الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2591 -
وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِـ " سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، مُحِيَتْ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، وَكُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ، وَمَنْ طَافَ فَتَكَلَّمَ، وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالِ - خَاضَ فِي الرَّحْمَةِ بِرِجْلَيْهِ كَخَائِضِ الْمَاءِ بِرِجْلَيْهِ» ". (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .
ــ
2591 -
(وَعَنْهُ) أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا) أَيْ: سَبْعَ مَرَّاتٍ مِنَ الْأَشْوَاطِ (وَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِسُبْحَانَ اللَّهِ) أَيِ: الْمُنَزَّهِ عَنِ الْمَكَانِ، وَهُوَ وَاجِبُ النَّصْبِ فَمَحَلُّهُ مَجْرُورٌ. (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ) أَيْ: فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَهُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى الْحِكَايَةِ (وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) أَيْ: فِي نَظَرِ أَهْلِ الْعِرْفَانِ فِي كُلِّ آنٍ (اللَّهُ أَكْبَرُ) أَيْ: مِنْ أَنْ يُعْرَفَ لَهُ شَأْنٌ (وَلَا حَوْلَ) : عَنْ مَعْصِيَتِهِ (وَلَا قُوَّةَ) عَلَى طَاعَتِهِ (إِلَّا بِاللَّهِ)، وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ (مُحِيَتْ) بِتَاءِ التَّأْنِيثِ - فِي جَمِيعِ النُّسَخِ - (عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ) أَيْ: بِكُلِّ خُطْوَةٍ، أَوْ لِكُلِّ كَلِمَةٍ، أَوْ بِالْمَجْمُوعِ (وَكُتِبَ) - بِالتَّذْكِيرِ أَيْضًا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ: أَيْ: أُثْبِتَ (لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ) : عَلَى وَجْهِ التَّبْدِيلِ، أَوْ عَلَى طَرِيقِ التَّوْفِيقِ. (وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ) - بِالتَّذْكِيرِ أَيْضًا: أَيْ: فِي الْجَنَّاتِ الْعَالِيَاتِ. (وَمَنْ طَافَ فَتَكَلَّمَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ: بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ (وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالِ) أَيْ: فِي حَالِ الطَّوَافِ (خَاضَ فِي الرَّحْمَةِ) : أَيْ: دَخَلَ فِي بَحْرِ الرَّحْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ (بِرِجْلِيْهِ كَخَائِضِ الْمَاءِ بِرِجْلَيْهِ) وَإِنَّمَا كَرَّرَ الْكَلَامَ لِيُنَاطَ بِهِ غَيْرُ مَا يُنَطْ بِهِ أَوَّلًا، الْمَعْقُولُ فِي صُورَةِ الْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ: مَنْ تَكَلَّمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ الذِّكْرِ مِنَ الْكَلَامِ الْمُبَاحِ، وَفِيهِ الْإِشَارَةُ بِأَنَّ الثَّوَابَ الْحَاصِلَ دُونَ الْأَوَّلِ بِوَاسِطَةِ تَكَلُّمِهِ فِي طَوَافِهِ بِغَيْرِ الذِّكْرِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مُنَافٍ لِكَمَالِ الْأَدَبِ، وَإِيقَاعِ الْعِبَادَةِ بِغَيْرِ وَجْهِهَا اهـ.
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ; لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ نَهْيُهُ عليه الصلاة والسلام عَنِ الْكَلَامِ الْمُبَاحِ بِقَوْلِهِ: " «فَلَا يَتَكَلَّمَنَّ إِلَّا بِخَيْرٍ، فَيَكُونَ مَكْرُوهًا» ". قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله: الْكَلَامُ الْمُبَاحُ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهٌ، يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ اهـ.
فَكَيْفَ فِي الطَّوَافِ، وَهُوَ حُكْمًا فِي الصَّلَاةِ، وَالْكَرَاهَةُ تُنَافِي أَصْلَ الثَّوَابِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَأَيْضًا يَلْزَمُ بِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّهْيِ عَنْ شَيْءٍ، وَتَقَرُّرِهِ، بَلْ مَعَ زِيَادَةِ تَفْرِيعِ الثَّوَابِ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّ الثَّوَابَ حَاصِلٌ لِأَصْلِ الطَّوَافِ، فَيُئَوَّلُ الْكَلَامُ إِلَى أَنَّ مَنْ طَافَ فَتَكَلَّمَ بِالْمُبَاحِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ الْكَلَامُ إِلَى هَذَا الْقَيْدِ ; بَلِ الْإِطْلَاقُ، أَوْ نَفْيُ الْكَلَامِ مُطْلَقًا أَوْلَى.
وَأَقُولُ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ: إِنَّ الظَّاهِرَ فِي مَعْنَاهُ - مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فِي مَبْنَاهُ - أَنْ يُقَالَ: وَمَنْ طَافَ فَتَكَلَّمَ أَيْ: بِغَيْرِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ مِنْ أَخْبَارِ الْعُلَمَاءِ الْأَبْرَارِ، وَأَسْرَارِ الْمَشَايِخِ الْأَخْيَارِ - فَيُفِيدُ التَّقْيِيدُ حِينَئِذٍ زِيَادَةَ مَثُوبَاتِ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، فَإِنَّهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّ آدَمَ عليه الصلاة والسلام طَافَ بِالْبَيْتِ فَلَقِيَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، فَصَافَحَتْهُ وَسَلَّمَتْ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: بَرَّ حَجُّكَ يَا آدَمُ، طُفْ بِهَذَا الْبَيْتِ، فَإِنَّا قَدْ طُفْنَا قَبْلَكَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، قَالَ لَهُمْ آدَمُ عليه الصلاة والسلام: فَمَاذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي طَوَافِكُمْ؟ قَالُوا: كُنَّا نَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ آدَمُ عليه الصلاة والسلام وَأَنَا أَزِيدُ فِيهَا: وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْهُ نَحْوُهُ. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .
[بَابُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ]
[4]
بَابُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
2592 -
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيِّ رضي الله عنه «أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، وَهُمَا غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: كَانَ يُهِلُّ مِنَّا الْمُهِلُّ فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ الْمُكَبِّرُ مِنَّا فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
[4]
بَابٌ: الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ أَيِ: الْحُضُورُ (بِعَرَفَةَ) أَيْ: وَلَوْ سَاعَةً فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هِيَ اسْمٌ لِبُقْعَةٍ مَعْرُوفَةٍ اهـ. فَالْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] بِاعْتِبَارِ أَجْزَائِهَا وَأَمَاكِنِهَا. قَالَ الرَّاغِبُ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَعَرُّفِ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ بِالْعِبَادَاتِ هُنَاكَ، وَقِيلَ: لِلتَّعَارُفِ فِيهِ بَيْنَ آدَمَ وَحَوَّاءَ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: وَقِيلَ: لِأَنَّ جِبْرِيلَ عليه الصلاة والسلام أَرَى إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم الْمَنَاسِكَ أَيْ: مَوَاضِعَ النُّسُكِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَكَانَ يَقُولُ لَهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ: أَعَرَفْتَ هَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، وَقِيلَ: هُوَ يَوْمُ اصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفَ أَهْلُ الْحَجِّ، وَقِيلَ: يُعَرِّفُهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - يَوْمَئِذٍ بِالْمَغْفِرَةِ، وَالْكَرَامَةِ، أَيْ: يُطَيِّبُهُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى:{عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 6] أَيْ: طَيَّبَهَا، وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّهُ قَالَ فِي غَرِيبِ " الْمُوَطَّأِ " لَهُ: سُمِّيَتْ عَرَفَةَ: لِخُضُوعِ النَّاسِ وَاعْتِرَافِهِمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَقِيلَ: لِصَبْرِهِمْ عَلَى الْقِيَامِ، وَالدُّعَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَارِفَ يَصْبِرُ اهـ. إِذْ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَ شَيْءٍ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى مَشَقَّتِهِ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
2592 -
(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيِّ) نِسْبَةً إِلَى ثَقِيفٍ - بِالْمُثَلَّثَةِ، وَالْقَافِ - قَبِيلَةٌ بِالطَّائِفِ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ (أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَهُمَا) وَالْوَاوُ لِلْحَالِ (غَادِيَانِ) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ، اسْمُ فَاعِلٍ مِنَ الْغُدُوِّ، أَيْ: ذَاهِبَانِ أَوَّلَ النَّهَارِ (مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ) أَيْ: لِلْوُقُوفِ (كَيْفَ كُنْتُمْ؟) أَيْ: مَعَاشِرَ الصَّحَابَةِ (تَصْنَعُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ) أَيْ: يَوْمِ عَرَفَةَ (مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) ؟ إِذِ الْعِبْرَةُ بِتِلْكَ الْأَيَّامِ الْمَقْرُونَةِ بِالْمَعِيَّةِ (فَقَالَ) أَيْ: أَنَسٌ (كَانَ يُهِلُّ) أَيْ: يُلَبِّي (مِنَّا الْمُهِلُّ) : أَيِ: الْمُلَبِّي، أَوِ الْمُحْرِمُ (فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ: لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ ; فَيُفِيدُ التَّقْرِيرَ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام وَالْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ مِنَ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ (وَيُكَبِّرُ الْمُكَبِّرُ مِنَّا فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَهَذَا رُخْصَةٌ، وَلَا حَرَجَ فِي التَّكْبِيرِ، بَلْ يَجُوزُ كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ، وَلَكِنْ لَيْسَ التَّكْبِيرُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ سُنَّةَ الْحُجَّاجِ، بَلِ السُّنَّةُ لَهُمُ التَّلْبِيَةُ إِلَى رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَيُسْتَحَبُّ لِغَيْرِ الْحَاجِّ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ التَّكْبِيرُ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ مِنْ صُبْحِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ اهـ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله: وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّ تَكْبِيرَاتِ التَّشْرِيقِ وَاجِبَةٌ فِي الْمَذْهَبِ، أَوْ سُنَّةٌ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَدَلِيلُ السُّنَّةِ أَنْهَضُ ; وَهُوَ مُوَاظَبَتُهُ عليه الصلاة والسلام وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى:{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] فَالظَّاهِرُ مِنْهَا ذِكْرُ اسْمِهِ عَلَى الذَّبِيحَةِ نَسْخًا لِذِكْرِهِمْ عَلَيْهَا غَيْرَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ; بِدَلِيلِ {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28] اهـ.
فَالْأَوْلَى الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] قَالَ: وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ (فَأَخَذَا) أَيْ: صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله بِقَوْلِ عَلِيٍّ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ بَعْدَ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَأَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا عَنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: " كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه يُكَبِّرُ مِنْ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ
أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ " قَالَ: وَأَمَّا جَعْلُ التَّكْبِيرَاتِ ثَلَاثًا فِي الْأُولَى، كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فَلَا يَثْبُتُ لَهُ، وَيَبْدَأُ الْمُحْرِمُ بِالتَّكْبِيرِ، ثُمَّ بِالتَّلْبِيَةِ اهـ. وَيَجِبُ التَّكْبِيرُ عِنْدَ أَبَى حَنِيفَةَ رحمه الله بِشَرْطِ الْإِقَامَةِ، وَالْحُرِّيَّةِ، وَالذُّكُورَةِ، وَكَوْنِ الصَّلَاةِ فَرِيضَةً بِجَمَاعَةٍ مُسْتَحَبَّةٍ فِي مِصْرَ، وَعِنْدَهَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "«غَدَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ، مِنَّا الْمُلَبِّي، وَمِنَّا الْمُكَبِّرُ» ".
