المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[باب حرم مكة] - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٥

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ جَامِعِ الدُّعَاءِ]

- ‌[كِتَابُ الْمَنَاسِكِ]

- ‌[بَابُ الْإِحْرَامِ وَالتَّلْبِيَةِ]

- ‌[بَابُ قِصَّةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ]

- ‌[بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ وَالطَّوَافِ]

- ‌[بَابُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ]

- ‌[بَابٌ الدَّفْعُ مِنْ عَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ]

- ‌[بَابُ رَمْيِ الْجِمَارِ]

- ‌[بَابُ الْهَدْيِ]

- ‌[بَابُ الْحَلْقِ]

- ‌[بَابٌ فِي تَقْدِيمِ وَتَأْخِيرِ بَعْضِ الْمَنَاسِكِ]

- ‌[بَابٌ خُطْبَةُ يَوْمِ النَّحْرِ وَرَمْيُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَالتَّوْدِيعُ]

- ‌[بَابُ مَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ]

- ‌[بَابُ الْمُحْرِمِ يَجْتَنِبُ الصَّيْدَ]

- ‌[بَابُ الْإِحْصَارِ وَفَوْتِ الْحَجِّ]

- ‌[بَابُ حَرَمِ مَكَّةَ]

- ‌[بَابُ حَرَمِ الْمَدِينَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْبُيُوعِ] [

- ‌بَابُ الْكَسْبِ وَطَلَبِ الْحَلَالِ]

- ‌[بَابُ الْمُسَاهَلَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ]

- ‌[بَابُ الْخِيَارِ]

- ‌[بَابُ الرِّبَا]

- ‌[بَابُ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا مِنَ الْبُيُوعِ]

- ‌[بَابُ السَّلَمِ وَالرَّهْنِ]

- ‌[بَابُ الِاحْتِكَارِ]

- ‌[بَابُ الْإِفْلَاسِ وَالْإِنْظَارِ]

- ‌[بَابُ الشِّرْكَةِ وَالْوِكَالَةِ]

- ‌[بَابُ الْغَصْبِ وَالْعَارِيَّةِ]

- ‌[بَابُ الشُّفْعَةِ]

- ‌[بَابُ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ]

- ‌[بَابُ الْإِجَارَةِ]

- ‌[بَابُ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَالشِّرْبِ]

- ‌[بَابُ الْعَطَايَا]

- ‌[بَابُ اللُّقَطَةِ]

- ‌[بَابُ الْفَرَائِضِ]

- ‌[بَابُ الْوَصَايَا]

- ‌[كِتَابُ النِّكَاحِ]

- ‌[بَابُ النَّظَرِ]

- ‌[بَابُ الْوَلِيِّ فِي النِّكَاحِ وَاسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ]

- ‌[بَابُ إِعْلَانِ النِّكَاحِ وَالْخِطْبَةِ وَالشَّرْطِ]

- ‌[بَابُ الْمُحَرَّمَاتِ]

- ‌[بَابُ الْمُبَاشِرَةِ]

- ‌[بَابُ الصَّدَاقِ]

- ‌[بَابُ الْوَلِيمَةِ]

- ‌[بَابُ الْقَسْمِ]

- ‌[بَابُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ وَمَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْحُقُوقِ]

- ‌[بَابُ الْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ]

- ‌[بَابُ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا]

- ‌[بَابٌ فِي كَوْنِ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةٍ مُؤْمِنَةً]

- ‌[بَابُ اللِّعَانِ]

- ‌[بَابُ الْعِدَّةِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِبْرَاءِ]

الفصل: ‌[باب حرم مكة]

رَوَاهُ الْخَمْسَةُ. وَفِي شَرْحِ الْآثَارِ عَنْ عَلْقَمَةَ. قَالَ: لُدِغَ صَاحِبٌ لَنَا وَهُوَ مُحْرِمٌ بِعُمْرَةٍ، فَذَكَرْنَاهُ لِأَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه فَقَالَ: يَبْعَثُ بِهَدْيٍ وَيُوَاعِدُ أَصْحَابَهُ مَوْعِدًا فَإِذَا نَحَرَ عَنْهُ حَلَّ، وَفِي رِوَايَةٍ: ثُمَّ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ.

