الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَنَّ الْمَوْتَ فِي الْغُرْبَةِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَوْتِ بِالْمَدِينَةِ فَتَكُونُ الْفَضِيلَةُ الْكَامِلَةُ أَنْ يُجْمَعَ لَهُ ثَوَابُ الْغُرْبَةِ وَالشَّهَادَةِ بِالدَّفْنِ بِالْمَدِينَةِ وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ (رَوَاهُ مَالِكٌ مُرْسَلًا) . لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ، وَهُوَ مَنْ أَكَابِرِ التَّابِعِينَ، سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَالسَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ وَخَلْقًا سِوَاهُمَا وَرَوَى عَنْهُ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَشُعْبَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَابْنُ الْمُبَارَكِ رحمهم الله وَغَيْرُهُمْ، ذَكَرَهُ الْمُؤَلَّفُ، وَإِذَا حُذِفَ التَّابِعِيُّ وَذُكِرَ الصَّحَابِيُّ يُسَمَّى الْحَدِيثُ مُرْسَلًا، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْمَدِينَةِ بَلْ لِأَفْضَلِيَّةِ الْبُقْعَةِ الْمَكِينَةِ، وَقَدْ قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ، بَلْ مِنَ الْكَعْبَةِ، بَلْ مِنَ الْعَرْشِ الْأَعْظَمِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
2758 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِوَادِي الْعَقِيقِ يَقُولُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ، وَقُلْ عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ وَفِي رِوَايَةٍ وَقُلْ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
2758 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ) أَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (بِوَادِيِ الْعَقِيقِ) مَحَلٌّ قَرِيبٌ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله، وَفِي الْقَامُوسِ: مَوْضِعٌ بِالْمَدِينَةِ وَمَوْضِعٌ آخَرُ فِي غَيْرِهَا، وَفِي النِّهَايَةِ وَادٍ بِالْمَدِينَةِ وَمَوْضِعٌ قَرِيبٌ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ (يَقُولُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ مِنْ رَبِّي آتٍ) أَيْ جَاءَنِيَ الْبَارِحَةَ تِلْكَ مِنْ عِنْدِهِ (فَقَالَ صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ عُمْرَةٌ) بِالرَّفْعِ أَيْ حُسِبَتْ (فِي حَجَّةٍ) وَفِي نُسْخَةٍ بِالنَّصْبِ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيِ احْسَبْ صَلَاتَكَ هَذِهِ وَأَعِدْ لَهَا بِعُمْرَةٍ دَاخِلَةٍ فِي حَجَّةٍ، وَالْقَوْلُ يُسْتَعْمَلُ فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ كَمَا مَرَّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ الْمَعْنَى: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ لِلْإِحْرَامِ، وَقَارِنْ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ اهـ.
وَهَذَا احْتِمَالٌ بَعِيدٌ جِدًّا لِأَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ حَقٌّ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْهُ فَضْلًا أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَالصَّوَابُ فِي مَعْنَاهُ أَنَّ ثَوَابَ الصَّلَاةِ فِيهِ يَعْدِلُ ثَوَابَ عُمْرَةٍ فِي ضِمْنِ حَجَّةٍ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ إِذَا كَانَتْ مَقْرُونَةً فِي الْحَجَّةِ بِأَنْ يَكُونَ سَفَرُهُمَا وَاحِدًا خَيْرٌ مِنَ الْعُمْرَةِ الْمُفْرَدَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي بِمَعْنَى مَعَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (وَفِي رِوَايَةٍ وَقُلْ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ) بِالرَّفْعِ أَيْ صَلَاةٌ فِيهِ لِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، وَبِالنَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ لِإِلْحَاقِ النَّاقِصِ بِالْكَامِلِ مُبَالَغَةً وَوَجْهُ فَضِيلَةِ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ مُفَوَّضٌ إِلَى صَاحِبِ الشَّرِيعَةْ عليه الصلاة والسلام وَالظَّاهِرُ أَنَّ هُنَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِ حَالِهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ مِنَ اللَّهِ تَعْجِيلَ الْعُمْرَةِ وَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَقِيلَ لَهُ: صَلِّ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مِعْرَاجُ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَكَ فِي مُقَابَلَتِهَا ثَوَابُ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ بِنِيَّتِكَ عَلَى وَجْهِ التَّمَامِ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ وَعُلَمَاءِ الْأَنَامِ عَدُّهُ مِنَ الْمَشَاهِدِ الْعِظَامِ الَّتِي يَزُورُوهَا الْخَوَاصُّ وَالْعَوَامُّ، ثُمَّ رَأَيْتُ الْفَارِسِيَّ ذَكَرَ فِي مَنْسَكِهِ إِنَّهُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَهْذِيبِ الْأَخْبَارِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا لِأَنَّهُ قَالَ «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» وَلَا كَانَ مُفْرَدًا لَأَنَّ الْهَدْيَ كَانَ مَعَهُ وَاجِبًا كَمَا قَالَ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْقَارِنِ وَلِأَنَّ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ قَدْ تَكَاثَرَتْ بِأَنَّهُ لَبَّى بِهِمَا جَمِيعًا فَكَانَ مِنْ زَادٍ أَوْلَى قَالَ: وَوَجْهُ الِاخْتِلَافِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا عَقَدَ إِحْرَامَهُ جَعَلَ يُلَبِّي تَارَةً بِالْحَجِّ وَتَارَةً بِالْعُمْرَةِ وَتَارَةً بِهِمَا جَمِيعًا لَعَلَّهُ أَنْ يَتَبَيَّنَ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ يَقْصِدُ الْحَجَّ وَيَطْلُبُ كَيْفِيَّةَ الْعَمَلِ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عليه الصلاة والسلام فِي وَادِي الْعَقِيقِ فَقَالَ لَهُ قُلْ عُمْرَةٌ فِي حَجَّةٍ فَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ وَتَبَيَّنَ الْمَطْلُوبُ اهـ.
وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ مِنْهَا أَنَّ وُجُوبَ الْهَدْيِ لَمْ يَمْنَعْ كَوْنَهُ مُفْرَدًا بَلْ يَمْنَعْ فَسْخَ الْحَجِّ بِالْعُمْرَةِ؛ إِذْ مُقْتَضَاهُ الْخُرُوجُ مِنَ الْإِحْرَامِ وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وَمِنْهَا أَنَّ قَوْلَهُ (لَعَلَّهُ أَنْ يَتَبَيَّنَ) مَعْلُولٌ إِذْ لَا تَصِحُّ النِّيَّةُ مَعَ التَّرَدُّدِ فِي الْكَيْفِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَمَرَ عليه الصلاة والسلام بِالْحَجِّ وَقَدْ أَتَى بِالْعُمْرَةِ مِرَارًا فَهُوَ عليه الصلاة والسلام إِمَّا أَنْ نَوَى بِهِمَا أَوَّلًا، أَوْ نَوَى الْحَجَّ ثُمَّ أَدْخَلَ الْعُمْرَةَ عَمَلًا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] عَلَى قِرَاءَةِ وَأَقِيمُوا، وَمِنْهَا أَنَّ وَادِيَ الْعَقِيقِ قَرِيبٌ الْمَدِينَةِ اتِّفَاقًا، وَإِحْرَامُهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ فِي ذِي الْحُلَيْفَةِ إِجْمَاعًا، فَالتَّحْقِيقُ مَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ، ثُمَّ لَمَّا كَانَ هَذَا الْوَادِي بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ وَمَا حَوْلَهَا يَدْخُلُ فِي فَضْلِهَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْبَابِ وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
[كِتَابُ الْبُيُوعِ] [
بَابُ الْكَسْبِ وَطَلَبِ الْحَلَالِ]
كِتَابُ الْبُيُوعِ
بَابُ الْكَسْبِ وَطَلَبِ الْحَلَالِ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
2759 -
عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عليه السلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
كِتَابُ الْبُيُوعِ
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ: بِعْتُ بِمَعْنَى مَا كُنْتُ مَلَكْتُهُ، وَبِعْتُ بِمَعْنًى لِاشْتَرَيْتُ، وَكَذَلِكَ شَرَيْتُ بِالْمَعْنَيَيْنِ، لِأَنَّ الثَّمَنَ وَالْمُثَمَّنَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَبِيعٌ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: عَرَفَ أَنَّ مَشْرُوعَاتِ الشَّارِعِ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى حُقُوقِ اللَّهِ - تَعَالَى - خَالِصَةٌ، وَحُقُوقَ الْعِبَادِ خَالِصَةٌ، وَمَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْحَقَّانِ، وَحَقُّهُ - تَعَالَى - غَالِبٌ وَمَا اجْتَمَعْنَا فِيهِ، وَحَقُّ الْعِبَادِ غَالِبٌ،، فَحُقُوقُهُ - تَعَالَى - عِبَادَاتٌ وَعُقُوبَاتٌ وَكَفَّارَاتٌ، فَابْتَدَأَ الْمُصَنِّفُ بِحُقُوقِ اللَّهِ - تَعَالَى - الْخَالِصَةِ، حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِ أَنْوَاعِهَا، ثُمَّ شَرَعَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَهِيَ الْمُعَامَلَاتُ، ثُمَّ الْبَيْعُ مَصْدَرٌ، فَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ فَيُجْمَعُ كَالْجَمْعِ الْمَبِيعِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى وَهُوَ الْأَصْلُ، فَجَمْعُهُ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهِ: فَإِنَّ الْبَيْعَ يَكُونُ سَلَمًا، وَهُوَ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ، وَقَلْبُهُ وَهُوَ الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ، وَصَرْفًا: وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَنِ بِالثَّمَنِ، وَمُقَابَضَةً: وَهُوَ بَيْعُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ وَبِخِيَارٍ وَمُنْجَزًا، وَمُؤَجَّلَ الثَّمَنِ وَمُرَابَحَةً، وَتَوْلِيَةً، وَوَضِيعَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَالْبَيْعُ مِنَ الْأَضْدَادِ يُقَالُ: بَاعَ إِذَا أَخْرَجَ الْعَيْنَ عَنْ مِلْكِهِ إِلَيْهِ، وَبَاعَهُ إِذَا اشْتَرَاهُ، وَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ بِالْحَرْفِ يُقَالُ: بَاعَ زَيْدٌ الثَّوْبَ وَبَاعَهُ مِنْهُ.
وَأَمَّا مَفْهُومُهُ لُغَةً وَشَرْعًا فَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: الْبَيْعُ لُغَةً مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَكَذَا فِي الشَّرْعِ، لَكِنَّ زِيدَ فِيهِ قَيْدُ التَّرَاضِي، وَشَرْعِيَّةُ الْبَيْعِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وَالسُّنَّةَ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام وَالنَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَقْرَهُمْ عَلَيْهِ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَيْهِ، وَسَبَبُ شَرْعِيَّتِهِ تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمَعْلُومِ فِيهِ لِلَّهِ - تَعَالَى - عَلَى وَجْهٍ جَمِيلٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوِ اسْتَقَلَّ بِابْتِدَاءِ بَعْضِ حَاجَاتِهِ مِنْ حَرْثِ الْأَرْضِ، ثُمَّ بَذْرِ الْقَمْحِ وَخِدْمَتِهِ وَحِرَاثَتِهِ وَحَصْدِهِ وَدِرَاسَتِهِ ثُمَّ تَذْرِيَتِهِ ثُمَّ تَنْظِيفِهِ وَطَحْنِهِ بِيَدِهِ وَعَجْنِهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ.
وَفِي الْكَتَّانِ وَالصُّوفِ لُبْسُهُ، وَبِنَاءُ مَا يُظِلُّهُ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَدْفَعَهُ الْحَاجَةُ إِلَى أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا مُزَاوَلَةَ شَيْءٍ، فَلَوْ لَمْ يُشْرَعِ الْبَيْعُ سَبَبًا لِلتَّمْلِيكِ فِي الْبَدَلَيْنِ لَاحْتَاجَ إِلَى أَنْ يُؤْخَذَ عَلَى التَّغَالُبِ وَالْمُقَاهَرَةِ، أَوِ السُّؤَالِ، وَالشِّحَاذَةِ أَوْ يَصْبِرَ حَتَّى يَمُوتَ، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا مَا لَا يَخْفَى مِنَ الْفَسَادِ، وَفِي الثَّانِي مِنَ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ، وَيُزْرِي بِصَاحِبِهِ، فَكَانَ فِي شَرْعِيَّتِهِ بَقَاءُ الْمُكَلَّفِينَ الْمُحْتَاجِينَ وَدَفْعُ حَاجَاتِهِمْ عَلَى النِّظَامِ الْحَسَنِ.
[1]
بَابُ الْكَسْبِ
أَيْ تَبْيِينُ فَضْلِهِ وَتَعْيِينُ طَيِّبِهِ وَخَبِيثِهِ (وَطَلَبِ الْحَلَالِ) : أَيْ: وَاجْتِنَابِ الْحَرَامِ الَّذِي مِنْ لَوَازِمِهِ، وَكَوْنُهُ فَرْضًا بَعْدَ الْفَرْضِ أَوْ قَبْلَهُ، وَالثَّانِي أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى:{كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
2759 -
(عَنِ الْمِقْدَامِ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ (ابْنِ مَعْدِي كَرِبَ) : بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَيْ أَبْدًا (خَيْرًا) : أَيْ: أَفْضَلَ أَوْ أَحَلَّ أَوْ أَطْيَبَ (مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ) : بِالثَّنْيَةِ لِأَنَّ غَالِبَ الْمُزَاوِلَةِ بِهِمَا (وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عليه الصلاة والسلام) : وَهُوَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَخُصَّ بِالذِّكْرِ لِتَعْلِيمِ اللَّهِ - تَعَالَى - إِيَّاهُ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى:{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء: 80] . (كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ) : قَالَ الْمُظْهِرُ: فِيهِ تَحْرِيضٌ عَلَى الْكَسْبِ الْحَلَالِ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ فَوَائِدَ كَثِيرَةً. مِنْهَا: إِيصَالُ النَّفْعِ إِلَى الْمُكْتَسِبِ بِأَخْذِ الْأُجْرَةِ إِنْ كَانَ الْعَمَلُ لِغَيْرِهِ،
وَبِحُصُولِ الزِّيَادَةِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ إِنْ كَانَ الْعَمَلُ تِجَارَةً: وَمِنْهَا: إِيصَالُ النَّفْعِ إِلَى النَّاسِ بِتَهْيِئَةِ أَسْبَابِهِمْ مِنْ حَوْلِ ثِيَابِهِمْ وَخِيَاطَتِهِمْ وَنَحْوِهَا، مِمَّا يَحْصُلُ بِالسَّعْيِ، كَغَرْسِ الْأَشْجَارِ، وَزَرْعِ الْأَقْوَاتِ وَالثِّمَارِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَشْتَغِلَ الْكَاسِبُ بِهِ فَيَسْلَمَ عَنِ الْبَطَالَةِ وَاللَّهْوِ. وَمِنْهَا: كَسْرُ النَّفْسِ بِهِ فَيَقِلُّ طُغْيَانُهَا وَمَرَحُهَا. وَمِنْهَا: أَنْ يَتَعَفَّفَ عَنْ ذُلِّ السُّؤَالِ وَالِاحْتِيَاجِ إِلَى الْغَيْرِ، وَشَرْطُ الْمُكْتَسِبِ أَنْ لَا يَعْتَقِدَ الزِّرْقَ مِنَ الْكَسْبِ، بَلْ مِنَ اللَّهِ الْكَرِيمِ الرَّزَّاقِ ذِي الْقُوَّةِ الْمَتِينِ، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ:" وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ " الْخَ. تَوْكِيدٌ لِلتَّحْرِيضِ، وَتَقْرِيرٌ لَهُ يَعْنِي: الِاكْتِسَابُ مِنْ سُنَنِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ كَانَ يَعْمَلُ السَّرْدَ وَيَبِيعُهُ لِقُوتِهِ فَاسْتَنُّوا بِهِ. اهـ.