2593 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «نَحَرْتُ هَاهُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ؛ فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ، وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» ) . (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
ــ
2593 -
(عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " نَحَرْتُ هَاهُنَا) : قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله: إِشَارَةً إِلَى مِنًى اهـ. وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ مَوْضِعٌ مَخْصُوصٌ مِنْ مَوَاضِعِ مِنًى لِقَوْلِهِ:(وَمِنًى) : مُبْتَدَأٌ (كُلُّهَا) : أَيْ: كُلُّ مَوَاضِعِهَا تَأْكِيدٌ (مَنْحَرٌ) : أَيْ: مَحَلُّ نَحْرٍ، وَهُوَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ النَّحْرَ لَا يَخْتَصُّ بِمَنْحَرِهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَسْجِدِ الْخَيْفِ كَمَا سَيَأْتِي قَالَ ابْنُ حَجَرٍ:(نَحَرْتُ هَاهُنَا) أَيْ: فِي مَحَلِّ مَنْحَرِهِ الْمَشْهُورِ، وَقَدْ بُنِيَ عَلَيْهِ بِنَاءَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى: مَسْجِدَ النَّحْرِ، أَحَدُهُمَا عَلَى الطَّرِيقِ، وَالْآخَرُ مُنْحَرِفٌ عَنْهَا، قِيلَ: وَهُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرُوهُ بِمَحَلِّ نَحْرِهِ صلى الله عليه وسلم (فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ) : أَيْ: مَنَازِلِكُمْ (وَوَقَفْتُ هَاهُنَا) أَيْ: قُرْبَ الصَّخَرَاتِ (وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ) : أَيْ: إِلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ (وَوَقَفْتُ هَاهُنَا) أَيْ: عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَهُوَ الْبِنَاءُ الْمَوْجُودُ بِهَا الْآنَ (وَجَمْعٌ) أَيِ: الْمُزْدَلِفَةُ (كُلُّهَا مَوْقِفٌ) أَيْ: إِلَّا وَادِيَ مُحَسِّرٍ، قِيلَ:(جَمْعٌ) عَلَمٌ لِمُزْدَلِفَةَ ; لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهِ، وَقِيلَ ; لِاقْتِرَابِهَا مِنْ مِنًى، مِنَ الِازْدِلَافِ: الِاقْتِرَابِ، وَالدَّالُ مُبْدَلَةٌ مِنَ التَّاءِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى:{وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير: 13] وَقَوْلِهِ {لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] أَيْ: قُرْبَى.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْإِشَارَاتِ صَادِرَةً فِي بُقْعَةٍ أُخْرَى، وَأَنْ يَكُونَ الْكُلُّ فِي بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ بِنَاءً عَلَى اسْتِحْضَارِ الْبُقْعَةِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ فِيهَا حَالَ الْإِشَارَةِ فِي خَيَالِ الْمُخَاطَبِ، فَلِذَا قَالَ (هَاهُنَا) فِي الْكُلِّ وَلَمْ يَقُلْ (هُنَاكَ) أَوْ (ثَمَّةَ) اهـ.
وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَظْهَرُ، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي ; فَالْبُقْعَةُ الْوَاحِدَةُ إِنَّمَا هِيَ مِنًى لِقَوْلِهِ:" نَحَرْتُ " وَالْأَوَامِرُ فِي الْحَدِيثِ لِلرُّخْصَةِ، وَإِلَّا فَالْأَفْضَلُ مُتَابَعَةُ السُّنَّةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
2594 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2594 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْهَا قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ) بِالنَّصْبِ وَقِيلَ بِالرَّفْعِ (مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ) أَيْ: يُخَلِّصَ وَيُنْجِيَ (اللَّهُ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ) أَيْ: بِعَرَفَاتٍ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: (مَا) بِمَعْنَى (لَيْسَ) وَاسْمُهُ يَوْمٌ، وَ (مِنْ) زَائِدَةٌ أَيْضًا اهـ.
فَتَقْدِيرُهُ: مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ إِعْتَاقًا فِيهِ اللَّهُ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ. (وَإِنَّهُ) أَيْ: سُبْحَانَهُ (لَيَدْنُو) أَيْ: يَقْرُبُ مِنْهُمْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ (ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ) أَيْ: بِالْحُجَّاجِ (الْمَلَائِكَةَ) : قَالَ بَعْضُهُمْ: أَيْ يُظْهِرُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَضْلَ الْحُجَّاجِ، وَشَرَفَهُمْ، أَوْ يُحِلُّهُمْ مِنْ قُرْبِهِ، وَكَرَامَتِهِ مَحَلَّ الشَّيْءِ الْمُبَاهَى بِهِ، وَالْمُبَاهَاةُ الْمُفَاخَرَةُ (فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ) أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَرَادَ هَؤُلَاءِ حَيْثُ تَرَكُوا أَهْلَهُمْ، وَأَوْطَانَهُمْ، وَصَرَفُوا أَمْوَالَهُمْ، وَأَتْعَبُوا أَبْدَانَهُمْ، أَيْ: مَا أَرَادُوا إِلَّا الْمَغْفِرَةَ، وَالرِّضَا، وَالْقُرْبَ، وَاللِّقَاءَ، وَمَنْ جَاءَ هَذَا الْبَابَ لَا يَخْشَى الرَّدَّ، أَوِ التَّقْدِيرُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ فَهُوَ حَاصِلٌ لَهُمْ، وَدَرَجَاتُهُمْ عَلَى قَدْرِ مُرَادَاتِهِمْ، وَنِيَّاتِهِمْ، أَوْ أَيُّ شَيْءٍ أَرَادَ هَؤُلَاءِ أَيْ: شَيْئًا سَهْلًا يَسِيرًا عِنْدَنَا إِذَا مَغْفِرَةُ كَفٍّ مِنَ التُّرَابِ لَا يَتَعَاظَمُ عِنْدَ رَبِّ الْأَرْبَابِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
الْفَصْلُ الثَّانِي
2595 -
عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ، عَنْ خَالٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ يَزِيدُ بْنُ شَيْبَانَ، قَالَ:«كُنَّا فِي مَوْقِفٍ لَنَا بِعَرَفَةَ يُبَاعِدُهُ عَمْرٌو مِنْ مَوْقِفِ الْإِمَامِ جِدًّا، فَأَتَانَا ابْنُ مِرْبَعٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ: إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْكُمْ ; يَقُولُ لَكُمْ: " قِفُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ، فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
2595 -
(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ) أَيِ: الْجُمَحِيِّ الْقُرَشِيِّ مِنَ التَّابِعِينَ (عَنْ خَالٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ يَزِيدُ بْنُ شَيْبَانَ) أَيِ: الْأَزْدِيُّ، لَهُ صُحْبَةٌ، وَرِوَايَةٌ، وَيُذْكَرُ فِي " الْوُحْدَانِ ". (قَالَ) أَيْ: يَزِيدُ (كُنَّا فِي مَوْقِفٍ لَنَا) أَيْ: أَسْلَافُنَا كَانُوا يَقِفُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ (بِعَرَفَةَ يُبَاعِدُهُ عَمْرٌو) أَيْ: يَصِفُهُ بِالْبُعْدِ (مِنْ مَوْقِفِ الْإِمَامِ جِدًّا) أَيْ: يَجِدُّ جِدًّا فِي التَّبْعِيدِ، أَيْ: بُعْدًا كَثِيرًا، فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ:" يُبَاعِدُهُ " مُتَأَخِّرٌ عَنْ مُتَعَلِّقِهِ، فَإِمَّا عَلَى كَوْنِهِ مَصْدَرًا أَيْ: يُبْعِدُهُ تَبْعِيدًا جِدًّا، أَيْ: كَثِيرًا، أَوْ عَلَى الْحَالِيَّةِ.
وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي قَوْلِهِ أَيْ: بِقَوْلِهِ: هُوَ بَعِيدٌ مِنْهُ جِدًّا، أَوْ بِذِكْرِهِ حُدُودَ مِوْقَفِهِمْ - بِكَسْرِ الْمِيمِ - الْمَعْلُومِ مِنْهُ أَنَّهُ بِعِيدٌ اهـ. وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ لَا يَخْفَى، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ:" مِوْقَفِهِمْ " بِكَسْرِ الْمِيمِ لَا يَصِحُّ رِوَايَةً وَلَا دِرَايَةً.