ص: 1863

2714 -

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «الْحَجُّ عَرَفَةُ، مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ. أَيَّامُ مِنًى ثَلَاثَةٌ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ

ــ

2714 -

(وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ) : غَيْرُ مُنْصَرِفٍ وَهُوَ بِفَتْحِ الْيَاءِ تَحْتَهَا نُقْطَتَانِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَيُضَمُّ (الدِّيلِيِّ) : بِكَسْرِ الدَّالِ وَسُكُونِ التَّحْتَانِيَّةِ، وَقِيلَ: بِضَمِّ الدَّالِّ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَكَانَ الْيَاءِ، وَحِينَئِذٍ تُكْتَبُ بِصُورَةِ الْوَاوِ (قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " الْحَجُّ عَرَفَةُ) : أَيْ: مَلَاكُ الْحَجِّ وَمُعْظَمُ أَرْكَانِهِ وُقُوفُ عَرَفَةَ لِأَنَّهُ يَفُوتُ بِفَوَاتِهِ (مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ) أَيِ: الْوُقُوفَ بِهَا (لَيْلَةَ جَمْعٍ) : أَيْ: وَلَوْ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ وَهِيَ لَيْلَةُ الْعِيدِ (قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ) : فِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْوُقُوفَ يَفُوتُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ يَوْمَ عَرَفَةِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ وَقْتَهُ يَمْتَدُّ إِلَى مَا بَعْدَ الْفَجْرِ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ (فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ) : أَيْ: لَمْ يَفُتْهُ وَأَمِنَ مِنَ الْفَسَادِ إِذَا لَمْ يُجَامِعْ قَبْلَ الْوُقُوفِ، وَأَمَّا إِذَا فَاتَهُ الْوُقُوفُ حَتَّى أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةُ إِحْرَامِهِ إِلَى قَابِلٍ، كَمَا نُقِلَ الْإِجْمَاعُ فِي ذَلِكَ إِلَّا رِوَايَةً عَنْ مَالِكٍ، فَإِنِ اسْتَدَامَ إِحْرَامُهُ إِلَى قَابِلٍ لَمْ يُجْزِئْهُ الْحَجُّ. (أَيَّامَ مِنًى ثَلَاثَةٌ) : أَرَادَ بِهَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ (فَمَنْ تَعَجَّلَ) : أَيْ: لِلنَّفْرِ (فِي يَوْمَيْنِ) : أَيِ: الْيَوْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) : وَسَقَطَ عَنْهُ مَبِيتُ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، وَرَمَى الْيَوْمَ الثَّالِثِ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَتَعَجَّلَ جَاءَ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا، وَهُنَا لَازِمٌ لِمُقَابَلَةِ قَوْلِهِ:(وَمَنْ تَأَخَّرَ) : أَيْ: لِرَمْيِ يَوْمِ الثَّالِثِ (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) : وَهُوَ أَفْضَلُ لِكَوْنِ الْعَمَلُ فِيهِ أَكْمَلَ لِعِلْمِهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا فِئَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا تَرَى الْمُتَعَجِّلَ آثِمًا، وَأُخْرَى تَرَى الْمُتَأَخِّرَ آثِمًا فَوَرَدَ التَّنْزِيلُ بِنَفْيِ الْحَرَجِ عَنْهُمَا، وَدَلَّ فِعْلُهُ عليه الصلاة والسلام عَلَى بَيَانِ الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) وَهَذَا الْبَابُ خَالٍ عَنِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ.