وَرُوِيَ أَنَّ دَاوُدَ عليه الصلاة والسلام كَانَ فِي خِلَافَتِهِ يَتَجَسَّسُ النَّاسَ فِي أَمْرِهِ، وَيَسْأَلُ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ كَيْفَ سِيرَةُ دَاوُدَ فِيكُمْ، فَبَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ دَاوُدُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: نِعْمَ الرَّجُلُ دَاوُدُ إِلَّا أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَسَأَلَ دَاوُدُ رَبَّهُ أَنْ يُغْنِيَهُ عَنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَعَلَّمَهُ اللَّهُ صَنْعَةَ الدُّرُوعِ، وَيَبِيعُ كُلَّ دِرْعٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ: كَانَ يَعْمَلُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْعًا وَيَبِيعُهُ بِسِتَّةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَيُنْفِقُ أَلْفَيْنِ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ، وَيَتَصَدَّقُ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ عَلَى فُقَرَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ثُمَّ الْكَسْبُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ وَاجِبٌ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ فَهُوَ مُبَاحٌ إِذْ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْفَخْرَ وَالتَّكَاثُرَ، وَقِيلَ: الِاشْتِغَالُ بِهِ مَكْرُوهٌ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَشْتَغِلَ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] قُلْنَا: الْمُرَادُ بِالْعِبَادَةِ الْمَعْرِفَةُ، وَهِيَ لَا تُنَافِي الْكَسْبَ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى حَقِيقَتِهَا فَالْمُرَادُ بِهَا الْمَفْرُوضَةُ، وَهِيَ أَيْضًا غَيْرُ مُنَافِيَةٍ لَهُ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَغْرِقُ الْأَوْقَاتَ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
2760 -
ــ
2760 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ) : أَيْ: مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ، وَمُتَّصِفٌ بِالْكِمَالَاتِ مِنَ النُّعُوتِ (لَا يَقْبَلُ) : أَيْ: مِنَ الصَّدَقَاتِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ (إِلَّا طَيَّبًا) : أَيْ: مُنَزَّهًا عَنِ الْعُيُوبِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَغْرَاضِ الْفَاسِدَةِ فِي النِّيَّةِ. قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: الطَّيِّبُ ضِدُّ الْخَبِيثِ، فَإِذَا وُصِفَ بِهِ - تَعَالَى - أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقَائِصِ، مُقَدَّسٌ عَنِ الْآفَاتِ، وَإِذَا وُصِفَ بِهِ الْعَبْدُ مُطْلَقًا أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ الْمُتَعَرِّي عَنْ رَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ، وَقَبَائِحِ الْأَعْمَالِ، وَالْمُتَحَلِّي بِأَضْدَادِ ذَلِكَ، وَإِذَا وُصِفَ بِهِ الْأَمْوَالُ أُرِيدَ بِهِ كَوْنُهُ حَلَالًا مِنْ خِيَارِ الْأَمْوَالِ، وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ - تَعَالَى - مُنَزَّهٌ عَنِ الْعُيُوبِ، فَلَا يُقْبَلُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَقَرَّبَ إِلَيْهِ إِلَّا بِمَا يُنَاسِبُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ خِيَارُ أَمْوَالِكُمُ الْحَلَالِ كَمَا قَالَ - تَعَالَى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92](وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ) : " مَا " مَوْصُولَةٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَكْلُ الْحَلَالِ وَتَحْسِينُ الْأَمْوَالِ (فَقَالَ) : ابْتِدَاءٌ بِمَا خَتَمَ بِهِ رِعَايَةً لِتَقَدُّمِ الْمُرْسَلِينَ وَتَقَدُّمُهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وُجُودًا وَرُتْبَةً {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] : آخِرُهُ {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وَهَذَا النِّدَاءُ خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ لَا عَلَى أَنَّهُمْ خُوطِبُوا بِذَلِكَ دُفْعَةً وَاحِدَةً ; لِأَنَّهُمْ أُرْسِلُوا فِي أَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، بَلْ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ خُوطِبَ بِهِ فِي زَمَانِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا النِّدَاءُ يَوْمَ الْمِيثَاقِ لِخُصُوصِ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ - تَعَالَى - لَيْسَ عِنْدَهُ صَبَاحٌ وَلَا مَسَاءٌ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ إِبَاحَةَ الطَّيِّبَاتِ شَرْعٌ قَدِيمٌ، وَاعْتِرَاضٌ عَلَى الرَّهْبَانِيَّةِ فِي رَفْضِهِمُ اللَّذَّاتِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ أَكْلَ الطَّيِّبَاتِ مُوَرِّثٌ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَهُوَ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى -. (وَقَالَ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا} [البقرة: 172] : الْأَمْرُ لِلْإِبَاحَةِ أَوْ لِلْوُجُوبِ، كَمَا لَوْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ أَوْ لِلنَّدْبِ كَمُوَافَقَةِ الضَّيْفِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] : أَيْ: حَلَالَاتِهِ أَوْ مُسْتَلَذَّاتِهِ وَتَتِمَّتِهِ: {وَاشْكُرُوا لِلَّهَ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172] وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ
- تَعَالَى - خَلَقَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لِعَبِيدِهِ، كَمَا قَالَ:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] وَأَنَّهُ خَلَقَ عَبِيدَهُ لِمَعْرِفَةٍ وَطَاعَةٍ كَمَا قَالَ - تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ - مَا أُرِيدَ مِنْهُمْ مَنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56 - 57](ثُمَّ ذَكَرَ ": أَيِ: الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم (الرَّجُلَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ لِلْمَفْعُولِيَّةِ (يُطِيلُ السَّفَرَ) : أَيْ: زَمَانَهُ وَيُكْثِرُ مُبَاشَرَتَهُ فِي الْعِبَادَاتِ، كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْجِهَادِ وَتَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ. (أَشْعَثَ، أَغْبَرَ) : حَالَانِ مُتَدَاخِلَانِ، أَوْ مُتَرَادِفَانِ، وَكَذَا قَوْلُهُ:(يَمُدُّ يَدَيْهِ) : أَيْ مَادًّا يَدَيْهِ رَافِعًا بِهِمَا (إِلَى السَّمَاءِ) : لِأَنَّهَا قِبْلَةُ الدُّعَاءِ قَائِلًا مُكَرِّرًا (يَا رَبِّ! يَا رَبِّ!) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الدُّعَاءَ بِلَفْظِ الرَّبِّ مُؤَثِّرٌ فِي الْإِجَابَةِ لِإِيذَانِهِ بِالِاعْتِرَافِ بِأَنَّ وَجُودَهُ فَائِضٌ عَنْ تَرْبِيَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَجُودِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَلِذَا قَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: مَنْ حَزَبَهُ أَمْرٌ فَقَالَ خَمْسَ مَرَّاتٍ: رَبَّنَا نَجَّاهُ اللَّهُ مِمَّا يَخَافُ، وَأَعْطَاهُ مَا أَرَادَ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - حَكَى عَنْهُمْ فِي آلِ عِمْرَانَ: أَنَّهُمْ قَالُوا خَمْسًا (] فَاسْتَجَابَ [لَهُمْ رَبُّهُمْ)(وَمَطْعَمُهُ) : مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَوِ اسْمُ مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ، طَعَامُهُ (حَرَامٌ) : وَالْجُمْلَةُ حَالٌ أَيْضًا، وَكَذَا قَوْلُهُ (وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ) : بِضَمِّ الْغَيْنِ وَكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الْمُخَفَّفَةِ، كَذَا ضَبَطَهُ النَّوَوِيُّ رحمه الله، وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: وَقَعَتْ مُقَيَّدَةً بِالتَّشْدِيدِ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله وَهُوَ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ وَالْمَعْنَى رُبِّيَ (بِالْحَرَامِ) : أَيْ: مِنْ صِغَرِهِ إِلَى كِبَرِهِ.
قَالَ الْأَشْرَفُ: ذُكِرَ قَوْلُهُ: " وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ " بَعْدَ قَوْلِهِ " وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ " إِمَّا لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِمَّنْ كَوْنُ الْمَطْعَمُ حَرَامًا التَّغْذِيَةُ بِهِ، وَإِمَّا تَنْبِيهًا بِهِ عَلَى اسْتِوَاءِ حَالَيْهِ، أَعْنِي كَوْنَهُ مُنْفِقًا فِي حَالِ كِبَرِهِ وَمُنْفَقًا عَلَيْهِ فِي حَالِ صِغَرِهِ فِي وُصُولِ الْحَرَامِ إِلَى بَاطِنِهِ، فَأَشَارَ بِقَوْلِهِ:" مَطْعَمُهُ حَرَامٌ " إِلَى حَالِ كِبَرِهِ وَبِقَوْلِهِ: " وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ " إِلَى حَالِ صِغَرِهِ، وَهَذَا دَالٌّ عَلَى أَنْ لَا تَرْتِيبَ فِي الْوَاوِ، وَذَهَبَ الْمُظْهِرُ إِلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَرَجَّحَ الطِّيبِيُّ رحمه الله الْوَجْهَ الْأَوَّلَ، وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ عَدَمَ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ مُصِرًّا عَلَى تَلَبُّسِ الْحَرَامِ وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ. قَالَ الْأَشْرَفُ:" يُطِيلُ " مَحَلُّهُ نَصْبُ صِفَةٍ لِلرَّجُلِ، لِأَنَّ جِنْسَ الْمَعْرِفَةِ بِمَنْزِلَةِ النَّكِرَةِ كَقَوْلِهِ: (
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي
) قُلْتُ: وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: قَوْلُهُ: ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ - يُرِيدُ الرَّاوِي - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَّبَ كَلَامَهُ بِذِكْرِ الرَّجُلِ الْمَوْصُوفِ اسْتِبْعَادًا، أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَقْبَلُ دُعَاءَ آكِلِ الْحَرَامِ لِبُغْضِهِ الْحَرَامَ، وَبُعْدِ مُنَاسَبَتِهِ عَنْ جَنَابِهِ الْأَقْدَسِ، فَأَوْقَعَ فِعْلَهُ عَلَى الرَّجُلِ وَنَصَبَهُ، وَلَوْ حَكَى لَفْظَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم رَفَعَ الرَّجُلَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ يُطِيلُ، وَقَوْلُهُ: أَشْعَثَ وَأَغْبَرَ حَالَانِ مُرَادِفَتَانِ مِنْ فَاعِلِ يَمُدُّ أَيْ يَمُدُّ يَدَيْهِ قَائِلًا: يَا رَبِّ، وَقَوْلُهُ: وَمَطْعَمُهُ، وَمَشْرَبُهُ، وَمَلْبَسُهُ، وَغُذِّيَ، حَالٌ مِنْ فَاعِلِ قَائِلًا، وَكُلُّ هَذِهِ الْحَالَاتِ دَالَّةٌ عَلَى غَايَةِ اسْتِحْقَاقِ الدَّاعِي لِلْإِجَابَةِ، وَدَلَّتْ تِلْكَ الْخَيْبَةُ عَلَى أَنَّ الصَّارِفَ قَوِيٌّ وَالْحَاجِزَ مَانِعٌ شَدِيدٌ. اهـ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَكُلُّ هَذِهِ الْحَالَاتِ تَوَسُّعٌ لِخُرُوجِ مَطْعَمِهِ الْخَ. فَإِنَّهَا حَالَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الدَّاعِي عَدَمَ الْإِجَابَةِ كَمَا قَالَ: (فَأَنَّى) : أَيْ: فَكَيْفَ أَوْ فَمِنْ أَيْنَ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلِاسْتِبْعَادِ مِنْ أَنْ (يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟) : أَيْ: لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَوْ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ. قَالَ الْأَشْرَفُ رحمه الله: وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ حِلَّ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ مِمَّا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إِجَابَةُ الدُّعَاءِ، وَلِذَا قِيلَ: إِنَّ لِلدُّعَاءِ خَبًّا حِينَ أَكَلَ الْحَلَالَ وَصَدَقَ الْمَقَالَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله تَعَالَى: أَرَادَ بِالرَّجُلِ الْحَاجَّ الَّذِي أَثَّرَ فِيهِ السَّفَرُ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْجَهْدُ، وَأَصَابَهُ الشَّعَثُ، وَعَلَاهُ الْغَبَرَةُ فَطَفِقَ يَدْعُو اللَّهَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، وَعِنْدَهُ أَنَّهُمَا مِنْ مَظَانِّ الْإِجَابَةِ، فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُ، وَلَا يُعْبَأُ بِبُؤْسِهِ وَشَقَائِهِ لِأَنَّهُ مُلْتَبِسٌ بِالْحَرَامِ صَارِفُ النَّفَقَةِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: فَإِذَا كَانَ حَالُ الْحَاجِّ الَّذِي هُوَ سَبِيلُ اللَّهِ هَذَا فَمَا بَالُ غَيْرِهِ، وَفِي مَعْنَاهُ أَمْرُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«طُوبَى لِعَبْدٍ أَخَذَ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغَبَّرَةٍ قَدَمَاهُ» ". اهـ
وَاعْلَمْ أَنَّ طِيبَ الْمَطْعَمِ لَهُ خَاصِّيَّةٌ عَظِيمَةٌ، وَتَأْكِيدُ اسْتِعْدَادِهِ لِقَبُولِ أَنْوَارِ الْمَعْرِفَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بِنَاءَ الْأَمْرِ بَعْدَ حِفْظِ السُّنَّةِ وَمُجَانَبَةِ كُلِّ صَاحِبٍ يُفْسِدُ الْوَقْتَ، وَكُلِّ سَبَبٍ يَفْتِنُ الْقَلْبَ عَلَى صَوْنِ الْيَدِ عَنِ الْحَرَامِ وَالشُّبْهَةِ، وَأَقَلُّهُ أَنْ يَحْتَرِزَ مِمَّا حَرَّمَهُ فَتْوَى الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ وَرَعُ الْعَامَّةِ، ثُمَّ يَمْتَنِعَ عَمَّا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ احْتِمَالُ التَّحْرِيمِ، وَإِنْ أَفْتَى الْمُفْتِي بِحِلِّهِ، وَهُوَ وَرَعُ الصَّالِحِينَ، ثُمَّ تَرَكَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ مَخَافَةَ مَا فِيهِ بَأْسٌ، وَهُوَ وَرَعُ الْمُتَّقِينَ، ثُمَّ الْحَذَرُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يُرَادُ بِتَنَاوُلِهِ الْقُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، أَوْ يَتَطَرَّقُ إِلَى بَعْضِ أَسْبَابِهِ مَعْصِيَةٌ أَوْ كَرَاهَةٌ، وَهُوَ وَرَعُ الصِّدِّيقِينَ. هَذَا وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَا يُوجَدُ الْحَلَالُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَلْيَكْتَفِ السَّالِكُ مِنْ غَيْرِهِ بِمَا يَحْفَظُ رَوْعًا لِئَلَّا يَمُوتَ جُوعًا قَالَ بَعْضُ الظُّرَفَاءِ:
يَقُولُ لِيَ الْجَهُولُ بِغَيْرِ عِلْمٍ
…
دَعِ الْمَالَ الْحَرَامَ وَكُنْ قَنُوعًا
فَلَمَّا لَمْ أَجِدْ مَالًا حَلَالًا
…
وَلَمْ آكُلْ حَرَامًا مِتُّ جُوعًا
لَكِنْ يَجِبُ أَنْ يُرَاعَى دَرَجَاتُ الْحَرَمِ وَالشُّبْهَةِ فَمَهْمَا وَجَدَ مَا يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْحَلَالِ لَا يَتَنَاوَلُ مِمَّا يَكُونُ أَبْعَدَ مِنْهُ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: الْمُضْطَرُّ إِذَا وَجَدَ غَنَمًا مَيْتًا فَلَا يَأْكُلْ مِنَ الْحِمَارِ الْمَيِّتِ، وَإِذَا وَجَدَ الْحِمَارَ فَلَا يَتَنَاوَلُ مِنَ الْكَلْبِ، وَإِذَا وَجَدَ الْكَلْبَ لَا يَقْرَبُ مِنَ الْخِنْزِيرِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ كَسُفَهَاءِ الْفُقَهَاءِ حَيْثُ يَقُولُونَ: الْحَلَالُ مَا حَلَّ بِنَا، وَالْحَرَامُ مَا حَرُمَ مِنَّا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
2761 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يَأْتِي عَلَى الْمَرْءِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ، أَمِنَ الْحَلَالِ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
2761 -
(وَعَنْهُ) : أَيْ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ " أَيْ: فِيهِ (مَا أَخَذَ مِنْهُ) أَيْ: مِنْ أَهْلِ الزَّمَانِ (أَمِنَ الْحَلَالِ) : أَيْ: هُوَ (أَمْ مِنَ الْحَرَامِ) : فَضَمِيرُ مِنْهُ رَاجِعٌ إِلَى الزَّمَانِ بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ، وَمَا أُرِيدَ بِهِ الْمَالُ، وَإِنَّمَا أُبْهِمَ لِيَشْتَمِلَ أَنْوَاعَ الْمَأْخُوذِ مِنَ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِهِمَا. قِيلَ: الضَّمِيرُ فِي " مِنْهُ " ضَمِيرُ شَيْءٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ هُنَا، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَالُ، وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ بِرِوَايَةٍ أُخْرَى، وَفِيهَا لَفْظُ: الْمَالِ، يَعْنِي لَا يُبَالِي بِمَا أَخَذَهُ مِنَ الْمَالِ، وَبِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْمَالِ أَحَلَالٌ هُوَ أَمْ حَرَامٌ؟ لَا تَفَاوُتَ بَيْنِهِمَا. ذَكَرَهُ مِيرَكُ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ " مَا " مَوْصُولَةً أَوْ مَوْصُوفَةً، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ رَاجِعٌ إِلَيْهَا، وَمِنْ زَائِدَةٌ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، وَمَا مَنْصُوبٌ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ أَيْ: لَا يُبَالِي. بِمَا أَخَذَ مِنَ الْمَالِ وَأَمْ مُتَّصِلَةٌ وَمُتَعَلِّقٌ مِنْ مَحْذُوفٍ، وَالْهَمْزَةُ قَدْ سُلِبَ عَنْهَا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَجُرِّدَتْ لِمَعْنَى الِاسْتِوَاءِ فَقَوْلُهُ: مِنَ الْحَلَالِ أَخَذَ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ فِي مَوْضِعِ الِابْتِدَاءِ، وَلَا يُبَالِي خَبَرٌ مُقَدَّمٌ يَعْنِي الْأَخْذَ مِنَ الْحَلَالِ. وَمِنَ الْحَرَامِ مُسْتَوٍ عِنْدَهُ، (وَلَا يُبَالِي بِأَيِّهِمَا أَخَذَ)، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرَتْهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6] أَيْ: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ إِنْذَارُكَ وَعَدَمُهُ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
2762 -
وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبَهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2762 -
وَعَنِ النُّعْمَانِ: بِضَمِّ النُّونِ (ابْنِ بَشِيرٍ) : قَالَ الْمُصَنِّفُ: لِأَبَوَيْهِ صُحْبَةٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْحَلَالُ بَيِّنٌ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ أَيْ: وَاضِحٌ لَا يَخْفَى حَدُّهُ بِأَنْ وَرَدَ نَصٌّ عَلَى حِلِّهِ أَوْ مُهِّدَ أَصْلٌ يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُ الْجُزَيْئَاتِ مِنْهُ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] فَإِنَّ اللَّامَ لِلنَّفْعِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْحِلُّ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَضَرَّةٌ (وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ) : أَيْ: ظَاهِرٌ لَا تَخْفَى حُرْمَتُهُ بِأَنْ وَرَدَ
نَصٌّ عَلَى حُرْمَتِهِ، كَالْفَوَاحِشِ وَالْمَحَارِمِ وَمَا فِيهِ حَدٌّ وَعُقُوبَةٌ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَنَحْوِهَا، أَوْ مُهِّدَ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنْهُ نَحْوُ:" كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ "(وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: أُمُورٌ مُلْتَبِسَةٌ غَيْرُ مُبَيَّنَةٍ لِكَوْنِهَا ذَاتَ جِهَةٍ إِلَى كُلٍّ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، (لَا يَعْلَمُهُنَّ) : أَيْ: حَقِيقَتَهُنَّ (كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) : لِتَعَارُضِ الْأَمَارَتَيْنِ، وَقَلِيلٌ مِنْهُمْ وَهُمُ الْمُجْتَهِدُونَ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ بِقُوَّةِ تَرْجِيحِ إِحْدَى الْعَلَامَتَيْنِ. فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: جُمْلَةُ الشُّبَهَاتِ الْمُعَارِضَةِ فِي الْأُمُورِ قِسْمَانِ. أَحَدُهُمَا: مَا لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ فِي تَحْلِيلٍ وَلَا تَحْرِيمٍ، فَالْوَرَعُ تَرْكُهُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، فَعَلَيْهِ التَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ، وَلَا يَنْحَرِفُ عَنْهُ إِلَّا بِيَقِينِ عِلْمٍ.
قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى عِظَمِ مَوْقِعِ هَذَا الْحَدِيثِ وَكَثْرَةِ فَوَائِدِهِ، فَإِنَّهُ أَحَدُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الْإِسْلَامِ، قِيلَ: هِيَ ثَلَاثٌ: حَدِيثُ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ، وَحَدِيثُ: مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرَكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَسَبَبُ عِظَمِ مَوْقِعِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَبَّهَ فِيهِ عَلَى صَلَاحِ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ وَغَيْرِهَا بِأَنْ يَكُونَ حَلَالًا، وَأَرْشَدَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحَلَالِ بِأَنْ أَوْضَحَ ذَلِكَ بِضَرْبِ الْمَثَلِ بِالْحِمَى، وَأَتَمَّ ذَلِكَ بَيَانُ مَنْبَعِ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ وَمَعْدِنِهِمَا، فَقَوْلُهُ:" الْحَلَالُ بَيِّنٌ " الْخَ. مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَشْيَاءَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: حَلَالٌ بَيِّنٌ كَالْخُبْزِ وَالْفَوَاكِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَطْعُومَاتِ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ وَالنَّظَرُ وَالنِّكَاحُ وَالْمَشْيُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ. وَحَرَامٌ بَيِّنٌ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ، وَكَذَلِكَ الزِّنَا وَالْكَذِبُ وَالْغَيْبَةُ وَالنَّمِيمَةُ وَالنَّظَرُ إِلَى الْأَمْرَدِ، وَإِلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، وَالْمُتَشَابِهُ هُوَ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ، فَاشْتُبِهَ عَلَى النَّاظِرِ بِأَيِّهِمَا يَلْحَقُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:" لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ "، وَفِيهِ أَنَّهُ يَعْلَمُهَا قَلِيلٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ أَوِ اسْتِصْحَابٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِذَا تَرَدَّدَ الشَّيْءُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ نَصٌّ أَوْ إِجْمَاعٌ اجْتَهَدَ فِيهِ الْمُجْتَهِدُ فَأَلْحَقَهُ بِأَحَدِهَا بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، فَإِذَا أَلْحَقَهُ بِهِ صَارَ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا، فَإِذَا فَقَدَ هَذِهِ الدَّلَائِلَ فَالْوَرَعُ تَرْكُهُ، لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ:(فَمَنِ اتَّقَى الشُّبَهَاتِ) : أَيِ: اجْتَنَبَهَا (اسْتَبْرَأَ) : أَيْ: بَالَغَ فِي الْبَرَاءَةِ أَوْ حَصَّلَ الْبَرَاءَةَ بِالصِّيَانَةِ (لِدِينِهِ) : مِنَ الذَّمِّ الشَّرْعِيِّ (وَعِرْضِهِ) : مِنْ كَلَامِ الطَّاعِنِ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَخْرَجٌ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي حُكْمِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَالْأَصَحُّ أَنْ لَا يُحْكُمَ بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ وَلَا إِبَاحَةٍ، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالشَّرْعِ، وَالثَّانِي أَنَّ حُكْمَهُ التَّحْرِيمُ، وَالثَّالِثُ الْإِبَاحَةُ. (وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبَهَاتِ) : أَيْ: هَجَمَ عَلَيْهَا وَتَخَطَّى خُطَطَهَا وَلَمْ يَتَوَقَّفْ دُونَهَا (وَقَعَ فِي الْحَرَامِ) : قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: الْوُقُوعُ فِي الشَّيْءِ السُّقُوطُ فِيهِ، وَكُلُّ سُقُوطٍ شَدِيدٍ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِذَلِكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ يُكْثِرُ تَعَاطِي الشُّبَهَاتِ يُصَادِفُ الْحَرَامَ وَإِنْ لَمْ يَعْمَدْهُ، وَقَدْ يَأْثَمُ بِذَلِكَ إِذَا قَصَّرَ فِي التَّحَرِّي، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَعْتَادُ التَّسَاهُلَ، وَيَتَمَرَّنُ عَلَيْهِ، وَيَجْسُرُ عَلَى شُبْهَةٍ ثُمَّ شُبْهَةٍ أَغْلَظَ مِنْهَا وَهَلُمَّ جَرَّا، إِلَى أَنْ يَقَعَ فِي الْحَرَامِ عَمْدًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمُ: الْمَعَاصِي تَسُوقُ إِلَى الْكُفْرِ، (كَالرَّاعِي) : ضَرْبُ مَثَلٍ، وَفَائِدَتُهُ تَجْلِيَةُ الْمَعَانِ الْمَعْقُولَةِ بِصُوَرِ الْمَحْسُوسَاتِ لِزِيَادَةِ الْكَشْفِ، وَلَهُ شَأْنٌ عَجِيبٌ فِي إِبْرَازِ الْحَقَائِقِ، وَرَفْعِ الْأَسْتَارِ عَنْ وُجُوهِ الدَّقَائِقِ، وَلِذَا كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَالْمَعْنَى: حَالُ مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبَهَاتِ حَيْثُ يُخَافُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَقَعُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ، كَحَالِ الرَّاعِي أَيِ: الرَّاتِعِ (يَرْعَى) : صِفَةُ الرَّاعِي لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى كَالنَّكِرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا (حَوْلَ الْحِمَى) بِكَسْرِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ مِيمٍ مُخَفَّفَةٍ، وَهُوَ الْمَرْعَى الَّذِي يَحْمِيهِ السُّلْطَانُ مِنْ أَنْ يَرْتَعَ مِنْهُ غَيْرُ رُعَاةِ دَوَابِّهِ، وَهَذَا الْمَنْعُ غَيْرُ جَائِزٍ إِلَّا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِهِ " «لَا حِمًى إِلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» " (يُوشِكُ) : أَيْ: يَقْرُبُ وَيَسْرُعُ (أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ) : أَيْ: فِي نَفْسِ الْحِمَى بِنَاءً عَلَى تَسَاهُلِهِ فِي الْمُحَافَظَةِ، وَجَرَاءَتِهِ عَلَى الرَّعْيِ، وَعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، فَيَسْتَحِقُّ عِقَابَ الْمَلِكِ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ: أَنْ يَقَعَ فِيهِ، وَفِي لَفْظِ: أَنْ يُوَاقِعَهُ، فَالرَّاعِي يَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِمَعْنَى مَنْ يَرْعَى الْغَنَمَ وَالْإِبِلَ وَنَحْوَهَا. (أَلَا) : مُرَكَّبَةٌ مِنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ وَحَرْفِ النَّفْيِ، لِإِعْطَاءِ مَعْنَى التَّنْبِيهِ عَلَى تَحَقُّقِ مَا بَعْدَهَا (وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ) : أَيْ: عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ، أَوْ إِخْبَارٌ عَمَّا
يَكُونُ عَلَيْهِ ظُلَمَةُ الْإِسْلَامِيَّةِ (حِمًى) : يَمْنَعُ النَّاسَ عَنْهُ وَيُعَاقَبُونَ عَلَيْهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْوَاوَ هِيَ الِابْتِدَائِيَّةُ الَّتِي تَسَمَّى النُّحَاةُ الِاسْتِئْنَافِيَّةَ عَلَى انْقِطَاعِ مَا بَعْدَهَا عَمَّا قَبْلَهَا فِي الْجُلِّ، كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا عَاطِفَةٌ لِمَا يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِهِ:(أَلَا) أُنَبِّهَ، وَمِنْ قَوْلِهِ:(إِن لِكُلِّ مَلِكٍ)(حَقًّا) ، فَبِهَذَا التَّأْوِيلِ صَحَّ الْعَطْفُ، إِذْ عَطْفُ الْمُفْرَدِ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِاعْتِبَارِ أَنْ يَتَضَمَّنَ الْمُفْرَدُ مَعْنَى الْفِعْلِ كَمَا حُقِّقَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى:{فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} [الأنعام: 96](أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ) : وَهِيَ أَنْوَاعُ الْمَعَاصِي، فَمَنْ دَخَلَهُ بِارْتِكَابِ شَيْءٍ مِنْهَا اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهَا، فَمِنْهَا مَا لَا يُغْفَرُ وَهُوَ الشِّرْكُ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، وَالْكُلُّ مَغْفُورٌ بِالتَّوْبَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ شَبَّهَ الْمَحَارِمَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَمْنُوعٌ التَّبْسِيطُ فِيهَا بِحِمَى السُّلْطَانِ، وَلَمَّا كَانَ التَّوَرُّعُ وَالتَّهَتُّكُ مِمَّا يَسْتَتْبِعُ مَيَلَانَ الْقَلْبِ إِلَى الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:(أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةٌ) وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنَ اللَّحْمِ قَدْرَ مَا يُمْضَغُ، وَسُمِّيَ الْقَلْبُ بِهَا لِأَنَّهَا قِطْعَةٌ مِنَ الْجَسَدِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْمُرَادُ تَصْغِيرُ الْقَلْبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِي الْجَسَدِ، مَعَ أَنَّ صَلَاحَ الْجَسَدِ وَفَسَادَهُ تَابِعَانِ لَهُ. (إِذَا صَلَحَتْ) : بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّهَا، فَالْأَوَّلُ أَوْ صَحَّ أَيْ: إِذَا تَنَوَّرَتْ بِالْإِيمَانِ وَالْعِرْفَانِ وَالْإِيقَانِ (صَلُحَ الْجَسَدُ) : أَيْ: أَعْضَاؤُهُ (كُلُّهُ) : بِالْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَحْوَالِ " وَإِذَا فَسَدَتْ " بِفَتْحِ السِّينِ وَقِيلَ ضَمُّهَا أَيْضًا أَيْ: (إِذَا تَلَفَتْ وَأَظْلَمَتْ بِالْجُحُودِ وَالشَّكِّ وَالْكُفْرَانِ (فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ) : أَيْ: بِالْفُجُورِ وَالْعِصْيَانِ، فَعَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يُقْبِلَ عَلَيْهَا وَيَمْنَعَهَا عَنِ الِانْهِمَاكِ فِي الشَّهَوَاتِ، حَتَّى لَا يُغَادِرَ إِلَى الشُّبَهَاتِ، وَلَا يَسْتَعْمِلَ جَوَارِحَهُ بِاقْتِرَافِ الْمُحَرَّمَاتِ. (وَأَلَا وَهِيَ) : أَيِ الْمُضْغَةُ الْمَوْصُوفَةُ (الْقَلْبُ) : فَهُوَ كَالْمَلِكِ، وَالْأَعْضَاءُ كَالرَّعِيَّةِ، فَأَهَمُّ الْأُمُورِ مُرَاعَاتُهُ، فَإِنْ صَدَرَ عَنْهُ إِرَادَةٌ صَالِحَةٌ تَحَرَّكُ الْجَسَدُ حَرَكَةً صَالِحَةً وَبِالْعَكْسِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا قِيلَ: النَّاسُ عَلَى دِينِ مُلُوكِهِمْ، وَالْإِنَاءُ يَتَرَشَّحُ بِمَا فِيهِ، وَالْقَلْبُ لُغَةً صَرْفُ الشَّيْءِ إِلَى عَكْسِهِ، وَمِنْهُ الْقَلْبُ سُمِّيَ بِهِ لِكَثْرَةِ تَقَلُّبِهِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ حَدِيثُ:«إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ» ". وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "«مَثَلُ الْقَلْبِ كَرِيشَةٍ بِأَرْضِ فَلَاةٍ تُقَلِّبُهَا الرِّيَاحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ» ". وَلِهَذَا «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» ". وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
قَدْ سُمِّيَ الْقَلْبُ قَلْبًا مِنْ تَقَلُّبِهِ
…
فَاحْذَرْ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ قَلْبٍ وَتَحْوِيلِ
وَلَهُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ الْمُضْغَةُ الصُّنُوبَرِيَّةُ الْمُودَعَةُ فِي التَّجْوِيفِ الْأَيْسَرِ مِنَ الصَّدْرِ، وَهُوَ مَحَلُّ اللَّطِيفَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ. وَلِذَا نُسِبَ إِلَيْهِ الصَّلَاحُ وَالْفَسَادُ، وَبَاطِنٌ وَهُوَ اللَّطِيفَةُ النُّورَانِيَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ الْعَالِمَةُ الَّتِي هِيَ مَهْبِطُ الْأَنْوَارِ الْإِلَهِيَّةِ، وَبِهَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ إِنْسَانًا، وَبِهَا يَسْتَعِدُّ لِامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَبِهَا صَلَاحُ الْبَدَنِ وَفَسَادُهُ، وَهِيَ خُلَاصَةٌ تَوَلَّدَتْ مِنَ الرُّوحِ الرُّوحَانِيِّ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالنَّفْسِ النَّاطِقَةِ. قَالَ - تَعَالَى:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] وَالرُّوحُ قَالَ عز وجل: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] وَهُوَ مَقَرُّ الْإِيمَانِ " {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة: 22] "، كَمَا أَنَّ الصَّدْرَ مَحَلُّ الْإِسْلَامِ {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الزمر: 22] وَالْفُؤَادُ مَقَرُّ الْمُشَاهَدَةِ {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] " وَاللُّبُّ مَقَامُ التَّوْحِيدِ {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد: 19] الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ قِشْرِ الْوُجُودِ الْمُجَازَيِّ، وَبَقُوا بِلُبِّ الْوُجُودِ الْحَقِيقِيِّ، لَكِنَّ مَعْرِفَتَهُ كَمَا هِيَ مُتَعَذَّرَةٌ، وَالْإِشَارَةُ إِلَى حَقِيقَتِهَا عَلَى أَرْبَابِ الْحَقَائِقِ مُتَعَسِّرَةٌ، هَذَا وَفِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ صَلَاحَهُ إِنَّمَا هُوَ بِأَنْ يَتَغَذَّى بِالْحَلَالِ فَيَصْفُو، وَيَتَأَطَّرُ الْقَلْبُ بِصَفَائِهِ وَيَتَنَوَّرُ، فَيَنْعَكِسَ نُورُهُ إِلَى الْجَسَدِ فَيَصْدُرُ مِنْهُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِصَلَاحِهَا، وَإِذَا تَغَذَّى بِالْحَرَامِ يَصِيرُ مَرْتَعًا لِلشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ، فَيَتَكَدَّرُ وَيَتَكَدَّرُ الْقَلْبُ فَيُظْلِمُ، وَتَنْعَكِسُ ظُلْمَتُهُ إِلَى الْبَدَنِ فَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ إِلَّا الْمَعَاصِي، وَهُوَ الْمُرَادُ بِفَسَادِهَا. هَذَا زُبْدَةُ كَلَامِ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ، وَخُلَاصَةُ تَحْقِيقِ بَعْضِ الْمُدَقِّقِينَ.
وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي الْوَرَعِ، وَهُوَ أَنَّ مَا اشْتَبَهَ أَمْرُهُ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ مُتَقَدِّمٌ، فَالْوَرَعُ أَنْ يَتْرُكَهُ وَيَجْتَنِبَهُ، فَإِنَّهُ إِذْ لَمْ يَتْرُكْهُ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ وَاعْتَادَهُ جَرَّ ذَلِكَ إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ، فَلَوْ وَجَدَ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا لَا يَدْرِي هَلْ هُوَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ فَالْوَرَعُ أَنْ يَجْتَنِبَهُ، وَلَا عَلَيْهِ إِنْ تَنَاوَلَهُ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ، وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ مُعَامَلَةُ مَنْ فِي مَالِهِ شُبْهَةٌ أَوْ خَالَطَهُ رِبًا، فَالْأَوْلَى أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْهَا وَيَتْرُكَهَا، وَلَا يَحْكُمَ بِفَسَادِهَا مَا لَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّ عَيْنَهُ حَرَامٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَهَنَ دِرْعَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ بِشَعِيرٍ أَخْذَهُ لِقُوتِ أَهْلِهِ، مَعَ أَنَّهُمْ يُرْبُونَ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ وَيَسْتَحِلُّونَ أَثْمَانَ الْخُمُورِ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: لَا تَسْأَلُ السَّلَاطِينَ فَإِنْ أَعْطَوْكَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ يُصِيبُونَ مِنَ الْحَلَالِ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْطُونَكَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ يَأْخُذُ جَوَائِزَ السُّلْطَانِ، وَكَانَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَابْنُ سِيرِينَ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ لَمْ يَقْبَلُوا جَوَائِزَ السُّلْطَانِ، فَقِيلَ لِابْنِ الْمُسَيَّبِ؟ قَالَ: قَدْ رَدَّهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي عَلَى مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ. قَالَ أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدٌ الْغَزَالِيُّ رحمه الله: إِنَّ السَّلَاطِينَ فِي زَمَانِنَا هَذَا ظُلَمَةٌ، قَلَّمَا يَأْخُذُونَ شَيْئًا عَلَى وَجْهِهِ بِحَقِّهِ، فَلَا تَحِلُّ مُعَامَلَتُهُمْ وَلَا مُعَامَلَةُ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ حَتَّى الْقَاضِي، وَلَا التِّجَارَةُ الَّتِي فِي الْأَسْوَاقِ الَّتِي بَنَوْهَا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْوَرَعُ اجْتِنَابُ الرُّبَطِ وَالْمَدَارِسِ وَالْقَنَاطِرِ الَّتِي بَنَوْهَا بِالْأَمْوَالِ الْمَغْصُوبَةِ الَّتِي لَا يُعْلَمُ مَالِكُهَا. وَرَوَى ابْنُ الْأَثِيرِ فِي كِتَابِ الْمَنَاقِبِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: كُنْتُ لَيْلَةً مَعَ سُفْيَانِ الثَّوْرِيِّ فَرَأَى نَارًا مِنْ بَعِيدٍ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقُلْتُ: نَارُ صَاحِبِ الشُّرْطَةِ، فَقَالَ: اذْهَبْ بِنَا فِي طَرِيقٍ آخَرَ لِأَنَّهُ يَسْتَضِيءُ بِنَارِهِمْ، قُلْتُ: وَمَا أَنْسَبُ قَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113] (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
2763 -
وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ» " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2763 -
(وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ) : اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْكَلْبِ مُعَلَّمًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَأَجَابَ عَنِ الْحَدِيثِ بِأَنَّ لَفْظَ الْخَبِيثِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحُرْمَةِ لِمَا فِي الْخَبَرِ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ اتِّفَاقًا فَقَوْلُهُ: خَبِيثٌ أَيْ: لَيْسَ بِطَيِّبٍ فَهُوَ مَكْرُوهٌ لَا حَرَامٌ، وَإِطْلَاقُ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ حُصُولِهِ بِأَدْنَى الْمَكَاسِبِ، (وَمَهْرُ الْبَغِيِّ) : بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَهُوَ فَعَوْلٌ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى الْفَاعِلَةِ مِنْ بَغَتِ الْمَرْأَةُ بِغَاءً بِالْكَسْرِ إِذَا زَنَتْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى:{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور: 33] وَالْمَعْنَى مَهْرُ الزَّانِيَةِ (خَبِيثٌ) أَيْ: حَرَامٌ إِجْمَاعًا لِأَنَّهَا تَأْخُذُهُ عِوَضًا عَنِ الزِّنَا الْمُحَرَّمِ، وَوَسِيلَةُ الْحَرَامِ حَرَامٌ، وَسَمَّاهُ مَهْرًا مَجَازًا لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الْبُضْعِ (وَكَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ) : أَيْ: مَكْرُوهٌ لِدَنَاءَتِهِ. قَالَ الْقَاضِي: الْخَبِيثُ فِي الْأَصْلِ مَا يُكْرَهُ لِرَدَاءَتِهِ وَخِسَّتِهِ، وَيُسْتَعْمَلُ لِلْحَرَامِ مِنْ حَيْثُ كَرِهَهُ الشَّارِحُ وَاسْتَرْذَلَهُ، كَمَا يُسْتَعْمَلُ الطَّيِّبُ لِلْحَلَالِ. قَالَ - تَعَالَى:{وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء: 2] أَيِ الْحَرَامَ بِالْحَلَالِ، وَلَمَّا كَانَ مَهْرُ الزَّانِيَةِ وَهُوَ مَا تَأْخُذُهُ عِوَضًا عَنِ الزِّنَا حَرَامًا ; كَانَ الْخَبِيثُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ بِمَعْنَى الْحَرَامِ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ حَرَامًا لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الثَّانِي، وَأَمَّا نَهْيُ بَيْعِ الْكَلْبِ، فَمَنْ صَحَّحَهُ كَالْحَنَفِيَّةِ فَسَّرَهُ بِالدَّنَاءَةِ، وَمَنْ لَمْ يُصَحِّحْهُ كَأَصْحَابِنَا فَسَّرَهُ بِأَنَّهُ حَرَامٌ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
2764 -
وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ رضي الله عنه «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2764 -
(وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ)«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ» ) : هُوَ مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى مَا كَانَ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَمَرَ بِقَتْلِهِ، وَكَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ يَوْمَئِذٍ مُحَرَّمًا، ثُمَّ رُخِّصَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ قَضَى فِي كَلْبِ صَيْدٍ قَتَلَهُ رَجُلٌ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَقَضَى فِي كَلْبِ مَاشِيَةٍ بِكَبْشٍ، ذَكَرَهُ
ابْنُ الْمَلَكِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَأَنْ لَا قِيمَةَ عَلَى مُتْلِفِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُعَلَّمًا أَوْ لَا. وَسَوَاءٌ كَانَ يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ أَمْ لَا. وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله بَيْعَ الْكَلْبِ الَّذِي فِيهِ مَنْفَعَةٌ، وَأَوْجَبَ الْقِيمَةَ عَلَى مُتْلِفِهِ. وَعَنْ مَالِكٍ رحمه الله رِوَايَاتٌ. الْأُولَى: لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ وَتَجِبُ الْقِيمَةُ، وَالثَّانِيَةُ: كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله، وَالثَّالِثَةُ كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ. (وَمَهْرُ الْبَغِيِّ) : سَبَقَ بَيَانُهُ (وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ) : بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ، مَا يُعْطَاهُ عَلَى كَهَانَتِهِ قَالَ الْهَرَوِيُّ: أَصْلُهُ مِنَ الْحَلَاوَةِ شَبَّهُ الْمُعْطَى بِالشَّيْءِ الْحُلْوِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَأْخُذُهُ سَهْلًا بِلَا كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ، وَالْكَاهِنُ هُوَ الَّذِي يَتَعَاطَى الْأَخْبَارَ عَنِ الْكَائِنَاتِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيَدَّعِي مَعْرِفَةَ الْأَسْرَارِ، وَكَانَتْ فِي الْعَرَبِ كَهَنَةٌ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ كَثِيرًا مِنَ الْأُمُورِ الْكَائِنَةِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ لَهُمْ تَابِعَةً مِنَ الْجِنِّ تُلْقِي إِلَيْهِمُ الْأَخْبَارَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ يُدْرِكُ الْأُمُورَ بِفَهْمٍ أُعْطِيَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْرِفُ الْأُمُورَ بِمُقَدِّمَاتٍ وَأَسْبَابٍ يَسْتَدِلُّ بِهِمَا عَلَى مَوَاقِعِهَا ; كَالشَّيْءِ يُسْرَقُ فَيَعْرِفُ الْمَظْنُونَ بِهِ لِلسَّرِقَةِ، وَمِنْهُمُ الْمَرْأَةُ بِالزَّنْيَةِ فَيَعْرِفُ مَنْ صَاحَبَهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُسَمِّي الْمُنَجِّمَ كَاهِنًا حَيْثُ إِنَّهُ يُخْبِرُ عَنِ الْأُمُورِ كَإِتْيَانِ الْمَطَرِ، وَمَجِيءِ الْوَبَاءِ وَظُهُورِ الْقِتَالِ، وَطَالِعِ نَحْسٍ أَوْ سَعِيدٍ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ إِتْيَانِ الْكَاهِنِ يَشْتَمِلُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ، وَعَلَى النَّهْيِ عَنْ تَصْدِيقِهِمْ وَالرُّجُوعِ إِلَى قَوْلِهِمْ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2765 -
وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ، وَثَمَنِ الْكَلْبِ، وَكَسْبِ الْبَغِيِّ، وَلَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَالْمُصَوِّرَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
2765 -
(وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ) : مُصَغَّرًا بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ) : فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: بَيْعُ الدَّمِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ نَجِسٌ، وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ نَهْيَهُ عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ عَلَى أَجْرِ الْحَجَّامِ، وَجَعَلَهُ نَهْيَ تَنْزِيهٍ (وَثَمَنِ الْكَلْبِ) : وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ (وَكَسْبِ الْبَغِيِّ) أَيْ: مَكْسُوبِهَا (وَلَعَنَ) أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (آكِلَ الرِّبَا) : أَيْ: آخِذَهُ (وَمُؤْكِلَهُ) : بِالْهَمْزِ وَيُبْدَلُ وَاوًا. أَيْ: مُعْطِيَهُ، وَمُطْعِمَهُ لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُغْتَبِطًا وَالْآخَرُ مُهْتَضِمًا (وَالْوَاشِمَةَ) أَيِ: الْمَرْأَةُ الَّتِي تَشِمُ، فِي النِّهَايَةِ: الْوَشْمُ أَنْ يُغْرَزَ الْجِلْدُ بِإِبْرَةٍ، ثُمَّ يُحْشَى بِكُحْلٍ أَوْ نِيلٍ فَيَزْرَقُّ أَوْ يَخْضَرُّ (وَالْمُسْتَوْشِمَةَ) : أَيِ: الَّتِي يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهَا: وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْفُسَّاقِ وَالْجُهَّالِ، وَلِأَنَّهُ تَغْيِيرُ خَلْقِ اللَّهِ، وَفِي الرَّوْضَةِ: لَوْ شَقَّ مَوْضِعًا مِنْ بَدَنِهِ وَجَعَلَ فِيهِ وِعَاءً أَوْ وَشَمَ يَدَهُ أَوْ غَيْرَهَا، فَإِنَّهُ يُنَجَّسُ عِنْدَ الْغَرْزِ، وَفِي تَعْلِيقِ الْقُرَّاءِ أَنَّهُ يُزِيلُ الْوَشْمَ بِالْعِلَاجِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَا بِالْجِرَاحِ لَا يُجْرَحُ وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، (وَالْمُصَوِّرَ) : أَرَادَ بِهِ الَّذِي يُصَوِّرُ صُوَرَ الْحَيَوَانِ دُونَ مَنْ يُصَوِّرُ صُوَرَ الْأَشْجَارِ وَالنَّبَاتِ، لِأَنَّ الْأَصْنَامَ الَّتِي كَانَتْ تُعْبَدُ كَانَتْ عَلَى صُوَرِ الْحَيَوَانَاتِ قَالَ الْخَطَّابِيُّ: يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ كُلُّ صُورَةٍ مُصَوَّرَةٍ فِي رِقٍّ أَوْ قِرْطَاسٍ مِمَّا يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الصُّورَةَ وَكَانَ الرِّقُّ تَبَعًا لَهُ، فَأَمَّا الصُّوَرُ الْمُصَوَّرَةُ فِي الْأَوَانِي وَالْقِصَاعِ، فَإِنَّهَا تَبَعٌ لِتِلْكَ الظُّرُوفِ بِمَنْزِلَةِ الصُّوَرِ الْمُصَوَّرَةِ عَلَى جُدُرِ الْبُيُوتِ وَالسُّقُوفِ وَفِي الْأَنْمَاطِ وَالسُّتُورِ، فَبَيْعُهَا صَحِيحٌ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
2766 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ، وَهُوَ بِمَكَّةَ:«إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ: فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ؟ فَإِنَّهُ تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: " لَا، هُوَ حَرَامٌ " ثُمَّ قَالَ عِنْدَ ذَلِكَ " قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا أَجْمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2766 -
(وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ) : وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ) : قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ: وَهُوَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَوْلِهِ: عَامَ الْفَتْحِ نَحْوُ قَوْلِهِمْ: رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي وَأَخَذْتُهُ بِيَدِي اهـ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ كَمَا لَا يَخْفَى، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي قَوْلِهِ عَامَ الْفَتْحِ أَنْ يَكُونَ بِمَكَّةَ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ بِالْمَدِينَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا فِي ذَلِكَ الْعَامِ، نَعَمْ. الْمَقْصُودُ مِنْهُمَا تَحْقِيقُ السَّمَاعِ، وَتَقْرِيرُهُ (أَنَّ اللَّهَ) : أَيْ بِالْحَقِيقَةِ (وَرَسُولُهُ) أَيْ: بِالْمَجَازِ وَالتَّبَعِيَّةِ (حَرَّمَ بِيعَ الْخَمْرِ) : أَوِ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ حُرْمَةَ الْخَمْرِ وَجَعَلَهَا رِجْسًا وَحَرَّمَ بَيْعَهَا، وَرَسُولُهُ أَيْضًا بَيَّنَ حُرْمَتَهَا فِي أَحَادِيثِهِ وَكَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ) : أَيْ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَذِكْرُ اللَّهِ - تَعَالَى - قَبْلَ ذِكْرِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم تَوْطِئَةً لِذِكْرِهِ إِيذَانًا بِأَنَّ تَحْرِيمَ الرَّسُولِ بَيْعَ الْمَذْكُورَاتِ لِتَحْرِيمِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِأَنَّهُ رَسُولُهُ وَخَلِيفَتُهُ، (فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ) : أَيْ: أَخْبِرْنِي
(شُحُومَ الْمَيْتَةِ؟) : أَيْ: حُكْمَهَا (فَإِنَّهَا) : أَيْ: شُحُومُهَا، أَوِ الضَّمِيرُ لِلْقَضِيَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَإِنَّهُ بِالتَّذْكِيرِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلشَّأْنِ (تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ) : بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ السَّفِينَةِ أَيْ أَخْشَابَهَا (وَيُدَّهَنُ) : بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، وَفِي نُسْخَةٍ تَشْدِيدِ الْهَاءِ، (بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ: يُنَوِّرُ (بِهَا النَّاسُ) : الْمِصْبَاحَ أَوْ بُيُوتَهُمْ، وَالْمُرَادُ بِالطَّلَبِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ السِّينِ أَنَّهُمْ لِشِدَّةِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى ذَلِكَ التَّنْوِيرِ يَسْعَوْنَ فِي تَحْصِيلِهَا مَا أَمْكَنَ، وَيَجُوزُ كَوْنُ السِّينِ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ (فَقَالَ " لَا) : أَيْ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ (هُوَ) : أَيِ الِانْتِفَاعُ بِهِ (حَرَامٌ) : أَيْ: مَمْنُوعٌ: قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ رَاجِعٌ إِلَى مُقَدَّرٍ بَعْدَ كَلِمَةِ الِاسْتِخْبَارِ، وَكَلِمَةُ (لَا) رَدٌّ لِذَلِكَ الْمُقَدَّرِ، وَهُوَ يُحْتَمَلُ أَمْرَيْنِ أَحَدِهِمَا: أَخْبِرْنِي أَيَحِلُّ انْتِفَاعُ شُحُومِ الْمَيْتَةِ، وَالثَّانِي: هُوَ الْمُرَادُ: قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: مَعْنَى قَوْلِهِ: " لَا هُوَ حَرَامٌ " لَا تَبِيعُوهَا فَإِنَّ بَيْعَهَا حَرَامٌ، فَالضَّمِيرُ فِي (هُوَ) يَعُودُ إِلَى الْبَيْعِ لَا الِانْتِفَاعِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا لِعُمُومِ النَّهْيِ ; إِلَّا مَا خُصَّ وَهُوَ الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ، فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِنَا جَوَازُ الِانْتِفَاعِ بِالْأَدْهَانِ الْمُنَجَّسَةِ مِنَ الْخَارِجِ كَالزَّيْتِ وَالسَّمْنِ وَغَيْرِهَا بِالِاسْتِصْبَاحِ وَنَحْوِهِ، بِأَنْ يَجْعَلَ الزَّيْتَ صَابُونَ أَوْ يَطْعَمَ الْعَسَلَ الْمُتَنَجِّسَ النَّحْلِ وَالْمِيتَةَ وَالْكِلَابَ وَالطَّعَامَ وَالدَّوَابَّ، وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله وَأَصْحَابُهُ بِيعَ الزَّيْتِ النَّجِسِ إِذَا بَيَّنَهُ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَفِي عُمُومِ تَحْرِيمِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ أَنَّهُ يُحَرَّمُ بَيْعُ جُثَّةِ الْكَافِرِ الْمَقْتُولِ، وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ نَوْفَلًا الْمَخْزُومِيَّ قُتِلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَبَذَلَ الْكُفَّارُ فِي جَسَدِهِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم» .
(ثُمَّ قَالَ) : أَيِ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (عِنْدَ ذَلِكَ) : مَا ذُكِرَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ أَرَأَيْتَ الْخَ (قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ) : أَيْ: أَهْلَكَهُمْ وَلَعَنَهُمْ، وَيُحْتَمَلُ إِخْبَارٌ وَدُعَاءٌ وَهُوَ مِنْ بَابِ عَاقَبْتُ اللِّصَّ. قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: أَيْ: عَادَاهُمْ، وَقِيلَ: قَتَلَهُمْ، فَأُخْرِجَ فِي صُورَةِ الْمُغَالَبَةِ (إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا) : بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ فِي نُسَخِ الْمِشَكَاةِ: وَقَالَ فِي الْمَفَاتِيحِ: قَوْلُهُ: شُحُومَهُمَا أَيْ: بِصِيغَةِ التَّثْنِيَةِ، الضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى:{وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمَنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} [الأنعام: 146] وَرُوِيَ (شُحُومَهُا) ، فَالضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ، وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ اسْمُ جِنْسٍ يَجُوزُ تَأْنِيثُهُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى (أَجْمَلُوهُ) : بِالْجِيمِ أَيْ أَذَابُوهُ، وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الشُّحُومِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الشَّحْمِ الْمَفْهُومِ مِنَ الشُّحُومِ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَا هُوَ فِي مَعْنَى الشُّحُومِ، إِذْ لَوْ قِيلَ حَرَّمَ شُحُومَهَا لَمْ يَخِلَّ بِالْمَعْنَى فَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ - تَعَالَى:{فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ} [المنافقون: 10] اهـ.