قِيلَ: عَمْرٌو هُوَ الرَّاوِي، يَعْنِي: قَالَ عَمْرٌو: كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ، وَبَيْنَ مَوْقِفِ إِمَامِ الْحَاجِّ مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ. (فَأَتَانَا ابْنُ مِرْبَعٍ) بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ، وَقِيلَ: اسْمُهُ زَيْدٌ، وَقِيلَ: يَزِيدُ، وَقِيلَ: عَبْدُ اللَّهِ، وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ. (الْأَنْصَارِيُّ) صِفَةُ الْمُضَافِ (فَقَالَ: إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْكُمْ) وَفِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ: سَقَطَ (رَسُولِ) الثَّانِي، فَتَحَذَّرْ (يَقُولُ) : أَيْ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَكُمْ: " قِفُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ " أَيِ: اثْبُتُوا فِي مَوَاقِفِكُمْ، وَاجْعَلُوا وُقُوفَكُمْ فِي أَمَاكِنِكُمْ، جَمْعُ الْمَشْعَرِ، وَهُوَ الْعَلَمُ أَيْ: مَوْضِعُ النُّسُكِ، وَالْعِبَادَةِ (وَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثِ) : أَيْ: مُتَابَعَةٍ (مِنْ إِرْثِ أَبِيكُمْ) : (مِنْ) لِلْبَيَانِ أَوْ لِلتَّبْعِيضِ (إِبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام) بَدَلٌ أَوْ بَيَانٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى:{هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78]عليه الصلاة والسلام. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْمَقْصُودُ دَفْعُ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمَوْقِفَ مَا اخْتَارَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَتَطْيِبُ خَاطِرِهِمْ بِأَنَّهُمْ عَلَى إِرْثِ أَبِيهِمْ، وَسُنَّتِهِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) .
2596 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «كُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ، وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ، وَكُلُّ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ، وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ.
ــ
2596 -
(وَعَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " كُلُّ عَرَفَةَ) أَيْ: أَجْزَائِهَا، وَمَوَاضِعِهَا، وَوُجُوهِ جِبَالِهَا (مَوْقِفٌ) أَيْ: مَوْضِعُ وُقُوفٍ لِلْحَجِّ (وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ) أَيْ: مَوْضِعُ نَحْرٍ، وَذَبْحٍ لِلْهَدَايَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْحَجِّ (وَكُلُّ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ) أَيْ: لِوُقُوفِ صُبْحِ الْعِيدِ (وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ) بِكَسْرِ الْفَاءِ جَمْعُ فَجٍّ: وَهُوَ الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ (طَرِيقٌ وَمَنْحَرٌ) أَيْ: يَجُوزُ دُخُولُ مَكَّةَ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهَا، وَإِنْ كَانَ الدُّخُولُ مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ أَفْضَلُ، وَيَجُوزُ النَّحْرُ فِي جَمِيعِ نَوَاحِيهَا لِأَنَّهَا مِنَ الْحَرَمِ، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ الْحَرَجِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله يَجُوزُ ذَبْحُ جَمِيعِ الْهَدَايَا فِي أَرْضِ الْحَرَمِ بِالِاتِّفَاقِ، إِلَّا أَنَّ مِنًى أَفْضَلُ لِدِمَاءِ الْحَجِّ، وَمَكَّةَ لَاسِيَّمَا الْمَرْوَةَ لِدِمَاءِ الْعُمْرَةِ، وَلَعَلَّ هَذَا وَجْهُ تَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِيُّ) .
2597 -
وَعَنْ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ رضي الله عنه، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ عَرَفَةَ عَلَى بَعِيرٍ، قَائِمًا فِي الرِّكَابَيْنِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.
ــ
2597 -
(وَعَنْ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ) : بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ بَعْدَهَا ذَالٌ مُعْجَمَةٌ (قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ النَّاسَ) أَيْ: يَعِظُهُمْ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْمَنَاسِكَ (يَوْمَ عَرَفَةَ) يُحْتَمَلُ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَبَعْدَهُ، وَالثَّانِي أَظْهَرُ (عَلَى بَعِيرٍ قَائِمًا فِي الرِّكَابَيْنِ) حَالَانِ مُتَرَادِفَانِ أَوْ مُتَدَاخِلَانِ، وَقَوْلُهُ:" قَائِمًا " أَيْ: وَاقِفًا لَا أَنَّهُ قَائِمٌ عَلَى الدَّابَّةِ ; بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ حَالَ كَوْنِ الرِّجْلَيْنِ دَاخِلَيْنِ فِي الرِّكَابَيْنِ. (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) . وَرَوَى مُسْلِمٌ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ بَعْدَ الزَّوَالِ، فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي، فَخَطَبَ النَّاسَ.
2598 -
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
ــ
2598 -
(وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ) ; لِأَنَّهُ أَجْزَلُ إِثَابَةً، وَأَعْجَلُ إِجَابَةً. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْإِضَافَةُ فِيهِ إِمَّا بِمَعْنَى اللَّامِ أَيْ: دُعَاءٌ يَخْتَصُّ بِهِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ ( «وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ) بَيَانًا لِذَلِكَ الدُّعَاءِ ; فَإِنْ قُلْتَ هُوَ ثَنَاءٌ، قُلْتُ: فِي الثَّنَاءِ تَعْرِيضٌ بِالطَّلَبِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى " فِي " لِيَعُمَّ الْأَدْعِيَةَ الْوَاقِعَةَ فِيهِ اهـ.
