعًا) أَيْ فِي أَرْبَعِ مَرَّاتٍ وَكَانَ مُضْطَبِعًا فِي جَمِيعِهَا (ثُمَّ تَقَدَّمَ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ مِنْ نُسَخِ مُسْلِمٍ نَفَذَ بِالنُّونِ وَالْفَاءِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ تَوَجَّهَ (إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ مَوْضِعِ قِيَامِهِ فَقَرَأَ وَاتَّخِذُوا بِكَسْرِ الْخَاءِ عَلَى الْأَمْرِ وَبِفَتْحِهَا عَلَى الْخَبَرِ {مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 125] أَيْ بَعْضِ حَوَالَيْهِ مُصَلًّى بِالتَّنْوِينِ أَيْ مَوْضِعَ صَلَاةِ الطَّوَافِ (فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) كَمَا فِي نُسْخَةٍ (فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ) أَيْ صَلَّى خَلْفَهُ بَيَانًا لِلْأَفْضَلِ (وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ) أَيْ بَعْدِ الْفَاتِحَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] أَيْ إِلَى آخِرِهَا فِي إِحْدَاهُمَا وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ أَيْ بِتَمَامِهَا فِي الْأُخْرَى وَالْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ فَلَا إِشْكَالَ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: كَذَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَشَرْحِ السُّنَّةِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَكَانَ مِنَ الظَّاهِرِ تَقْدِيمُ سُورَةِ " الْكَافِرُونَ " كَمَا فِي رِوَايَةِ الْمَصَابِيحِ، وَلَعَلَّ السِّرَّ فِيهِ أَنَّ مُقَدِّمَةَ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ لِإِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَسُورَةَ " الْكَافِرُونَ " لِلْبَرَاءَةِ عَنِ الشِّرْكِ، فَقَدَّمَ الْإِشْرَاكَ اهْتِمَامًا لِشَأْنِهِ لِانْدِرَاسِ آَثَارِ الْأَضْدَادِ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَأَمَّا تَقْدِيمُ سُورَةِ " الْكَافِرُونَ " عَلَى الْإِخْلَاصِ: فَبِنَاءً عَلَى تَقْدِيمِ نَفْيِ الْآلِهَةِ الْبَاطِلَةِ عَلَى إِثْبَاتِ وَاجِبِ الْوُجُودِ كَكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ فِي مَقَامِ الشُّهُودِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَحَلَّ الْمُقَامِ الْآنَ هُوَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِهِ عليه الصلاة والسلام عَلَى الصَّحِيحِ، وَأَمَّا مَا جَاءَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ، فَلَمَّا كَثُرَ النَّاسُ وَتَضَيَّقُوا أَخَّرَهُ عُمَرُ إِلَى مَحَلِّهِ الْآنَ فَهُوَ غَرِيبٌ وَإِنْ أَخَذَ بِهِ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: مَعْنَاهُ قَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَفِي الثَّانِيَةِ بَعْدَ الْفَتْحِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وَقَدْ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «طَافَ بِالْبَيْتِ فَرَمَلَ مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ثَلَاثًا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَرَأَ فِيهِمَا {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] (ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ) كَالْمُوَدِّعِ لَهُ» فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ قَبَّلَ الْحَجَرَ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ وَمَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَأَنَّهُ قَبَّلَهُ وَسَجَدَ عَلَيْهِ، بَلْ صَحَّ أَيْضًا أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ عَادَ إِلَى الْحَجَرِ ذَهَبَ إِلَى زَمْزَمَ فَشَرِبَ مِنْهَا وَصَبَّ مِنْهَا عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ رَجَعَ فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ (ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ) أَيْ بَابِ الصَّفَا (إِلَى الصَّفَا) أَيْ إِلَى جَانِبِهِ
(فَلَمَّا دَنَا) أَيْ قَرُبَ مِنَ الصَّفَا قَرَأَ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] جَمْعُ شَعِيْرَةٍ وَهِيَ الْعَلَامَةُ الَّتِي جُعِلَتْ لِلطَّاعَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي الْحَجِّ عِنْدَهَا كَالْوُقُوفِ وَالرَّمْيِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ (أَبْدَأُ) بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ أَيْ وَقَالَ أَبْدَأُ (بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ) أَيِ ابْتِدَاءً بِالصَّفَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَهُ بِذِكْرِهِ فِي كَلَامِهِ، فَالتَّرْتِيبُ الذِّكْرِيُّ لَهُ اعْتِبَارٌ فِي الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ إِمَّا وُجُوبًا أَوِ اسْتِحْبَابًا، وَإِنْ كَانَتِ الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ فِي الْآيَةِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: وَقَدْ ثَبَتَ فِي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ابْدَءُوا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَيَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ السَّعْيِ لَا عَلَى أَنَّهُ رُكْنٌ، مَعَ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَغَيْرَهُمْ قَالُوا بِأَنَّهُ تَطَوُّعٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا ذَكَرَتْ عَائِشَةُ لَمَّا سَأَلَهَا عُرْوَةُ فَقَالَتْ: إِنَّمَا نَزَلَتْ هَكَذَا لِأَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنَ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَيْ يَخَافُونَ الْحَرَجَ فِيهِ فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام ( «اسْتَقْبَلَ النَّاسَ فِي الْمَسْعَى وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ» ) وَأَوْرَدَهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَابْنُ السَّكَنِ فِي صِحَاحِهِ فَإِنَّمَا يُفِيدُ الْوُجُوبَ دُونَ الرُّكْنِيَّةِ مَعَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي سَنَدِهِ، وَإِنْ أَجَابَ عَنْهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ كِلَاهُمَا ظَنِّيَّةٌ لَا يُفِيدُ الرُّكْنِيَّةَ، (فَبَدَأَ) أَيْ فِي سَعْيِهِ (بِالصَّفَا فَرَقِيَ) بِكَسْرِ الْقَافِ أَيْ صَعِدَ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الصَّفَا (حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ) أَيْ إِلَى أَنْ رَآهُ (فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ) وَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّ الْبَيْتَ قَبْلَهُ: وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ هُوَ التَّوَجُّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ لَا خُصُوصُ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ، وَهُوَ الْآنَ يُرَى بِلَا رُقِيٍّ فِي قَدْرٍ يَسِيرٍ، وَقِيلَ قَدْرُ الْقَامَةِ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَاشِي دُونَ الرَّاكِبِ (فَوَحَّدَ اللَّهَ) أَيْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (وَكَبَّرَهُ) أَيْ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ (وَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) إِمَّا تَفْسِيرٌ لِمَا سَبَقَ وَالتَّكْبِيرُ مُسْتَفَادٌ مِنْ مَعْنَاهُ، وَإِمَّا قَوْلٌ آخَرُ غَيْرُ مَا سَبَقَ قَالَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ قَوْلٌ آخَرُ وَكَأَنَّهُ إِجْمَالٌ وَتَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِ (وَحْدَهُ) حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، أَيْ مُنْفَرِدًا بِالْأُلُوهِيَّةِ أَوْ مُتَوَحِّدًا بِالذَّاتِ (لَا شَرِيكَ لَهُ) فِي الْأُلُوهِيَّةِ فَيَكُونُ تَأْكِيدًا، أَوْ فِي الصِّفَاتِ فَيَكُونُ تَأْسِيسًا وَهُوَ الْأَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى (لَهُ الْمُلْكُ) أَيْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (وَلَهُ الْحَمْدُ) أَيِ الثَّنَاءُ الْجَمِيلُ ثَابِتٌ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ حَقِيقَةً فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ، وَزَادَ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ يُحْيِي وَيُمِيتُ (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ تَعَلَّقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ (قَدِيرٌ) أَيْ كَامِلُ الْقُدْرَةِ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ) أَيْ مُنْفَرِدًا بِالْأَفْعَالِ وَخَلْقِ الْأَعْمَالِ (أَنْجَزَ وَعْدَهُ) أَيْ وَفَّى بِمَا وَعَدَ لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ (وَنَصَرَ عَبْدَهُ) أَيْ عَبْدَهُ الْخَاصَّ، أَيْ فِي مَقَامِ الِاخْتِصَاصِ نَصْرًا عَزِيزًا وَفَتْحًا مُبِينًا (وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِغَيْرِ قِتَالٍ اهـ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِمْ أَنْوَاعُ الْكُفَّارِ الَّذِينَ غُلِبُوا بِالْهَزِيمَةِ وَالْفِرَارِ (ثُمَّ) لِمُجَرَّدِ التَّرْتِيبِ دُونَ التَّرَاخِي (دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله إِشَارَةً إِلَى قَوْلِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ اهـ.
وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَقْصُودِ بَوْنٌ بَيِّنٌ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: كَلِمَةُ ثُمَّ تَدُلُّ عَلَى تَأَخُّرِ الدُّعَاءِ مِنْ ذَلِكَ الذِّكْرِ، وَكَلِمَةُ بَيْنَ تَقْتَضِي تَوَسُّطَهُ بَيْنَ الذِّكْرِ: كَأَنْ يَدْعُوَ مَثَلًا بَعْدَ قَوْلِهِ: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ دَعَا بِمَا شَاءَ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الذِّكْرِ، ثُمَّ عَادَ مَرَّةً ثَالِثَةً اهـ.
وَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ الْجَوَابِ فَنَقُولُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ: أَنَّ قَوْلَهُ (قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ وَالتَّقْدِيرُ: ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ هَذَا الذِّكْرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَوْ نَقُولُ جَاءَ بَيْنَ بِمَعْنَى الْوَصْلِ وَالْفُرْقَةِ، أَيْ دَعَا وَاصِلًا ذَلِكَ أَوْ مُفَارِقًا ذَلِكَ، يَعْنِي الذِّكْرَ السَّابِقَ بِالدُّعَاءِ اللَّاحِقِ وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ دَعَا بَعْدَ فَرَاغِ الْمَرَّةِ الْأُولَى مِنَ الذِّكْرِ وَقَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ (ثُمَّ نَزَلَ وَمَشَى إِلَى الْمَرْوَةِ) أَيْ مُتَوَجِّهًا إِلَيْهَا وَقَاصِدًا جِهَتَهَا (حَتَّى انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ) أَيِ انْحَدَرَتْ مَجَازٌ مِنْ قَوْلِهِمْ صَبَّ الْمَاءَ فَانْصَبَّ (فِي بَطْنِ الْوَادِي) أَيِ الْمَسْعَى وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَفْرَجٌ بَيْنَ جِبَالٍ
أَوْ تِلَالٍ أَوْ آكَامٍ كَذَا فِي الْقَامُوسِ، يَعْنِي انْحَدَرَتَا بِالسُّهُولَةِ فِي صَيِّبٍ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ الْمُنْحَدَرُ الْمُنْخَفِضُ مِنْهَا، وَالِانْصِبَابُ الِانْسِكَابُ أَيْ حَتَّى بَلَغَتَا عَلَى وَجْهِ السُّرْعَةِ إِلَى أَرْضٍ مُنْخَفِضَةٍ (ثُمَّ سَعَى) أَيْ عَدَا يَعْنِي سَعَى سَعْيًا شَدِيدًا، كَذَا فِي الْمَصَابِيحِ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ الْمِشْكَاةِ، وَلَيْسَ مَوْجُودًا فِي الْأُصُولِ الْمُصَحَّحَةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله وَفِي بَعْضِ نُسَخٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ إِسْقَاطُ كَلِمَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا وَهِيَ رَمَلَ بَعْدَ قَوْلِهِ: فِي بَطْنِ الْوَادِي، كَمَا فِي رِوَايَةِ غَيْرِ مُسْلِمٍ، كَذَا ذَكَرَهُ الْحُمَيْدِيُّ، وَفِي الْمُوَطَّأِ سَعَى بَدَلَ رَمَلَ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ بِمَعْنَى رَمَلَ وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ مُسْلِمٍ كَمَا فِي الْمُوَطَّأِ، قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ رَمَلَ بِمَعْنَى سَعَى، لَا أَنَّ سَعَى بِمَعْنَى رَمَلَ (حَتَّى إِذَا صَعِدْنَا) بِكَسْرِ الْعَيْنِ كَذَا فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَأَمَّا مَا فِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ مَعَ الْغَيْرِ فَتَصْحِيفٌ، أَيِ ارْتَفَعَتْ قَدَمَاهُ عَنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَفِي نُسْخَةٍ أَصْعَدَتَا بِالْهَمْزِ، وَفِي الْمَصَابِيحِ: إِذَا صَعِدَتْ قَدَمَاهُ قَالَ شَارِحٌ: أَيْ أَخَذَتْ قَدَمَاهُ فِي الصُّعُودِ وَالْإِصْعَادُ الذَّهَابُ فِي الْأَرْضِ وَالْإِبْعَادُ فِي صُعُودٍ أَوْ حُدُورٍ اهـ.
وَفِي الْقَامُوسِ صَعِدَ فِي السُّلَّمِ كَسَمِعَ وَصَعِدَ فِي الْجَبَلِ، وَعَلَيْهِ تَصْعِيدًا وَلَمْ يُسْمَعْ صَعِدَ فِيهِ، وَأَصْعَدَ فِي الْأَرْضِ مَضَى، وَفِي الْوَادِي انْحَدَرَ وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله الْإِصْعَادُ الذَّهَابُ فِي الْأَرْضِ مُطْلَقًا، وَمَعْنَاهُ فِي الْحَدِيثِ ارْتِفَاعُ الْقَدَمَيْنِ عَنْ بَطْنِ الْوَادِي إِلَى الْمَكَانِ الْعَالِي، لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ أَيْ دَخَلَتْ فِي الْحُدُورِ اهـ.