وَفِي النِّهَايَةِ: جَمَّلْتُ الشَّحْمَ وَأَجْمَلْتُهُ أَذَبْتُهُ، وَفِي الْقَامُوسِ: جَمَّلَ الشَّحْمَ أَذَابَهُ كَأَجْمَلَهُ وَاجْتَمَلَهُ، فَقَوْلُ الطِّيبِيِّ رحمه الله: جَمَّلْتُ أَفْصَحُ مِنْ أَجْمَلْتُ لَيْسَ مِنَ الْجَمِيلِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا فَصِيحَانِ بَلِ الْأَجْمَلُ، أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَجْمَلَ أَبْلَغُ لِإِفَادَةِ الْمُبَالِغَةِ، لِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَبْنَى تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ بَالَغُوا فِي هَذَا الْفِعْلِ وَاسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنْتَهُوا عَنْهُ (ثُمَّ بَاعُوهُ) أَيْ: صُورَةً، وَإِلَّا فَهُوَ بَاطِلٌ حَقِيقَةً (فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ) : فِيهِ زِيَادَةُ تَوْبِيخٍ، وَفِي شَرْحِ السُّنَّةِ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ كُلِّ حَيْدَةٍ تَحْتَالُ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى مُحَرَّمٍ وَأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ بِتَغَيُّرِ هَيْئَاتِهِ وَتَبْدِيلِ اسْمِهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2767 -
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2767 -
(وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا) : بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: أَذَابُوهَا بِالنَّارِ لِيَزُولَ عَنْهَا اسْمُ الشُّحُومِ وَيَصِيرَ وَدَكًا (فَبَاعُوهَا) ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
2768 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ــ
2768 -
(وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ) : بِتَشْدِيدِ السِّينِ الْمَكْسُورَةِ وَالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ وَهُوَ الْهِرُّ، فِي شَرْحِ السُّنَّةِ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَا يَنْفَعُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ لِكَيْ يَعْتَادَ النَّاسُ هِبَتَهُ وَإِعَارَتَهُ وَالسَّمَاحَةَ بِهِ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ، فَإِنْ كَانَ نَافِعًا وَبَاعَهُ صَحَّ الْبَيْعُ وَكَانَ ثَمَنُهُ حَلَالًا، هَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعَيْنِ - رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْخَطَّابِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ فَلَيْسَ كَمَا قَالَا، بَلْ هُوَ صَحِيحٌ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) : وَغَيْرُهُ، وَقَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ: إِنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ غَيْرُ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ غَلَطٌ، لِأَنَّ مُسْلِمًا قَدْ رَوَاهُ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ وَهُمَا ثِقَتَانِ. اهـ.
وَالْحَدِيثُ يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ فِي تَجْوِيزِهِمْ بِيعَ الْكَلْبِ، لِأَنَّ الْمُنَاسِبَةَ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ فِي النَّهْيِ تُوجِبُ ذَلِكَ: قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَكَرِهَ بَعْضٌ بَيْعَ السِّنَّوْرِ الْأَهْلِيِّ وَالْوَحْشِيِّ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَحَمَلَهُ الْأَكْثَرُونَ عَلَى الْوَحْشِيِّ مِنْهَا لِلْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ رُبِطَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لَأَنَّ نَفْعَهُ صَيْدُ الْفَأْرَةِ، وَلَوْ لَمْ يُرْبَطْ لَرُبَّمَا يَنْفِرُ فَيَضِيعُ الْمَالُ الْمَصْرُوفُ فِي ثَمَنِهِ.
2769 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «حَجَمَ أَبُو طَيْبَةَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
ــ
2769 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: حَجَمَ أَبُو طَيْبَةَ) : بِفَتْحِ مُهْمِلَةٍ فَسُكُونِ تَحْتِيَّةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ ; عَبْدٌ لِبَنِي بَيَاضَةَ اسْمُهُ نَافِعٌ أَوْ دِينَارٌ أَوْ مَسِيرَةُ أَقْوَالٌ (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَأَمَرَ أَهْلَهُ) : أَيْ: سَادَاتِهِ (أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ) : بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: شَيْئًا مِمَّا وُظِّفُوا عَلَيْهِ مِنَ الْمُقَاطَعَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: فِي الْحَدِيثِ جَوَازُ مُخَارَجَةِ الْعَبْدِ بِرِضَاهُ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: اكْتَسِبْ وَأَعْطِنِي مِنْ كَسْبِكَ كُلَّ يَوْمٍ كَذَا وَالْبَاقِي لَكَ، فَيَقُولُ الْعَبْدُ: رَضِيتُ بِهِ، وَفِيهِ إِبَاحَةُ نَفْسِ الْحِجَامَةِ وَأَنَّهَا مِنْ أَفْضَلِ الْأَدْوِيَةِ، وَإِبَاحَةُ التَّدَاوِي، وَإِبَاحَةُ الْأَجْهِزَةِ عَلَى الْمُعَالَجَةِ لِلطَّبِيبِ وَفِيهِ جَوَازُ الشَّفَاعَةِ بِالتَّخْفِيفِ إِلَى أَصْحَابِ الْحُقُوقِ وَالدُّيُونِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
الْفَصْلُ الثَّانِي
2770 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَالدَّارِمِيِّ "«إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» ".
ــ
الْفَصْلُ الثَّانِي
2770 -
(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ) أَيْ: أَحَلَّهُ، وَمَا مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْمَصْدَرُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ (مِنْ كَسْبِكُمْ) : أَيِ: الْحَاصِلُ مِنْ وِجْهَةِ الْوَاصِلِ مِنْ جِهَةِ صِنَاعَةٍ، أَوْ تِجَارَةٍ، أَوْ زِرَاعَةٍ (وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مَنْ كَسْبِكُمْ) : أَيْ: مِنْ جُمْلَتِهِ لِأَنَّهُمْ حَصَلُوا بِوَاسِطَةِ تَزَوُّجِكُمْ، فَيَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مَنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ إِذَا كُنْتُمْ مُحْتَاجِينَ وَإِلَّا فَلَا، إِلَّا أَنْ طَابَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ - هَكَذَا قَرَّرَهُ عُلَمَاؤُنَا - وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: نَفَقَةُ الْوَالِدَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ وَاجِبَةٌ إِذَا كَانَا مُحْتَاجَيْنِ عَاجِزَيْنِ عَنِ السَّعْيِ، عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) : وَكَذَا الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَالدَّارِمِيِّ: ( «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: تَسْمِيَةُ الْوَلَدِ بِالْكَسْبِ مَجَازٌ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: رَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ الْقَطَّانِ
وَالْمُنْذِرِيُّ، «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي مَالًا وَوَلَدًا، وَأَبِي يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالِيَ قَالَ: أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» " وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَصْغَرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، وَعَنْ جَابِرٍ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مَالِيَ، فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: " ادْعُهُ لِي "، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ عليه الصلاة والسلام " إِنَّ ابْنَكَ يَزْعُمُ أَنَّكَ تَأْخُذُ مَالَهُ " فَقَالَ " سَلْهُ هَلْ لِعَمَّتِهِ وَقَرَابَاتِهِ أَوْ لِمَا أُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِي وَعِيَالِي؟ قَالَ: فَهَبَطَ جِبْرِيلُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الشَّيْخَ قَالَ فِي نَفْسِهِ شِعْرًا لَمْ تَسْمَعْهُ أُذُنَاهُ ; فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: (قُلْتَ فِي نَفْسِكَ شِعْرًا لَمْ تَسْمَعْهُ أُذُنَاكَ ; فَهَاتِهِ " فَقَالَ: لَا نَزَالُ يَزِيدُنَا اللَّهُ بِكَ بَصِيرَةً وَيَقِينًا ثُمَّ أَنَشَأَ يَقُولُ:
غَذَوْتُكَ مَوْلُودًا وَمُنْتُكَ يَافِعًا
…
تَعَلُّ بِمَا أَجْنِي عَلَيْكَ وَتَنْهَلُ
إِذَا لَيْلَةٌ ضَاقَتْكَ بِالسُّقْمِ لَمْ أَبِتْ
…
لِسُقْمِكَ إِلَّا سَامَرًا أَتَمَلْمَلُ
تَخَافُ الْوَرَى نَفْسِي عَلَيْكَ وَإِنَّهَا
…
لَتَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ حَتْمٌ مُوَكَّلُ
كَأَنِّي أَنَا الْمَطْرُوقُ دُونَكَ بِالَّذِي
…
طَرَقْتَ بِهِ دُونِي فَعَيْنَاكَ تُهْمِلُ
كَأَنِّي أَنَا الْمَطْرُوقُ دُونَكَ بِالَّذِي
…
إِلَيْكَ مَرَامًا فِيكَ قَدْ كُنْتُ آمُلُ
جَعَلْتَ جَزَائِيَ غِلْظَةً وَفَظَاظَةً
…
كَأَنَّكَ أَنْتَ الْمُنَعِمُ الْمُتَفَضِّلُ
فَلَيْتَكَ إِذْ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتِي
…
فَعَلْتَ كَمَا جَارُ الْمُجَاوِرِ يَفْعَلُ
قَالَ: فَبَكَى عليه الصلاة والسلام ثُمَّ أَخَذَ بِتَلَابِيبِ ابْنِهِ وَقَالَ: " اذْهَبْ أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» " وَرُوِيَ حَدِيثُ جَابِرٍ الْأَوَّلُ فِي طُرُقٍ كَثِيرَةٍ.
2771 -
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «لَا يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالًا حَرَامًا فَيَتَصَدَّقُ مِنْهُ فَيُقْبَلُ مِنْهُ، وَلَا يُنْفِقُ مِنْهُ ; فَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ، وَلَا يَتْرُكُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إِلَّا كَانَ زَادَهُ إِلَى النَّارِ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَمْحُو السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ، وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ، إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيثَ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَكَذَا فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ".
ــ
2771 -
(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالًا حَرَامًا فَيَتَصَدَّقُ مِنْهُ) : بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى يَكْسِبُ وَقَوْلُهُ: (فَيُنْفَقُ مِنْهُ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مَرْفُوعٌ أَيْضًا، عَطْفٌ عَلَى فَيُتَصَدَّقُ يَعْنِي لَا يُوجَدُ الْكَسْبُ الْحَرَامُ الْمُسْتَعْقِبُ لِلتَّصَدُّقِ (فَالْقَبُولُ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ: فَيُقْبَلَ، بِالنَّصْبِ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يُحْتَمَلُ النَّصُّ جَوَابًا لِلنَّفْيِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ أَيْ: فَلَا يَكُونُ اجْتِمَاعُ الْكَسْبِ وَالتَّصَدُّقِ سَبَبًا لِلْقَبُولِ، وَقَوْلُهُ:(وَلَا يُنْفَقُ مِنْهُ) : بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَيُتَصَدَّقُ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَعْطُوفِ لَا الِانْسِحَابِ، وَقَوْلُهُ:(فَيُبَارَكَ لَهُ فِيهِ) : بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ مَنْصُوبٌ عَلَى الْجَوَابِ وَكَذَا قَوْلُهُ (وَلَا يَتْرُكُهُ) : عَطْفٌ عَلَى فَيُتَصَدَّقُ، وَقَوْلُهُ (خَلْفَ ظَهْرِهِ) : كِنَايَةٌ عَنِ الْمَوْتِ (إِلَّا كَانَ) : أَيِ الْمَتْرُوكُ أَوْ ذَلِكَ الْكَسْبُ الْحَرَامُ (زَادَهُ) : أَيْ زِوَادَتَهُ مُنْتَهِيًا (إِلَى النَّارِ) لِأَنَّهُ لَمَّا عَصَى بِجَمْعِ الْمَالِ مِنْ وَجْهٍ حَرَامٍ، ثُمَّ مَاتَ وَتَرَكَهُ لِوَرَثَةٍ كَانَ عَلَيْهِ إِثْمُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَيْ: مَنْ كَانَ سَبَبًا فِي ارْتِكَابِ غَيْرِهِ مَعْصِيَةً حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ الْوَعِيدُ، وَزَادَهُ بِزَايٍ مُعْجَمَةٍ، وَالتَّقْدِيرُ حَالَ كَوْنِهِ مُوَصِّلًا لَهُ إِلَى النَّارِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَرُوِيَ بِمُهْمَلَةٍ مِنَ الرَّوْدِ مَانِعُهُ عَنِ الْجَنَّةِ، وَمُلْجِئُهُ إِلَى النَّارِ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَالْحَدِيثُ مِنَ التَّقْسِيمِ الْحَاضِرِ لِأَنَّ مَنِ اكْتَسَبَ الْمَالَ إِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لِلْآخِرَةِ فَيَتَصَدَّقُ مِنْهُ أَوَّلًا. وَالثَّانِي إِمَّا أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ أَوَّلًا.
وَالثَّانِي هُوَ مَا يَدَّخِرُهُ لِدُنْيَاهُ وَأَخْذُهُ كَذَا لِنَفْسِهِ فَبَيَّنَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الْحَرَامَ لَا يُجْدِيهِ وَلَا يَنْفَعُهُ فِيمَا قَصَدَهُ (إِنَّ اللَّهَ لَا يَمْحُوَ السَّيِّئَ بِالسَّيِّئِ) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَعْلِيلِ عَدَمِ الْقَبُولِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ التَّصَدُّقَ بِالْمَالِ الْحَرَامِ سَيِّئَةٌ، وَلَا يَمْحُوَ اللَّهُ الْأَعْمَالَ السَّيِّئَاتِ بِالسَّيِّئَاتِ، بَلْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: مَنْ تَصَدَّقَ بِمَالٍ حَرَامٍ وَرَجَا الثَّوَابَ كَفَرَ، وَلَوْ عَرَفَ الْفَقِيرُ وَدَعَا لَهُ كَفَرَ (وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ) أَيِ: التَّصَدُّقِ بِالْحَلَالِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وَهَذِهِ الْجُمَلُ كُلُّهَا مُقَدِّمَةٌ وَتَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ (إِنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيثَ) : أَيِ: النَّجِسُ لَا يُطَهِّرُ النَّجِسَ بَلِ الطَّهُورُ يُطَهِّرُهُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيِ الْمَالُ الْحَرَامُ لَا يُجْدِيَ الْبَتَّةَ فَعَبَّرَ عَنْ عَدِيمِ النَّفْعِ بِالْخَبِيثِ، (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَكَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) : لِصَاحِبِ الْمَصَابِيحِ بِإِسْنَادِهِ
2772 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، وَكُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارِمِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ.
ــ
2772 -
(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) أَيْ دُخُولًا أَوَّلِيًّا مَعَ النَّاجِينَ ; بَلْ بَعْدَ عَذَابٍ بِقَدْرِ أَكْلِهِ لِلْحَرَامِ مَا لَمْ يُعْفَ عَنْهُ، أَوْ لَا يَدْخُلُ مَنَازِلَهُ الْعَلِيَّةَ، أَوِ الْمُرَادُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَبَدًا إِنِ اعْتَقَدَ حِلَّ الْحَرَامِ، وَكَانَ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، أَوِ الْمُرَادُ بِهِ الزَّجْرُ وَالتَّهْدِيدُ وَالْوَعِيدُ الشَّدِيدُ، وَلِذَا لَمْ يُقَيِّدْهُ بِنَوْعٍ مِنَ التَّقْيِيدِ (لَحْمٌ) : أَيْ صَاحِبُ لَحْمٍ (نَبَتَ مِنَ السُّحْتِ) : بِضَمِّ السِّينِ وَالْحَاءِ وَسُكُونِهَا الْحَرَامُ ; لِأَنَّهُ يُسْحِتُ الْبَرَكَةَ أَيْ يُذْهِبُهَا، وَأُسْنِدَ عَدَمُ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِلَى اللَّحْمِ لَا إِلَى صَاحِبِهِ إِشْعَارًا بِالْعِلِّيَّةِ، وَأَنَّهُ خَبِيثٌ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَدْخُلَ الطَّيِّبَ ; لِأَنَّ الْخَبِيثَ لِلْخَبِيثِ، وَلِذَا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ:(وَكُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مَنْ سُحْتٍ كَانَتِ النَّارُ) وَفِي نُسْخَةٍ كَانَ النَّارُ (أَوْلَى بِهِ) أَيْ: مِنَ الْجَنَّةِ لِتُطَهِّرَهُ النَّارُ عَنْ ذَلِكَ بِإِحْرَاقِهَا إِيَّاهُ، وَهَذَا عَلَى ظَاهِرِ الِاسْتِحْقَاقِ، أَمَّا إِذَا تَابَ أَوْ غُفِرَ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ وَأَرْضَى خُصُومَهُ، أَوْ نَالَتْهُ شَفَاعَةُ شَفِيعٍ، فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
2773 -
وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ وَرَوَى الدَّارِمِيُّ الْفَصْلَ الْأَوَّلَ.