وَأُجِيبُ عَنِ الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا: بِأَنَّهُ لَمَّا شَارَكَ الذِّكْرُ الدُّعَاءَ فِي أَنَّهُ جَالِبٌ لِلْمَثُوبَاتِ، وَوَصْلَةٌ إِلَى حُصُولِ الْمَطْلُوبَاتِ، سَاغَ عَدُّهُ مِنْ جُمْلَةِ الدَّعَوَاتِ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَاتِ الَّتِي هِيَ أَبْلَغُ فِي قَضَاءِ الْحَاجَاتِ، فَإِنَّ التَّلْوِيحَ أَوْلَى مِنَ التَّصْرِيحِ، كَمَا قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ فِي ابْنِ جُدْعَانَ: أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي حَيَاؤُكَ إِنَّ شِيمَتَكَ الْحَيَاءُ إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِذِكْرِ الْمَوْلَى، وَيَعْرِضَ عَنِ الْمُطَالَبَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالْأُخْرَى اعْتِمَادًا عَلَى كَرَمِهِ، وَإِحْسَانِهِ وَإِنْعَامِهِ، وَامْتِنَانِهِ، فَقَدْ وَرَدَ:" «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ» ". وَفِي هَذَا الْمَقَامِ كَمَالُ التَّفْوِيضِ، وَالتَّسْلِيمِ بِالْقَضَاءِ عَلَى وَجْهِ الرِّضَا كَمَا قِيلَ: وَكَّلْتُ إِلَى الْمَحْبُوبِ أَمْرِي كُلَّهُ فَإِنْ شَاءَ أَحْيَانِي وَإِنْ شَاءَ أَتْلَفَا فَقَدْ وَرَدَ: " «اللَّهُمَّ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا، فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ» "" «وَاللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» " وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: يَلْزَمُ مِنَ الذِّكْرِ الدُّعَاءُ ; لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الرِّضَا، وَإِرَادَتُهُ لِقَاءَ الْمَوْلَى، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: خَيْرُ مَا قُلْتُ مِنَ الذِّكْرِ ; فَيَكُونُ عَطْفٌ مُغَايِرٌ، وَالتَّقْدِيرُ: أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءٌ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ مِنَ الذِّكْرِ، وَفِي غَيْرِهِ، أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي:" لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ". (وَحْدَهُ) : أَيْ: يَنْفَرِدُ مُنْفَرِدًا قَالَهُ عِصَامُ الدِّينِ رحمه الله يَعْنِي أَنَّهُ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ، وَأَوَّلَهُ بِالنَّكِرَةِ رِعَايَةً لِلْبَصْرِيَّةِ. (لَا شَرِيكَ لَهُ) أَيْ: فِي الْأُلُوهِيَّةِ، وَالرُّبُوبِيَّةِ، أَوْ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، أَوْ تَأْكِيدٌ ثَانٍ لِأَنَّ التَّوْحِيدَ الذَّاتِيَّ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ، سِيَّمَا فِي الْجَمْعِ الْأَفْخَمِ (وَلَهُ الْمُلْكُ) : أَيْ: جِنْسُ الْمُلْكِ مُخْتَصٌّ لَهُ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُهُ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَهُوَ شَامِلٌ لِمُلْكِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمُلْكِ الْعِلْمِ، وَالْحِكْمَةِ، وَمُلْكِ الْعَمَلِ، وَالزَّهَادَةِ، وَالْقَنَاعَةِ (وَلَهُ الْحَمْدُ) أَيْ: فِي الْأُولَى، وَالْأُخْرَى، أَوِ الْحَمْدُ ثَابِتٌ لَهُ حُمِدَ أَوْ لَمْ يُحْمَدْ، أَوْ لَهُ الْحَامِدِيَّةُ وَالْمَحْمُودِيَّةُ، فَهُوَ الْحَامِدُ، وَهُوَ الْمَحْمُودُ (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) : شَاءَهُ، وَأَرَادَهُ (قَدِيرٌ) أَيْ: تَامُّ الْقُدْرَةِ فَالْقُدْرَةُ تَابِعَةٌ، وَأُرِيدَ بِالشَّيْءِ الْمَشِيءَ، مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ: عَنْ عَمْرٍو.
2599 -
وَرَوَى مَالِكٌ رضي الله عنه، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ إِلَى قَوْلِهِ " لَا شَرِيكَ لَهُ ".
ــ
2599 -
(وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ) وَفِي أَصْلِ الْعَفِيفِ، وَرَوَاهُ بِالضَّمِيرِ وَهُوَ أَظْهَرُ " عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ": وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرَةِ (إِلَى قَوْلِهِ: لَا شَرِيكَ لَهُ) : وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِلَفْظِ:" «أَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ قَبْلِي عَشِيَّةَ عَرَفَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» " إِلَخْ. وَسَنَدُهُ حَسَنٌ جَيِّدٌ، كَمَا قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ.
2600 -
وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ، وَلَا أَدْحَرُ، وَلَا أَحْقَرُ، وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِمَا يَرَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ، وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ، إِلَّا مَا رُئِيَ يَوْمَ بَدْرٍ» "[فَقِيلَ: مَا رُئِيَ يَوْمَ بَدْرٍ؟ قَالَ]" فَإِنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ، رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا، وَفِي: " شَرْحِ السُّنَّةِ " بِلَفْظِ " الْمَصَابِيحِ ".
ــ
2600 -
(وَعَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ) - بِالتَّصْغِيرِ عَلَى الصَّحِيحِ - (ابْنِ كَرِيزٍ) - بِفَتْحِ الْكَافِ، وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَزَايٍ عَلَى الْأَصَحِّ. قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: وَطَلْحَةُ هَذَا مِنْ تَابِعِي الشَّامِ، وَأَبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَ " عُبَيْدُ اللَّهِ " فِي بَعْضِ النُّسَخِ مَكَانَ " عَبْدِ اللَّهِ " وَهُوَ غَلَطٌ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ هُوَ الْمَشْهُودُ لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ الْفَرْقُ بِالِاسْتِدْلَالِ ; لِعَدَمِ الِاشْتِبَاهِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ الِاسْمَ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إِلَى الْفَرْدِ الْكَامِلِ، أَوِ الْمَشْهُودِ، وَلِذَا اصْطَلَحَ الْمُحَدِّثُونَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالْحَسَنَ الْمُطْلَقَ إِلَى الْبَصْرِيِّ، وَأَمَّا هَهُنَا فَحَيْثُ قَيَّدَهُ ابْنُ كَرِيزٍ ارْتَفَعَ الِالْتِبَاسُ، وَقَوْلُهُ: مِنْ تَابِعِي الشَّامِ فِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمِشْكَاةِ ذَكَرَ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِهِ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ بْنِ كَرِيزٍ الْخُزَاعِيَّ، تَابِعِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَذَكَرَ طَلْحَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بِغَيْرِ التَّصْغِيرِ ابْنُ عَوْفٍ الزُّهْرِيُّ الْقُرَشِيُّ مِنْ مَشَاهِيرِ التَّابِعِينَ، وَعِدَادُهُ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ مَوْصُوفًا بِالْجُودِ، رَوَى عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَغَيْرِهِ اهـ.
