الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كُلِّ عَامٍ (فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ) : أَيِ: الْآتِي بَعْدَهُ (قَالُوا) : أَيْ: بَعْضُ الْأَصْحَابِ (يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَفْعَلُ) : بِتَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ (كَمَا فَعَلْنَا الْعَامَ الْمَاضِيَ؟ قَالَ: " كُلُوا ": اسْتِحْبَابًا (وَأَطْعِمُوا) : أَيْ: نَدْبًا (وَادَّخِرُوا) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ أَيِ: اجْعَلُوا ذَخِيرَةً أَمْرُ إِبَاحَةٍ (فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَامَ) : عِلَّةُ تَحْرِيمِ الِادِّخَارِ السَّابِقِ، وَإِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ يَدُورُ مَعَ الْعِلَّةِ وُجُودًا وَعَدَمًا (كَانَ بِالنَّاسِ جَهْدٌ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَضَمِّهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: بِالضَّمِّ: الْجُوعُ؛ وَبِالْفَتْحِ: الْمَشَقَّةُ، وَقِيلَ لُغَتَانِ. (فَأَرَدْتُ) : أَيْ: بِالنَّهْيِ عَنِ الِادِّخَارِ (أَنْ تُعِينُوا فِيهِمْ) : أَيْ: تُعِينُوهُمْ أَيِ: الْفُقَرَاءَ، جَعَلَ الْمُتَعَدِّيَ بِمَنْزِلَةِ اللَّازِمِ، وَعَدَّاهُ بِـ " فِي " مُبَالَغَةً، كَذَا قِيلَ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله، أَيْ: تُوقِعُوا الْإِعَانَةَ فِيهِمْ، اهـ. فَجَعَلَهُ مِنْ بَابِ التَّضْمِينِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: بِجُرْحٍ فِي عَرَاقِيبِهَا نَصْلِي وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى - حِكَايَةً: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف: 15] وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أَنْ تُعِينُونِي فِي حَقِّهِمْ، فَإِنَّ فَقْرَهُمْ كَانَ صَعْبًا إِلَيْهِ عليه الصلاة والسلام (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : لَا يَظْهَرُ وَجْهُ إِيرَادِ الْمُصَنِّفِ هَذَا الْحَدِيثَ فِي هَذَا الْبَابِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أُولِي الْأَلْبَابِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِمَا تَفْسِيرًا لِحَدِيثِ جَابِرٍ فِي آخِرِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
2645 -
وَعَنْ نُبَيْشَةَ رضي الله عنه: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «إِنَّا كُنَّا نَهَيْنَاكُمْ عَنْ لُحُومِهَا أَنْ تَأْكُلُوهَا فَوْقَ ثَلَاثٍ لِكَيْ تَسَعَكُمْ. جَاءَ اللَّهُ بِالسَّعَةِ، فَكُلُوا، وَادَّخِرُوا وَائْتَجِرُوا. أَلَا وَإِنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، [وَبِعَالٍ] وَذِكْرِ اللَّهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
2645 -
(وَعَنْ نُبَيْشَةَ) : بِضَمِّ النُّونِ، وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهُوَ نُبَيْشَةُ الْخَيْرِ الْهُذَلِيُّ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الصَّحَابَةِ. ( «قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " إِنَّا كُنَّا نَهَيْنَاكُمْ عَنْ لُحُومِهَا» ) : أَيِ: الْأَضَاحِيِّ أَوِ الْهَدَايَا، فَيَظْهَرُ وَجْهُ الْمَنَاسِكِ لِلْبَابِ (أَنْ تَأْكُلُوهَا) : بَدَلُ اشْتِمَالٍ (فَوْقَ ثَلَاثٍ) : أَيْ: لَيَالٍ، وَفِي نُسْخَةٍ: ثَلَاثَةٍ؛ أَيْ: أَيَّامٍ (لِكَيْ تَسَعَكُمْ) : أَيْ: لِتَكْفِيَكُمْ وَفُقَرَاءَكُمْ (جَاءَ اللَّهَ بِالسَّعَةِ) : بِفَتْحِ السِّينِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ لِتَغْيِيرِ الْحُكْمِ أَيْ: أَتَى اللَّهُ بِالْخِصْبِ، وَسَعَةِ الْخَيْرِ، وَأَتَى بِالرَّخَاءِ، وَكَثْرَةِ اللَّحْمِ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ (فَكُلُوا، وَادَّخِرُوا، وَائْتَجِرُوا) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: افْتِعَالٌ مِنَ الْأَجْرِ أَيِ: اطْلُبُوا بِالتَّصَدُّقِ، وَلَيْسَ مِنَ التِّجَارَةِ، وَإِلَّا لَكَانَ مُشَدَّدًا، وَأَيْضًا لَا يَصِحُّ بَيْعُ لُحُومِهَا، بَلْ يُؤَكِّدُ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ. (أَلَا) : لِلتَّنْبِيهِ (وَإِنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ) : أَيْ: أَيَّامَ مِنًى وَهِيَ أَرْبَعَةٌ (أَيَّامُ أَكْلٍ) : فَيَحْرُمُ الصِّيَامُ فِيهَا (وَشُرْبٍ) : بِضَمِّ الشِّينِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِفَتْحِهَا، وَقُرِئَ بِهِمَا فِي السَّبْعَةِ (فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) : وَجُوِّزَ كَسْرُهَا فِي رِوَايَةٍ (. " وَبِعَالٍ) : أَيْ: جِمَاعٍ، وَذَلِكَ كُلُّهُ لِحُرْمَةِ الصَّوْمِ فِيهَا، لِكَوْنِ الْخَلْقِ حِينَئِذٍ أَضْيَافُ الْحَقِّ. (وَذِكْرِ اللَّهِ " أَيْ: كَثْرَةِ ذِكْرِهِ - تَعَالَى - لِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200] وَلِقَوْلِهِ عز وجل: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] : وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا ذِكْرُ اللَّهِ عَلَى الْهَدَايَا حِينَ ذَبْحِهَا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمَأْخَذُ لِتَحْرِيمِ الصِّيَامِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِذِكْرِ اللَّهِ مَا يُذْكَرُ عِنْدَ الرَّمْيِ، أَوْ تَكْبِيرُ التَّشْرِيقِ، وَقَدْ سَبَقَ التَّحْقِيقُ، وَاللَّهُ وَلِيُّ التَّوْفِيقِ (رَوَاهُ) أَبُو دَاوُدَ.
[بَابُ الْحَلْقِ]
(8)
بَابُ الْحَلْقِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
2646 -
(عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَلَقَ رَأْسَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَأُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
(8)
بَابُ الْحَلْقِ أَيْ: وَالْقَصْرِ، اكْتُفِيَ بِأَفْضَلِهِمَا.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
2646 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَلَقَ رَأْسَهُ» ) : بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِهَا أَيْ: أَمَرَ بِحَلْقِهِ (فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَأُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ) : أَيْ: حَلَقُوا، وَ " مِنْ " بَيَانِيَّةٌ أَوْ تَبْعِيضِيَّةٌ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ:(وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ) : بِتَشْدِيدِ الصَّادِ، وَقِيلَ: بِتَخْفِيفِهَا أَيْ: بَعْضُ النَّاسِ، أَوْ بَعْضُ أَصْحَابِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ أَيْ: عُمْرَتَهُمْ قَبْلَ حَجَّتِهِمْ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهَا: «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَصَّرَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ» ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى:{مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ كُلٍّ مِنْهُمَا، إِلَّا أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ بِلَا خِلَافٍ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُ اسْتِيعَابِ الرَّأْسِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَغَيْرُهُ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ: إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَالسَّلَفِ رحمهم الله، وَمِمَّا يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:" «خُذُوا عَنَّي مَنَاسِكَكُمْ» " وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ الْكِرَامِ الِاكْتِفَاءُ بِبَعْضِ شَعْرِ الرَّأْسِ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى مَسْحِ الرَّأْسِ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ أَنَّ الْمَسْحَ فِيهَا فِيهِ الْبَاءُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّبْعِيضِ فِي الْجُمْلَةِ، وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثُ النَّاصِيَةِ الْمُشْعِرُ بِجَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِالْبَعْضِ، وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ عَلَى مَنْعِ مَسْحِ الْبَعْضِ، بِخِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي بَابِ الْحَلْقِ، فَإِنَّهُ قَالَ - تَعَالَى:{مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} [الفتح: 27] وَلَا تَحْلِقُوا رَأْسَكُمْ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ السَّلَامُ - وَأَصْحَابِهِ الْكِرَامِ قَطُّ أَنَّهُمُ اكْتَفَوْا بِحَلْقِ بَعْضِ الرَّأْسِ، أَوْ تَقْصِيرِهِ، بَلْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْقَزَعَةِ حَتَّى لِلصِّغَارِ، وَهِيَ حَلْقُ بَعْضِ الرَّأْسِ، وَتَخْلِيَةُ بَعْضِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْإِحْرَامِ إِلَّا بِالِاسْتِيعَابِ كَمَا قَالَ بِهِ مَالِكٌ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْهُمَامِ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ مِمَّا خَطَرَ لِي فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنَ التَّحْقِيقِ النَّاشِئِ عَنْ سُلُوكِ سَبِيلِ التَّدْقِيقِ، أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي قَوْلِهِ {مُحَلِّقِينَ} [الفتح: 27] : لِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: لَا تَحْلِقُوا بِدُونِهَا أَنَّ الْفِعْلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْعِبًا، وَأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ يَشْمَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ مُطْلَقًا.