ص: 1863

[بَابُ حَرَمِ مَكَّةَ]

َ - حَرَسَهَا اللَّهُ - تَعَالَى -

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

2715 -

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ. وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا، وَقَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتُهُ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ، فَقَالَ إِلَّا الْإِذْخِرَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

(بَابُ حَرَمِ مَكَّةَ)

أَيْ: حُرْمَةِ حَزْمِهَا (حَرَسَهَا اللَّهُ - تَعَالَى -) أَيْ حَمَاهَا وَحَفِظَهَا مِنَ الْآفَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْعَاهَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ.

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

2715 -

(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ) نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ (لَا هِجْرَةَ) مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ مَفْرُوضَةً (بَعْدَ الْفَتْحِ) كَمَا كَانَتْ قَبْلَهُ، بَلْ قِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ (وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ) أَيْ بَقِيَ فَرْضُ الْجِهَادِ وَالنِّيَّةِ الْخَالِصَةِ، يَعْنِي الْإِخْلَاصَ فِي الْعَمَلِ الشَّامِلِ لِلْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِهِمَا، وَقِيلَ: أَيُّ قَصْدٍ وَعَزْمٍ عَلَى إِعْلَاءِ الدِّينِ بِالْهِجْرَةِ عَنِ الْمَعَاصِي قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: كَانَتِ الْهِجْرَةُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ انْقَطَعَتْ تِلْكَ الْهِجْرَةُ الْمَفْرُوضَةُ، فَلَا تُنَالُ بِالْهِجْرَةِ تِلْكَ الدَّرَجَةُ الَّتِي حَصَلَتْ لِلْمُهَاجِرِينَ، لَكِنْ يُنَالُ الْأَجْرُ بِالْجِهَادِ وَإِحْسَانِ النِّيَّةِ، وَأَمَّا الْهِجْرَةُ الَّتِي تَكُونُ لِصَلَاحِ دِينِ الْمُسْلِمِ فَإِنَّهَا بَاقِيَةٌ مَدَى الدَّهْرِ، وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ

ص: 1863

أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ وَهُوَ إِخْبَارُهُ أَنَّ مَكَّةَ تَدُومُ دَارَ الْإِسْلَامِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهَا هِجْرَةٌ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ (وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ، أَيْ إِذَا طُلِبْتُمْ لِلنَّفْرِ وَهُوَ الْخُرُوجُ إِلَى الْجِهَادِ، وَوَقَعَ فِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ: فَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ. بِالْفَاءِ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ الْمُتَعَمَّدَةِ فَتُكَلَّفَ بِقَوْلِهِ مُقَدِّرًا وَإِذَا وَجَبَ الْجِهَادُ مَعَ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ فَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ (فَانْفِرُوا) بِكَسْرِ الْفَاءِ أَيِ اخْرُجُوا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41](وَقَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ) أَعَادَهُ تَأْكِيدًا، أَوْ إِشَارَةً إِلَى وُقُوعِ هَذَا الْقَوْلِ وَقْتًا آخَرَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ - وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ (إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ) أَيْ مَكَّةَ يَعْنِي حَرَمَهَا، أَوِ الْمُرَادُ بِالْبَلَدِ أَرْضُ الْحَرَمِ جَمِيعُهَا (حُرْمَةُ اللَّهِ) أَيْ حَرُمَ عَلَى النَّاسِ هَتْكُهُ وَأَوْجَبَ تَعْظِيمَهُ (يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) أَيْ تَحْرِيمُهُ شَرِيعَةٌ سَالِفَةٌ، مُسْتَمِرَّةٌ وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إِنَّهُ كَتَبَ اللَّهُ فِي اللَّوْحِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ سَيُحْرِمُ مَكَّةَ، وَالتَّحْقِيقُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ أَظْهَرَ حُرْمَتَهَا، وَحَدَّدَ بُقْعَتَهَا، وَرَفَعَ كَعْبَتَهَا، بَعْدَمَا انْدَرَسَتْ بِسَبَبِ الطُّوفَانِ الَّذِي هَدَمَ بِنَاءَ آدَمَ وَبَيَّنَ حُدُودَ الْحَرَمِ (فَهُوَ) أَنَّ الْبَلَدَ (حَرَامٌ) أَيْ مُحَرَّمٌ مُحْتَرَمٌ (بِحُرْمَةِ اللَّهِ) أَيْ بِتَحْرِيمِهِ - تَعَالَى - (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) إِيمَاءً إِلَى عَدَمِ نَسْخِهِ (وَإِنَّهُ) أَيِ الشَّأْنُ (لَنْ يَحِلَّ) أَيْ لَمْ يَحِلَّ (الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِيَ، وَلَمْ يَحِلَّ) أَيِ الْقِتَالُ لِي (إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ) دَلَّ عَلَى أَنَّ فَتْحَ مَكَّةَ كَانَ عُنْوَةً وَقَهْرًا كَمَا هُوَ عِنْدَنَا، أَيْ أُحِلَّ لِي سَاعَةَ إِرَاقَةِ الدَّمِ دُونَ الصَّيْدِ وَقَطْعِ الشَّجَرِ (فَهُوَ) أَيِ الْبَلَدُ (حَرَامٌ) أَيْ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بَعْدَ تِلْكَ السَّاعَةِ (بِحُرْمَةِ اللَّهِ) أَيِ الْمُؤَبَّدَةِ (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) أَيِ النَّفْخَةِ الْأُولَى (لَا يُعَضَدُ) أَيْ لَا يُقْطَعُ (شَوْكُهُ) أَيْ وَلَوْ يَحْصُلُ التَّأَذِّي بِهِ وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ رحمهم الله أَنَّهُ يَجُوزُ قَطْعُ الشَّوْكِ الْمُؤْذِي فَمُخَالِفٌ لِإِطْلَاقِ النَّصِّ، وَلِذَا جَرَى جَمْعٌ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ عَلَى حُرْمَةِ قَطَعِهِ مُطْلَقًا، وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ رحمه الله فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَاخْتَارَهُ فِي عِدَّةِ كُتُبِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ الْخَطَّابِ: كُلُّ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى إِبَاحَةِ قَطْعِ الشَّوْكِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْظُورُ مِنْهُ الشَّوْكَ الَّذِي يَرْعَاهُ الْإِبِلُ وَهُوَ مَا دَقَّ دُونَ الصُّلْبِ الَّذِي لَا تَرْعَاهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْحَطَبِ، فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِأَهْلِ الْعِلْمِ عُلَمَاءَ الْمَالِكِيَّةِ رحمهم الله (وَلَا يُنَفَّرُ) بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَفْتُوحَةِ (صَيْدُهُ) أَيْ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُ بِالِاصْطِيَادِ وَالْإِيحَاشِ وَالْإِيهَاجِ (وَلَا يُلْتَقَطُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (لُقَطُهُ) بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ، أَيْ لَا تُؤْخَذُ سَاقِطَتُهُ (إِلَّا مِنْ عَرَّفَهَا) بِالتَّشْدِيدِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ الْمَعْلُومِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، إِذَا التَّقْدِيرُ لَا يَلْتَقِطُهَا أَحَدٌ إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهَا وَلَمْ يَأْخُذْهَا لِنَفْسِهِ وَانْتِفَاعِهَا، قِيلَ: أَيْ لَيْسَ فِي لُقَطَةِ الْحَرَمِ إِلَّا التَّعْرِيفُ فَلَا يَتَمَلَّكُهَا أَحَدٌ وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهَا، وَعَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَقِيلَ: حُكْمُهَا كَحُكْمِ غَيْرِهَا، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهَا أَنْ لَا يُتَوَهَّمُ تَخْصِيصُ تَعْرِيفِهَا بِأَيَّامِ الْمَوْسِمِ وَعَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ (وَلَا يُخْتَلَى) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (خَلَاهَا) . بِفَتْحِ الْخَاءِ مَقْصُورًا، أَيْ: لَا يُقْتَطَعُ نَبَاتُهَا وَحَشِيشُهَا. قَالَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا: الْخَلَا مَقْصُورًا الرَّطْبُ مِنَ النَّبَاتِ، كَمَا أَنَّ الْحَشِيشَ هُوَ الْيَابِسُ مِنْهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ فِي حُرْمَةِ الْقَطْعِ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ. اهـ. وَهَذَا خِلَافُ الْمَشْهُورِ مِنَ الْمَذْهَبِ. قَالَ الشَّمَنِيُّ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَكَذَا إِنْ ذَبَحَ الْحَلَالُ صَيْدَ الْحَرَمِ أَيْ لَزِمَهُ قِيمَتُهُ وَيُهْدِي بِهَا أَوْ يُطْعِمُ وَلَا يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ، أَوْ قَطَعَ حَشِيشَةً أَوْ شَجَرَةً إِلَّا مَمْلُوكًا ; أَيْ: لِلْقَاطِعِ أَوْ مُنْبِتًا أَوْ جَافًّا ; أَيْ: يَابِسًا.

(فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا الْإِذْخِرَ) بِالنَّصْبِ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَفِي بَعْضِهَا بِالرَّفْعِ وَهُوَ تَلْقِينٌ وَالْتِمَاسٌ ; أَيْ: قُلْ إِلَّا الْإِذْخِرَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ بَيْنَهُمَا ذَالٌ مُعْجَمَةٌ سَاكِنَةٌ، وَهُوَ نَبْتٌ عَرِيضُ الْأَوْرَاقِ (فَإِنَّهُ) : أَيِ: الْإِذْخِرُ نَافِعٌ وَمُحْتَاجٌ إِلَيْهِ (لِقَيْنِهِمْ) : الْقَيْنُ الْحَدَّادُ، وَكَذَا الصَّيَّاغُ فَإِنَّهُمْ يَحْرِقُونَهُ بَدَلَ الْحَطَبَ وَالْفَحْمَ. (وَلِبُيُوتِهِمْ) أَيْ لِسَقْفِهَا وَكَذَا لِسَقْفِ قُبُورِهِمْ، وَالْمَعْنَى لِبُيُوتِهِمْ حَالَ حَيَاتِهِمْ وَمَمَاتِهِمْ، (فَقَالَ:" إِلَّا الْإِذْخِرَ ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 1864

2716 -

وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: «لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يَلْتَقِطُ سَاقِطَتَةُ إِلَّا مُنْشِدٌ» ".

ــ

2716 -

(وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا) : بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ (وَلَا يَلْتَقِطُ) : بِصِيغَةِ الْفَاعِلِ أَيْ: لَا يَأْخُذُ (سَاقِطَتَهَا إِلَّا مُنْشِدٌ) أَيْ: مُعَرِّفٌ. قَالَ الشَّمَنِيُّ: رَوَى أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ هِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعَضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ " فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِلَّا الْإِذْخِرَ فَإِنَّهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا. فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: " إِلَّا الْإِذِخِرَ» . وَالْخَلَا بِالْقَصْرِ: الْحَشِيشُ الرَّطْبُ، وَاخْتِلَاؤُهُ قَطْعُهُ وَلَا يُرْعَى الْحَشِيشُ، وَجَوَّزَهُ أَبُو يُوسُفَ رحمه الله دَفَعًا لِلْحَرَجِ عَنِ الزَّائِرِينَ وَالْمُقِيمِينَ اهـ كَلَامُهُ. وَهُوَ تَعْلِيلٌ فِي مَعْرِضِ النَّصِّ فَلَا يَتِمُّ مَرَامُهُ.

وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَيَجُوزُ رَعْيُ نَبَاتِ الْحَرَمِ وَشَجَرِهِ، لِأَنَّ الْبَهَائِمَ كَانَتْ تُسَاقُ فِيهِ غَيْرَ مَرْبُوطَةِ الْأَفْوَاهِ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم وَزَمَنِ أَصْحَابِهِ الْكِرَامِ، فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْبَهَائِمَ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا بِخِلَافِ الرَّاعِي، وَيُؤَيِّدُهُ مَا جَاءَ فِي اسْتِثْنَاءِ الدَّوَابِّ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ، وَيَحْرُمُ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ " وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى الْكَرَاهَةِ نَقْلُ تُرَابِ الْحَرَمِ وَحَجَرِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ إِلَى حَرَمِ الْمَدِينَةِ "، كَمَا يُمْنَعُ نَقْلُ تُرَابِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ وَحَجَرِهِ إِلَى غَيْرِهِ وَلَوْ إِلَى حَرَمِ مَكَّةَ، وَيُكْرَهُ نَقْلُ تُرَابِ الْحِلِّ إِلَيْهِ، قَالُوا: وَالْفَرْقُ أَنَّ إِهَانَةَ الشَّرِيفِ أَقْبَحُ مِنْ رِفْعَةِ الْوَضِيعِ، وَأَمَّا نَقْلُ مَاءِ زَمْزَمَ لِلتَّبَرُّكِ بِهِ فَمَنْدُوبٌ اتِّفَاقًا، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتَهْدَاهُ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِمُزَادَتَيْنِ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. قَالَ: وَفِي رِوَايَةٍ: «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام حَمَلَهُ فِي الْأَدَاوِي وَالْقِرَبِ، وَكَانَ يَصُبُّ عَلَى الْمَرِيضِ وَيَسْتَشْفِيهِمْ بِهِ» ، وَصَحَّ «عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهَا كَانَتْ تَنْقُلُهُ وَتُخْبِرُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَنْقُلُهُ» .

ص: 1865

2717 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " «لَا يَحِلُّ لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلَاحَ» ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

2717 -

(وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " لَا يَحِلُّ لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلَاحَ) . أَيْ بِلَا ضَرُورَةٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمُطْلَقًا عِنْدَ الْحَسَنِ، وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ دُخُولُهُ عليه الصلاة والسلام عَامَ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ بِمَا شَرَطَهُ مِنَ السِّلَاحِ فِي الْقِرَابِ، وَدُخُولُهُ عليه الصلاة والسلام عَامَ الْفَتْحِ مُتَهَيِّئًا لِلْقِتَالِ، كَذَا ذَكَرَهُ عِيَاضٌ رحمه الله، وَتَبِعَهُ الطِّيبِيُّ رحمه الله، وَابْنُ حَجَرٍ رحمه الله، وَفِيهِ بَحْثٌ ظَاهِرٌ، إِذِ الْمُرَادُ بِحَمْلِ السِّلَاحِ ظَاهِرًا بِحَيْثُ يَكُونُ سَبَبًا لِرُعْبِ مُسْلِمٍ أَوْ أَذْيِ أَحَدٍ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ الْيَوْمَ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمْنَعُ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ الْحُجَّاجِ، وَأَمَّا عَامُ الْفَتْحِ فَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ هَذَا الْحُكْمِ، فَإِنَّهُ كَانَ أُبِيحَ لَهُ مَا لَمْ يُبَحْ لِغَيْرِهِ مِنْ نَحْوِ حَمْلِ السِّلَاحِ (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .

ص: 1865

2718 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا نَزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ وَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ. فَقَالَ: " اقْتُلْهُ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

2718 -

(وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ) : بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، شِبْهُ قَلَنْسُوَةٍ مِنَ الدِّرْعِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: دَلَّ عَلَى جَوَازِ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ لِمَنْ لَا يُرِيدُ النُّسُكَ، وَهَذَا أَصَحُّ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله قَالَ الشَّمَنِيُّ رحمه الله: وَلَنَا مَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" «لَا تُجَاوِزُوا الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ» ". وَأَيْضًا الْإِحْرَامُ لِتَعْظِيمِ الْبُقْعَةِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ وَغَيْرُهُمَا، وَدُخُولُهُ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ حُكْمٌ مَخْصُوصٌ بِذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ:" «إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِيَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا» . يَعْنِي فِي الدُّخُولِ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى حِلِّ الدُّخُولِ بَعْدَهُ عليه الصلاة والسلام لِقِتَالٍ. (فَلَمَّا نَزَعَهُ) : أَيِ: الْمِغْفَرَ مِنْ رَأْسِهِ (جَاءَ رَجُلٌ) : قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هُوَ فَضْلُ بْنُ عُبَيْدٍ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيُّ. (وَقَالَ: إِنَّ ابْنَ خَطَلٍ) : بِفَتْحَتَيْنِ (مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَقَالَ: " اقْتُلْهُ) .