وَذَكَرَ فِي " الْمُغْنِي " أَنَّ " كَرِيزًا " بِالْفَتْحِ فِي خُزَاعَةَ، وَبِالضَّمِّ فِي غَيْرِهِمْ، وَفِي " الْمَشَارِقِ " لِابْنِ عِيَاضٍ: طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ، بِالْفَتْحِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَكَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا يُقَيِّدُهُ بِقَوْلِهِ: التَّكْبِيرُ مَعَ التَّصْغِيرِ، وَالتَّصْغِيرُ مَعَ التَّكْبِيرِ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ " مُصَغَّرٌ " و " عُبَيْدُ اللَّهِ " مُصَغَّرٌ " بْنُ كَرِيزٍ " مُكَبَّرٌ، لَكِنْ جَاءَ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ فِي " الْمُوَطَّأِ " فِيهِمَا " كُرَيْزٌ " بِالتَّصْغِيرِ، وَهُوَ خَطَأٌ:( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ يَوْمًا» " أَيْ: فِي يَوْمٍ، " هُوَ فِيهِ أَصْغَرُ ": الْجُمْلَةُ صِفَةُ " يَوْمًا " أَيْ: أَذَلُّ، وَأَحْقَرُ، مَأْخُوذٌ مِنَ الصَّغَارِ، وَهُوَ الْهَوَانُ، وَالذُّلُّ (وَلَا أَدْحَرُ) اسْمُ تَفْضِيلٍ مِنَ الدَّحْرِ هُوَ الطَّرْدُ، وَالْإِبْعَادُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى:{مِنْ كُلِّ جَانِبٍ - دُحُورًا} [الصافات: 8 - 9]، وَقَوْلُهُ:{اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} [الأعراف: 18] . وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الدَّحْرُ الدَّفْعُ بِعُنْفٍ وَإِهَانَةٍ (وَلَا أَحْقَرُ) أَيْ: أَسْوَأُ حَالًا (وَلَا أَغْيَظُ) أَيْ: أَكْثَرُ غَيْظًا (مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ) : وَفِي الْمَصَابِيحِ: " يَوْمَ عَرَفَةَ ": قَالَ شَارِحُهُ: نُصِبَ ظَرْفًا لِأَصْغَرَ، أَوْ لِأَغْيَظَ، أَيِ: الشَّيْطَانُ فِي عَرَفَةَ أَبْعَدُ مُرَادًا مِنْهُ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَتَكْرَارُ الْمَنْفِيَّاتِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْمَقَامِ (وَمَا ذَاكَ) أَيْ: وَلَيْسَ مَا ذُكِرَ لَهُ (إِلَّا لِمَا يَرَى) أَيْ: لِأَجْلِ مَا يَعْلَمُ (مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ) أَيْ: عَلَى الْخَاصِّ، وَالْعَامِّ (وَتَجَاوُزِ اللَّهِ عَنِ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ)، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى غُفْرَانِ الْكَبَائِرِ (إِلَّا مَا رُئِيَ يَوْمَ بَدْرٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ: مَا رُؤِيَ الشَّيْطَانُ فِي يَوْمٍ أَسْوَأَ حَالًا مِنْهُ فِيمَا عَدَا يَوْمَ بَدْرٍ، " فَإِنَّهُ " أَيِ: الشَّيْطَانُ (قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ) عليه الصلاة والسلام أَيْ: يَوْمَ بَدْرٍ (يَزَعُ الْمَلَائِكَةَ) : أَصْلُهُ يُوَزِّعُ أَيْ: يَكُفُّهُمْ، فَيَحْبِسُ أَوَّلَهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ، وَمِنْهُ الْوَازِعُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ الصَّفَّ فَيُصْلِحُهُ، وَيُقَدِّمُ فِي الْجَيْشِ، وَيُؤَخِّرُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى:{فَهُمْ يُوزَعُونَ} [النمل: 17] قَالَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله أَيْ: يُرَتِّبُهُمْ وَيُسَوِّيهِمْ، وَيَكُفُّهُمْ عَنِ الِانْتِشَارِ، وَيَصُفُّهُمْ لِلْحَرْبِ. (رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا) : وَالدَّيْلَمِيُّ مُتَّصِلًا، وَالْبَيْهَقِيُّ مُرْسَلًا، وَمُتَّصِلًا (وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ بِلَفْظِ الْمَصَابِيحِ) الْمُغَايِرِ لِبَعْضِ مَا هُنَا.
2601 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ، إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي، أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاجِّينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، فَيَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ! فُلَانٌ كَانَ يُرَهَّقُ، وَفُلَانٌ، وَفُلَانَةُ، قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ» . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «فَمَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ عَتِيقًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ» ". رَوَاهُ فِي: " شَرْحِ السُّنَّةِ ".
ــ
2601 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِذَا كَانُ يَوْمُ عَرَفَةَ إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ) : أَيْ أَمْرُهُ، أَوْ يَتَجَلَّى بِإِنْزَالِ الرَّحْمَةِ الْعَامَّةِ (إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا) : وَلَعَلَّ وَجْهُ التَّخْصِيصِ زِيَادَةُ اطِّلَاعِ أَهْلِهَا بِأَهْلِ الدُّنْيَا (فَيُبَاهِي بِهِمْ) أَيْ: بِالْوَاقِفِينَ بِعَرَفَةَ (الْمَلَائِكَةَ) : أَيْ: مَلَائِكَةَ سَمَاءِ الدُّنْيَا، أَوِ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ، أَوْ جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ (فَيَقُولُ: انْظُرُوا) أَيْ: نَظَرَ اعْتِبَارٍ، وَإِنْصَافٍ (إِلَى عِبَادِي) الْإِضَافَةُ لِلتَّشْرِيفِ (أَتَوْنِي) أَيْ: جَاءُوا مَكَانَ أَمْرِي (شُعْثًا) - جَمْعُ أَشْعَثَ - وَهُوَ الْمُتَفَرِّقُ مِنَ الشَّعْرِ (غُبْرًا) : جَمْعُ أَغْبَرَ، وَهُوَ الَّذِي الْتَصَقَ الْغُبَارُ بِأَعْضَائِهِ، وَهُمَا حَالَانِ (ضَاجِّينَ) . بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ مِنْ ضَجَّ إِذَا رَفَعَ صَوْتَهُ، أَيْ: رَافِعِينَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِتَخْفِيفِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَفِي " الْمَشَارِقِ " أَيْ: أَصَابَهُمْ حَرُّ الشَّمْسِ، وَفِي " الْقَامُوسِ " ضَحَى بَرَزَ لِلشَّمْسِ - وَكَسَعَى، وَرَضِيَ - أَصَابَتْهُ الشَّمْسُ (مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) مُتَعَلِّقٌ بِأُمُورٍ، أَيْ: مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ بِعِيدٍ (أُشْهِدُكُمْ) أَيْ: أُظْهِرُ لَكُمْ (لَهُمْ، فَيَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ، فُلَانٌ كَانَ يُرَهَّقُ) - بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ، وَفَتْحِهِ، وَيُخَفَّفُ، أَيْ: يُتَّهَمُ بِالسُّوءِ، وَيُنْسَبُ إِلَى غِشْيَانِ الْمَحَارِمِ (وَفُلَانٌ، وَفُلَانَةُ) أَيْ: كَذَلِكَ يَفْعَلَانِ الْمَعَاصِيَ، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ تَعَجُّبًا مِنْهُمْ بِعِظَمِ الْجَرِيمَةِ، وَاسْتِبْعَادًا