2647 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ:«قَالَ لِي مُعَاوِيَةُ: إِنِّي قَصَّرْتُ مِنْ رَأْسِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْمَرْوَةَ بِمِشْقَصٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2647 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ لِي مُعَاوِيَةُ) : أَيِ: ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ ( «إِنِّي قَصَّرْتُ مِنْ رَأْسِ النَّبِيِّ» ) : أَيْ: شَعْرِ رَأْسِهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْمَرْوَةِ بِمِشْقَصٍ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَفَتْحِ الْقَافِ، أَيْ: نَصْلٍ طَوِيلٍ عَرِيضٍ، أَوْ غَيْرِ عَرِيضٍ لَهُ حِدَّةٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ الْمِقَصُّ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُقَصِّرْ فِي حَجَّتِهِ، بَلْ حَلَقَ، فَيَكُونُ التَّقْصِيرُ الَّذِي رَوَاهُ مُعَاوِيَةُ فِي عُمْرَتِهِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ، فَلَوْ كَانَ صلى الله عليه وسلم حَاجًّا لَقَالَ بِمِنًى.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: كَانَ ذَلِكَ فِي عُمْرَةِ الْجِعِرَّانَةِ، اعْتَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ، وَأَرَادَ الرُّجُوعَ مِنْهَا فِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ، أَوْ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ إِنْ صَحَّ مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَسْلَمْتُ عَامَ الْقَضِيَّةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ مُتَمَتِّعًا، وَأَنَّهُ أَحَلَّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ، «قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِشْقَصٍ» ، قَالُوا: وَمُعَاوِيَةُ أَسْلَمَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا فِي الْفَتْحِ، فَلَزِمَ كَوْنُهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَكَوْنُهُ عَنْ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ قَوْلِهِ:" عِنْدَ الْمَرْوَةِ " وَالتَّقْصِيرُ فِي الْحَجِّ إِنَّمَا يَكُونُ فِي مِنًى، فَدَفَعَهُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى عَدَمِ إِحْلَالِهِ جَاءَتْ مَجِيئًا مُتَظَافِرًا يَقْرُبُ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ مِنْ
الشُّهْرَةِ الَّتِي هِيَ قَرِيبَةٌ مِنَ التَّوَاتُرِ، كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقِ، وَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَتْحِ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَحَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ الثَّابِتِ فِي مُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِ، وَلَوِ انْفَرَدَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ، فَكَيْفَ وَالْحَالُ مَا أَعْلَمْنَاكَ، فَلَزِمَ فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ الشُّذُوذُ عَنِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ، فَإِمَّا هُوَ خَطَأٌ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى عُمْرَةِ الْجِعِرَّانَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ أَسْلَمَ إِذْ ذَاكَ، وَهِيَ عُمْرَةٌ خَفِيَتْ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ لَيْلًا عَلَى مَا فِي التِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام خَرَجَ إِلَى الْجِعِرَّانَةِ لَيْلًا مُعْتَمِرًا، فَدَخَلَ مَكَّةَ لَيْلًا فَقَضَى عُمْرَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ لَيْلَتِهِ؛ الْحَدِيثَ: قَالَ: فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ خَفِيَتْ عَلَى النَّاسِ، وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ الْحُكْمُ عَلَى الزِّيَادَةِ الَّتِي فِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ، بِالْخَطَأِ، وَلَوْ كَانَتْ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِمَّا لِلنِّسْيَانِ مِنْ مُعَاوِيَةَ، أَوْ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ عَنْهُ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَأَنْتَ عَلِمْتَ مَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِ الْمُحَقِّقِ، قَوْلُهُ:" عِنْدَ الْمَرْوَةِ " لَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، بَلْ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ.