وَبِهَذِهِ النُّقُولِ يَتَبَيَّنُ تَرْجِيحُ نُسْخَةِ أَصْعَدَتَا بِالْهَمْزِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، (مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ) أَيْ مِثْلَ فِعْلِهِ (عَلَى الصَّفَا) مِنَ الرُّقِيِّ وَالِاسْتِقْبَالِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ مَشَى وَمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ لَمْ يَسْعَ رَاكِبًا، وَهُوَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ حَيْثُ لَا عُذْرَ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام " «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» " وَأَمَّا رُكُوبُهُ عليه الصلاة والسلام كَمَا فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قِيلَ لَهُ:( «إِنَّ قَوْمَكَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الرُّكُوبَ فِي السَّعْيِ سُنَّةٌ، فَقَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا، إِنَّ مُحَمَّدًا كَثُرَ عَلَيْهِ النَّاسُ، يَقُولُونَ هَذَا مُحَمَّدٌ هَذَا مُحَمَّدٌ حَتَّى خَرَجَ الْعَوَاتِقُ مِنَ الْبُيُوتِ، وَكَانَ لَا يُضْرَبُ النَّاسُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا كَثُرُوا عَلَيْهِ رَكِبَ، وَالْمَشْيُ وَالسَّعْيُ أَفْضَلُ» ) فَلَا يُنَافِي مَا قَدَّمْنَاهُ: بَلْ يُسَاعِدُهُ وَيُعَاضِدُهُ عَلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى سَعْيِهِ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام طَافَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ رَاكِبًا لِيَسْمَعُوا كَلَامَهُ، وَيَرَوْا مَكَانَهُ، وَلَا تَمَسُّهُ الْأَيْدِي لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا لَا يَدْفَعُونَ عَنْهُ (حَتَّى إِذَا كَانَ) تَامَّةٌ أَيْ وَجَدَ (آخِرُ طَوَافٍ) أَيْ سَعْيٍ (عَلَى الْمَرْوَةِ) مُتَعَلِّقٌ بَكَانَ (قَالَ) جَوَابُ إِذَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ (فَقَالَ) بِزِيَادَةِ الْفَاءِ، وَأَمَّا مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ (نَادَى وَهُوَ عَلَى الْمَرْوَةِ وَالنَّاسُ تَحْتَهُ فَقَالَ) فَلَا أَصْلَ لَهُ (لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ) أَيْ لَوْ عَلِمْتُ فِي قَبْلُ (مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ) أَيْ مَا عَلِمْتُهُ فِي دُبُرٍ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى لَوْ ظَهَرَ لِي هَذَا الرَّأْيُ الَّذِي رَأَيْتُهُ الْآنَ: لَأَمَرْتُكُمْ بِهِ فِي أَوَّلِ أَمْرِي، وَابْتِدَاءِ خُرُوجِي (لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ) بِضَمِّ السِّينِ يَعْنِي لَمَا جَعَلْتُ عَلَيَّ هَدْيًا وَأَشْعَرْتُهُ وَقَلَّدْتُهُ وَسُقْتُهُ بَيْنَ يَدَيَّ، فَإِنَّهُ إِذَا سَاقَ الْهَدْيَ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَ، وَلَا يَنْحَرُ إِلَّا يَوْمَ النَّحْرِ، فَلَا يَصِحُّ لَهُ فَسْخُ الْحَجِّ بِعُمْرَةٍ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَسُقْ إِذْ يَجُوزُ لَهُ فَسْخُ الْحَجِّ، قِيلَ: إِنَّمَا قَالَهُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ، وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ الْأَفْضَلَ لَهُمْ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، إِذْ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ تَرْكُ الِاقْتِدَاءِ بِفِعْلِهِ، وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَجْعَلُ التَّمَتُّعَ أَفْضَلَ، وَقِيلَ: رُبَّمَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ مَا أَمَرَهُمْ لِلْإِفْضَاءِ إِلَى النِّسَاءِ قَبْلَ أَدَاءِ الْمَنَاسِكِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ (قَالُوا: نَأْتِي عَرَفَةَ وَتَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا الْمَنِيَّ) قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا (وَجَعَلْتُهَا) أَيِ الْحَجَّةَ (عُمْرَةً) أَيْ جَعَلْتُ إِحْرَامِي بِالْحَجِّ مَصْرُوفًا إِلَى الْعُمْرَةِ: كَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مُوَافَقَةً (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ) الْفَاءُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُ مِنْ أَنْ أَفْرَدْتُ الْحَجَّ وَسُقْتُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ (لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ) قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: الْهَدْيُ بِإِسْكَانِ الدَّالِّ وَكَسْرِهَا، وَتُشَدَّدُ الْيَاءُ مَعَ الْكَسْرَةِ، وَتُخَفَّفُ مَعَ الْفَتْحِ (فَلْيَحِلَّ) بِكَسْرِ الْحَاءِ أَيْ لِيَصِرْ حَلَالًا، وَلِيَخْرُجْ مِنْ إِحْرَامِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ (وَلْيَجْعَلْهَا) أَيِ الْحَجَّةَ (عُمْرَةً) إِذْ قَدْ أُبِيحَ لَهُ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ الْإِحْرَامَ لِلْحَجِّ، وَالْوَاوُ لِمُطْلِقِ الْجَمْعِ، إِذِ الْجَعْلُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْخُرُوجِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْجَعْلِ الْفَسْخُ، وَهُوَ أَنْ يَفْسَخَ نِيَّةَ الْحَجِّ وَيَقْطَعَ أَفْعَالَهُ وَيَجْعَلَ إِحْرَامَهُ وَأَفْعَالَهُ لِلْعُمْرَةِ، أَوِ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ التَّفْسِيرِيِّ وَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَعَ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَنْ أَحْرَمَ لِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى فَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ. إِنَّ الْمُتَمَتِّعَ إِذَا كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ لَا يَتَحَلَّلُ مِنْ عُمْرَتِهِ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رحمهم الله: يَحِلُّ مِنْ عُمْرَتِهِ بِمُجَرَّدِ فَرَاغِ أَعْمَالِهَا وَإِنْ سَاقَ الْهَدْيَ، وَاحْتَجُّوا بِالْقِيَاسِ عَلَى حَلِّ الْحَاجِّ مِنْ حَجِّهِ وَإِنْ لَمْ يَنْحَرْ، وَفِيهِ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ مُمْتَنِعٌ، وَأَمَّا جَوَابُهُمْ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِأَنَّهَا مُخْتَصَرَةٌ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ الْآتِيَةِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَقِبَ رِوَايَةِ جَابِرٍ هَذِهِ لِأَنَّ فِي تِلْكَ (مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهَلِّلْ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا) قَالُوا وَهَذَا بَيَّنَ أَنَّ فِي تِلْكَ مَحْذُوفًا: أَيْ وَمَنْ أَحْرَمَ لِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ بِحَجٍّ، وَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ، أَيْ نَدْبًا لِأَنَّ هَذَا مَحَلُّ وِفَاقٍ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ هَذَا التَّأْوِيلُ لِاتِّحَادِ الْقِصَّةِ وَالرَّاوِي فَفِيهِ نَصٌّ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْأَمْرَ أَصْلُهُ لِلْوُجُوبِ وَلَا يُصْرَفُ عَنْهُ إِلَى النَّدْبِ إِلَّا لِمُوجَبٍ صَارِفٍ عَنِ الْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ، ثُمَّ قَوْلُهُمْ (وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ بِحَجٍّ) فَفِيهِ أَنَّ فَسْخَ الْعُمْرَةِ بِالْحَجِّ لَا قَائِلَ بِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: لَمَّا أَرَادَ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِجَعْلِ الْحَجِّ عُمْرَةً، وَالْإِهْلَالِ بِأَعْمَالِهَا تَأْسِيسًا بِالتَّمَتُّعِ، وَتَقْرِيرًا لِجَوَازِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَإِمَاطَةً لِمَا أَلِفُوا مِنَ التَّحَرُّجِ عَنْهَا، قَدَّمَ الْعُذْرَ فِي اسْتِمْرَارِهِ عَلَى مَا أَهَلَّ بِهِ، وَتَرَكَ مُوَافَقَتَهُمْ فِي الْإِهْلَالِ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ، وَإِظْهَارًا لِلرَّغْبَةِ فِي مُوَافَقَتِهِمْ، وَإِزَاحَةً لِمَا عَرَاهُمْ مِنَ الْغَضَاضَةِ وَكَرَاهَةِ الْمُخَالَفَةِ.
وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى مَنْعِهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ خَاصَّةِ تِلْكَ السَّنَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ كَانَ صَرْفَهُمْ عَنْ سُنَنِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُمْكِنُ جَوَازُ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي نُفُوسِهِمْ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا رُوِيَ عَنْ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ قَالَ:( «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسْخُ الْحَجِّ لَنَا خَاصَّةً أَوْ لِمَنْ بَعْدَنَا؟ قَالَ: لَكُمْ خَاصَّةً» )(فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ) بِضَمِّ السِّينِ (ابْنِ جُعْشُمٍ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَالشِّينِ وَيُفْتَحُ (فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلِعَامِنَا هَذَا؟) يَعْنِي الْإِتْيَانَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ مَعَ الْحَجِّ يَخْتَصُّ هَذِهِ السَّنَةَ (أَمْ لِأَبَدٍ) أَيْ مِنَ الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ (فَشَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً) أَيْ جَعَلَ أَوْ أَدْخَلَ وَاحِدَةً (فِي الْأُخْرَى) مَنْصُوبٌ لِعَامِلٍ مُضْمِرٍ، وَالْحَالُ مُؤَكَّدَةٌ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله أَوْ أَرَادَ أَصَابِعَ يَدٍ وَاحِدَةٍ، لَا وَاحِدَةً مِنَ الْأَصَابِعِ، فَيَكُونُ بَدَلَ كُلٍّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَصْبُهَا عَلَى أَنَّهَا بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ أَصَابِعِهِ (وَقَالَ دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ) أَيْ جَوَازُهَا (فِي الْحَجِّ أَيْ فِي أَشْهُرِهِ (مَرَّتَيْنِ) أَيْ قَالَهَا مَرَّتَيْنِ (لَا) أَيْ لَيْسَ لِعَامِنَا هَذَا فَقَطْ (بَلْ لِأَبَدٍ أَبَدٍ) كَرَّرَهُ لِلتَّأْكِيدِ قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَجُوزُ الْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْمَقْصُودُ إِبْطَالُ مَا زَعَمَهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَجُوزُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.
قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَقِيلَ مَعْنَى دُخُولِهَا فِي الْحَجِّ أَنَّ فَرْضَهَا سَاقِطٌ بِوُجُوبِ الْحَجِّ، وَفِيهِ أَنَّهُ مَتَى فُرِضَتْ حَتَّى يُقَالَ سَقَطَتْ قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي بُطْلَانَهُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ جَوَازُ الْقِرَانِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ دَخَلَتْ أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَشْبِيكُ الْأَصَابِعِ، وَفِيهِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ فَتَدَبَّرْ يَظْهَرْ لَكَ وَجْهُ الصَّوَابِ.
وَقِيلَ جَوَازُ فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهُوَ ضَعِيفٌ أَقُولُ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ الْحَدِيثِ وَسِبَاقِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْفَسْخِ، هَلْ هُوَ خَاصٌّ لِلصَّحَابَةِ، أَمْ لِتِلْكَ السَّنَةِ، أَمْ بَاقٍ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ أَحْمَدُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ: لَيْسَ خَاصًّا بَلْ هُوَ بَاقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيَجُوزُ لِكُلِّ مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ وَلَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ: أَنْ يَقْلِبَ إِحْرَامَهُ عُمْرَةً وَيَتَحَلَّلَ بِأَعْمَالِهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَشَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لِيُخَالِفُوا مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ تَحْرِيمِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ اهـ.
وَيَحْتَاجُ الْكَلَامُ فِي سَنَدِ الْمَنْعِ وَبَيَانِ الْمُخَصِّصِ لِإِلْزَامِ الْخِصَامِ، ثُمَّ رَأَيْتُ مَا يَدُلُّ لِلْجُمْهُورِ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ رَوَاهُ مُسْلِمٌ (كَانَتِ الْمُتْعَةُ أَيِ الْفَسْخُ فِي الْحَجِّ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً) وَحَدِيثُ النَّسَائِيِّ (يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسْخُ الْحَجِّ لِلْعُمْرَةِ لَنَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام لَنَا خَاصَّةً) هَذَا وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمَا نَزَلَ بِسَرِفَ حَاضَتْ عَائِشَةُ بَعْدَ مَا سَمِعَتْهُ عليه الصلاة والسلام يَقُولُ « (مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً: فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ فَلَا» ) فَبَكَتْ فَقَالَ (مَا يُبْكِيكِ) فَذَكَرَتْ لَهُ مَا سَمِعَتْهُ وَأَنَّهَا بِسَبَبِهِ مُنِعَتِ الْعُمْرَةَ لِحَيْضِهَا، فَقَالَ (لَا «يَضُرُّكِ إِنَّمَا أَنْتِ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكِ مَا كَتَبَ عَلَيْهِنَّ فَكُونِي فِي حَجِّكِ» ) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ ( «فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي» ) وَمَا صَرَّحَتْ بِهِ هَذِهِ الرِّوَايَةُ مِنْ أَنَّهَا كَانَتْ مُحْرِمَةً بِحَجٍّ تُعَارِضُهُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ عَنْهَا: وَكُنْتُ فِيمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، زَادَ أَحْمَدُ (وَلَمْ أَسُقْ هَدْيًا) وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا ( «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نُلَبِّي لَا نَذْكُرُ حَجًّا وَلَا عُمْرَةً» ) وَجُمِعَ بِأَنَّهَا أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ مُفْرِدَةً كَبَعْضِ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَفْسَخُوا الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ فَفَعَلَتْ، فَصَارَتْ مُتْعَةً ثُمَّ لَمَّا دَخَلَتْ مَكَّةَ حَائِضًا وَتَعَذَّرَ عَلَيْهَا الطَّوَافُ أَمَرَهَا أَنْ تُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَرَدَّ
مَالِكٌ رِوَايَةَ إِحْرَامِهَا بِالْعُمْرَةِ وَأَوَّلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ فَسْخَ الْعُمْرَةِ وَجَعْلَهَا حَجًّا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، بِخِلَافِ فَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ فَإِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِهِ إِلَى الْآنَ، عَلَى أَنَّ رَفْضَهَا لِعُمْرَتِهَا بِالْكُلِّيَّةِ غَيْرُ مُحَقَّقٍ، فَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ: يُحْتَمَلُ أَنَّ أَمْرَهُ لَهَا بِرَفْضِ عُمْرَتِهَا تَرْكُ التَّحَلُّلِ مِنْهَا، وَإِدْخَالُ الْحَجِّ عَلَيْهَا حَتَّى تَصِيرَ قَارِنَةً، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله وَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَرَهَا بِنَقْضِ شَعْرِهَا وَمَشْطِ رَأْسِهَا، وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ فَأَمْسِكِي عَنِ الْعُمْرَةِ أَيْ عَنْ أَعْمَالِهَا لِأَجْلِ رَفْضِهَا.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ رحمه الله وَإِنَّهَا قَالَتْ: وَارْجِعْ بِحَجٍّ لِاعْتِقَادِهَا أَنَّ إِفْرَادَ الْعُمْرَةِ بِالْعَمَلِ، أَفْضَلُ وَرُدَّ هَذَا التَّأْوِيلُ بِرِوَايَةِ أَحْمَدَ وَأَرْجِعُ أَنَا بِحَجَّةٍ لَيْسَ مَعَهَا عُمْرَةٌ، وَهَذَا صَرِيحٌ لِقَوْلِ أَئِمَّتِنَا إِنَّهَا تَرَكَتِ الْعُمْرَةَ وَحَجَّتْ مُفْرِدَةً، وَأَخَذُوا مِنْهُ أَنَّ لِلْمَرْأَةِ إِذَا أَهَلَّتْ بِالْعُمْرَةِ مُتَمَتِّعَةً فَحَاضَتْ قَبْلَ الطَّوَافِ أَنْ تَتْرُكَ الْعُمْرَةَ، وَتُهِلَّ بِالْحَجِّ مُفْرِدَةً، وَكَذَا إِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ، وَوَقَفَ الْقَارِنُ قَبْلَ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ، فَيَقْضِيهَا وَيَلْزَمُهُ دَمٌ لِرَفْضِهَا، وَلَا يُنَافِيهِ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ أَنَّهَا أَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ فَحَاضَتْ بِسَرِفَ فَقَالَ لَهَا أَهِلِّي بِالْحَجِّ، فَلَمَّا طَهُرَتْ وَطَافَتْ وَسَعَتْ أَيْ بَعْدَ الْوُقُوفِ قَالَ لَهَا قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا رَفَضَتْ أَفْعَالَ الْعُمْرَةِ لَا أَنَّهَا فَسَخَتِ الْعُمْرَةَ بِالْحَجِّ، إِذْ لَا قَائِلَ بِهِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ، ثُمَّ لَمَّا شَكَتْ إِلَيْهِ أَنَّهَا تَجِدُ فِي نَفْسِهَا أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ إِلَّا بَعْدَ الْحَجِّ وَالنَّاسُ يَرْجِعُونَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ كَامِلَةٍ أَعْمَرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، وَأَمَّا رِوَايَةُ مُسْلِمٍ:«طَوَافُكَ يَسَعُكِ لِحَجَّتِكِ وَعُمْرَتِكِ» . أَيْ يَقُومُ مَقَامَهُمَا فِي الْجُمْلَةِ وَأَنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ.
(وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ بِبُدْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ بِضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ جَمْعُ بَدَنَةٍ، وَالْمُرَادُ هُنَا مَا يُتَقَرَّبُ بِذَبْحِهِ مِنَ الْإِبِلِ (فَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ (مَاذَا قُلْتَ) لَهَا، وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ (فَوَجَدَ فَاطِمَةَ رضي الله عنها فِيمَنْ حَلَّ وَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا وَاكْتَحَلَتْ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا) قَالَ النَّوَوِيُّ: قُلْنَا ظَنًّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، فَقَالَتْ: إِنَّ أَبِي أَمَرَنِي بِهَذَا، فَكَانَ عَلِيٌّ رضي الله عنه بِالْعِرَاقِ يَقُولُ: فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُحَرِّشًا عَلَى فَاطِمَةَ لِلَّذِي صَنَعَتْ، مُسْتَفْتِيًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا ذَكَرَتْ عَنْهُ، فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي أَنْكَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: صَدَقَتْ صَدَقَتْ مَاذَا قُلْتَ (حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ) أَيْ أَلْزَمْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ بِالنِّيَّةِ وَالتَّلْبِيَةِ قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197](قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله: يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ إِحْرَامِ الرَّجُلِ عَلَى إِحْرَامِ غَيْرِهِ (قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (فَإِنَّ مَعِي) بِسُكُونِ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا أَيْ إِذَا عَلَّقْتَ إِحْرَامَكَ بِإِحْرَامِي، فَإِنِّي أَحْرَمْتُ بِالْعُمْرَةِ وَمَعِي (الْهَدْيُ) وَلَا أَقْدِرُ أَنْ أَخْرُجَ مِنَ الْعُمْرَةِ بِالتَّحَلُّلِ (فَلَا تَحِلَّ) نَهْيٌ أَوْ نَفْيٌ أَيْ لَا تَحِلَّ أَنْتَ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْإِحْرَامِ كَمَا لَا أَحِلُّ، حَتَّى تَفْرُغَ مِنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ.
(قَالَ) أَيْ جَابِرٌ (فَكَانَ جَمَاعَةُ الْهَدْيِ) أَيْ مِنَ الْإِبِلِ (الَّذِي قَدِمَ بِهِ) أَيْ بِذَلِكَ الْهَدْيِ (عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ) أَيْ لَهُ صلى الله عليه وسلم (وَالَّذِي أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِائَةً) أَيْ مِنَ الْهَدْيِ (قَالَ) أَيْ جَابِرٌ (فَحَلَّ النَّاسُ) أَيْ خَرَجَ مِنَ الْإِحْرَامِ مَنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا (كُلُّهُمْ) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: قِيلَ هَذَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ لِأَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها لَمْ تَحِلَّ وَلَمْ تَكُنْ مِمَّنْ سَاقَ الْهَدْيَ، أَقُولُ لَعَلَّهَا مَا أُمِرَتْ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ أَوْ كَانَتْ مُعْتَمِرَةً وَأُمِرَتْ بِإِدْخَالِ الْحَجِّ عَلَيْهَا لِتَكُونَ قَارِنَةً كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا (وَقَصَّرُوا) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَإِنَّمَا قَصَّرُوا مَعَ أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ لِأَنْ يَبْقَى لَهُمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الشَّعَرِ حَتَّى يُحْلَقَ فِي الْحَجِّ اهـ. وَلِيَكُونَ شَعَرُهُمْ فِي مِيزَانِ حَجَّتِهِمْ أَيْضًا سَبَبًا لِزِيَادَةِ أَجْرِهِمْ، وَلِيَكُونُوا دَاخِلِينَ فِي الْمُقَصِّرِينَ وَالْمُحَلِّقِينَ، جَامِعِينَ بَيْنَ الْعَمَلِ بِالرُّخْصَةِ وَالْعَزِيمَةِ (إِلَّا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ ضَمِيرِ حَلُّوا (وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ) عَطْفًا عَلَى الْمُسْتَثْنَى (فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ) وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّ الْحُجَّاجَ يَرْتَوُونَ وَيَشْرَبُونَ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ وَيَسْقُونَ الدَّوَابَّ لِمَا بَعْدَهُ، وَقَيْلَ لِأَنَّ الْخَلِيلَ تَرَوَّى فِيهِ أَيْ تَفَكَّرَ فِي ذَبْحِ
إِسْمَاعِيلَ وَأَنَّهُ كَيْفَ يَصْنَعُ حَتَّى جَزَمَ عَزْمَهُ يَوْمَ الْعَاشِرِ بِذَبْحِهِ (تَوَجَّهُوا) أَيْ أَرَادُوا التَّوَجُّهَ (إِلَى مِنًى) يُنَوَّنُ وَقِيلَ لَا يُنَوَّنُ فَيُكْتَبُ بِالْأَلِفِ، سُمِّيَتْ بِهِ لِأَنَّهُ يُمْنَى الدِّمَاءُ فِي أَيَّامِهَا، أَيْ يُرَاقُ وَيُسْفَكُ أَوْ لِأَنَّهُ يُعْطَى الْحُجَّاجُ مُنَاهُمْ بِإِكْمَالِ أَفْعَالِ الْحَجِّ فِيهَا (فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ) أَيْ أَحْرَمَ بِهِ مَنْ كَانَ خَرَجَ عَنْ إِحْرَامِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعُمْرَةِ (وَرَكِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم) أَيْ حِينَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَسَارَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى مِنًى (فَصَلَّى بِهَا) أَيْ بِمِنًى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ (الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعَشَاءَ وَالْفَجْرَ) أَيْ فِي أَوْقَاتِهَا (ثُمَّ مَكَثَ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَضَمِّهَا، أَيْ لَبَثَ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَجْرِ (قَلِيلًا) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى إِسْفَارِ الْفَجْرِ (حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ) عَطْفٌ عَلَى رَكِبَ أَوْ حَالٌ، أَيْ وَقَدْ أَمَرَ بِضَرْبِ خَيْمَةٍ (مِنْ شَعَرٍ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَسُكُونِهَا (تُضْرَبُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (بِنَمِرَةَ) بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ وَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ، مَوْضِعٌ عَنْ يَمِينِ الْخَارِجِ مِنْ مَأْزِمَيْ عَرَفَةَ إِذَا أَرَادَ الْمَوْقِفَ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: جَبَلٌ قَرِيبٌ مِنْ عَرَفَاتٍ وَلَيْسَ مِنْهَا (فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ مِنْ مِنًى إِلَيْهَا (وَلَا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلَّا أَنَّهُ وَاقِفٌ) أَيْ لِلْحَجِّ (عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ وَلَمْ يَشُكُّوا فِي أَنَّهُ يُخَالِفُهُمْ فِي الْمَنَاسِكِ: بَلْ تَيَقَّنُوا بِهَا إِلَّا فِي الْوُقُوفِ فَإِنَّهُمْ جَزَمُوا بِأَنَّهُ يُوَافِقُهُمْ فِيهِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْحَرَمِ كَانُوا يَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَهُوَ جَبَلٌ فِي الْمُزْدَلِفَةِ يُقَالُ لَهُ قُزَحٌ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُحَدِّثِينِ وَقِيلَ إِنَّهُ كُلُّ الْمُزْدَلِفَةِ وَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَقِيلَ بِكَسْرِهَا، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ رحمه الله وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ (كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) وَيَقُولُونَ نَحْنُ حَمَامُ الْحَرَمِ فَلَا نَخْرُجُ مِنْهُ، وَقَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُوَافِقُهُمْ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ صَرِيحًا أَنَّهُ كَانَ يَقِفُ مَعَ عَامَّةِ النَّاسِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، أَيْضًا كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ (فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ جَاوَزَ الْمُزْدَلِفَةَ وَلَمْ يَقِفْ بِهَا، وَسَارَ مِنْ طَرِيقِ ضَبَّ وَهُوَ جَبَلٌ مُتَّصِلٌ بِثَبِيرٍ وَهِيَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ فِي أَصْلِ الْمَأْزِمَيْنِ عَلَى يَمِينِكَ وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى عَرَفَةَ (حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ) أَيْ قَارَبَهَا (فَوَجَدَ الْقُبَّةَ) أَيِ الْخَيْمَةَ الْمَعْهُودَةَ (قَدْ ضُرِبَتْ) أَيْ بُنِيَتْ (لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا) أَيْ بِالْخَيْمَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ اسْتِظْلَالِ الْمُحْرِمِ بِالْخَيْمَةِ وَنَحْوِهَا، خِلَافًا لِمَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي مِثْلِ هَوْدَجٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ (حَتَّى إِذَا زَاغَتِ) أَيْ نَزَلَ بِهَا وَاسْتَمَرَّ فِيهَا حَتَّى إِذَا مَالَتِ (الشَّمْسُ) وَزَالَتْ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ مِنْ جَانِبِ الشَّرْقِ إِلَى جَانِبِ الْغَرْبِ (أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ) أَيْ بِإِحْضَارِهَا (فَرُحِلَتْ لَهُ) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ مُخَفَّفًا، أَيْ شُدَّ الَّذِي عَلَيْهَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (فَأَتَى) أَيْ فَرَكِبَهَا فَأَتَى (بَطْنَ الْوَادِي) مَوْضِعٌ بِعَرَفَاتٍ يُسَمَّى عُرَنَةَ وَلَيْسَتْ مِنْ عَرَفَاتٍ خِلَافًا لِمَالِكٍ، وَمِنْهَا بَعْضُ مَسْجِدِ إِبْرَاهِيمَ الْمَوْجُودِ الْيَوْمَ، وَاخْتُلِفَ فِي مُحْدِثِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَنْسُوبٌ لِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَهُ مُصَلًّى، وَقِيلَ إِبْرَاهِيمُ الْقُبَيْسِيُّ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ أَحَدُ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ كَانَ فِي أَوَّلِ دَوْلَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ أَيْ فَنُسِبَ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ بَانِيَهُ أَوْ مُجَدِّدَهُ (فَخَطَبَ النَّاسَ) أَيْ وَعَظَهُمْ وَخَطَبَ خُطْبَتَيْنِ الْأُولَى لِتَعْرِيفِهِمُ الْمَنَاسِكَ وَالْحَثِّ عَلَى كَثْرَةِ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ بِعَرَفَةَ، وَالثَّانِيَةُ قَصِيرَةٌ جِدًّا لِمُجَرَّدِ الدُّعَاءِ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: إِذَا قَامَ إِلَيْهَا شَرَعَ الْمُؤَذِّنُ فِي الْإِقَامَةِ لِيَفْرَغَا مَعًا كَمَا بَيَّنَهُ الْبَيْهَقِيُّ (وَقَالَ إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ) أَيْ تَعَرُّضَهَا (حَرَامٌ عَلَيْكُمْ) أَيْ لَيْسَ لِبَعْضِكُمْ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِبَعْضٍ فَيُرِيقَ دَمَهُ أَوْ يَسْلُبَ مَالَهُ (كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا) يَعْنِي تَعَرُّضَ بَعْضِكُمْ دِمَاءَ بَعْضٍ وَأَمْوَالِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيْامِ كَحُرْمَةِ التَّعَرُّضِ لَهُمَا فِي يَوْمِ عَرَفَةَ (فِي شَهْرِكُمْ هَذَا) أَيْ ذِي الْحِجَّةِ (فِي بَلَدِكُمْ هَذَا) أَيْ مَكَّةَ أَوِ الْحَرَمِ الْمُحْتَرَمِ، وَفِيهِ تَأْكِيدٌ حَيْثُ جَمَعَ بَيْنَ حُرْمَةِ الزَّمَانِ وَاحْتِرَامِ الْمَكَانِ فِي تَشْبِيهِ حُرْمَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَبْدَانِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَفًّا وَنَشْرًا مُشَوَّشًا بِأَنْ تَكُونَ حُرْمَةُ النَّفْسِ كَحُرْمَةِ الْبَلَدِ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَكَانِهِ، وَحُرْمَةُ الْمَالِ كَحُرْمَةِ الزَّمَانِ فَإِنَّهُ غَادٍ وَرَائِحٍ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قُوَّةِ حُرْمَةٍ النَّفْسِ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْبَلَدِ مُؤَبَّدَةٌ وَحُرْمَةَ الزَّمَانِ مُؤَقَّتَةٌ، وَمَعَ هَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ نَسْخِهَا نَسْخُهَا لِأَنَّهَا غَيْرُ تَابِعَةٍ لَهَا بَلْ مُشَبَّهَةٌ بِهَا، وَالتَّشْبِيهُ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَلِهَذَا قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: شَبَّهَ فِي التَّحْرِيمِ بِيَوْمِ عَرَفَةَ وَذِي الْحِجَّةِ وَالْبَلَدِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ أَشَدَّ التَّحْرِيمِ
لَا يُسْتَبَاحُ فِيهِمْ شَيْءٌ (أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ (كُلُّ شَيْءٍ) أَيْ فَعَلَهُ أَحَدُكُمْ (مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ (تَحْتَ قَدَمَيَّ) بِالتَّثْنِيَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْإِفْرَادِ وَالْأَوَّلُ أَدَلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ (مَوْضُوعٌ) أَيْ كَالشَّيْءِ الْمَوْضُوعِ تَحْتَ الْقَدَمِ وَهُوَ مَجَازٌ عَنْ إِبْطَالِهِ، وَالْمَعْنَى عَفَوْتُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ فَعَلَهُ رَجُلٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَتَجَافَيْتُ عَنْهُ، حَتَّى صَارَ كَالشَّيْءِ الْمَوْضُوعِ تَحْتَ الْقَدَمِ، تَقُولُ الْعَرَبُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي لَا تَكَادُ تُرَاجِعُهُ وَتَذْكُرُهُ: جَعَلْتُ ذَلِكَ دُبُرَ أُذُنِي وَتَحْتَ قَدَمَيَّ (وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ) أَيْ مَتْرُوكَةٌ لَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ وَلَا كَفَّارَةَ، أَعَادَهَا لِلِاهْتِمَامِ أَوْ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْكَلَامِ (وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ) أَيْ أَضَعُهُ وَأَتْرُكُهُ (مِنْ دِمَائِنَا) أَيِ الْمُسْتَحَقَّةِ لَنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، كَذَا قِيلَ وَالظَّاهِرُ مِنْ دِمَائِنَا أَنَّ الْمُرَادَ دِمَاءُ أَقَارِبِنَا وَلِذَا قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: ابْتَدَأَ فِي وَضْعِ الْقَتْلِ وَالدِّمَاءِ بِأَهْلِ بَيْتِهِ وَأَقَارِبِهِ: لِيَكُونَ أَمْكَنَ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ، وَأَسَدَّ لِبَابِ الطَّمَعِ بِتَرَخُّصٍ فِيهِ (دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ) اسْمُهُ إِيَاسُ (ابْنِ الْحَارِثِ) أَيِ ابْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَرَوَى عَنْهُ وَكَانَ أَسَنَّ مِنْهُ، تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رضي الله عنه (وَكَانَ مُسْتَرْضَعًا) عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ، أَيْ كَانَ لِابْنِهِ ظِئْرٌ تُرْضِعُهُ (فِي بَنِي سَعْدٍ) وَصَحَّ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْبُخَارِيُّ، وَقَدْ خَطَّأَهُمْ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّ الصَّوَابَ دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ، وَيُمْكِنُ تَصْحِيحُ ذَلِكَ بِأَنْ يُقَالَ إِضَافَةُ الدَّمِ إِلَى رَبِيعَةَ لِأَنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ، أَوْ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ: أَيْ دَمُ قَتِيلِ رَبِيعَةَ اعْتِمَادًا عَلَى اشْتِهَارِ الْقِصَّةِ (فَقَتَلَهُ) أَيِ ابْنَ رَبِيعَةَ (هُذَيْلٌ) وَكَانَ طِفْلًا صَغِيرًا يَحْبُو بَيْنَ الْبُيُوتِ فَأَصَابَهُ حَجَرٌ فِي حَرْبِ بَنِي سَعِدٍ مَعَ قَبِيلَةِ هُذَيْلٍ فَقَتَلَهُ هُذَيْلٌ (وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ) يُرِيدُ أَمْوَالَهُمُ الْمَغْصُوبَةَ وَالْمَنْهُوبَةَ، وَإِنَّمَا خَصَّ الرِّبَا تَأْكِيدًا لِأَنَّهُ فِي الْجُمْلَةِ مَعْقُولٌ فِي صُورَةِ مَشْرُوعٍ، وَلِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ (وَأَوَّلُ رِبًا) أَيْ زَائِدٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ (أَضَعُ مِنْ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) قِيلَ إِنَّهُ بَدَلٌ مِنْ رِبَانَا، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ الْخَبَرُ وَقَوْلُهُ (فَإِنَّهُ) أَيِ الرِّبَا أَوْ رِبَا عَبَّاسٍ (مَوْضُوعٌ كُلُّهُ) تَأْكِيدٌ بَعْدَ تَأْكِيدٍ، وَالْمُرَادُ الزَّائِدُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ قَالَ تَعَالَى:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] وَلِأَنَّ الرِّبَا هُوَ الزِّيَادَةُ (فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ) أَيْ فِي حَقِّهِنَّ وَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَفِي رِوَايَةِ الْمَصَابِيحِ بِالْوَاوِ وَكِلَاهُمَا سَدِيدٌ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا سَبَقَ، مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، أَيِ اتَّقُوا اللَّهَ فِي اسْتِبَاحَةِ الدِّمَاءِ وَفِي نَهْبِ الْأَمْوَالِ وَفِي النِّسَاءِ (فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ) قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: هَكَذَا هُوَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِ وَفِي بَعْضِهَا (بِأَمَانَةِ اللَّهِ) أَيْ بِعَهْدِهِ مِنَ الرِّفْقِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ (وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ) أَيْ بِشَرْعِهِ أَوْ بِأَمْرِهِ وَحُكْمِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ " فَانْكِحُوا "، وَقِيلَ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ: أَيْ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَفِي نُسْخَةٍ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ (وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ) أَيْ مِنَ الْحُقُوقِ (أَنْ لَا يُوطِئْنَ) بِهَمْزَةٍ أَوْ بِإِبْدَالِهَا مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ (فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ لَا يَأْذَنَّ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ مَنَازِلَ الْأَزْوَاجِ، وَالنَّهْيُ يَتَنَاوَلُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ (فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ) أَيِ الْإِيطَاءَ الْمَذْكُورَ (فَاضْرِبُوهُنَّ) قِيلَ الْمَعْنَى: لَا يَأْذَنَّ لِأَحَدٍ مِنَ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ، فَيَتَحَدَّثُ إِلَيْهِنَّ، وَكَانَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ لَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ انْتَهَوْا عَنْهُ، وَلَيْسَ هَذَا كِنَايَةً عَنِ الزِّنَا وَإِلَّا كَانَ عُقُوبَتَهُنَّ الرَّجْمُ دُونَ الضَّرْبِ (ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ مُجَرِّحٍ أَوْ شَدِيدٍ شَاقٍّ (وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ) مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَفِي مَعْنَاهُ سُكْنَاهُنَّ (وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) بِاعْتِبَارِ حَالِكُمْ فَقْرًا وَغِنًى أَوْ بِالْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ مِنَ التَّوَسُّطِ الْمَمْدُوحِ (وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا) أَيْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَمَا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ (لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ تَرْكِي إِيَّاهُ فِيكُمْ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ وَتَبِعَهُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله، أَوْ بَعْدَ التَّمَسُّكِ بِهِ وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ كَمَا قَالَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ (إِنَّ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ) أَيْ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ
(كِتَابَ اللَّهِ) بِالنَّصْبِ بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ لِمَا فِي التَّفْسِيرِ بَعْدَ الْإِبْهَامِ تَفْخِيمٌ لِشَأْنِ الْقُرْآنِ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ بِأَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ، وَبِهَا اقْتَصَرَ عَلَى الْكِتَابِ لِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] وَقَوْلِهِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] فَيَلْزَمُ مِنَ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ الْعَمَلُ بِالسُّنَّةِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ الْأَصِيلَ هُوَ الْكِتَابُ (وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ عَنْ تَبْلِيغِي وَعَدَمِهِ (فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ) أَيْ فِي حَقِّي (قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ) أَيِ الرِّسَالَةَ (وَأَدَّيْتَ) أَيِ الْأَمَانَةَ (وَنَصَحْتَ) أَيِ الْأُمَّةَ (فَقَالَ) أَيْ أَشَارَ (بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ) بِالْجَرِّ وَأُخْتَيْهِ مِنَ الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ (يَرْفَعُهَا) حَالٌ مِنْ فَاعِلِ قَالَ أَيْ رَافِعًا إِيَّاهَا أَوْ مِنَ السَّبَّابَةِ أَيْ مَرْفُوعَةً (إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا) بِضَمِّ الْكَافِ وَالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقَانِيَّةِ، أَيْ يُشِيرُ بِهَا (إِلَى النَّاسِ) كَالَّذِي يَضْرِبُ بِهَا الْأَرْضَ، وَالنَّكْتُ ضَرْبُ رَأْسِ الْأَنَامِلِ إِلَى الْأَرْضِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالْمُوَحَّدَةِ فِي النِّهَايَةِ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، أَيْ يُمِيلُهَا إِلَيْهِمْ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يُشْهِدَ اللَّهَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: هَكَذَا ضَبَطْنَاهُ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقٍ.
قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: هَكَذَا الرِّوَايَةُ وَهُوَ بَعِيدُ الْمَعْنَى قَالَ: قِيلَ صَوَابُهُ يَنْكُبُهَا بِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ قَالَ: وَرُوِّينَاهُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ (اللَّهُمَّ اشْهَدْ) أَيْ عَلَى عِبَادِكَ بِأَنَّهُمْ قَدْ أَقَرُّوا بِأَنِّي قَدْ بَلَّغْتُ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله وَالْمَعْنَى اللَّهُمَّ اشْهَدْ أَنْتَ إِذْ كَفَى بِكَ شَهِيدًا (اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) كَانَ الْأَنْسَبُ أَنْ يَتَلَفَّظَ الرَّاوِي بِاللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، أَوْ يَقُولَ اللَّهُمَّ اشْهَدْ مَرَّةً ثُمَّ يَقُولَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ) أَيْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ، وَهَذَا الْجَمْعُ كَجَمْعِ الْمُزْدَلِفَةِ جَمْعُ نُسُكٍ عِنْدَنَا، وَجَمْعُ سَفَرٍ عَنْدَ الشَّافِعِيِّ خِلَافًا لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ (وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا) أَيْ مِنَ السُّنَنِ وَالنَّوَافِلِ كَيْلَا يُبْطِلَ الْجَمْعَ، لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَاجِبَةٌ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله: وَفِي عِبَارَتِهِ مَا لَا يَخْفَى، فَإِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَجْعَلَ فِعْلَهُ عليه الصلاة والسلام دَلِيلًا لِلْمُوَالَاةِ لَا مُعَلِّلًا بِبُطْلَانِ الْجَمْعِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ (ثُمَّ رَكِبَ) أَيْ وَسَارَ (حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ) أَيْ أَرْضَ عَرَفَاتٍ، أَوِ اللَّامُ لِلْعَهْدِ وَالْمُرَادُ مَوْقِفُهُ الْخَاصُّ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ (فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ) بِالْجَرِّ وَأُخْتَيْهِ (إِلَى الصَّخَرَاتِ) بِفَتْحَتَيْنِ الْأَحْجَارِ الْكِبَارِ قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: هُنَّ حَجَرَاتٌ مُفْتَرِشَاتٌ فِي أَسْفَلِ جَبَلِ الرَّحْمَةِ، وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي بِوَسَطِ أَرْضِ عَرَفَاتٍ، فَهَذَا هُوَ الْمَوْقِفُ الْمُسْتَحَبُّ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ فَلْيَقْرُبْ مِنْهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَأَمَّا مَا اشْتُهِرَ بَيْنَ الْعَوَامِّ مِنَ الِاعْتِنَاءِ بِصُعُودِ الْجَبَلِ وَتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْوُقُوفُ إِلَّا فِيهِ فَغَلَطٌ، وَالصَّوَابُ جَوَازُ الْوُقُوفِ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَرْضِ عَرَفَاتٍ، وَأَمَّا وَقْتُ الْوُقُوفِ فَهُوَ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: يَدْخُلُ وَقْتُ الْوُقُوفِ مِنْ فَجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ (وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ) قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: رُوِيَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْبَاءِ، وَرُوِيَ بِالْجِيمِ وَفَتَحِ الْبَاءِ قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: الْأَوَّلُ أَشْبَهُ بِالْحَدِيثِ، وَحَبْلُ الْمُشَاةِ مُجْتَمَعُهُمْ وَحَبْلُ الرَّمْلِ مَا طَالَ مِنْهُ، وَأَمَّا بِالْجِيمِ فَمَعْنَاهُ طَرِيقُهُمْ وَحَيْثُ تَسْلُكُ الرَّجَّالَةُ اهـ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: بِالْحَاءِ، أَيْ طَرِيقُهُمُ الَّذِي يَسْلُكُونَهُ فِي الرَّمْلِ.