لِدُخُولِ صَاحِبِ مِثْلِ هَذِهِ الْكَبِيرَةِ فِي عِدَادِ الْمَغْفُورِينَ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ إِمَّا اسْتِعْلَامُ حَالِ الْمُرَهَّقِ، وَإِمَّا تَعْجُّبٌ، وَفِيهِ مِنَ الْأَدَبِ عَدَمُ التَّصْرِيحِ بِالْمَعَائِبِ، وَالْفُجُورِ (قَالَ) أَيِ: النَّبِيُّ (يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ) أَيْ: لِهَؤُلَاءِ أَيْضًا، وَقَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ جَمِيعًا، وَهَؤُلَاءُ مِنْهُمْ، وَهُمْ قَوْمٌ لَا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: فَإِنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَفِيهِ تَحْقِيقٌ ذَكَرْنَاهُ فِي مَحَلِّهِ. (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" فَمَا مِنْ يَوْمٍ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: جَزَاءُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ (أَكْثَرَ) - بِالنَّصْبِ - خَبَرُ (مَا) بِمَعْنَى " لَيْسَ " وَقِيلَ: بِالرَّفْعِ عَلَى اللُّغَةِ التَّمِيمِيَّةِ (عَتِيقًا) : تَمْيِزٌ (مِنَ النَّارِ) : مُتَعَلِّقٌ بِعَتِيقٍ (مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ) : مُتَعَلِّقٌ بِأَكْثَرَ (رَوَاهُ) : أَيِ: الْبَغَوِيُّ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي فَضْلِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ مَنِيعٍ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ فِيهِ: "«أَمَّا الْوُقُوفُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَهْبِطُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: هَؤُلَاءِ عِبَادِي جَاءُونِي شُعْثًا يَرْجُونَ رَحْمَتِي، فَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُكُمْ كَعَدَدِ الرَّمْلِ، وَكَعَدَدِ الْقَطْرِ، أَوِ الشَّجَرِ لَغَفَرْتُهَا لَكُمْ، أَفِيضُوا عِبَادِي مَغْفُورًا لَكُمْ، وَلِمَنْ شَفَعْتُمْ لَهُ» ".
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
2602 -
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ 2602 - (عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا) أَيْ: تَبِعَهُمْ وَاتَّخَذَ دِينَهُمْ دِينًا (يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ) أَيْ: حِينَ يَقِفُ النَّاسُ بِعَرَفَةَ (وَكَانُوا) أَيْ: قُرَيْشٌ (يُسَمَّوْنَ الْحُمْسَ) : جَمْعُ أَحْمَسَ مِنَ الْحَمَاسَةِ بِمَعْنَى الشَّجَاعَةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْتَخِرُونَ بِشَجَاعَتِهِمْ، وَجَلَادَتِهِمْ، مُمَيِّزِينَ أَنْفُسَهُمْ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ، وَأَهْلِ جِلْدَتِهِمْ، وَقَائِلِينَ: بِأَنَّا أَهْلُ الْحَرَمِ الْمُحْتَرَمِ كَالْحَمَامِ، فَلَا نَخْرُجُ مِنْهُ لِلْوُقُوفِ كَالْعَوَامِّ (فَكَانَ سَائِرُ الْعَرَبِ) يَعْنِي: بَقِيَّتَهُمْ (وَيَقِفُونَ بِعَرَفَةَ) عَلَى الْعَادَةِ الْقَدِيمَةِ وَالطَّرِيقَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ،
(فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - نَبِيَّهُ عليه الصلاة والسلام أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَاتٍ) مُتَابَعَةً لِلْأَنْبِيَاءِ الْكِرَامِ (فَيَقِفَ بِهَا ثُمَّ يَفِيضَ مِنْهَا) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْإِفَاضَةُ الزَّحْفُ وَالدَّفْعُ فِي السَّيْرِ، وَأَصْلُهَا الصَّبُّ فَاسْتُعِيرَ لِلدَّفْعِ فِي السَّيْرِ، وَأَصْلُهُ أَفَاضَ نَفْسَهُ، أَوْ رَاحِلَتَهُ، ثُمَّ تَرَكَ الْمَفْعُولَ رَأْسًا حَتَّى صَارَ كَاللَّازِمِ. (فَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وجل (ثُمَّ أَفِيضُوا) أَيِ: ادْفَعُوا وَارْجِعُوا (مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) : أَيْ: عَامَّتُهُمْ، وَهُوَ عَرَفَةُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى خُرُوجِ الْمُتَكَبِّرِينَ عَنْ كَوْنِهِمْ نَاسًا، فَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ، وَمَنْ تَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ وَضَعَهُ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ رحمه الله: الْخِطَابُ مَعَ قُرَيْشٍ، أُمِرُوا بِأَنْ يُسَاوُوا النَّاسَ بَعْدَ مَا كَانُوا يَتَرَفَّعُونَ عَنْهُمْ، وَ " ثُمَّ " لِتَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْإِفَاضَتَيْنِ، يَعْنِي: أَنَّ أَحَدَهُمَا صَوَابٌ، وَالْآخَرَ غَلَطٌ، وَقِيلَ: مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى بَعْدَ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَةَ شَرْعٌ قَدِيمٌ فَلَا تُغَيِّرُوهُ اهـ. وَالظَّاهِرُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ الْخِطَابَ مَعَهُ عليه الصلاة والسلام تَعْظِيمًا لَهُ، أَوْ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2603 -
وَعَنْ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ رضي الله عنه، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا لِأُمَّتِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِالْمَغْفِرَةِ، فَأُجِيبَ: " إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ مَا خَلَا الْمَظَالِمَ، فَإِنِّي آخُذُ لِلْمَظْلُومِ مِنْهُ " قَالَ: " أَيْ: رَبِّ، إِنْ شِئْتَ أَعْطَيْتَ الْمَظْلُومَ مِنَ الْجَنَّةِ، وَغَفَرْتَ لِلظَّالِمِ " فَلَمْ يُجَبْ عَشِيَّتَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ بِالْمُزْدَلِفَةِ أَعَادَ الدُّعَاءَ، فَأُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ. قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَالَ تَبَسَّمَ - قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، إِنَّ هَذِهِ لَسَاعَةٌ مَا كُنْتَ تَضْحَكُ فِيهَا، فَمَا الَّذِي أَضْحَكَكَ - أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ؟ قَالَ: " إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ، عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل قَدِ اسْتَجَابَ دُعَائِي، وَغَفَرَ لِأُمَّتِي، أَخَذَ التُّرَابَ، فَجَعَلَ يَحْثُوهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَيَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، فَأَضْحَكَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ جَزَعِهِ» ". رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي: كِتَابِ " الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ " نَحْوَهُ.