ــ
2773 -
(وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ: بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ (دَعْ) : أَيِ: اتْرُكْ (مَا يَرِيبُكَ) : بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّهَا وَالْفَتْحُ أَشْهَرُ، وَالرَّيْبُ الشَّكُّ وَقِيلَ: هُوَ الشَّكُّ مَعَ التُّهْمَةِ " إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ ": قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: أَيْ: مَا اعْتَرَضَ لَكَ الشَّكُّ فِيهِ مُنْقَلِبًا عَنْهُ إِلَى مَا لَا شَكَّ فِيهِ، يُقَالُ: دَعْ ذَلِكَ إِلَى ذَلِكَ أَيِ: اسْتَبْدِلْهُ بِهِ. اهـ. وَالْمَعْنَى: اتْرُكْ مَا تَشُكُّ فِيهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ أَنَّهُ نَهْيٌ عَنْهُ أَوَّلًا أَوْ سُنَّةٌ أَوْ بِدْعَةٌ، وَأَعْدِلْ إِلَى مَا لَا تَشُكُّ فِيهِ مِنْهُ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَبْنِيَ الْمُكَلَّفُ أَمْرَهُ عَلَى الْيَقِينِ الْبَحْتِ وَالتَّحْقِيقِ الصِّرْفِ، وَيَكُونُ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي دِينِهِ (فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَإِنَّ الْكَذِبَ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ الذَّالِ، وَفِي نُسْخَةِ السَّيِّدِ ضَبَطَهُ بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ الذَّالِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَفْصَحُ الْوَاقِعُ فِي الْقُرْآنِ وَالثَّانِي لُغَةٌ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ إِذَا قُوبِلَ بِالصِّدْقِ فَهُوَ أَوْلَى لِحُسْنِ الْمُوَازَنَةِ بَيْنَهُمَا، (رِيبَةٌ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَحَقِيقَتُهَا قَلَقُ النَّفْسِ وَاضْطِرَابُهَا، فَإِنَّ كَوْنَ الْأَمْرِ مَشْكُوكًا فِيهِ مِمَّا يَقْلَقُ لَهُ النَّفْسُ، وَكَوْنُهُ صَحِيحًا صَادِقًا مِمَّا تَطْمَئِنُّ لَهُ، وَمِنْهُ رَيْبُ الْمَنُونِ أَيْ مَا يُقْلِقُ النُّفُوسَ مِنْ حَوَادِثِ الدَّهْرِ، وَقِيلَ الْمَوْتُ هَذَا، وَقَدْ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: جَاءَ هَذَا الْقَوْلُ مُمَهِّدًا لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الْكَلَامِ، وَمَعْنَاهُ إِذَا وَجَدْتَ نَفْسَكَ تَرْتَابُ فِي الشَّيْءِ فَاتْرُكْهُ، فَإِنَّ نَفْسَ الْمُؤْمِنِ تَطْمَئِنُّ إِلَى الصِّدْقِ وَتَرْتَابُ مِنَ الْكَذِبِ، فَارْتِيَابُكَ فِي الشَّيْءِ مُنْبِئٌ عَنْ كَوْنِهِ بَاطِلًا أَوْ مَظَنَّةً لِلْبَاطِلِ فَاحْذَرْهُ، وَاطْمِئْنَانُكَ إِلَى الشَّيْءِ مُشْعِرٌ بِكَوْنِهِ حَقًّا فَاسْتَمْسِكْ بِهِ، وَالصِّدْقُ وَالْكَذِبُ يُسْتَعْمَلَانِ فِي الْمَقَالِ وَالْفِعَالَ وَمَا يَحِقُّ أَوْ يَبْطُلُ مِنَ الِاعْتِقَادِ، وَهَذَا الْأَمْرُ مَخْصُوصٌ بِذَوِي النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ الْقُدْسِيَّةِ الطَّاهِرَةِ مِنْ أَوْضَارِ الذُّنُوبِ وَأَوْسَاخِ الْآثَامِ. اهـ
وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَعْنَاهُ إِذَا كُنْتَ صَحِيحَ الْخَاطِرِ طَاهِرَ الْبَاطِنِ، مُرَاقِبًا لِلْغَيْبِ وَتَعْرِفُ لَمَّةَ الْمَلَكِ مِنْ لَمَّةِ الشَّيْطَانِ، وَالْإِلْهَامَ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ، وَكُنْتَ مُمَيِّزًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِنُورِ الْفِرَاسَةِ وَصَفَاءِ الْقَلْبِ. دَعْ مَا يَرِيبُكَ مِنَ الْأُغْلُوطَاتِ وَالشُّبَهَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالشَّيْطَانِيَّةِ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ مِمَّا يَنْزِلُ بِقَلْبِكَ وَعَقْلِكَ وَرُوحِكَ مِنَ الْإِلْهَامِ الْإِلَهِيِّ وَالْعِلْمِ اللَّدُنِّيِّ الْمُطَابِقِ لِلْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، وَكَمَا أَنَّ تَرْكَ مَا يَرِيبُكَ مَأْمُورٌ، فَتَرْكُ مَا يُرِيبُ مَأْمُورٌ، فَتَرْكُ مَا يُرِيبُ الْغَيْرَ مِمَّا يَصْعُبُ عَلَى أَفْهَامِ الْعَامَّةِ أَوْلَى كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ الْأَعْلَى -:
إِنِّي لَأَكَتْمُ مِنْ عِلْمِي جَوَاهِرَهُ
…
كَيْلَا يَرَى الْحَقَّ ذُو جَهْلٍ فَيَفْتِنَنَا
يَا رُبَّ جَوْهَرِ عِلْمٍ لَوْ أَبُوحُ بِهِ
…
لَقِيلَ لِي أَنْتَ مِمَّنْ يَعْبُدُ الْوَثَنَا
وَلَاسْتَحَلَّ رِجَالٌ مُسْلِمُونَ دَمِي
…
يَرَوْنَ أَقْبَحَ مَا يَرَوْنَهُ حَسَنًا
(رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ)، أَيِ: الْحَدِيثَ بِكَمَالِهِ (وَرَوَى الدَّارِمِيُّ الْفَصْلَ الْأَوَّلَ) أَيِ الْجُمْلَةَ الْأُولَى فَقَطْ وَهِيَ: (دَعْ مَا يَرِيبُكَ) وَسَمَّاهُ فَصْلًا لِأَنَّ الْأَخِيرَ مُفَرَّعٌ وَالْأَوَّلُ: مُفَرَّعٌ عَلَيْهِ، فَصَارَا كَالْفَصْلَيْنِ مِنَ الْكَلَامِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا ارْتِبَاطٌ تَامٌّ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
2774 -
ــ
2774 -
(وَعَنْ وَابِصَةَ) : بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ (ابْنِ مَعْبَدٍ) أَيِ الْأَسَدِيِّ، أَسْلَمَ سَنَةَ تِسْعٍ، كَانَ كَثِيرَ الْبُكَاءِ لَا يَمْلِكُ دَمْعَتَهُ (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " يَا وَابِصَةُ جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ) : بِالْكَسْرِ أَيِ الْإِحْسَانِ، وَهُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ كُلِّهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} [البقرة: 189](وَالْإِثْمِ) : (أَيِ الذَّنْبِ وَحَاصِلُهُمَا الطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ، (فَقُلْتُ: نَعَمْ) ، وَهَذَا مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَمَّا أَضْمَرَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، (قَالَ) : أَيْ وَابِصَةُ (فَجَمَعَ) : أَيِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (أَصَابِعَهُ) ، أَيْ أَصَابِعَ يَدِهِ فَضَرَبَ بِهِ صَدْرَهُ) ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ ضَمِيرُ صَدْرِهِ إِلَى وَابِصَةَ عَلَى طَرِيقِ الِالْتِفَاتِ، وَقَدْ جَزَمَ بِهِ الطِّيبِيُّ، ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي صَدْرِهِ يَعُودُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَوْهَمَهُ قَوْلُهُ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِ الرَّاوِي غَيْرَ وَابِصَةَ وَهُوَ أَوْلَى بِسِيَاقِ الْمَعْنَى كَمَا أَمَرَ اهـ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَيْ وَضَعَهَا عَلَيْهِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْقَلْبَ فِي الصَّدْرِ، يَعْنِي بِإِزَائِهِ وَجَانِبِهِ مِنَ الشِّقِّ الْأَيْسَرِ، وَلِيَحْصُلَ لَهُ بِمَمَاسَّةِ الْيَدِ الْكَرِيمَةِ النَّهْيُ التَّامُّ لِفَهْمِ تَلَقِّي الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَكُونُ نَظِيرَ مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ: أَنَّ التَّقْوَى هَا هُنَا وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ. (وَقَالَ: اسْتَفْتِ نَفْسَكَ، اسْتَفْتِ قَلْبَكَ) وَاقْتَصَرَ النَّوَوِيُّ رحمه الله عَلَى الثَّانِي، فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِتَأْكِيدٍ أَيِ: اطْلُبِ الْفَتْوَى مِنْ قَلْبِكَ، لِأَنَّهُ بَلَغَ فِي سُلُوكِ طَرِيقِ الْكَمَالِ وَطَلَبِ الْوُصُولِ بِعَيْنِ الْوِصَالِ إِلَى مَقَامِ الْقَلْبِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ سَيْرَ الْإِنْسَانِ إِلَى الْحَقِّ إِنَّمَا هُوَ بِالْبَاطِنِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ اسْتِعَانَةِ الظَّاهِرِ لِصُعُودِ الْهَيْئَاتِ الْبَدَنِيَّةِ إِلَى خَيْرِ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ، وَهُبُوطِ الْهَيْئَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالْقَلْبِيَّةِ إِلَى الظَّاهِرِ لِعَلَاقَةٍ بَيْنَهُمَا، وَاشْتِقَاقِ الْفَتْوَى مِنَ الْفَتْوِ لِأَنَّهَا جَوَابٌ فِي حَادِثَةٍ أَوْ إِحْدَاثُ حُكْمٍ، أَوْ تَقْوِيَةُ مُشْكِلٍ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ يَعْنِي أَنَّهُ حَظٌّ فِي الْفَتْوَى مَا يُنْبِئُ عَنْهُ الْفَتْوُ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْحُدُوثِ، (ثَلَاثًا) : ظَرْفٌ لِقَالَ تَأْكِيدًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِقَوْلِهِ: اسْتَفْتِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ تَكَرُّرِ الِاسْتِخَارَةِ (الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ) .
قَالَ الْقَاضِي رحمه الله: الْمَعْنَى أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا أَشْكَلَ عَلَى السَّالِكِ وَالْتَبَسَ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ مِنْ أَيِّ الْقَبِيلَيْنِ هُوَ، فَلْيَتَأَمَّلْ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَلْيَسْأَلِ الْمُجْتَهِدِينَ إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ، فَإِنْ وَجَدَ مَا يَسْكُنُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَيَطْمَئِنُّ بِهِ قَلْبُهُ، وَيَنْشَرِحُ بِهِ صَدْرُهُ، فَلْيَأْخُذْ بِهِ وَلْيَخْتَرْهُ لِنَفْسِهِ، وَإِلَّا فَلْيَدَعْهُ وَلْيَأْخُذْ بِمَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَلَا رِيبَةَ، وَهَذَا
طَرِيقَةُ الْوَرَعِ وَالِاحْتِيَاطِ وَحَاصِلُهُ رَاجِعٌ إِلَى حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما وَلَعَلَّهُ إِنَّمَا عَطَفَ اطْمِئْنَانَ الْقَلْبِ عَلَى اطْمِئْنَانِ النَّفْسِ لِلتَّقْرِيرِ وَالتَّأْكِيدِ، فَإِنَّ النَّفْسَ إِذَا تَرَدَّدَتْ فِي أَمْرٍ وَتَحَيَّرَتْ فِيهِ، وَزَالَ عَنْهَا الْقَرَارُ اسْتَتْبَعَ ذَلِكَ خَفَقَانًا لِلْقَلْبِ لِلْعَلَاقَةِ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْأَوَّلِ لَهَا، فَتُنْقِلُ الْعَلَاقَةُ إِلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْهَيْئَةِ أَثَرًا فَيَحْدُثُ فِيهِ خَفَقَانٌ وَاضْطِرَابٌ، ثُمَّ رُبَّمَا يَسْرِي هَذَا الْأَثَرُ إِلَى سَائِرِ الْقُوَى، فَتَحُسُّ بِهَا الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ عَنِ النَّفْسِ وَحَدَثَ لَهَا قَرَارٌ وَطُمَأْنِينَةٌ انْعَكَسَ الْأَمْرُ، وَتَبَدَّلَتِ الْحَالُ عَلَى مَا لَهَا مِنَ الْفُرُوعِ وَالْأَعْضَاءِ وَقِيلَ: الْمَعْنِيُّ بِهَذَا الْأَمْرِ أَرْبَابُ الْبَصَائِرِ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْفِكَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ وَأَصْحَابُ الْفِرَاسَاتِ مَنْ ذَوِي النُّفُوسِ الْمُرْتَاضَةِ وَالْقُلُوبِ السَّلِيمَةِ، فَإِنَّ نُفُوسَهُمْ بِالطَّبْعِ تَصْبُو إِلَى الْخَيْرِ وَتَنْبُو عَنِ الشَّرِّ، فَإِنَّ الشَّيْءَ يَنْجَذِبُ إِلَى مَا يُلَائِمُهُ وَيَنْفِرُ عَمَّا يُخَالِفُهُ، وَيَكُونُ مَلْهَمَةً لِلصَّوَابِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَبْعَدٍ، فَإِنَّ الْقَوْلَ بِحَمْلِهِ عَلَى الْعُمُومِ فِيمَنْ يَجْمَعُهُمْ كَلِمَةُ التَّقْوَى وَتُحِيطُ بِهِمْ دَائِرَةُ الدِّينِ أَحَقُّ وَأَهْدَى. اهـ.
وَقِيلَ: النَّفْسُ لُغَةً حَقِيقَةُ الشَّيْءِ، وَاصْطِلَاحًا لَطِيفَةٌ فِي الْجَسَدِ تَوَلَّدَتْ مِنِ ازْدِوَاجِ الرُّوحِ بِالْبَدَنِ وَاتِّصَالِهِمَا مَعًا (وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ) : مِنْ حَاكَ يَحِيكُ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حَكَّ بِكَافٍ مُشَدَّدَةٍ (فِي النَّفْسِ) أَيْ أَثَّرَ فِيهَا وَلَمْ يَسْتَقِرَّ، وَفِي الْمَفَاتِيحِ: أَيْ أَثَرٌ فِي قَلْبِكَ أَوْهَمَكَ أَنَّهُ ذَنْبٌ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا وَرَدَ: إِنَّ الْإِثْمَ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ. (وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ) أَيْ: وَلَمْ يَنْشَرِحْ لَهُ، وَهَذَا لِمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ، فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ (وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ) أَيْ: وَإِنْ قَالُوا لَكَ إِنَّهُ حَقٌّ فَلَا تَأْخُذْ بِقَوْلِهِمْ فَإِنَّهُ قَدْ يُوقِعُ فِي الْغَلَطِ وَأَكْلِ الشُّبْهَةِ، كَأَنْ تَرَى مَنْ لَهُ مَالٌ حَلَالٌ وَحَرَامٌ، فَلَا تَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا، وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتِي مَخَافَةَ أَنْ تَأْكُلَ الْحَرَامَ، لِأَنَّ الْفَتْوَى غَيْرُ التَّقْوَى، وَهُوَ شَرْطِيَّةٌ قُطِعَتْ عَنِ الْجَزَاءِ تَتْمِيمًا لِلْكَلَامِ السَّابِقِ وَتَقْرِيرًا لَهُ سَبِيلَ الْمُبَالَغَةِ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ الْأَرْبَعِينَ قَوْلُهُ:(وَأَفْتَوْكَ) تَأْكِيدًا وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَنْشَدَ بَعْضُ أَرْبَابِ الْمَعْنَى:
اتَّخِذْ طَاعَةَ الْإِلَهِ سَبِيلًا
…
تَجِدِ الْفَوْزَ بِالْجِنَانِ وَتَنْجُو
وَاتْرُكِ الْإِثْمَ وَالْفَوَاحِشَ طُرًّا
…
يُؤْتِكَ اللَّهُ مَا يَدُومُ وَيَنْجُو
(رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالدَّارِمِيُّ) قَالَ النَّوَوِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
2775 -
وَعَنْ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَالَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ بَأْسٌ» " رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
2775 -
(وَعَنْ عَطِيَّةَ السَّعْدِيِّ) : نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةِ بَنِي سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ) : أَيْ: لَا يَصِلُ كَوْنُهُ وَحُصُولُهُ وَثُبُوتُهُ (مِنَ الْمُتَّقِينَ) أَيِ: الْكَامِلِينَ (حَتَّى يَدَعَ) : أَيْ يَتْرُكَ (مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ بِأَسٌ) مَفْعُولٌ لَهُ، أَيْ: خَوْفًا مِنْ أَنْ يَقَعَ فِيمَا فِيهِ بَأْسٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله قَوْلُهُ: (أَنْ يَكُونَ) ظَرْفُ (يَبْلُغُ) عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ دَرَجَةَ الْمُتَّقِينَ، وَالْمُتَّقِي فِي اللُّغَةِ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ قَوْلِهِمْ: وَقَاهُ فَاتَّقَى، وَالْوِقَايَةُ فَرْطُ الصِّيَانَةِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ: الَّذِي يَقِي نَفْسَهُ تَعَاطَى مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعُقُوبَةَ مِنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ، وَقِيلَ: التَّقْوَى عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ؛ الْأُولَى: التَّقْوَى عَنِ الْعَذَابِ الْمُخَلِّدِ بِالتَّبَرُّئِ مِنَ الشِّرْكِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] " وَالثَّانِيَةُ: التَّجَنُّبُ عَنْ كُلِّ مَا يُؤْثِمُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ حَتَّى الصَّغَائِرِ عِنْدَ قَوْمٍ، وَهُوَ الْمُتَعَارَفُ بِالتَّقْوَى فِي الشَّرْعِ وَالْمَعْنَى بِقَوْلِهِ - تَعَالَى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [الأعراف: 96]، وَالثَّالِثَةُ: أَنْ يَتَنَزَّهَ عَمَّا يَشْغَلُ سِرَّهُ عَنِ الْحَقِّ وَيُقْبِلُ بِشَرَاشِرِهِ إِلَى اللَّهِ، وَهِيَ التَّقْوَى الْحَقِيقِيَّةُ الْمَطْلُوبَةُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى:{اتَّقُوُا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] وَالْحَدِيثُ وَإِنِ اسْتُشْهِدَ بِهِ لِلْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَبْلَغُ وَأَجْمَعُ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ عَلَيْهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .
2776 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً: عَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَشَارِبَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَآكِلَ ثَمَنِهَا، وَالْمُشْتَرِي لَهَا، وَالْمُشْتَرَى لَهُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
2776 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْخَمْرِ) : ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ أَوْ تَعْلِيلِيَّةٌ؛ أَيْ فِي شَأْنِهَا أَوْ لِأَجْلِهَا (عَشَرَةً) : أَيْ عَشَرَةَ أَشْخَاصٍ (عَاصِرَهَا) ، بِالنَّصْبِ بَدَلًا مِنَ الْمَفْعُولِ بِهِ، وَهُوَ مَنْ يَعْصِرُهَا بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِغَيْرِهِ (وَمُعْتَصِرَهَا) أَيْ مِنْ يَطْلُبُ عَصْرَهَا لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ (وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ) أَيْ: مَنْ يَطْلُبُ أَنْ يَحْمِلَهَا أَحَدٌ إِلَيْهِ، وَأَصْلُهُ الْمَحْمُولَةُ هِيَ، وَحَذْفُهُ إِعْلَامٌ بِجَوَازِ حَذْفِهِ عِنْدَ عَدَمِ الِالْتِبَاسِ (وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا)، بِالْهَمْزَةِ ; أَيْ: عَاقِدَهَا وَلَوْ كَانَ وَكِيلًا أَوْ دَلَّالًا (وَآكِلَ ثَمَنِهَا وَالْمُشْتَرِيَ) : أَيْ لِلشُّرْبِ وَالتِّجَارَةِ بِالْوَكَالَةِ وَغَيْرِهَا (لَهَا) أَيْ لِلْخَمْرِ، وَاللَّامُ - لِلتَّعْدِيَةِ أَوْ زَائِدَةٌ فِي الْمَفْعُولِ لِلتَّقْوِيَةِ (وَالْمُشْتَرَى لَهُ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ ; أَيِ: الَّذِي اشْتُرِيَ لَهُ بِالْوَكَالَةِ، وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: وَالْمُشْتَرَاةَ لَهُ، لَكِنَّ حَذْفَ التَّاءِ مِنَ الْمُشْتَرَى لَهُ لُغَةٌ عَلَى مَا فِي التَّسْهِيلِ وَغَيْرِهِ وَعَلَيْهِ: إِنَارَةُ الْعَقْلِ مَكْسُوفٌ بِطَوْعِ هَوًى
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَذْكِيرُ الْخَمْرِ بِاعْتِبَارِ مُرَادِفِهَا ; وَهُوَ الْعَقَارُ أَوِ الرَّاحُ أَوِ الْمُدَامُ، أَوْ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهَا وَهُوَ الْمَشْرُوبُ، وَقِيلَ: تَذْكِيرُ الْخَمْرِ لُغَةٌ، وَالْعَجَبُ مِنَ الشُّرَّاحِ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا بِوَجْهٍ مَا مَعَ أَنَّهُ هَكَذَا مَضْبُوطٌ فِي النُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ وَالْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: لَعَنَ مَنْ سَعَى فِيهَا سَعْيًا مَا عَلَى مَا عَدَّدَ مِنَ الْعَاصِرِ وَالْمُعْتَصِرِ وَمَا أَرْدَفَهُمَا، وَإِنَّمَا أَطْنَبَ فِيهِ لِيَسْتَوْعِبَ مَنْ زَاوَلَهَا مُزَاوَلَةً مَا بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَمَنْ بَاعَ الْعِنَبَ مِنَ الْعَاصِرِ وَمَا أَخَذَ ثَمَنَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِاللَّعْنِ، وَهَؤُلَاءِ لَمَّا حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الْخَمْرُ وَبَاعُوا مَا هُوَ أَصْلٌ لَهَا مِمَّنْ عَلِمُوا أَنَّهُ يَتَّخِذُهَا خَمْرًا، لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونُوا مِمَّنْ قِيلَ فِيهِمْ:«قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا وَبَاعُوهَا» " (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) .
2777 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ، وَشَارِبَهَا، وَسَاقَيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَمُبْتَاعَهَا، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ» " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
2777 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ) أَيْ ذَاتَهَا لِأَنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ مُبَالَغَةً فِي التَّنَفُّرِ عَنْهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا أَكْلَ ثَمَنِهَا (وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا) وَأُخِّرَ لِتَأَخُّرِ مَرْتَبَتِهِ فِي الْفِعْلِ (وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا) أَيْ مُشْتَرِيَهَا (وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.
2778 -
«وَعَنْ مَحِيصَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أُجْرَةِ الْحَجَّامِ، فَنَهَاهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَسْتَأْذِنُهُ حَتَّى قَالَ: (اعْلِفْهُ نَاضِحَكَ، وَأَطْعِمْهُ رَقِيقَكَ) » ، رَوَاهُ مَالِكٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
2778 -
(وَعَنْ مُحَيِّصَةَ) : بِتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ الْمَكْسُورَةِ (أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أُجْرَةِ الْحَجَّامِ)، أَيْ فِي أَخْذِهَا أَوْ أَكْلِهَا (فَنَهَاهُ) قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا نَهْيُ تَنْزِيهٍ لِلِارْتِفَاعِ عَنْ دَنِيءِ الِاكْتِسَابِ، وَلِلْحَثِّ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَعَالِي الْأُمُورِ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُفَرِّقْ فِيهِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُطْعِمَ عَبْدَهُ مَا لَا يَحِلُّ (فَلَمْ يَزَلْ يَسْتَأْذِنُهُ) أَيْ فِي أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فِي أَكْلِهَا، فَإِنَّ أَكْثَرَ الصَّحَابَةِ كَانَتْ لَهُمْ أَرِقَّاءُ كَثِيرُونَ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ مِنْ خَرَاجِهِمْ وَيَعُدُّونَ ذَلِكَ مِنْ أَطْيَبِ الْمَكَاسِبِ، فَلَمَّا سَمِعَ مُحَيِّصَةُ نَهْيَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَى أَكْلِ أُجْرَةِ الْحَجَّامِ تَكَرَّرَ فِي أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ (حَتَّى قَالَ) : صلى الله عليه وسلم (اعْلِفْهُ) : بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَكَسْرِ لَامٍ، أَيْ أَطْعِمْ بِهِ الْعَلَفَ (نَاضِحَكَ) ، وَهُوَ الْجَمَلُ الَّذِي يُسْقَى بِهِ الْمَاءُ (وَأَطْعِمْهُ رَقِيقَكَ) أَيْ عَبِيدَكَ وَإِمَائِكَ، لِأَنَّ هَذَيْنِ لَيْسَ لَهُمَا شَرَفٌ يُنَافِيهِ دَنَاءَةُ هَذَا الْكَسْبِ بِخِلَافِ الْحُرِّ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي حُرْمَتِهِ عَلَى الْحُرِّ، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى حِلِّ تَنَاوُلِ الْحُرِّ لَهُ، فَيُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى التَّنْزِيهِ، كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (رَوَاهُ مَالِكٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) .
2779 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَكَسْبِ الزَّمَّارَةِ» . رَوَاهُ فِي " شَرْحِ السُّنَّةِ ".
ــ
2779 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَكَسْبِ الزَّمَّارَةِ) بِفَتْحِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيِ: الزَّانِيَةِ، إِمَّا مِنْ زَمَّرْتُ فُلَانًا بِكَذَا أَيْ أَغْرَيْتُهُ ; لِأَنَّهَا تُغْرِي الرِّجَالَ عَلَى الْفَاحِشَةِ، وَتُولِعُهُمْ بِالْإِقْدَامِ عَلَيْهَا، أَوْ مِنْ زَمَّرْتُ الْقِرْبَةَ أَيْ مَلَأْتُهَا، فَالزَّانِيَةُ تَمْلَأُ رَحِمَهَا بِنُطَفٍ شَتَّى، أَوْ لِأَنَّهَا تُبَاشِرُ زُمَرًا مِنَ النَّاسِ، كَذَا نَقَلَهُ مِيرَكُ عَنْ زَيْنِ الْعَرَبِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ تَفْسِيرَهُ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّهَا الزَّانِيَةُ، وَلَمْ أَسْمَعْ هَذَا الْحَرْفَ إِلَّا فِيهِ، وَلَا أَدْرِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أُخِذَ، وَقَدْ نَقَلَ الْهُورِيُّ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَهْيٌ عَنْ كَسْبِ الْمَرْأَةِ الْمُغَنِّيَةِ، يُقَالُ: غِنَاءٌ زَمِيرٌ أَيْ حَسَنٌ، وَيُقَالُ: زَمَّرَ أَيْ غَنَّى، وَزَمَّرَ الرَّجُلُ إِذَا زَمَّرَ الْمِزْمَارَ فَهُوَ زَمَّارٌ، وَيُقَالُ لِلْمَرْأَةِ: زَامِرَةٌ، وَقِيلَ الزَّمَّارَةُ الَّتِي تُزَمِّرُ بِالنَّايِ، وَهُوَ حَرَامٌ ; لِأَنَّ النَّايَ مِنْ صَنِيعِ شَارِبِي الْخَمْرِ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَسْمِيَةُ الزَّانِيَةِ زَمَّارَةً، لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الزَّوَانِي الَّتِي اشْتَهَرَتْ بِذَلِكَ الْعَمَلِ الْفَاحِشِ، وَاتَّخَذَتْهُ حِرْفَةً كَوْنُهُنَّ مُغَنِيَاتٍ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الصَّوَابَ فِيهِ تَقْدِيمُ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ عَلَى الزَّايِ، وَهِيَ الَّتِي تُومِي بِشَفَتَيْهَا وَعَيْنَيْهَا وَالزَّوَانِي يَفْعَلْنَ ذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ:
رَمَزَتْ إِلَيَّ مَخَافَةً مِنْ بَعْلِهَا
…
مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْدُوَ هُنَاكَ كَلَامُهَا
(رَوَاهُ) : أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيْ بِإِسْنَادِهِ.
2780 -
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «لَا تَبِيعُوا الْقَيْنَاتِ، وَلَا تَشْتَرُوهُنَّ، وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ، وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ، وَفِي مِثْلِ هَذَا نَزَلَتْ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] » رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَعَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ الرَّاوِي يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ.
وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ جَابِرٍ: نُهِيَ عَنْ أَكْلِ الْهِرِّ فِي بَابِ " مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.
ــ
2780 -
(وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَبِيعُوا الْقَيْنَاتِ) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ التَّحْتِيَّةِ (وَلَا تَشْتَرُوهُنَّ) : فِي الصِّحَاحِ: الْقَيْنُ الْأَمَةُ مُغَنِّيَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: وَفِي الْحَدِيثِ يُرَادُ بِهَا الْمُغَنِّيَةُ، لِأَنَّهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ مُغْنِيَةً فَلَا وَجْهَ لِلنَّهْيِ عَنْ بَيْعِهَا وَشِرَائِهَا (وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ) أَيِ الْغِنَاءَ فَإِنَّهَا رُقْيَةُ الزِّنَا (وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ) قِيلَ: لَا يَصِحُّ بَيْعُهُنَّ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الْقَاضِي: النَّهْيُ مَقْصُورٌ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِأَجْلِ التَّغَنِّي، وَحُرْمَةُ ثَمَنِهَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ بَيْعِهَا، وَالْجُمْهُورُ صَحَّحُوا بَيْعَهَا، وَالْحَدِيثُ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الضَّعْفِ، لِلطَّعْنِ فِي رِوَايَتِهِ مُؤَوَّلٌ بِأَنَّ أَخْذَ الثَّمَنِ عَلَيْهِنَّ حَرَامٌ كَأَخْذِ ثَمَنِ الْعِنَبِ مِنَ النَّبَّاذِ ; لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ وَتَوَصَّلٌ إِلَى حُصُولِ مُحَرَّمٍ، لَا لِأَنَّ الْبَيْعَ غَيْرُ صَحِيحٍ. اهـ. وَوَافَقَهُ ابْنُ الْمَلَكِ (وَفِي مِثْلِ هَذَا) : أَيِ الشِّرَاءِ لِأَجْلِ الْغِنَاءِ (نَزَلَتْ) : وَفِي نُسْخَةٍ: أُنْزِلَتْ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] : أَيْ يَشْتَرِي الْغِنَاءَ وَالْأَصْوَاتَ الْمُحَرَّمَةَ الَّتِي تُلْهِي عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْإِضَافَةُ فِيهِ بِمَعْنَى " مِنْ " لِلْبَيَانِ نَحْوُ: جُبَّةٌ خَزٍّ وَبَابُ سَاجٍ ; أَيْ يَشْتَرِي اللَّهْوَ مِنَ الْحَدِيثِ، لِأَنَّ اللَّهْوَ يَكُونُ مِنَ الْحَدِيثِ: وَمِنْ غَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الْمُنْكَرِ فَيَدْخُلُ فِيهِ نَحْوُ السَّمَرِ بِالْأَسَاطِيرِ، وَبِالْأَحَادِيثِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا، وَالتَّحَدُّثِ بِالْخُرَافَاتِ وَالْمَضَاحِيكِ وَالْغِنَاءِ وَتَعَلُّمِ الْمُوسِيقَى وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، يَعْنِي مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ، نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ كَانَ يَشْتَرِي الْمُغَنِّيَاتِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ رحمه الله: الْإِضَافَةُ بِمَعْنَى " مِنْ " وَهِيَ تَبْيِينِيَّةٌ إِنْ أُرِيدَ بِالْحَدِيثِ: الْمُنْكَرُ، وَتَبْعِيضِيَّةٌ إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْأَعَمُّ مِنْهُ قِيلَ: نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ
اشْتَرَى كُتُبَ الْأَعَاجِمِ، وَكَانَ يُحَدِّثُ بِهَا قُرَيْشًا، وَيَقُولُ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ يُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثِ عَادٍ وَثَمُودَ، فَإِنِّي أُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثِ رُسْتُمَ وَإِسْفَنْدَيَارَ وَالْأَكَاسِرَةِ، وَقِيلَ: كَانَ يَشْتَرِي الْقَيْنَاتِ وَيَحْمِلُهُنَّ عَلَى مُعَاشَرَةِ مَنْ أَرَادَ الْإِسْلَامَ وَمَنَعَهُ عَنْهُ، لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ دِينِهِ، أَوْ قِرَاءَةِ كِتَابِهِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ الْيَاءِ بِمَعْنَى لِيَثْبُتَ عَلَى ضَلَالِهِ، وَيَزِيدَ فِيهِ، وَاللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ، بِغَيْرِ عِلْمٍ: أَيْ بِحَالِ مَا يَشْتَرِي أَوْ بِالتِّجَارَةِ، حَيْثُ اسْتَبْدَلَ اللَّهْوَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَيَتَّخِذُهَا - أَيِ السَّبِيلَ - هُزُوًا أَيْ سُخْرِيَةً وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى يَشْتَرِي، وَنَصَبَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَطْفًا عَلَى لِيُضِلَّ، {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان: 6] لِإِهَانَتِهِمُ الْحَقَّ بِإِيثَارِ الْبَاطِلِ عَلَيْهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَعَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ الرَّاوِي يُضَعَّفُ) : بِالتَّشْدِيدِ أَيْ يُنْسَبُ إِلَى الضَّعْفِ (فِي الْحَدِيثِ) : أَيْ فِي رِوَايَتِهِ.
(وَسَنَذْكُرُ حَدِيثَ جَابِرٍ) أَيِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ فِي هَذَا الْبَابِ وَهُوَ (نُهِيَ عَنْ أَكْلِ الْهِرِّ فِي بَابِ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ) : لِأَنَّهُ أَنْسَبُ لَهُ مَعْنًى (إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -) .
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
2781 -
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «طَلَبُ كَسْبِ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ» " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ.
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
2781 -
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) : أَيِ: ابْنِ مَسْعُودٍ كَمَا فِي نُسْخَةٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم (طَلَبُ كَسْبِ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ) : أَيْ عَلَى مَنِ احْتَاجَ إِلَيْهِ لِنَفْسِهِ، أَوْ لِمَنْ يَلْزَمُ مُؤْنَتَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْحَلَالِ غَيْرُ الْحَرَامِ الْمُتَيَقَّنِ لِيَشْمَلَ الْمُشْتَبَهِ لِمَا مَرَّ فِي الْأَحَادِيثِ: أَنَّ التَّنَزُّهَ عَنِ الْمُشْتَبَهِ احْتِيَاطٌ لَا فَرْضٌ، ثُمَّ هَذِهِ الْفَرِيضَةُ لَا يُخَاطَبُ بِهَا كُلُّ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ (بَعْدَ الْفَرِيضَةِ) : كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّ فَرْضِيَّةَ طَلَبِ كَسْبِ الْحَلَالِ لَا تَكُونُ فِي مَرْتَبَةِ فَرْضِيَّةِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهَا، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ فَرِيضَةٌ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ الْعَامَّةِ الْوُجُوبِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ بِعَيْنِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ فَرِيضَةٌ مُتَعَاقِبَةٌ يَتْلُو بَعْضُهَا الْبَعْضَ لَا غَايَةٌ لَهَا، إِذْ كَسْبُ الْحَلَالِ أَصْلُ الْوَرِعِ وَأَسَاسُ التَّقْوَى (رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) : وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَرَوَى الدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا:" «طَلَبُ الْحَلَالِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» ".
2782 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أُجْرَةِ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ، إِنَّمَا هُمْ مُصَوِّرُونَ، وَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ مِنْ عَمَلِ أَيْدِيهِمْ. رَوَاهُ رَزِينٌ.
ــ
2782 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أُجْرَةِ كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ) أَيْ عَنْ أَخْذِهَا مَعَ كَوْنِ الْقُرْآنُ صِفَةَ اللَّهِ الْقَدِيمِ (فَقَالَ: لَا بَأْسَ) لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ يُطْلَقُ عَلَى مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ مِنَ النُّقُوشِ ; فَهُمْ إِنَّمَا يَأْخُذُونَ الْأُجْرَةَ فِي مُقَابَلَةِ تِلْكَ النُّقُوشِ الدَّالَّةِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، وَلِذَا قَالَ (إِنَّمَا مُصَوِّرُونَ) أَيْ يَنْقُشُونَ صُوَرَ الْحُرُوفِ (وَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَأْكُلُونَ مِنْ عَمَلِ أَيْدِيهِمْ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الصُّورَةُ الْهَيْئَةُ وَالنَّقْشُ، وَالْمُرَادُ هَا هُنَا النَّقْشُ، وَفِي (إِنَّمَا) إِشْعَارٌ بِالْمَجْمُوعِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ النَّقْشَ وَنَفَى الْمَنْقُوشَ، وَالْقُرْآنُ لَمَّا كَانَ عِبَارَةً عَنِ الْمَجْمُوعِ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَالْمَقْرُوءِ أَوِ الْكِتَابَةِ وَالْمَكْتُوبِ، فَالْمَكْتُوبُ وَالْمَقْرُوءُ هُوَ الْقَدِيمُ، وَالْكِتَابَةُ وَالْقِرَاءَةُ لَيْسَتَا مِنَ الْقَدِيمِ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَفْعَالِ الْقَارِئِ وَالْكَاتِبِ، فَلَمَّا نَظَرَ السَّائِلُ عَلَى تَمَيُّزِ مَعْنَى الْمَقْرُوءِ وَالْمَكْتُوبِ، وَأَنَّهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْإِنْسَانِ جَوَّزَهَا (رَوَاهُ رَزِينٌ) .