وَقَالَ التُّورِبِشِتِيُّ رحمه الله: حَبْلُ الْمُشَاةِ مَوْضِعٌ، وَقِيلَ: اسْمُ مَوْضِعٍ مِنْ رَمْلٍ مُرْتَفِعٍ كَالْكُثْبَانِ، وَقِيلَ: الْجَبَلُ الرَّمْلُ الْمُسْتَطِيلُ، وَإِنَّمَا أَضَافَهَا إِلَى الْمُشَاةِ لِأَنَّهَا لَا يَقْدِرُ أَنْ يَصْعَدَ إِلَيْهَا إِلَّا الْمَاشِي، أَوْ لِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَيْهَا تَرَقِّيًا مِنْهُ مَوَاقِفَ الرُّكَّابِ، وَدُونَ حَبْلِ الْمُشَاةِ وَدُونَ الصَّخَرَاتِ اللَّاصِقَةِ بِسَفْحِ الْجَبَلِ مَوْقِفُ الْإِمَامِ، وَبِهِ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى الْوُقُوفَ (وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا) أَيْ قَائِمًا بِرُكْنِ الْوُقُوفِ رَاكِبًا عَلَى النَّاقَةِ (حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ) أَيْ أَكْثَرُهَا أَوْ كَادَتْ أَنْ تَغْرُبَ (وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا) أَيْ ذَهَابًا قَلِيلًا (حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ) أَيْ جَمِيعُهُ، هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ، قِيلَ صَوَابُهُ: حِينَ غَابَ الْقُرْصُ وَفِيهِ نَظَرٌ، إِذْ لَا يَظْهَرُ مَعْنًى لِقَوْلِهِ ذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حِينَ غَابَ الْقُرْصُ وَكَأَنَّ الْقَائِلَ غَفَلَ عَنْ قَيْدِ
الْعِلَّةِ وَذُهِلَ عَنِ الرِّوَايَةِ الَّتِي تُطَابِقُ الدِّرَايَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَيَكُونَ بَيَانًا لِلْغَيْبُوبَةِ فَإِنَّهَا قَدْ تُطْلَقُ عَلَى مُعْظَمِ الْقُرْصِ (وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ) أَيْ أَرْدَفَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَلْفَهُ (وَدَفَعَ) أَيِ ارْتَحَلَ وَمَضَى، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيِ ابْتَدَأَ السَّيْرَ وَدَفَعَ نَفْسَهُ وَنَحَّاهَا أَوْ دَفَعَ نَاقَتَهُ وَحَمَلَهَا عَلَى السَّيْرِ (حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ) وَفِي رِوَايَةٍ وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ شَنَقَ بِتَخْفِيفِ النُّونِ أَيْ ضَمَّ (وَضَيَّقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى أَنَّ رَأْسَهَا لِيُصِيبَ مَوْرِكَ رِجْلِهِ) بِالْجِيمِ مَعَ كَسْرِ الرَّاءِ وَبِالْحَاءِ وَفَتْحِهَا، وَالْمَوْرِكُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَثْنِي الرَّاكِبُ رِجْلَهُ عَلَيْهِ قُدَّامَ وَاسِطَةِ الرَّحْلِ إِذَا مَلَّ مِنَ الرُّكُوبِ، وَضَبَطَهُ الْقَاضِي بِفَتْحِ الرَّاءِ قَالَ: وَهُوَ قِطْعَةُ أَدَمٍ يَتَوَرَّكُ عَلَيْهَا الرَّاكِبُ، تُجْعَلُ فِي مُقَدَّمِ الرَّحْلِ شِبْهُ الْمِخَدَّةِ الصَّغِيرَةِ، ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ رحمه الله وَيَقُولُ: بِيَدِهِ الْيُمْنَى أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ، بِالنَّصْبِ أَيِ الْزَمُوهَا (كُلَّمَا أَتَى حَبْلًا مِنَ الْحِبَالِ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ أَيِ التَّلِّ اللَّطِيفِ مِنَ الرَّمْلِ (أَرْخَى لَهَا) أَيْ لِلنَّاقَةِ (قَلِيلًا) أَيْ إِرْخَاءً قَلِيلًا أَوْ زَمَانًا قَلِيلًا (حَتَّى تَصْعَدَ) بِفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقَ وَضَمِّهَا يُقَالُ صَعِدَ فِي الْجَبَلِ وَأَصْعَدَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِذْ تُصْعِدُونَ} [آل عمران: 153] ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ رحمه الله ثُمَّ أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، قِيلَ سُمِّيَتْ بِهَا لِمَجِيءِ النَّاسِ إِلَيْهَا فِي زُلَفٍ مِنَ اللَّيْلِ، أَيْ سَاعَاتٍ قَرِيبَةٍ مِنْ أَوَّلِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير: 13] أَيْ قَرُبَتْ، وَأَمَّا ازْدِحَامُ النَّاسِ بَيْنَ الْعَلَمَيْنِ فَبِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مَفَاسِدُ صَرِيحَةٌ (فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ) أَيْ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ (بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ) وَبِهِ قَالَتِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، وَزُفَرُ رحمه الله لِمَا سَيَأْتِي (وَلَمْ يُسَبِّحْ) أَيْ لَمْ يُصَلِّ (بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ (شَيْئًا) أَيْ مِنَ النَّوَافِلِ وَالسُّنَنِ وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يُصَلِّي بَعْدَهُمَا سُنَّةَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ وَالْوِتْرَ لِقَوْلِهِ (ثُمَّ اضْطَجَعَ) أَيْ لِلنَّوْمِ بَعْدَ رَاتِبَةِ الْعِشَاءِ وَالْوِتْرِ كَمَا فِي رِوَايَةِ (حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ) تَقْوِيَةً لِلْبَدَنِ وَرَحْمَةً لِلْأُمَّةِ، وَلِأَنَّ فِي نَهَارِهِ عِبَادَاتٍ كَثِيرَةً يَحْتَاجُ إِلَى النَّشَاطِ فِيهَا، وَهُوَ لَا يُنَافِي الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ ( «مَنْ أَحْيَا لَيْلَةَ الْعِيدِ أَحْيَا اللَّهُ قَلْبَهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ» ) فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحْيِيَهُ بِالذِّكْرِ وَالْفِكْرِ دُونَ النَّوَافِلِ الْمُطْلَقَةِ مُطَابِقًا لِلسُّنَّةِ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ إِحْيَاءُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ فِي الْجُمْلَةِ أَوْ أَكْثَرِهَا، ثُمَّ الْمَبِيتُ عِنْدَنَا سُنَّةٌ، وَعَلَيْهِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ رحمهم الله وَقِيلَ وَاجِبٌ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَقِيلَ رُكْنٌ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِهِ كَالْوُقُوفِ وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَجِلَّةِ، وَقَالَ مَالِكٌ: النُّزُولُ وَاجِبٌ وَالْمَبِيتُ سُنَّةٌ، وَكَذَا الْوُقُوفُ بَعْدَهُ ثُمَّ الْمَبِيتُ بِمُعْظَمِ اللَّيْلِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ بِحُضُورِ لَحْظَةٍ بِالْمُزْدَلِفَةِ (فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ) أَيْ طَلَعَ الْفَجْرُ (بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ) أَيْ بِغَلَسٍ (ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ) مَوْضِعٌ خَاصٌّ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ بِبِنَاءٍ مَعْلُومٍ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ مَعْلَمٌ لِلْعِبَادِ، وَالْمَشَاعِرُ الْمَعَالِمُ الَّتِي نَدَبَ اللَّهُ إِلَيْهَا وَأَمَرَ بِالْقِيَامِ فِيهَا، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَقَدْ يُكْسَرُ وَفِي رِوَايَةٍ حَتَّى رَقِيَ عَلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْمُزْدَلِفَةِ وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ مَا فِي الْبُخَارِيِّ كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يُقَدِّمُ ضَعْفَةَ أَهْلِهِ فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ هِيَ (فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَاهُ فَكَبَّرَهُ) أَيْ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ (وَهَلَّلَهُ) أَيْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (وَوَحَدَهُ) أَيْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. . . إِلَخْ. (فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا) أَيْ أَضَاءَ الْفَجْرُ إِضَاءَةً تَامَّةً (فَدَفَعَ) أَيْ ذَهَبَ إِلَى مِنًى (قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ) أَيْ بَدَلَ أُسَامَةَ (حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ) بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ مُزْدَلِفَةَ وَمِنًى، وَالتَّحَسُّرُ الْإِعْيَاءُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4] سُمِّيَ لِأَنَّ فِيلَ أَصْحَابِ الْفِيلِ حَسَرَ فِيهِ أَيْ أَعْيَا، وَكُلٌّ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ رحمه الله أَيْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ دَخَلَ الْحَرَمَ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ، لَكِنَّ الْمُرَجَّحَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْهُ وَإِنَّمَا أَصَابَهُمُ الْعَذَابُ قُبَيْلَ الْحَرَمِ قُرْبَ عَرَفَةَ، فَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا وَاحِدٌ أَخْبَرَ مَنْ وَرَاءَهُمْ، فَقِيلَ حِكْمَةُ الْإِسْرَاعِ فِيهِ نُزُولُ نَارٍ فِيهِ عَلَى مَنِ اصْطَادَ فِيهِ، وَلِذَا يُسَمِّي أَهْلُ مَكَّةَ هَذَا الْوَادِي وَادِي النَّارِ.
وَصَحَّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمَّا أَتَى دِيَارَ ثَمُودَ أَسْرَعَ وَأَمَرَهُمْ بِالْإِسْرَاعِ خَشْيَةَ أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ، أَوْ مُخَالَفَةَ النَّصَارَى فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقِفُونَ فِيهِ، فَأُمِرْنَا بِمُخَالَفَتِهِمْ وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَقِفُونَ فِيهِ بَدَلَ الْمُزْدَلِفَةِ أَوْ بَعْدَهُ زِيَادَةً عَلَيْهِ
وَفِي الْجُمْلَةِ يَظْهَرُ وَجْهُ تَخْصِيصِ الْإِسْرَاعِ بِالرُّجُوعِ مِنْ عَرَفَةَ دُونَ التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا، عَلَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام ذَهَبَ إِلَى عَرَفَاتٍ مِنْ طَرِيقِ الضَّبِّ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُسْتَحَبَّ الْإِسْرَاعُ فِيهِ لِكُلِّ مَارٍّ مِنْ حَاجٍّ وَغَيْرِهِ ذَاهِبًا وَآيِبًا لِكَوْنِهِ مَحَلَّ نُزُولِ الْعَذَابِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ إِنَّمَا سُمِّيَ لِإِسْرَاعِ الرُّكَّابِ وَالْمُشَاةِ فِيهِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ وَجْهُ التَّسْمِيَةِ وَإِنَّمَا يُسْرِعُ لِأَجْلِ نُزُولِ الْعَذَابِ فِيهِ (فَحَرَّكَ) أَيْ أَسْرَعَ نَاقَتَهُ (قَلِيلًا) أَيْ تَحْرِيكًا قَلِيلًا أَوْ زَمَانًا قَلِيلًا أَوْ مَكَانًا قَلِيلًا أَيْ يَسِيرًا، وَصَحَّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمَّا أَتَى مُحَسِّرًا أَسْرَعَ نَاقَتَهُ حَتَّى جَاوَزَ الْوَادِي قَالَ النَّوَوِيُّ: قَدْرَ رَمْيَةِ حَجَرٍ.
وَأَمَّا مَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُسَامَةَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام تَرَكَهُ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى مِنًى فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ تَرَكَهُ عِنْدَ الزَّحْمَةِ لِأَنَّ الْإِثْبَاتَ مُقَدَّمٌ لَا سِيَّمَا وَهُوَ أَكْثَرُ رُوَاةً وَأَصَحُّ إِسْنَادًا، وَقَدْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَسْرَعَ فِي بَعْضِهِ وَتَرَكَ الْإِسْرَاعَ فِي كُلِّهِ مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ اسْتِبْقَاؤُهُ خَشْيَةَ الْمُزَاحَمَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْوَحْشَةِ مَعَ وُجُودِ الْكَثْرَةِ، وَيُسَنُّ أَنْ يَقُولَ الْمَارُّ بِهِ مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بَعْضَهُ مَرْفُوعًا. إِلَيْكَ تَغْدُو قَلِقًا وَضِينُهَا مُعْتَرِضًا فِي بَطْنِهَا جَنِينُهَا مُخَالِفًا دِينَ النَّصَارَى دِينُهَا قَدْ ذَهَبَ الشَّحْمُ الَّذِي يَزِينُهَا الْوَضِينُ بِطَّانٌ عَرِيضٌ يُنْسَجُ مِنْ سُيُورٍ أَوْ شَعَرٍ أَوْ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ جِلْدٍ كَذَا فِي الْقَامُوسِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ أَيْضًا: اللَّهُمَّ لَا تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ وَلَا تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ وَعَافِنَا قَبْلَ ذَلِكَ (ثُمَّ سَلَكَ) أَيْ دَخَلَ (الطَّرِيقَ الْوُسْطَى) وَهِيَ غَيْرُ طَرِيقِ ذَهَابِهِ إِلَى عَرَفَاتٍ بَلْ إِنَّمَا هِيَ (الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى) أَيْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ (حَتَّى أَتَى) عَطْفٌ عَلَى سَلَكَ، أَيْ حَتَّى وَصَلَ (الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ) أَيِ الْعَقَبَةِ، وَلَعَلَّ الشَّجَرَةَ إِذْ ذَاكَ كَانَتْ مَوْجُودَةً هُنَاكَ (فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ) بِالْخَاءِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَتَيْنِ الرَّمْيُ بِرُءُوسِ الْأَصَابِعِ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: بَدَلٌ مِنَ الْحَصَيَاتِ وَهُوَ بِقَدْرِ حَبَّةِ الْبَاقِلَاءِ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: أَمَّا قَوْلُهُ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ اهـ. كَلَامُ النَّوَوِيُّ.
وَعِنْدِي أَنَّ اتِّصَالَ حَصَى الْخَذْفِ بِقَوْلِهِ: مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا حَصَى الْخَذْفِ، فَهَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ وَكَذَا نَقْلَهُ الْقَاضِي رحمه الله عَنْ مُعْظَمِ النُّسَخِ قَالَ: وَصَوَابُهُ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ بَعْضُ رُوَاةِ مُسْلِمٍ.
هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي رحمه الله قُلْتُ: وَالَّذِي فِي النُّسَخِ مِنْ غَيْرِ لَفْظَةِ " مِثْلَ " هُوَ الصَّوَابُ بَلْ لَا يَتَّجِهُ غَيْرُهُ وَلَا يَتِمُّ الْكَلَامُ إِلَّا كَذَلِكَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: حَصَى الْخَذْفِ مُتَعَلِّقٌ بِحَصَيَاتٍ أَيْ رَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَصَى الْخَذْفِ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، فَحَصَى الْخَذْفِ مُتَّصِلٌ بِحَصَيَاتٍ وَاعْتَرَضَ بَيْنَهُمَا، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ أَقْرَبُ لَفْظًا وَأَنْسَبُ مَعْنًى وَمَعَ هَذَا لَا اعْتِرَاضَ وَلَا تَخْطِئَةَ عَلَى إِحْدَى النُّسْخَتَيْنِ، فَإِنَّ تَعَلُّقَهُ بِحَصَاةٍ أَوْ حَصَيَاتٍ لَا يُنَافِي وُجُودَ " مِثْلَ " لَفْظًا أَوْ تَقْدِيرًا غَايَتُهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَوْجُودًا فَهُوَ وَاضِحٌ مَعْنًى وَإِلَّا فَيَكُونُ مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ وَهُوَ حَذْفُ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ، أَيْ كَحَصَى الْخَذْفِ، بَلْ لَا يَظْهَرُ لِلتَّعَلُّقِ غَيْرُ هَذَا الْمَعْنَى، فَالرِّوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ وَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ عَنْ جَابِرٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ (وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْمُوا بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ) وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْهُ بِلَفْظِ (رَمَى الْجَمْرَةَ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ) يُرَجِّحُ وُجُودَ الْمِثْلِ وَيُؤَيِّدُهُ تَقْدِيرُهُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
وَفِي نُسْخَةٍ (رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي) بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ فَرَمَاهَا، أَوِ اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَكَذَا فِي عِبَارَةِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله مَا يُفِيدُ جَوَازَ الرَّمْيِ مِنْ فَوْقِهَا وَقِيَاسًا عَلَى بَقِيَّةِ الْجَمَرَاتِ حَيْثُ يَجُوزُ مِنْ جَوَانِبِهَا وَإِنْ كَانَ الْجَانِبُ الْمُسْتَحَبُّ وَاحِدًا، وَأَمَّا التَّأْوِيلُ بِأَنَّهُ رَمَاهَا مِنْ فَوْقِهَا إِلَى أَسْفَلِهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي لَا إِلَى ظَهْرِهَا فَبَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَقِيَاسُ الدِّرَايَةِ فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ رحمه الله: أَنَّ الرَّمْيَ مِنْ فَوْقِهَا بَاطِلٌ لَيْسَ تَحْتَهُ طَائِلٌ (ثُمَّ انْصَرَفَ) أَيْ رَجَعَ مِنْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ (إِلَى الْمَنْحَرِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ مَوْضِعِ
النَّحْرِ وَالْآنَ يُقَالُ لَهُ الْمَذْبَحُ لِعَدَمِ النَّحْرِ أَوْ تَغْلِيبًا لِلْأَكْثَرِ كَمَا غَلَبَ فِي الْأَوَّلِ، فَلَا فَضْلَ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَأَمَّا مَا اشْتُهِرَ مِنْ صُورَةِ مَسْجِدٍ بُنِيَ قَرِيبٍ مِنَ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى مُنْحَرِفٍ عَنِ الطَّرِيقِ إِلَى جِهَةِ الْيَمَنِ، وَبُنِيَ بِإِزَائِهِ عَلَى الطَّرِيقِ مَسْجِدٌ تُسَمِّيهِ الْعَامَّةُ مَسْجِدَ النَّحْرِ: فَلَيْسَ هُوَ بَلِ الْأَصَحُّ أَنَّ مَنْحَرَهُ عليه الصلاة والسلام فِي مِعْوَلِهِ الَّذِي بِقُرْبِ مَسْجِدِ الْخَيْفِ مُتَقَدِّمًا عَلَى قِبْلَةِ مَسْجِدِ الْخَيْفِ (فَنَحَرَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةَ) بِعَدَدِ سِنِي عُمْرِهِ (بِيَدِهِ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ لَفْظَ الْمِشْكَاةِ جَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ، فَإِنَّ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ بِدُونِ لَفْظِ بَدَنَةٍ قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: هَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ وَكَذَا نَقَلَهُ الْقَاضِي رحمه الله عَنْ جَمِيعِ الرُّوَاةِ سِوَى ابْنِ مَاهَانَ فَإِنَّهُ رَوَاهُ بَدَنَةً قَالَ: وَكِلَاهُمَا صَوَابٌ وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ (ثُمَّ أَعْطَى) أَيْ بَقِيَّةَ الْبُدْنِ (عَلِيًّا فَنَحَرَ) أَيْ عَلِيٌّ (مَا غَبَرَ) أَيْ بَقِيَ مِنَ الْمِائَةِ (وَأَشْرَكَهُ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا (فِي هَدْيِهِ) بِأَنْ أَعْطَاهُ بَعْضَ الْهَدَايَا لِيَنْحَرَ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَقِيَّةِ الْبُدْنِ أَيْضًا وَيَكُونُ عَدَدَ سِنِي عُمْرِهِ رضي الله عنه عَلَى بَعْضِ الْأَقْوَالِ قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ شَارَكَهُ فِي نَفْسِ الْهَدْيِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله: وَعِنْدِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَشْرِيكًا حَقِيقَةً بَلْ أَعْطَاهُ قَدْرًا يَذْبَحُهُ قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ الْبُدْنَ الَّتِي جَاءَتْ مَعَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَكَانَتْ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَأَعْطَى عَلِيًّا الْبُدْنَ الَّتِي جَاءَتْ مَعَهُ مِنَ الْيَمَنِ، وَهِيَ تَمَامُ الْمِائَةِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَشْرَكَ عَلِيًّا فِي ثَوَابِ هَدْيِهِ لِأَنَّ الْهَدْيَ يُعْطَى حُكْمَ الْأُضْحِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ تَعْجِيلِ ذَبْحِ الْهَدَايَا وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَلَا يُؤَخَّرُ بَعْضُهَا إِلَى أَيْامِ التَّشْرِيقِ.
(ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ) بِفَتْحِ الْبَاءِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنَ اللَّحْمِ (فَجُعِلَتْ) أَيِ الْقِطَعُ (فِي قِدْرٍ) فِي الْقَامُوسِ الْقِدْرُ بِالْكَسْرِ مَعْلُومٌ، أُنْثَى أَوْ يُؤَنَّثُ (فَطُبِخَتْ فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا) الضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى الْقِدْرِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْهَدَايَا، قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله (وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا) أَيْ مِنْ مَرَقِ الْقِدْرِ أَوْ مَرَقِ لُحُومِ الْهَدَايَا قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله: يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ اهـ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَقِيلَ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا} [البقرة: 58](ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ) أَيْ أَسْرَعَ (إِلَى الْبَيْتِ) أَيْ بَيْتِ اللَّهِ لِطَوَافِ الْفَرْضِ، وَيُسَمَّى طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَالرُّكْنِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَمِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله لَا يُجَوِّزُ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ بِنِيَّةِ غَيْرِهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ حَيْثُ قَالَ: لَوْ نَوَى غَيْرَهُ كَنَذْرٍ أَوْ وَدَاعٍ وَقَعَ عَنِ الْإِفَاضَةِ (فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ) قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: فِيهِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ، فَحَذَفَ ذِكْرَ الطَّوَافِ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ فَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا فِي أَحَادِيثِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَافَ لِلْإِفَاضَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى، وَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم طَافَ لِلْإِفَاضَةِ قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مِنًى فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ مَرَّةً أُخْرَى بِأَصْحَابِهِ حِينَ سَأَلُوهُ ذَلِكَ فَيَكُونُ مُتَنَفِّلًا بِالظُّهْرِ الثَّانِيَةِ بِمِنًى.
أَقُولُ إِنَّهُ لَا يُحْمَلُ فِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَلَفِ فِي جَوَازِهِ، فَيُؤَوَّلُ بِأَنَّهُ صَلَّى بِمَكَّةَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ وَقْتَ الظُّهْرِ، وَرَجَعَ إِلَى مِنًى فَصَلَّى الظُّهْرَ بِأَصْحَابِهِ، أَوْ يُقَالُ الرِّوَايَتَانِ حَيْثُ تَعَارَضَتَا فَقَدْ تَسَاقَطَتَا، فَتَتَرَجَّحُ صَلَاتُهُ بِمَكَّةَ لِكَوْنِهَا فِيهَا أَفْضَلَ، وَيُؤَيِّدُهُ ضِيقُ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام رَجَعَ قُبَيْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ الْمَشْعَرِ، وَرَمَى بِمِنًى، وَنَحَرَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ وَطَبَخَ لَحْمَهَا وَأَكَلَ مِنْهَا ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ وَطَافَ وَسَعَى، فَشَكَّ أَنَّهُ أَدْرَكَهُ الْوَقْتُ بِمَكَّةَ، وَمَا كَانَ أَخَّرَهَا عَنْ وَقْتِ الْمُخْتَارِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْوَارِدُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَغَيْرِهَا أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخَّرَ الزِّيَارَةَ يَوْمَ النَّحْرِ إِلَى اللَّيْلِ، فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَادَ لِلزِّيَارَةِ مَعَ نِسَائِهِ، لَا لِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ.
قُلْتُ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ، لَكِنْ لَا مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ لَفْظًا وَلَا مَعْنًى وَلَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، مَعَ الْغَرَابَةِ فِي عَرْضِ كَلَامِهِ إِلَى أَنَّهُ عَادَ لِلزِّيَارَةِ، فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ جَوَّزَ تَأْخِيرَ الزِّيَارَةِ مُطْلَقًا إِلَى اللَّيْلِ أَوْ أَمَرَ بِتَأْخِيرِ زِيَارَةِ نِسَائِهِ إِلَى اللَّيْلِ، وَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ (فَذَهَبَ مَعَهُنَّ) غَيْرُ صَحِيحٍ إِذْ لَمْ يَثْبُتُ عَوْدُهُ عليه الصلاة والسلام مَعَهُنَّ فِي اللَّيْلِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(فَأَتَى عَلَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) وَهُمْ أَوْلَادُ الْعَبَّاسِ وَجَمَاعَتُهُ لِأَنَّ سِقَايَةَ الْحَاجِّ كَانَتْ وَظِيفَةً (يَسْقُونَ) أَيْ مَرَّ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يَنْزِعُونَ الْمَاءَ مِنْ زَمْزَمَ وَيَسْقُونَ النَّاسَ (عَلَى زَمْزَمَ) قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: مَعْنَاهُ يَغْرِفُونَ بِالدِّلَاءِ وَيَصُبُّونَهُ فِي الْحَوْضِ وَنَحْوِهَا فَيَسْلُبُونَهُ (فَقَالَ انْزِعُوا) أَيِ الْمَاءَ أَوِ الدِّلَاءَ (بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ) يَعْنِي الْعَبَّاسَ، وَمُتَعَلِّقِيهِ بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله: دَعَا لَهُمْ بِالْقُوَّةِ عَلَى النَّزْعِ وَالِاسْتِقَاءِ، يُرِيدُ أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ أَيِ النَّزْعَ عَمَلٌ صَالِحٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ لِكَثْرَةِ ثَوَابِهِ اهـ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ لَهُمْ (فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ) أَيْ لَوْلَا مَخَافَةَ كَثْرَةِ الِازْدِحَامِ عَلَيْكُمْ بِحَيْثُ تُؤَدِّي إِلَى إِخْرَاجِكُمْ عَنْ رَغْبَةٍ فِي النَّزْعِ (لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ) وَقَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: مَعْنَاهُ لَوْلَا خَوْفِي أَنْ يَعْتَقِدَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ: فَيَزْدَحِمُونَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَغْلِبُونَكُمْ وَيَدْفَعُونَكُمْ عَنِ الِاسْتِقَاءِ لَاسْتَقَيْتُ مَعَكُمْ لِكَثْرَةِ فَضِيلَةِ هَذَا الِاسْتِقَاءِ (فَنَاوَلُوهُ) أَيْ أَعْطَوْهُ (دَلْوًا) رِعَايَةً لِلْأَفْضَلِ (فَشَرِبَ مِنْهُ) أَيْ مِنَ الدَّلْوِ أَوْ مِنَ الْمَاءِ، وَفِي نُسْخَةٍ فَشَرِبَ مِنْهَا، وَفِي الْقَامُوسِ الدَّلْوُ مَعْرُوفٌ وَقَدْ يُذَكَّرُ، قِيلَ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْرَبَ قَائِمًا وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام شُرِبَهُ قَائِمًا لِبَيَانِ الْجَوَازِ أَوْ لِعُذْرٍ بِهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ مِنَ الطِّينِ أَوِ الِازْدِحَامِ، فَإِنَّهُ صَحَّ نَهْيُهُ عَنِ الشُّرْبِ قَائِمًا بَلْ أَمَرَ مَنْ شَرِبَ قَائِمًا أَنْ يَتَقَيَّأَ مَا شَرِبَهُ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ إِنَّ الشُّرْبَ قَائِمًا بِدُونِ الْعُذْرِ حَرَامٌ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَيْ فِي صَحِيحِهِ وَرَوَاهُ غَيْرُهُ كَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبَى دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَعَبَدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبَزَّارُ وَالدَّارِمِيُّ فِي مَسَانِيدِهِمْ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ) فَسَأَلَ عَنِ الْقَوْمِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ فَقُلْتُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى رَأْسِي فَنَزَعَ زِرِّي الْأَعْلَى، ثُمَّ نَزَعَ زِرِّي الْأَسْفَلَ، ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ شَابٌّ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِكَ يَا ابْنَ أَخِي، سَلْ عَمَّا شِئْتَ فَسَأَلْتُهُ وَهُوَ أَعْمَى وَحَضَرَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، فَقَامَ فِي نِسَاجَةٍ بِكَسْرِ النُّونِ وَهِيَ نَوْعٌ مِنَ الْمَلَاحِفِ مَنْسُوجَةٍ، قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ مُلْتَحِفًا بِهَا كُلَّمَا وَضَعَهَا عَلَى مَنْكِبَيْهِ رَجَعَ طَرَفَاهَا إِلَيْهَا مِنْ صِغَرِهَا وَرِدَاؤُهُ إِلَى جَنْبِهِ عَلَى الْمِشْجَبِ فَصَلَّيْنَا، فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ بِيَدِهِ فَعَقَدَ تِسْعًا، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ، الْحَدِيثَ وَهُوَ أَصْلٌ كَبِيرٌ وَأَجْمَعُ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ.