ص: 1865

قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَكَانَ قَدِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَقَتَلَ مُسْلِمًا كَانَ يَخْدِمُهُ وَاتَّخَذَ جَارِيَتَيْنِ تُغَنِّيَانِ بِهَجْوِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ الْكِرَامِ وَأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِ يَعْنِي قِصَاصًا، وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ الْحَرَمَ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى مَنْ جَنَى خَارِجَهُ وَالْتَجَأَ إِلَيْهِ، أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنَّمَا قَتَلَهُ لِارْتِدَادِهِ انْفِرَادًا، أَوْ مَعَ انْضِمَامِ قَتْلِ النَّفْسِ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ قَتَلَهُ قِصَاصًا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ لَهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَتْلَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْقِصَاصِ عَدَمُ وُجُودِ شُرُوطِهِ مِنَ الْمُطَالَبَةِ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ، وَبِهِ بَطَلَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، وَتَأْوِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ لَهُ بِأَنَّ هَذَا كَانَ فِي السَّاعَةِ الَّتِي أُحِلَّتْ لَهُ، وَحِينَئِذٍ مَكَّةُ كَغَيْرِهَا بِخِلَافِهَا بَعْدَهَا مَرْدُودٌ بِوَضْعِ الْمِغْفَرِ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وَضْعِهِ نَقَضُ أَمْرِهِ، وَنَهْيُهُ فِي حُكْمِهِ مِنْ يَوْمِهِ عَلَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ أَذِنَ فِي قَتْلِ جَمَاعَةٍ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَإِنْ كَانُوا مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، مِنْهُمْ هَذَا وَهُوَ أَشَدُّهُمْ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 1866

2719 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ــ

2719 -

(وَعَنْ جَابِرٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ» ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ (سَوْدَاءُ) : قِيلَ: إِنَّهُ بِسَبَبِ الْمِغْفَرِ (بِغَيْرِ إِحْرَامٍ) : تَقَدَّمَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، وَلَعَلَّ دُخُولَهُ عليه الصلاة والسلام بِغَيْرِ إِحْرَامٍ عُرِفَ مِنْ عَدَمِ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ، وَإِلَّا فَالْإِحْرَامُ هُوَ النِّيَّةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله وَالتَّلْبِيَةُ مَعَهَا عِنْدَنَا، وَهُوَ لَا يُنَافِي اللُّبْسَ، سِيَّمَا إِذَا كَانَ لِلضَّرُورَةِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) . وَظَاهِرُهُ مَعَ مَا قَبْلَهُ أَنَّهُ كَانَ جَامِعًا بَيْنَ لُبْسِ الْمِغْفَرِ وَالْعِمَامَةِ، وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ عَنْ عِيَاضٍ وَأَقَرَّهُ مِنْهُ، وَتَبِعَهُمَا الطَّيْبِيُّ الْجَمْعُ بِأَنَّهُ دَخَلَ أَوَّلًا وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، ثُمَّ بَعْدَ إِزَالَتِهِ عَنْ رَأْسِهِ وَضَعَ الْعِمَامَةَ عَلَيْهِ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ:«خَطَبَ النَّاسَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ كَانَتْ عِنْدَ بَابِ الْكَعْبَةِ» اهـ. وَفِي جَمْعِهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى، إِذْ لَا مَانِعَ أَنَّهُ حَالَ الدُّخُولِ كَانَ بِهِمَا ثُمَّ قَلَعَ الْمِغْفَرَ وَأَبْقَى الْعِمَامَةَ، هَذَا وَفِي الْجُمْلَةِ جَازَ لُبْسُ السَّوَادِ فِي الْعِمَامَةِ وَغَيْرِهَا وَأَنَّ الْأَفْضَلَ الْبَيَاضُ نَظَرًا إِلَى أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ عليه الصلاة والسلام فِعْلًا وَأَمْرًا، وَأَغْرَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلِهِمْ: لُبْسُ الْخَطِيبِ السَّوَادَ بِدْعَةٌ فَلْيَتْرُكْهُ وَيَلْبَسِ الْأَبْيَضَ إِلَّا أَنْ أُكْرِهَ بِخُصُوصِهِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ الْعَبَّاسِيُّونَ، وَمَا أَحْسَنَ عِبَارَةُ الطِّيبِيِّ فِيهِ جَوَازُ لُبْسِ السَّوَادِ فِي الْخُطْبَةِ وَإِنْ كَانَ الْبَيَاضُ أَفْضَلَ.