2648 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ:" اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ. قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ ". قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَالْمُقَصِّرِينَ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2648 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: كَانَ هَذَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ الْمَذْكُورُ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْحَلْقِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا طَمَعًا فِي دُخُولِ مَكَّةَ. قُلْتُ: لَا مَانِعَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. ( «اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ» ) : حَيْثُ عَمِلُوا بِالْأَفْضَلِ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي قَوْلِهِ {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] أَكْمَلُ، وَقَضَاءَ التَّفَثِ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي قَوْلِهِ عز وجل:{ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] يَكُونُ بِهِ أَجْمَلَ، وَبِكَوْنِهِ فِي مِيزَانِ الْعَمَلِ أَثْقَلَ (قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟) : عَطْفٌ تَلْقِينِيٌّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ عز وجل:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] بَعْدَ قَوْلِهِ {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] : أَيْ: وَاجْعَلْ بَعْضَ ذُرِّيَّتِي أَئِمَّةً لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّلْقِينِ، كَمَا وَهِمَ ابْنُ حَجَرٍ، فَإِنَّهُ دُعَاءٌ مُسْتَقِلٌّ لَا مُتَفَرِّعٌ عَنْ كَلَامٍ سَابِقٍ، وَأَمَّا تَقْدِيرُهُ: وَجَاعِلٌ بَعْضَ ذُرِّيَّتِي، فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى كَافِ " جَاعِلُكَ " فَلَا وَجْهَ لَهُ، نَعَمْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّلْقِينِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ} [البقرة: 126] بَعْدَ قَوْلِهِ {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 126] فَإِنَّهُ يَصِحُّ التَّقْدِيرُ: وَارْزُقْ مَنْ كَفَرَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَأَرْزُقُ مَنْ كَفَرَ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ، أَوْ " مَنْ كَفَرَ " مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ " فَأُمَتِّعُهُ " (قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ) : وَتَغَافَلَ عَنِ الْعَطْفِ عَلَى وَجْهِ الْعَطْفِ دُونَ الْعُنْفِ (قَالُوا) : تَأْكِيدٌ لِلِاسْتِدْعَاءِ، وَهَلْ هُوَ قَوْلُ الْمُحَلِّقِينَ، أَوِ الْمُقَصِّرِينَ، أَوْ قَوْلُهُمَا جَمِيعًا، احْتِمَالَاتٌ ثَلَاثٌ: أَظْهَرُهَا بَعْضُ الْكُلِّ مِنَ النَّوْعَيْنِ (وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ) : أَيْ: فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ. (وَالْمُقَصِّرِينَ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَذَكَرَ ابْنُ الْهُمَامِ فِي رِوَايَةِ الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ (وَالْمُقَصِّرِينَ) ، ثُمَّ قَالَ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: فَلَمَّا كَانَتِ الرَّابِعَةُ، قَالَ:" وَالْمُقَصِّرِينَ " اهـ. فَمَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ إِمَّا تَقْصِيرٌ مِنْهُ، أَوْ رِوَايَةٌ أُخْرَى، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ، وَيَدُلُّ الْأَوَّلُ الْحَدِيثَ الثَّانِيَ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