2556 -
ــ
2556 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ خَرَجْنَا) أَيْ مَعَاشِرُ الصَّحَابَةِ أَوْ جَمَاعَةُ النِّسَاءِ (مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ) أَيْ مُفْرَدَةٍ، وَالْمَعْنَى أَحْرَمَ بِهَا أَوْ لَبَّى بِهَا مَقْرُونَةً بِالنِّيَّةِ (وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ) أَيْ مُفْرَدٍ أَوْ مَقْرُونٍ بِعُمْرَةٍ (فَلَمَّا قَدِمْنَا) أَيْ كُلُّنَا (مَكَّةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي نُسْخَةٍ قَالَ وَهُوَ الظَّاهِرُ (مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَلَمْ يُهْدِ) أَيْ مِنَ الْإِهْدَاءِ، أَيْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ (فَلْيَحْلِلْ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ، أَيْ فَلْيَخْرُجْ مِنَ الْإِحْرَامِ بِحَلْقٍ أَوْ تَقْصِيرٍ (وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى) أَيْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ (فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ) أَيْ مُنْضَمًّا مَعَهَا، وَالْمَعْنَى فَلْيُدْخِلِ الْحَجَّ فِي الْعُمْرَةِ لِيَكُونَ قَارِنًا (ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا) يَعْنِي لَا يَخْرُجُ مِنَ الْإِحْرَامِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ، حَتَّى يُتِمَّ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ جَمِيعًا (وَفِي رِوَايَةٍ فَلَا يَحِلُّ) بِالنَّفْيِ وَيَحْتَمِلُ النَّهْيَ (حَتَّى يَحِلَّ بِنَحْرِ هَدْيِهِ) أَيْ يَوْمَ الْعِيدِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ نَحْرُ الْهَدْيِ قَبْلَهُ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله قَوْلُهُ: وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى مَعَ قَوْلِهِ: فِي رِوَايَةٍ حَتَّى يَحِلَّ بِنَحْرِ هَدْيِهِ، دَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى لَا يَحِلُّ لَهُ حَتَّى يَحِلَّ بِنَحْرِ هَدْيِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) : يَحِلُّ إِذَا طَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ، وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَعْنِي قَوْلَهُ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ أَمَرَ الْمُعْتَمِرَ بِأَنْ يَقْرِنَ الْحَجَّ بِالْعُمْرَةِ، فَلَا يَحِلُّ إِلَّا بِنَحْرِ هَذَا الْهَدْيِ، فَوَجَبَ حَمْلُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأُخْرَى لِأَنَّ الْقِصَّةَ وَاحِدَةٌ اهـ.
وَلَوْ صَحَّ جَعْلُ قَوْلِهِ: (وَفِي رِوَايَةٍ فَلَا يَحِلُّ) بَدَلَ قَوْلِهِ (ثُمَّ لَا يَحِلُّ) لَانْحَلَّ الْإِشْكَالُ، وَلِلْحَنَفِيَّةِ وُجُوهٌ أُخَرُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ الرِّوَايَةَ الْأُولَى قَابِلَةٌ أَنَّ تُحْمَلَ عَلَى الثَّانِيَةِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ، كَمَا لَا يَخْفَى وَتَحْقِيقُهُ تَقَدَّمَ وَاللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ (وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ) سَاقَ الْهَدْيَ أَوَّلًا قَرَنَ مَعَهُ عُمْرَةً أَوْ لَا (فَلْيُتِمَّ حَجَّهُ) أَيْ إِلَّا مَنْ أُمِرَ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ (قَالَتْ: فَحِضْتُ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ) أَيْ لِلْعُمْرَةِ (وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) أَيْ وَلَمْ أَسْعَ بَيْنَهُمَا، إِذْ لَا يَصِحُّ السَّعْيُ إِلَّا بَعْدَ الطَّوَافِ، وَإِلَّا فَالْحَيْضُ لَا يَمْنَعُ مِنَ السَّعْيِ (فَلَمْ أَزَلْ حَائِضًا حَتَّى كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَلَمْ أُهِلَّ) أَيْ: لَمْ أُحْرِمْ أَوَّلًا (إِلَّا بِعُمْرَةٍ فَأَمَرَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَنْقُضَ رَأْسِي) أَيْ شَعَرَهُ (وَأَمْتَشِطَ وَأُهِلَّ بِالْحَجِّ) أَيْ أَمَرَنِي أَنْ أُحْرِمَ بِالْحَجِّ (وَأَتْرُكَ الْعُمْرَةَ) أَيْ أَرْفُضَهَا.
قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله: أَيْ أَمَرَنِي أَنْ أَخْرُجَ مِنْ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ وَأَتْرُكَهَا بِاسْتِبَاحَةِ الْمَحْظُورَاتِ مِنَ التَّمْشِيطِ وَغَيْرِهِ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِأَفْعَالِهَا بِسَبَبِ الْحَيْضِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ أَمَرَنِي أَنْ أَخْرُجَ مِنْ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَأَسْتَبِيحَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ وَأُحْرِمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْحَجِّ، فَإِذَا فَرَغْتُ مِنْهُ أُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ، أَيْ قَضَاءً وَهَذَا ظَاهِرٌ (فَفَعَلْتُ حَتَّى قَضَيْتُ حَجِّي بَعَثَ مَعِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ) رحمه الله قِيلَ جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله وَيُمْكِنُ أَنَّهُ جَوَابٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَقَوْلُهُ فَقَالَ بِالْفَاءِ أَوْ بِالْوَاوِ عَطْفٌ (وَأَمَرَنِي أَنْ أَعْتَمِرَ مَكَانَ عُمْرَتِي) أَيْ بَدَلَهَا، نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ عُمْرَتِي الَّتِي رَفَضْتُهَا (مِنَ التَّنْعِيمِ) مُتَعَلِّقٌ بِأَعْتَمِرَ.
قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله: هُوَ مَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَرْسَخٌ، وَبِهَذَا تَمَسَّكَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهَا بِتَرْكِ الْعُمْرَةِ رَأْسًا، بَلْ أَمَرَهَا بِتَرْكِ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ مِنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَإِدْخَالِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ لِتَكُونَ قَارِنَةً، أَقُولُ: الْقَارِنُ لَا يَسْتَبِيحُ بِالْمَحْظُورِ فَانْقَلَبَ الْمَحْظُورُ، ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا عُمْرَتُهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْحَجِّ فَكَانَتْ تَطَوُّعًا لِتَطِبْ نَفْسُهَا لِئَلَّا تَظُنَّ خَوْفَ نُقْصَانٍ بِتَرْكِ أَعْمَالِ عُمْرَتِهَا، أَقُولُ: حَاشَاهَا أَنَّ تَظُنَّ هَذَا الظَّنَّ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَارِنًا مَعَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ بِتَدَاخُلِ الْأَفْعَالِ (قَالَتْ: فَطَافَ) أَيْ طَوَافَ الْعُمْرَةِ (الَّذِينَ كَانُوا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ) أَيِ الَّذِينَ أَفْرَدُوا الْعُمْرَةَ عَنِ الْحَجِّ (بِالْبَيْتِ) مُتَعَلِّقٍ بِطَافَ (وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) وَالطَّوَافُ يُرَادُ بِهِ الدَّوْرُ الَّذِي يَشْمَلُ السَّعْيَ فَصَحَّ الْعَطْفُ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَقْدِيرِ عَامِلٍ، وَجَعْلُهُ نَظِيرَ:
" عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا ".
(ثُمَّ حَلُّوا) أَيْ خَرَجُوا مِنَ الْإِحْرَامِ (ثُمَّ طَافُوا طَوَافَهَا) أَيْ لِلْحَجِّ وَهُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ (بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى) أَيْ إِلَى مَكَّةَ (وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) أَيِ ابْتِدَاءً أَوْ إِدْخَالًا لِأَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ (فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا) أَيْ يَوْمَ النَّحْرِ لَهُمَا جَمِيعًا، وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله وَعِنْدَنَا يَلْزَمُ الْقَارِنُ طَوَافَانِ: طَوَافٌ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَطَوَافٌ بَعْدَهُ لِلْحَجِّ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ.
أَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَارِنًا كَمَا صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ صَحَّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ طَافَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ وَطَافَ لِلزِّيَارَةِ بَعْدَ الْوُقُوفِ فَكَيْفَ يَكُونُ طَوَافُهُمْ وَاحِدًا وَهُمْ لَا يُخَالِفُونَهُ عليه الصلاة والسلام اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ هَذَا أَيْضًا مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِبَعْضِ الصَّحَابَةِ (رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ) أَوِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا لِلْحَجِّ بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ مِنًى لِمَا تَقَدَّمَ لَهُمْ مِنْ طَوَافٍ آخَرَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ (وَاحِدًا) تَأْكِيدٌ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ تَعَدُّدِ الطَّوَافِ لِلْقَارِنِ بَعْدَ الْوُقُوفِ، فَيَكُونُ مُرَادُهَا - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - بِالطَّوَافِ طَوَافَ الْفَرْضِ، وَإِنَّمَا كَانَ الطَّوَافُ الْأَوَّلُ طَوَافَ الْقُدُومِ وَالتَّحِيَّةِ وَهُوَ سُنَّةٌ إِجْمَاعًا، أَوْ طَوَافَ فَرَضِ عُمْرَةٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ عِنْدَنَا لِحَدِيثِ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَارِنًا فَطَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى بِسَعْيَيْنِ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَكَذَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَعَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما قَالَ الْقَارِنُ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ رحمه الله (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2557 -
ــ
2557 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بَنْ عُمَرَ قَالَ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ) قِيلَ: الْمُرَادُ التَّمَتُّعُ اللُّغَوِيُّ، وَهُوَ الْقِرَانُ آخِرًا، وَمَعْنَاهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ أَوَّلًا، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، فَصَارَ قَارِنًا فِي آخِرِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ كَمَا مَرَّ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (وَبَدَأَ، فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ) ، وَهَذَا الْإِدْخَالُ أَفْضَلُ مِنْ عَكْسِهِ، مَعَ أَنَّهُ وَرَدَ صَرِيحًا فِي أَحَادِيثَ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، فَكَيْفَ يُصَارُ إِلَيْهِ، وَلَوْ ثَبَتَ لَكَانَ مُعَارَضًا، فَالَّذِي أَذِنَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَبْتَدِئُ بِالْعُمْرَةِ بَعْدَ فَرْضِ الْحَجِّ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ، وَقَدِ اعْتَمَرَ مِرَارًا بَعْدَ الْهِجْرَةِ، فَالصَّوَابُ أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا أَوَّلًا وَمَعْنَى قَوْلِهِ (فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ) أَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ قَدَّمَ ذِكْرَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ الْوَجْهُ الْمَسْنُونُ فِي الْقِرَانِ دُونَ الْعَكْسِ، ثُمَّ كَانَ أَكْثَرُ مَا يَذْكُرُ فِي إِحْرَامِهِ الْحَجَّ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ الْمَفْرُوضُ، وَالْعُمْرَةَ سُنَّةٌ تَابِعَةٌ، وَلَاشَكَّ أَنَّ حَمْلَ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْحَمْلِ عَلَى عِبَادَةٍ وَاحِدَةٍ، (فَتَمَتَّعَ النَّاسُ) أَيْ أَكْثَرُهُمْ، هَذَا التَّمَتُّعُ اللُّغَوِيُّ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْعِبَادَتَيْنِ (مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) أَيْ بِضَمِّهَا إِلَيْهِ (فَكَانَ مِنَ النَّاسِ) أَيِ: الَّذِينَ أَحْرَمُوا بِالْعُمْرَةِ (مَنْ أَهْدَى) أَيْ: سَاقَ الْهَدْيَ (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ) أَيِ: الْمُعْتَمِرِينَ ( «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ» )، وَفِي هَذَا حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رحمه الله ( «وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ» ) أَيْ: طَوَافَ الْعُمْرَةِ (وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلْيُقَصِّرْ) أَيْ: إِبْقَاءً لِلشَّعْرِ لِتَحَلُّلِ الْحَجِّ (وَلْيَحْلِلْ) أَيْ: لِيَخْرُجَ مِنْ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ بِاسْتِمْتَاعِ الْمَحْظُورَاتِ (ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ) أَيْ: لِيُحْرِمَ بِهِ مِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ (وَلْيُهْدِ) أَيْ: لِيَذْبَحِ الْهَدْيَ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الرَّمْيِ، قَبْلَ الْحَلْقِ (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) أَيْ: فِي أَشْهُرِهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ آخِرُهَا يَوْمَ عَرَفَةَ (وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ) تَوْسِعَةً، وَلَوْ صَامَ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِمَكَّةَ جَازَ عِنْدَنَا.
(فَطَافَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ) أَيْ: طَوَافَ الْعُمْرَةِ (وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ) أَيِ: الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ (أَوَّلَ شَيْءٍ) أَيْ: مِنْ أَفْعَالِ الطَّوَافِ بَعْدَ النِّيَّةِ (ثُمَّ خَبَّ) أَيْ: رَمَلَ (ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ) أَيْ: فِي ثَلَاثَةِ أَشْوَاطٍ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: إِظْهَارًا لِلْجَلَادَةِ وَالرُّجُولِيَّةِ فِي نَفْسِهِ، وَفِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، كَيْلَا يَظُنَّ الْكُفَّارُ أَنَّهُمْ عَاجِزُونَ ضُعَفَاءُ، قُلْتُ: هَذَا كَانَ عِلَّةَ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، ثُمَّ اسْتَمَرَّتِ السُّنَّةُ بَعْدَ زَوَالِ الْعِلَّةِ (وَمَشَى) أَيْ: بِسُكُونٍ، وَهَيْنَةٍ (أَرْبَعًا) أَيْ: فِي أَرْبَعِ مَرَّاتٍ مِنَ الْأَشْوَاطِ (فَرَكَعَ) أَيْ: صَلَّى (حِينَ قَضَى) أَيْ: أَدَّى، وَأَتَمَّ (طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ) مُتَعَلِّقٌ بِـ " رَكَعَ " (رَكْعَتَيْنِ) أَيْ: صَلَاةَ الطَّوَافِ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا، سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ (ثُمَّ سَلَّمَ) أَيْ: مِنْ صَلَاتِهِ، أَوْ عَلَى الْحَجَرِ، بِأَنِ اسْتَلَمَهُ (فَانْصَرَفَ) أَيْ: عَنِ الْبَيْتِ، أَوْ عَنِ الْمَسْجِدِ (فَأَتَى الصَّفَا)، وَفِي نُسْخَةٍ: وَالْمَرْوَةَ (فَطَافَ) أَيْ: سَعَى (بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ) أَيْ: أَشْوَاطٍ (ثُمَّ لَمْ يَحِلَّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ)، وَهُوَ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ بِالْحَلْقِ فِيمَا عَدَا الْجِمَاعَ (وَأَفَاضَ) أَيْ: إِلَى مَكَّةَ (فَطَافَ بِالْبَيْتِ) أَيْ: طَوَافَ الْإِفَاضَةِ (ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ) وَهُوَ التَّحَلُّلُ الثَّانِي الْمُحَلِّلُ لِلنِّسَاءِ (وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ مِنَ النَّاسِ) أَيْ: مُطْلَقًا (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ:" «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُجَّاجًا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَرْجِ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَزَلْنَا، فَجَلَسَتْ عَائِشَةُ إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَلَسْتُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَتْ زَامِلَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَزَامِلَةُ أَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً مَعَ غُلَامٍ لِأَبِي بَكْرٍ، فَجَلَسَ أَبُو بَكْرٍ يَنْتَظِرُ أَنْ يَطْلُعَ عَلَيْهِ، فَطَلَعَ، وَلَيْسَ مَعَهُ بَعِيرُهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: أَيْنَ بَعِيرُكَ؟ فَقَالَ: أَضْلَلْتُهُ الْبَارِحَةَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَعِيرٌ وَاحِدٌ تُضِلُّهُ، وَطَفِقَ يَضْرِبُهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَبْتَسِمُ وَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا الْمُحْرِمِ مَا يَصْنَعُ، وَمَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَبْتَسِمُ» " وَفِيهِ تَقْوِيَةٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: تَمَامُ الْحَجِّ ضَرْبُ الْجَمَّالِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ سُنَّةِ الصِّدِّيقِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَرَّرَهُ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ، وَلَمَّا بَلَغَ صلى الله عليه وسلم الْأَبْوَاءَ، وَوَدَّانَ أَهْدَى لَهُ الصَّعْبُ بْنُ جَثَّامَةَ حِمَارًا وَحْشِيًّا، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى فِي وَجْهِهِ أَيْ: مِنَ التَّغَيُّرِ لَا مِنَ الْغَضَبِ - كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ - قَالَ: إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ. رَوَاهُ الشَّيْخَانِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى " «أَنَّهُ بَعْضُ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ يَقْطُرُ دَمُهُ» " وَعَيَّنَ بَعْضٌ فِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ الْعَجُزُ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ شِقُّهُ، وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ، وَغَيْرُهُ أَنَّهُ أَهْدَى إِلَيْهِ هَدَايَا، وَبَعْضَ مَذْبُوحٍ، وَاتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا أَنَّهُ رُدَّ عَلَيْهِ، إِلَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ بِسَنَدٍ حَسَنٍ:«أَنَّهُ أَهْدَى لَهُ عَجُزَ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ، وَهُوَ بِالْجُحْفَةِ، فَأَكَلَ مِنْهُ» ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إِنْ كَانَ هَذَا مَحْفُوظًا، فَلَعَلَّهُ رَدَّ الْحَيَّ، وَقَبِلَ اللَّحْمَ، وَإِنَّمَا رَدَّ الْحَيَّ لِكَوْنِهِ صَيْدًا، وَرَدَّ اللَّحْمَ تَارَةً لِكَوْنِهِ ظَنَّ أَنَّهُ صِيدَ لَهُ، وَقَبِلَ أُخْرَى حَيْثُ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُصَدْ لِأَجْلِهِ، وَيَحْتَمِلُ حَمْلُ قَبُولِهِ عَلَى حَالِ رُجُوعِهِ عليه الصلاة والسلام مِنْ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ جَازِمٌ بِوُقُوعِ ذَلِكَ فِي الْجُحْفَةِ، وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِالْأَبْوَاءِ، أَوْ بِوَدَّانَ، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله وَفِيهِ أَنَّهُ حَالَ الرُّجُوعِ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، فَلَا يُتَصَوَّرُ عَدَمُ قَبُولِهِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ رحمه الله: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَحْضَرَ الْحِمَارَ مَذْبُوحًا، ثُمَّ قَطَعَ مِنْهُ جُزْءًا بِحَضْرَتِهِ، فَقَدَّمَهُ لَهُ، فَمَنْ قَالَ: أَهْدَى حِمَارًا أَرَادَ ابْتِدَاءً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ مَا قَدَّمَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَهْدَاهُ لَهُ حَيًّا، فَلَمَّا رَدَّهُ ذَكَّاهُ، وَأَتَاهُ بِبَعْضِهِ ظَانًّا أَنَّ الرَّدَّ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِجُمْلَتِهِ، فَأَعْلَمَهُ بِامْتِنَاعِهِ أَنَّ حُكْمَ الْجُزْءِ حُكْمُ الْكُلِّ، وَالْجَمْعُ مَهْمَا أَمْكَنَ أَوْلَى مِنْ تَوْهِيمِ بَعْضِ الرُّوَاةِ اهـ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ حُكْمَ الْكُلِّ حَيًّا مُغَايِرٌ لِلْجُزْءِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ صَيْدٌ لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ، وَأَمَّا الْجُزْءُ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَا صِيدَ لِأَجْلِهِ فَيَحِلَّ، أَوْ صِيدَ لَهُ فَيَحْرُمُ، وَقَالَ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ لَحْمُ الصَّيْدِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ أَخْذًا بِقَضِيَّةِ الصَّعْبِ، وَالْجُمْهُورُ أَخَذُوا بِخَبَرِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ فِي الصَّيْدِ الَّذِي صَادَهُ أَبُو قَتَادَةَ، وَهُوَ حَلَالٌ لِلْمُحْرِمِينَ: هُوَ حَلَالٌ فَكُلُوهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: " «هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ قَالُوا: مَعَنَا رِجْلُهُ، فَأَخَذَهَا صلى الله عليه وسلم فَأَكَلَهَا» .
2558 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هَذِهِ عُمْرَةٌ اسْتَمْتَعْنَا بِهَا فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ الْهَدْيُ فَلْيَحِلَّ الْحِلَّ كُلَّهُ، فَإِنَّ الْعُمْرَةَ قَدْ دَخَلَتْ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّانِي.
ــ
2558 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَذِهِ عُمْرَةٌ اسْتَمْتَعْنَا بِهَا) الِاسْتِمْتَاعُ هُنَا تَقْدِيمُ الْعُمْرَةِ، وَالْفَرَاغُ مِنْهَا، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُتَمَتِّعًا، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ اسْتَمْتَعَ بِأَنْ قَدَّمَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ، وَاسْتَبَاحَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعُمْرَةِ حَتَّى يُحْرِمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْحَجِّ، أَقُولُ: هَذَا خَطَأٌ لَا دَلَالَةَ لِلْحَدِيثِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام مَا اسْتَبَاحَ الْمَحْظُورَاتِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَمَنْ قَالَ أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا أَوَّلَ قَوْلَهُ: " اسْتَمْتَعْنَا " بِأَنِ اسْتَمْتَعَ مَنْ أَمَرْتُهُ مِنْ أَصْحَابِي بِتَقْدِيمِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ، فَأَضَافَ فِعْلَهُمْ إِلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْآمِرُ اهـ. وَهُوَ تَكَلُّفٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ لُغَوِيٌّ كَمَا تَقَدَّمَ بِمَعْنَى الِانْتِفَاعِ (فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ الْهَدْيُ فَلْيَحِلَّ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ (الْحِلَّ) نَصْبُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَقَوْلُهُ:(كُلَّهُ) تَأْكِيدٌ لَهُ أَيِ: الْحِلَّ التَّامَّ، قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ: فَلْيَجْعَلْ حَلَالًا عَلَى نَفْسِهِ جَمِيعَ مَا حَلَّ لَهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ أَفْعَالِهَا. اهـ كَلَامُهُ.
وَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ " فَلْيُحِلَّ " بِضَمِّ الْيَاءِ، وَهُوَ كَذَا فِي نُسْخَةٍ (فَإِنَّ الْعُمْرَةَ قَدْ دَخَلَتْ فِي الْحَجِّ) أَيْ: فِي أَشْهُرِهِ (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَعْنِي أَنَّ دُخُولَهَا فِيهِ فِي أَشْهُرِهِ لَا يَخْتَصُّ بِهَذِهِ السَّنَةِ، بَلْ يَجُوزُ فِي جَمِيعِ السِّنِينَ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ) أَيْ: فِي الْمَصَابِيحِ (عَنِ الْفَصْلِ الثَّانِي) ، وَهُوَ اعْتِذَارٌ مِنْ صَاحِبِ الْمِشْكَاةِ عَنْ تَرْكِهِ، وَلِئَلَّا يُشْكِلَ قَوْلُهُ.
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)
2559 -
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2559 - (عَنْ عَطَاءٍ) أَيِ: ابْنِ رَبَاحٍ - تَابِعِيٌّ جَلِيلٌ مَكِّيٌّ - (قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي نَاسٍ مَعِي قَالَ: أَهْلَلْنَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مَنْصُوبٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، أَوْ بِتَقْدِيرِ " يَعْنِي " أَوْ أَعْنِي، أَيْ: أَحْرَمْنَا (بِالْحَجِّ خَالِصًا وَحْدَهُ) أَيْ: عَلَى زَعْمِ جَابِرٍ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ وَحْدَهَا، أَوْ أَرَادَ بِالْأَصْحَابِ أَكْثَرَهُمْ، أَوْ بَعْضَهُمْ، أَوْ مَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَهُوَ سَاكِتٌ عَنْ حَجِّهِ صلى الله عليه وسلم فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا (قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ جَابِرٌ رضي الله عنه: فَقَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صُبْحَ رَابِعَةٍ مَضَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ) بِكَسْرِ الْحَاءِ لَا غَيْرَ (فَأَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ) أَيْ: نَفْسَخَ الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ (قَالَ عَطَاءٌ) أَيْ: رَاوِيًا عَنْ جَابِرٍ (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (حِلُّوا) بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَتَشْدِيدِ اللَّامِ (وَأَصِيبُوا النِّسَاءَ) تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ لِلِاهْتِمَامِ، وَتَنْصِيصٌ لِدَفْعِ الْإِيهَامِ مِنَ الْإِبْهَامِ.
(قَالَ عَطَاءٌ وَلَمْ يَعْزِمْ) أَيْ: يُوجِبِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ أَحَلَّهُنَّ لَهُمْ) يَعْنِي لَمْ يَجْعَلِ الْجِمَاع عَزِيمَةً عَلَيْهِمْ، بَلْ جَعَلَهُ رُخْصَةً لَهُمْ، بِخِلَافِ الْفَسْخِ، فَإِنَّهُ كَانَ عَزِيمَةً، فَأَمْرُ (حِلُّوا) لِلْوُجُوبِ (وَأَصِيبُوا) لِلْإِبَاحَةِ، أَوْ لِلِاسْتِحْبَابِ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ: قَالَ عَطَاءٌ رضي الله عنه فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ جَابِرٍ: " فَأَمَرَنَا " ثُمَّ فَسَّرَ هَذَا التَّفْسِيرَ بِأَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ جَزْمًا (فَقُلْنَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ) أَيْ: حِينَ لَمْ يَبْقَ (بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إِلَّا خَمْسٌ) أَيْ: مِنَ اللَّيَالِي بِحِسَابِ لَيْلَةِ عَرَفَةَ، أَوْ مِنَ الْأَيَّامِ بِحِسَابِ يَوْمِ الْأَحَدِ الَّذِي لَا كَلَامَ فِيهِ (أَمَرَنَا) أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (أَنْ نُفْضِيَ) مِنَ الْإِفْضَاءِ أَيْ: نَصِلْ (إِلَى نِسَائِنَا) ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى:{وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21](فَنَأْتِي) بِالرَّفْعِ أَيْ: فَنَحْنُ حِينَئِذٍ نَأْتِي (عَرَفَةَ تَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا الْمَنِيَّ) الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قُرْبِ الْجِمَاعِ، وَكَانَ هَذَا عَيْبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَيْثُ يَعُدُّونَهُ نَقْصًا فِي الْحَجِّ.
(قَالَ) أَيْ: عَطَاءٌ رضي الله عنه (يَقُولُ) أَيْ: يُشِيرُ (جَابِرٌ بِيَدِهِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى قَوْلِهِ) أَيْ: إِشَارَتِهِ (بِيَدِهِ يُحَرِّكُهَا) أَيْ: يَدَهُ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ تَشْبِيهَ تَحْرِيكِ الْمَذَاكِيرِ بِتَشْبِيهِ الْيَدِ، أَوْ إِشَارَةٌ إِلَى تَقْلِيلِ الْمُدَّةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَرَفَةَ، أَوْ إِيمَاءٌ إِلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، وَالتَّأَسُّفِ لَدَيْهِمْ (قَالَ) أَيْ: جَابِرٌ رضي الله عنه (فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِينَا) أَيْ: خَطِيبًا (فَقَالَ قَدْ عَلِمْتُمْ) أَيِ اعْتَقَدْتُمْ (أَنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ) أَيْ: أَدْيَنُكُمْ، أَوْ أَخْشَاكُمْ (وَأَصْدَقُكُمْ) أَيْ: قَوْلًا (وَأَبَرُّكُمْ) أَيْ: عَمَلًا (وَلَوْلَا هَدْيِي لَحَلَلْتُ كَمَا تَحِلُّونَ، وَلَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ) مَا مَوْصُولَةٌ مَحَلُّهَا النَّصْبُ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ (لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ) وَكُنْتُ حَلَلْتُ مَعَكُمْ أَرَادَ بِهِ صلى الله عليه وسلم تَطْيِيبَ قُلُوبِهِمْ، وَتَسْكِينَ نُفُوسِهِمْ فِي صُورَةِ الْمُخَالَفَةِ بِفِعْلِهِ، وَهُمْ يُحِبُّونَ مُتَابَعَتَهُ، وَكَمَالَ مُوَافَقَتِهِ وَلِمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الْكَرَاهِيَةِ الطَّبِيعِيَّةِ فِي الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَمُقَارَبَةِ النِّسَاءِ قُرْبَ عَرَفَةَ (فَحِلُّوا) بِكَسْرِ الْحَاءِ أَمْرٌ لِلتَّأْكِيدِ (فَحَلَلْنَا، وَسَمِعْنَا، وَأَطَعْنَا) أَيْ: مُنْشَرِحِينَ، مُنْبَسِطِينَ حَيْثُ ظَهَرَ لَنَا عُذْرُ الْمُخَالَفَةِ، وَحِكْمَةُ عَدَمِ الْمُوَافَقَةِ.
(قَالَ عَطَاءٌ قَالَ جَابِرٌ رضي الله عنه فَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنْ سِعَايَتِهِ) بِكَسْرِ السِّينِ أَيْ: مِنْ عَمَلِهِ مِنَ الْقَضَاءِ، وَغَيْرِهِ فِي الْيَمَنِ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ: مِنْ تَوْلِيَةِ اسْتِخْرَاجِ الصَّدَقَاتِ مِنْ أَرْبَابِهَا، وَبِهِ سُمِّيَ عَامِلُ الزَّكَاةِ السَّاعِيَ، وَلَا