2783 -
وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه قَالَ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ؟ قَالَ: " عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ» ". رَوَاهُ أَحْمَدُ.
ــ
2783 -
(وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْكَسْبِ) : أَيْ أَنْوَاعِهِ (أَطْيَبُ) ؟ أَيْ أَحَلُّ وَأَفْضَلُ (قَالَ: " عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ)، أَيْ مِنْ زِرَاعَةٍ أَوْ تِجَارَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ صِنَاعَةٍ (وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ) : بِالْجَرِّ صِفَةُ بَيْعٍ وَ (كُلُّ) عَطْفٌ عَلَى (عَمَلٍ) ، وَالْمُرَادُ بِالْمَبْرُورِ أَنْ يَكُونَ سَالِمًا مِنْ غِشٍّ وَخِيَانَةٍ، أَوْ مَقْبُولًا فِي الشَّرْعِ بِأَنْ لَا يَكُونَ فَاسِدًا وَلَا خَبِيثًا أَيْ رَدِيًّا، أَوْ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ بِأَنْ يَكُونَ مُثَابًا بِهِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) وَكَذَا الْبَزَّارُ، ذَكَرَهُ مِيرَكُ
2784 -
وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَتْ لِمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ جَارِيَةٌ تَبِيعُ اللَّبَنَ، وَيَقْبِضُ الْمِقْدَامُ ثَمَنَهُ، فَقِيلَ لَهُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَتَبِيعُ اللَّبَنَ؟ وَتَقْبِضُ الثَّمَنَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَمَا بَأْسٌ بِذَلِكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَنْفَعُ فِيهِ إِلَّا الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ.
ــ
2784 -
(وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ) : لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ (قَالَ: كَانَتْ لِمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ جَارِيَةٌ) : أَيْ مَمْلُوكَةٌ (تَبِيعُ اللَّبَنَ وَيَقْبِضُ الْمِقْدَامُ ثَمَنَهُ، فَقِيلَ لَهُ: سُبْحَانَ اللَّهِ!) : تَعَجُّبًا وَتَنْزِيهًا (أَتَبِيعُ) : أَيِ الْجَارِيَةُ (اللَّبَنَ؟) بِحَضْرَتِكَ وَأَنْتَ وَاقِفٌ عِنْدَهَا كَالْحَارِسِ لَهَا (وَتَقْبِضُ) : أَيْ أَنْتَ (الثَّمَنَ؟) وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِمِثْلِكَ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (تَبِيعُ) مُسْنَدًا إِلَى الْجَارِيَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، أَنْكَرَ بَيْعَ الْجَارِيَةِ وَقَبْضَ الْمِقْدَامِ ثَمَنَهُ، فَالْإِنْكَارُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى مَعْنَى الدَّنَاءَةِ أَيْ: أَتَرْتَضِي بِفِعْلِ الْجَارِيَةِ الدَّنِيَّةِ شَيْئًا دَنِيًّا فَتَقْبِضُهُ، وَأَنْ يَكُونَ مُسْنَدًا إِلَى الْمِقْدَامِ عَلَى الْمَجَازِ، فَالْإِنْكَارُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْبَيْعِ وَالْقَبْضِ (فَقَالَ: نَعَمْ!) أَيِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ (وَمَا بَأْسٌ) : أَيْ لَيْسَ بَأْسٌ (بِذَلِكَ) لِعَدَمِ نَقْصٍ شَرْعِيٍّ إِذْ لَا حُرْمَةَ فِيهِ، وَلَا كَرَاهَةَ بِنَاءً عَلَى أَنْ لَا بَأْسَ لِنَفْيِهِمَا، وَ (مَا) : بِمَعْنَى لَيْسَ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِهِ وَلَمْ يَجِئْ مَا بِمَعْنَى لَا الَّتِي لِنَفْيِ الْجِنْسِ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَنْفَعُ فِيهِ إِلَّا الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ» ) . أَيْ بِالْمَالِ الْمُعَبِّرِ بِهِمَا عَنْهُ، فَإِنَّهُمَا الْأَصْلُ وَالْمُرَادُ كَسْبُهُمَا وَجَمْعُهُمَا مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ، فَإِنَّ أَهْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ لَمَّا غَلَبَ عَلَيْهِمُ النَّقْصُ صَارُوا لَا يَعْتَدُّونَ بِأَرْبَابِ الْكَمَالِ، وَيَخْدِمُونَ أَصْحَابَ الْأَمْوَالِ، وَأَمَّا أَهْلُ اللَّهِ فَأَعْرَضُوا عَنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: مَعْنَاهُ لَا يَنْفَعُ النَّاسَ إِلَّا الْكَسْبُ، إِذْ لَوْ تَرَكُوهُ لَوَقَعُوا فِي الْحَرَامِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ التَّكَسُّبَ يُدْنِيكَ مِنَ الدُّنْيَا قَالَ: لَيْسَ أَدْنَانِي مِنَ الدُّنْيَا، لَقَدْ صَانَنِي عَنْهَا، وَكَانَ السَّلَفُ يَقُولُونَ: اتَّجِرُوا وَاكْسِبُوا فَإِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ إِذَا احْتَاجَ أَحَدُكُمْ كَانَ أَوَّلَ مَا يَأْكُلُ دِينَهُ، وَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ وَكَانَتْ لَهُ بِضَاعَةٌ يُقَلِّبُهَا وَيَقُولُ: لَوْلَا هَذِهِ لَتَمَنْدَلَ بِي بَنُو الْعَبَّاسِ: أَيْ: لَجَعَلُونِي كَالْمِنْدِيلِ يَمْسَحُونَ بِي أَوْسَاخَهُمْ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) .
2785 -
وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: كُنْتُ أُجَهِّزُ إِلَى الشَّامِ، وَإِلَى مِصْرَ. فَجَهَّزْتُ إِلَى الْعِرَاقِ فَأَتَيْتُ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ! كُنْتُ أُجَهِّزُ إِلَى الشَّامِ فَجَهَّزْتُ إِلَى الْعِرَاقِ، فَقَالَتْ: لَا تَفْعَلْ! مَا لَكَ وَلِمَتْجَرِكَ؟ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «إِذَا سَبَّبَ اللَّهُ لِأَحَدِكُمْ رِزْقًا مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَدَعْهُ حَتَّى يَتَغَيَّرَ لَهُ أَوْ يَتَنَكَّرَ لَهُ» " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ.
ــ
2785 -
(وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: كُنْتُ أُجَهِّزُ) : بِتَشْدِيدِ الْهَاءِ أَيْ أُهَيِّئُ التِّجَارَةَ (إِلَى الشَّامِ) ، أَيْ تَارَةً (وَإِلَى مِصْرَ) أُخْرَى وَمَا كُنْتُ أَتَعَدَّى عَنْهُمَا، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: مَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ، أَيْ كُنْتُ أُجَهِّزُ وُكَلَائِي بِبِضَاعَتِي وَمَتَاعِي إِلَى الشَّامِ وَإِلَى مِصْرَ (فَجَهَّزْتُ إِلَى الْعِرَاقِ)، أَيْ مَائِلًا إِلَى سَفَرِهِ (فَأَتَيْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ) : وَفِي نُسْخَةٍ: إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ (عَائِشَةَ، فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ! كُنْتُ) : أَيْ: قَبْلَ هَذَا (أُجَهِّزُ إِلَى الشَّامِ) : أَيْ وَإِلَى مِصْرَ، إِنَّمَا اخْتَصَرَ لِلْوُضُوحِ أَوْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ تَجْهِيزَهُ إِلَى مِصْرَ كَانَ قَلِيلًا نَادِرًا (فَجَهَّزْتُ إِلَى الْعِرَاقِ) أَيِ الْآنَ (فَقَالَتْ: لَا تَفْعَلْ!) أَيْ هَذَا التَّجْهِيزَ وَالتَّبْدِيلَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، لَا سِيَّمَا وَالْمَسَافَةُ بَعِيدَةٌ وَهِيَ مُشْعِرَةٌ إِلَى الْحِرْصِ الْمَذْمُومِ. (مَا لَكَ وَلِمَتْجَرِكَ؟) : اسْمٌ لِمَكَانٍ مِنَ التِّجَارَةِ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ وَقَعَ لَكَ وَمَا حَصَلَ لِمَتْجَرِكَ مِنَ الْبَاعِثِ عَلَى الْعُدُولِ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ؟ أَوَصَلَ إِلَيْكَ خُسْرَانٌ مِنْهُ، حَتَّى يَصُدَّكَ فِي مَحَلِّ تِجَارَتِكَ الَّذِي عَوَّدَكَ اللَّهُ الرِّبْحَ فِيهِ، وَمَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِذَا سَبَّبَ اللَّهُ لِأَحَدِكُمْ رِزْقًا مِنْ وَجْهٍ) : بِأَنْ جَعَلَ رِزْقَ أَحَدِكُمْ مُسَبَّبًا عَنْ وُصُولِ تِجَارَتِهِ إِلَى مَحَلٍّ مَثَلًا (فَلَا يَدَعْهُ) أَيْ: لَا يَتْرُكْ ذَلِكَ السَّبَبَ أَوِ الرِّزْقَ (حَتَّى يَتَغَيَّرَ لَهُ) أَيْ بِعَدَمِ الرِّبْحِ (أَوْ يَتَنَكَّرَ لَهُ) : بِخُسْرَانِ رَأْسِ الْمَالِ، فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَقِيلَ أَوْ لِلشَّكِّ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَفِيهِ أَنَّ مَنْ أَصَابَ مَنْ أَمْرٍ مُبَاحٍ خَيْرًا وَجَبَ عَلَيْهِ مُلَازَمَتُهُ، وَلَا يَعْدِلُ مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا لِصَارِفٍ قَوِيٍّ لِأَنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ) .
2786 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه غُلَامٌ يُخْرِّجُ لَهُ الْخَرَاجَ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ، يَأْكُلُ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: تَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الْكَهَانَةَ، إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ، قَالَتْ: فَأَدْخَلَ! أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ، فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
ــ
2786 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه غُلَامٌ) : أَيْ عَبْدٌ (يُخَرِّجُ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ أَيْ يُعْطِي (لَهُ الْخَرَاجَ) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ، أَيْ يَكْسَبُ لَهُ مَالَ الْخَرَاجِ، وَالْخَرَاجُ هُوَ الضَّرِيبَةُ عَلَى الْعَبْدِ مِمَّا يَكْسِبُهُ فَيَجْعَلُ لِسَيِّدِهِ شَطْرًا مِنْ ذَلِكَ، (فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ)، أَيْ: مِنَ الْمَأْكُولِ (فَأَكَلَ) : أَيْ فَشَرَعَ فِي الْأَكْلِ (مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ الْغُلَامُ: تَدْرِي) أَيْ: تَعْلَمُ (مَا هَذَا؟) أَيِ: الشَّيْءُ الْمَأْكُولُ (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟) : أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ (قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ) : أَيْ: أَخْبَرْتُ بِمَغِيبٍ مُوهِمًا أَنِّي مُسْتَنِدٌ فِي إِخْبَارِي إِلَى الْكَهَانَةِ (وَمَا أُحْسِنُ الْكَهَانَةَ) : بِفَتْحِ الْكَافِ وَيُكْسَرُ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ أَيْ: مَا أَعْرِفُهَا بِالْوَجْهِ الْحَسَنِ (إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ أَيْ لَمْ أَكُنْ أُجِيدُ الْكَهَانَةَ لَكِنْ خَدَعْتُهُ (فَلَقِيَنِي) : أَيِ الْآنَ (فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ) أَيْ بِمُقَابَلَةِ كَهَانَتِي هَذَا الشَّيْءَ، وَقِيلَ الْبَاءُ زَائِدَةٌ (فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ، قَالَتْ: فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ، فَقَاءَ) : أَيْ: لِلْوَرَعِ (كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ) : لِغِلَظِ حُرْمَتِهِ حَيْثُ اجْتَمَعَتِ الْكَهَانَةُ وَالْخَدِيعَةُ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: لِكَوْنِهِ حُلْوَانًا لِلْكَاهِنِ لَا لِلْخِدَاعِ، وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: أَخَذَ مِنْهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله أَنَّ مَنْ أَكَلَ الْحَرَامَ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ أَوْ جَاهِلٌ، ثُمَّ عَلِمَ لَزِمَهُ أَنْ يَتَقَيَّأَ جَمِيعَ مَا أَكَلَهُ فَوْرًا. اهـ.
وَقَدْ جَعَلَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمِنْهَاجِ مِنْ بَابِ الْوَرَعِ حَيْثُ قَالَ: وَحُكْمُ الْوَرِعِ أَنْ لَا تَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ أَحَدٍ حَتَّى تَبْحَثَ عَنْهُ غَايَةَ الْبَحْثِ، فَتَسْتَيْقِنَ أَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِيهِ بِحَالٍ، وَإِلَّا فَتَرُدَّهُ، فَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أَنَّ غُلَامًا لَهُ أَتَاهُ بِلَبَنٍ فَشَرِبَهُ، فَقَالَ الْغُلَامُ: كُنْتُ إِذَا جِئْتُكَ بِشَيْءٍ تَسْأَلُنِي عَنْهُ، وَلَمْ تَسْأَلْنِي عَنْ هَذَا اللَّبَنِ؟ قَالَ: وَمَا قِصَّتُهُ؟ قَالَ: رَقَيْتُ قَوْمًا رُقَى الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعْطَوْنِي هَذَا، فَتَقَيَّأَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَذِهِ مَقْدِرَتِي فَمَا بَقِيَ فِي الْعُرُوقِ فَأَنْتَ حَسْبُهُ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
2787 -
وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ جَسَدٌ غُذِّيَ بِحَرَامٍ» ) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) .
ــ
2787 -
(وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ) : أَيْ بِسَلَامٍ مَعَ أَهْلِ الْكِرَامِ (جَسَدٌ) : أَيْ لِآدَمِيٍّ (غُذِّيَ) أَيْ رُبِّيَ (بِالْحَرَامِ) وَفِي نُسْخَةٍ: بِحَرَامٍ أَيْ بِنَوْعٍ مِنَ الْحَرَامِ.
2788 -
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: شَرِبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لَبَنًا، وَأَعْجَبَهُ، وَقَالَ لِلَّذِي سَقَاهُ: مَنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا اللَّبَنُ؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مَا قَدْ سَمَّاهُ، فَإِذَا نَعَمٌ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ وَهُمْ يَسْقُونَ، فَحَلَبُوا لِي مِنْ أَلْبَانِهَا، فَجَعَلْتُهُ فِي سِقَائِيَ، وَهُو هَذَا. فَأَدْخَلَ عُمَرُ يَدَهُ فَاسْتَقَاءَهُ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ ".
ــ
2788 -
(وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّهُ قَالَ: شَرِبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَبَنًا، وَأَعْجَبَهُ قَالَ لِلَّذِي سَقَاهُ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا اللَّبَنُ؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مَاءٍ) : أَيْ: مَرَّ عَلَى بِئْرٍ أَوْ عَيْنٍ (قَدْ سَمَّاهُ)، أَيْ زَيْدٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ بِاسْمِهِ الْمُعَيَّنِ (فَإِذَا) : لِلْمُفَاجَأَةِ (نَعَمٌ) : بِفَتْحَتَيْنِ (مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ) أَيْ مِنَ الْأَنْعَامِ الْمَأْخُوذَةِ لِلزَّكَاةِ مِنَ الْإِبِلِ أَوِ الْغَنَمِ، (وَهُمْ) : أَيْ رُعَاةُ النَّعَمِ (يَسْقُونَ) ، أَيْ إِبِلَهُمْ أَوْ لِلْفُقَرَاءِ مِنَ اللَّبَنِ (فَحَلَبُوا لِي مِنْ أَلْبَانِهِمْ، فَجَعَلْتُهُ) : أَيْ لَبَنَهَا الْمَحْلُوبَ (فِي سِقَائِي) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ (وَهُوَ) : أَيِ اللَّبَنُ (هَذَا) أَيِ الَّذِي أَعْجَبَكَ (فَأَدْخَلَ عُمَرُ يَدَهُ) : أَيْ فِي فِيهِ (فَاسْتَقَاءَهُ) أَيْ طَلَبَ إِخْرَاجَهُ وَاسْتِفْرَاغَهُ (رَوَاهُمَا) : أَيِ الْحَدِيثَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ رَوَاهُ (الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ) قَالَ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ الْمُحَدِّثُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يُوجَدْ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَكَانَ فِي أَصْلِ سَمَاعِنَا مَكْتُوبًا فِي الْحَاشِيَةِ، وَالصَّوَابُ حَذْفُهُ. اهـ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ بِعَيْنِهِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ، وَلِأَنَّ الطِّيبِيَّ مَا عَدَّهُ مِنْ أَحَادِيثِ هَذَا الْفَصْلِ، بَلْ جَعَلَ حَدِيثَ عَائِشَةَ هُوَ السَّادِسُ، وَحَدِيثَ أَبِي بَكْرٍ هُوَ السَّابِعُ، وَحَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ هُوَ الثَّامِنُ، وَإِذَا كَانَ الصَّوَابُ حَذْفُهُ، فَالصَّوَابُ نُسْخَةُ: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ كَمَا لَا يَخْفَى.