2649 -
وَعَنْ يَحْيَى بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ جَدَّتِهِ رضي الله عنها، «أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ دَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا، وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً وَاحِدَةً» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2649 -
(وَعَنْ يَحْيَى بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ جَدَّتِهِ) : أَيْ: أُمِّ الْحُصَيْنِ بِنْتِ إِسْحَاقَ الْأَحْمَسِيَّةِ شَهِدَتْ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. ( «أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ دَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلَاثًا، وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً وَاحِدَةً» ) : وَهِيَ فِي الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
وَتُحْمَلُ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ: فَلَمَّا كَانَتِ الرَّابِعَةُ، عَلَى عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، أَوْ يُحْمَلُ كَلَامُ كُلِّ رَاوٍ عَلَى مَا سَمِعَ بِهِ، وَتَحَقَّقَ عِنْدَهُ وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَإِنَّمَا خَصَّ الْمُحَلِّقِينَ أَوَّلًا بِالدُّعَاءِ دُونَ الْمُقَصِّرِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَخَذُوا مِنْ أَطْرَافِ شُعُورِهِمْ، وَلَمْ يَحْلِقُوا؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْ أَحْرَمَ مَعَهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ، وَكَانَ عليه الصلاة والسلام قَدْ سَاقَ الْهَدْيَ، وَمَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ، فَإِنَّهُ لَا يَحْلِقُ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ، فَلَمَّا أَمَرَ مَنْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَحْلِقَ وَيَحِلَّ، وَوَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَأَحَبُّوا أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي الْمُقَامِ عَلَى إِحْرَامِهِمْ حَتَّى يُكْمِلُوا الْحَجَّ، وَكَانَتْ طَاعَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى لَهُمْ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنَ الْإِحْلَالِ كَانَ التَّقْصِيرُ فِي نُفُوسِهِمْ أَخَفَّ مِنَ الْحَلْقِ، فَمَالَ أَكْثَرُهُمْ إِلَيْهِ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ بَادَرَ إِلَى الطَّاعَةِ وَحَلَقَ، وَلَمْ يُرَاجِعْ، فَلِذَا قَدَّمَ الْمُحَلِّقِينَ، وَأَخَّرَ الْمُقَصِّرِينَ اهـ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام إِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالتَّحَلُّلِ لَا بِخُصُوصِ الْحَلْقِ، وَإِنَّمَا اخْتَارُوا الْقَصْرَ لِقُرْبِ الزَّمَانِ مِنَ الْوُقُوفِ إِبْقَاءً لِلشَّعْرِ لِلْحَلْقِ، أَوِ الْقَصْرِ بَعْدَ الْحَجِّ، وَجَمْعًا بَيْنَ الْعَمَلَيْنِ، وَهُمَا الرُّخْصَةُ، وَالْعَزِيمَةُ، وَالرُّخْصَةُ أَوْلَى بِعْدَ الْعُمْرَةِ، وَأَمَّا الْمُقَصِّرِينَ فِي الْحَجِّ، فَعَمِلُوا بِالرُّخْصَةِ إِبْقَاءً فِي شَعْرِهِمْ لِلزِّينَةِ، بِخِلَافِ الْمُحَلِّقِينَ، فَإِنَّهُمُ اخْتَارُوا الْعَزِيمَةَ فِي الْقَضِيَّةِ، فَاسْتَحَقُّوا الْأَفْضَلِيَّةَ، وَلِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى صِدْقِ النِّيَّةِ، وَحُسْنِ الطَّوِيَّةِ، وَالتَّذَلُّلِ فِي مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ.