ــ
2603 -
(وَعَنْ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ) - بِكَسْرِ الْمِيمِ - يُكَنَّى: أَبَا الْهَيْثَمِ السُّلَمِيَّ الشَّاعِرَ، وَعِدَادُهُ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَأَسْلَمَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَكَانَ مِمَّنْ حَرَّمَ الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ. (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا لِأُمَّتِهِ) : الظَّاهِرُ لِأُمَّتِهِ الْحَاجِّينَ مَعَهُ مُطْلَقًا، لَا مُطْلَقِ الْأُمَّةِ، فَتَأَمَّلْ. (عَشِيَّةَ عَرَفَةَ) أَيْ: وَقْتَ الْوَقْفَةِ (بِالْمَغْفِرَةِ) أَيِ: التَّامَّةِ الْعَامَّةِ (فَأُجِيبَ: إِنِّي) أَيْ: بِأَنِّي (قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ مَا خَلَا الْمَظَالِمَ) أَيْ: مَا عَدَا حُقُوقَ الْعِبَادِ (فَإِنِّي آخُذُ) : بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ أَوِ الْفَاعِلِ (لِلْمَظْلُومِ مِنْهُ) أَيْ: مِنَ الظَّالِمِ إِمَّا بِالْعَذَابِ، وَإِمَّا بِأَخْذِ الثَّوَابِ إِظْهَارًا لِلْعَدْلِ. (قَالَ: أَيْ رَبِّ، إِنْ شِئْتَ أَعْطَيْتَ) أَيْ: مِنْ عِنْدِكَ (الْمَظْلُومَ مِنَ الْجَنَّةِ) أَنْ: مَا يُرْضِيهِ مِنْهَا، أَوْ بَعْضَ مَرَاتِبِهَا الْعَلِيَّةِ (وَغَفَرْتَ لِلظَّالِمِ) : فَضْلًا (فَلَمْ يُجَبْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عَشِيَّتَهُ) أَيْ: فِي عَشِيَّةِ عَرَفَةَ، وَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ الزَّمَانِ، أَوِ الْمَكَانِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فَالْإِضَافَةُ لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ. (فَلَمَّا أَصْبَحَ بِالْمُزْدَلِفَةِ) أَيْ: وَوَقَفَ بِهَا (أَعَادَ الدُّعَاءَ) أَيِ: الْمَذْكُورُ (فَأُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ) أَيْ: إِلَى مَا طَلَبَهُ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ سَمِعَ هَذِهِ الْأُمُورَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم فَرَوَاهَا كَأَنَّهُ عَلِمَهَا. (قَالَ) أَيِ: الْعَبَّاسُ " (فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَالَ تَبَسَّمَ) وَالشَّكُّ مِنَ الرَّاوِي عَنِ الْعَبَّاسِ لِقَوْلِهِ: قَالَ [أَوْ قَالَ] (فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ) أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، إِنَّ هَذِهِ لَسَاعَةٌ مَا كُنْتَ تَضْحَكُ فِيهَا) أَيْ: فِي مِثْلِهَا (فَمَا الَّذِي أَضْحَكَكَ) أَيْ: فَمَا السَّبَبُ الَّذِي جَعَلَكَ ضَاحِكًا (أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ) أَيْ: أَدَامَ اللَّهُ لَكَ السُّرُورَ الَّذِي سَبَّبَ ضَحِكَكَ (قَالَ: " إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل قَدِ اسْتَجَابَ دُعَائِي، وَغَفَرَ لِأُمَّتِي: أَخَذَ التُّرَابَ، فَجَعَلَ يَحْثُوهُ) أَيْ: يَكُبُّهُ (عَلَى رَأْسِهِ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْلِيَةِ التُّرَابِ، وَغَلَبَتِهِ وَفَضِيلَتِهِ (وَيَدْعُو بِالْوَيْلِ) أَيِ: الْعَذَابِ (وَالثُّبُورِ) - بِضَمِّ الثَّاءِ - أَيِ: الْهَلَاكِ؛ يَعْنِي يَقُولُ: وَا وَيْلَاهْ، وَيَا ثُبُورَاهْ، قَالَ الطِّيبِيُّ: كُلُّ مَنْ وَقَعَ فِي تَهْلُكَةٍ دَعَا بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، أَيْ: يَا هَمِّي، وَعَذَابِي احْضُرْ، فَهُنَا أَوَانُكَ. (فَأَضْحَكَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ جَزَعِهِ) أَيْ: مِمَّا صَدَرَ مِنْ فَضْلِ رَبِّي عَلَيَّ [رَغْمَهُ] .
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ عُمُومُ الْمَغْفِرَةِ، وَشُمُولُهَا حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ الْعِبَادِ، إِلَّا أَنَّهُ قَابِلٌ لِلتَّقْيِيدِ بِمَنْ كَانَ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم فِي تِلْكَ السَّنَةِ، أَوْ بِمَنْ قُبِلَ حَجُّهُ، بِأَنْ لَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْفِسْقِ الْإِصْرَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَعَدَمُ التَّوْبَةِ، وَمِنْ شَرْطِهَا: أَدَاءُ حُقُوقِ اللَّهِ الْفَائِتَةِ ; كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَغَيْرِهِمَا، وَقَضَاءُ حُقُوقِ الْعِبَادِ الْمَالِيَّةِ، وَالْبَدَنِيَّةِ، وَالْعِرْضِيَّةِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حُقُوقٍ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا، أَوْ يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ أَدَائِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَبْحَثُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ مُفَصَّلًا فَرَاجِعْهُ، وَلَا تَغْتَرَّ بِكَوْنِ هَذَا الْحَدِيثِ مُجْمَلًا مَعَ اعْتِقَادٍ أَنَّ فَضْلَ اللَّهِ وَاسِعٌ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]