وَأَمَّا قَوْلُ النَّوَوِيِّ: وَوَجْهُ أَفْضَلِيَّةِ الْحَلْقِ أَنَّ الْمُقَصِّرَ أَبْقَى عَلَى نَفْسِهِ الزِّينَةَ لِشَعْرِهِ، وَالْحَاجَّ مَأْمُورٌ بِتَرْكِ الزِّينَةِ، فَغَرِيبٌ مِنْهُ، وَكَذَا اسْتِحْسَانُ ابْنِ حَجَرٍ مِنْهُ عَجِيبٌ، فَإِنَّ الْحَاجَّ لَيْسَ مَأْمُورًا بِتَرْكِ الزِّينَةِ بَعْدَ فَرَاغِ الْحَجَّةِ، أَوِ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ لَا يُنَافِي مَا حَكَاهُ عِيَاضٌ، عَنْ بَعْضِهِمْ، أَنَّهُ كَانَ بِالْحُدَيْبِيَةِ حِينَ أَمَرَهُمْ بِالْحَلْقِ، فَلَمْ يَفْعَلُوا طَمَعًا بِدُخُولِ مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُمْ:" «أَمَرَهُمْ بِالْحَلْقِ» " فَغَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالتَّحَلُّلِ، فَاخْتَارَ بَعْضُهُمُ الْحَلْقَ لِأَنَّهُ الْأَفْضَلُ، وَاخْتَارَ آخَرُونَ الْقَصْرَ حَتَّى يُحَلِّقُوا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ جَمْعًا بَيْنَ الْقَضِيَّتَيْنِ، وَحِيَازَةً لِلْفَضِيلَتَيْنِ.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «حَلَقَ رِجَالُ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَصَّرَ آخَرُونَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمُحَلِّقِينَ بِمَا ذَكَرَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ مَا بَالُ الْمُحَلِّقِينَ ظَاهَرْتَ لَهُمْ بِالتَّرَحُّمِ؟ قَالَ: " لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا» ، يَعْنِي لَمْ يَطْمَعُوا فِي دُخُولِ مَكَّةَ، يَوْمَئِذٍ مُسْتَدِلِّينَ " بِقَوْلِهِ - تَعَالَى:{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] وَقَدْ أَجَابَ الصِّدِّيقُ مِنْ أَرْبَابِ التَّحْقِيقِ عَنْهُ، بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ تَقْيِيدٌ بِهَذِهِ السُّنَّةِ، ثُمَّ نَصَّ عليه الصلاة والسلام بِهَذَا الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، هَذَا، وَالْمَذْهَبُ الْمَشْهُورُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْحَلْقَ، أَوِ التَّقْصِيرَ نُسُكٌ، إِمَّا وَاجِبٌ، وَإِمَّا رُكْنٌ، لَا يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ مِنَ الْحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ إِلَّا بِهِ، وَلِلشَّافِعِيِّ رحمه الله تَعَالَى - قَوْلٌ شَاذٌّ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِاسْتِبَاحَةِ مَحْظُورٍ، كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، وَالصَّوَابُ هُوَ الْأَوَّلُ.
2650 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى مِنًى، فَأَتَى الْجَمْرَةَ، فَرَمَاهَا، ثُمَّ أَتَى مَنْزِلَهُ بِمِنًى، وَنَحَرَ نُسُكَهُ، ثُمَّ دَعَا بِالْحَلَّاقِ، وَنَاوَلَ الْحَالِقَ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ، ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ،. فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ نَاوَلَ الشِّقَّ الْأَيْسَرَ، فَقَالَ: " احْلِقْ " فَحَلَقَهُ، فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ، فَقَالَ: " اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2650 -
(عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى مِنًى، فَأَتَى الْجَمْرَةَ) : أَيْ: جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ (فَرَمَاهَا، ثُمَّ أَتَى بِمَنْزِلِهِ بِمِنًى) : وَهُوَ الْآنَ يُسَمَّى مَسْجِدَ الْخَيْفِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ مَا بَيْنَ مَسْجِدِ الْخَيْفِ، وَمَحَلِّ نَحْرِهِ الْمَشْهُورِ عَلَى يَمِينِ الذَّاهِبِ إِلَى عَرَفَةَ (وَنَحَرَ نُسُكَهُ) : بِسُكُونِ السِّينِ، وَيُضَمُّ جَمْعُ نَسِيكَةٍ، وَهِيَ الذَّبِيحَةُ، وَالْمُرَادُ بُدْنَهُ عليه الصلاة والسلام، وَقَدْ نَحَرَ بِيَدِهِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ، وَأَمَرَ عَلِيًّا أَنْ يَنْحَرَ بَقِيَّةَ الْمِائَةِ (ثُمَّ دَعَا بِالْحَلَّاقِ) : وَهُوَ الْمُزَيِّنُ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هُوَ مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيُّ، وَقِيلَ: غَيْرُهُ (وَنَاوَلَ الْحَالِقَ شِقَّهُ) : أَيْ: جَانِبَهُ (الْأَيْمَنَ) : أَيْ: مِنَ الرَّأْسِ (فَحَلَقَهُ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ الِابْتِدَاءُ بِالْأَيْمَنِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ الْأَيْسَرُ اهـ. أَيْ: لِيَكُونَ أَيْمَنَ الْحَالِقِ، وَنُسِبَ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ إِلَّا أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا، وَسَبَبُ ذَلِكَ قَاسَ أَوَّلًا يَمِينَ الْفَاعِلِ، كَمَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنَ التَّيَامُنِ، وَلِمَا بَلَغَهُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام اعْتَبَرَ يَمِينَ الْمَفْعُولِ، رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْمَعْقُولِ إِلَى صَرِيحِ الْمَنْقُولِ، إِذَا لَحِقَ بِالِاتِّبَاعِ أَحَقُّ، وَلَوْ وَقَفَ الْحَالِقُ خَلْفَ الْمَحْلُوقِ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَيْمَنَيْنِ.
(ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ) : هُوَ عَمُّ أَنَسٍ وَزَوْجُ أُمِّهِ أُمِّ سُلَيْمٍ، وَكَانَ لَهُ عليه الصلاة والسلام بِأَبِي طَلْحَةَ، وَأَهْلِهِ مَزِيدُ خُصُوصِيَّةٍ وَمَحَبَّةٍ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَثِيرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَبْرَارِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَهُوَ الَّذِي حَفَرَ قَبْرَهُ الشَّرِيفَ وَلَحَدَ لَهُ وَبَنَى فِيهِ اللَّبِنَ، وَخَصَّهُ بِدَفْنِهِ لِبِنْتِهِ أُمِّ كُلْثُومٍ وَزَوْجُهَا عُثْمَانُ حَاضِرٌ،
(فَأَعْطَاهُ) : أَيْ: أَبَا طَلْحَةَ (إِيَّاهُ) : أَيِ: الشَّعْرَ الْمَحْلُوقَ (ثُمَّ نَاوَلَ) : أَيِ: الْحَالِقَ (شِقَّهُ الْأَيْسَرَ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: الشِّقَّ الْأَيْسَرَ (فَقَالَ) : بِلِسَانِ الْقَالِ، أَوِ الْحَالِ (احْلِقْ " فَحَلَقَهُ، فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ، فَقَالَ: " اقْسِمْهُ ": أَيِ: الْمَجْمُوعَ (بَيْنَ النَّاسِ) دَلَّ عَلَى طَهَارَةِ شَعْرِ الْآدَمِيِّ خِلَافًا لِمَنْ شَذَّ، وَأَنْ يُتَبَرَّكَ بِأَشْعَارِهِ عليه الصلاة والسلام وَبَاقِي أَثَارِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: أَخْرَجَ الْجَمَاعَةُ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى مِنًى، فَأَتَى الْجَمْرَةَ، فَرَمَاهَا، ثُمَّ أَتَى مَنْزِلَهُ بِمِنًى، فَنَحَرَ، ثُمَّ قَالَ لِلْحَلَّاقِ: خُذْ، وَأَشَارَ إِلَى جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ جَعَلَ يُعْطِيهِ النَّاسَ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْحَلْقِ: الْبُدَاءَةُ بِيَمِينِ الْمَحْلُوقِ رَأْسُهُ، وَهُوَ خِلَافُ مَا ذُكِرَ فِي الْمَذْهَبِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ اهـ.
وَقَالَ السُّرُوجِيُّ: وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَبْدَأُ بِيَمِينِ الْمَحْلُوقِ، وَذَكَرَ كَذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَلَمْ يَعْزُ إِلَى أَحَدٍ، وَالسُّنَّةُ أَوْلَى، وَقَدْ أَخَذَ الْإِمَامُ بِقَوْلِ الْحَلَّاقِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَلَوْ كَانَ مَذْهَبُهُ خِلَافَهُ لَمَا وَافَقَهُ، وَفِي مَنْسَكِ ابْنِ الْعَجَمِيِّ وَالْبَحْرِ: هُوَ الْمُخْتَارُ، وَقَالَ فِي " النُّخْبَةِ ": هُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدْ رُوِيَ رُجُوعُ الْإِمَامِ عَمَّا نَقَلَ عَنْهُ الْأَصْحَابُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: أَخْطَأْتُ فِي الْحَجِّ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا، وَذَكَرَ مِنْهُ الْبُدَاءَةَ بِيَمِينِ الْحَالِقِ، فَصَحَّ تَصْحِيحُ قَوْلِهِ الْأَخِيرِ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يُقَلِّمَ بَعْدَ الْحَلْقِ، أَوِ التَّقْصِيرِ أَظْفَارَهُ لِلِاتِّبَاعِ، كَمَا صَحَّ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ وَشَارِبِهِ. أَقُولُ: وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] .
2651 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ:«كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَيَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ (بِطِيبٍ) فِيهِ مِسْكٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2651 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ» ) : أَيْ: بِالْحَجِّ، أَوِ الْعُمْرَةِ، أَوْ بِهِمَا (وَيَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ) " أَيْ: بِالتَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ بِالْحَلْقِ (بِطِيبٍ) مُتَعَلِّقٍ بِـ " أُطَيِّبُ " (فِيهِ) : أَيْ: فِي أَجْزَائِهِ (مِسْكٌ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) : وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ جَعَلَ الطِّيبَ تَابِعًا لِلْجِمَاعِ.
2652 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ رَجَعَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2652 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ) : أَيْ: نَزَلَ مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّةَ بَعْدَ رَمْيِهِ وَذَبْحِهِ، فَطَافَ طَوَافَ الْفَرْضِ وَقْتَ الضُّحَى (ثُمَّ رَجَعَ) : أَيْ: فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ (فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى. رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَالَّذِي فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ الثَّابِتِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ السُّنَنِ خِلَافُ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ، فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ وَهْمٌ، وَإِذَا تَعَارَضَا؛ وَلَا بُدَّ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي أَحَدِ الْمَكَانَيْنِ، فَفِي مَكَّةَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِثُبُوتِ مُضَاعَفَةِ الْفَرَائِضِ فِيهِ أَوْلَى اهـ.
وَالْحَمْلُ عَلَى أَنَّهُ أَعَادَ الظُّهْرَ - بِمَعْنَى مُقْتَدِيًا عَلَى مَذْهَبِنَا، أَوْ إِمَامًا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالظُّهْرِ حِينَ انْتَظَرُوهُ - أَوْلَى مِنَ الْحَمْلِ عَلَى الْوَهْمِ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَزُورُ الْبَيْتَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ، فَلْيُحْمَلْ عَلَى يَوْمٍ آخَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَوْجِيهَاتٌ أُخَرُ، فَتَدَبَّرْ، وَأَمَّا خَبَرُ التِّرْمِذِيِّ الَّذِي حَسَّنَهُ، «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخَّرَ طَوَافَهُ إِلَى اللَّيْلِ» ، فَمُئَوَّلٌ بِأَنَّهُ أَخَّرَ طَوَافَ نِسَائِهِ إِلَى اللَّيْلِ، أَوْ جَوَّزَ تَأْخِيرَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ إِلَى اللَّيْلِ، أَوِ الْمَعْنَى: أَخَّرَ طَوَافَهُ الْكَائِنَ مَعَ نِسَائِهِ إِلَى اللَّيْلِ لِرِوَايَةِ: ( «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام زَارَ مَعَ نِسَائِهِ لَيْلًا» )، وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ: رَمْيُهُ وَحَلْقُهُ قَبَلَ الظُّهْرِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ كَوْنُهُ بِمَكَّةَ أَوْ بِمِنًى، إِذِ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْحَلْقِ وَالْإِفَاضَةِ مُعْتَبَرٌ، فَظَهَرَتِ الْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الْبَابِ، وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، فَتَدَبَّرْ رحمهم الله تَعَالَى -.