ص: 1866

2720 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

2720 -

(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَغْزُو) : أَيْ: يَقْصِدُ (جَيْشٌ) : أَيْ: عَسْكَرٌ عَنْ عَظِيمٍ فِي آخِرِ الزَّمَانِ (الْكَعْبَةَ) : أَيْ: لِيُخَرِّبَهَا (فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ) : أَيْ بُقْعَةٍ فَيْحَاءَ وَمَفَازَةٍ وَسْعَاءَ مِنْهَا، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْمَحَلِّ الْمَعْرُوفِ قُرْبَ الْمَدِينَةِ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ (يُخْسَفُ) : عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ (بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ) . أَيْ: يُخْسَفُ بِكُلِّهِمُ الْأَرْضَ (قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ) : أَيِ: الْحَالُ وَهُوَ مِنْ حُسْنِ السُّؤَالِ (يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ) : الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: إِنْ كَانَ جَمْعَ سُوقٍ، فَالتَّقْدِيرُ: أَهْلُ أَسْوَاقِهِمْ، وَإِنْ كَانَ جَمْعَ سُوقَةٍ، وَهِيَ الرَّعَايَا فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّقْدِيرِ. (وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟) : أَيْ: فِي الْكُفْرِ وَالْقَصْدِ بِتَخْرِيبِ الْكَعْبَةِ، عَطْفٌ عَلَى أَسْوَاقِهِمْ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: أَيْ مَنْ لَا يَقْصِدُ تَخْرِيبَ الْكَعْبَةِ، بَلْ هُمُ الضُّعَفَاءُ وَالْأُسَارَى. (قَالَ: " يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ) ، فَيَدْخُلُ فِيهِمْ هَؤُلَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُمْ لِأَنَّهُمْ كَثَّرُوا فِي سَوَادِهِمْ وَأَعَانُوهُمْ عَلَى فَسَادِهِمْ، وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25](ثُمَّ يُبْعَثُونَ) : أَيْ: كُلُّهُمْ (عَلَى نِيَّاتِهِمْ) . أَيْ: يُبْعَثُ مَنْ كَانَ نِيَّتَهُ الْإِسْلَامُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ كَانَ نِيَّتَهُ الْكُفْرُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 1866

2721 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ» " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

2721 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ) : بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِهَا (ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ) : وَإِنَّمَا صُغِّرَ سَاقَاهُ لِأَنَّ سَاقَيْهِ قَصِيرَتَانِ (مِنَ الْحَبَشَةِ) : أَيْ: مِنَ الْكُفَّارِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .

ص: 1867

2722 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «كَأَنِّي بِهِ أَسْوَدَ أَفْحَجَ يَقْلَعُهَا حَجَرًا حَجَرًا» ". رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

ــ

2722 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَأَنِّي بِهِ) : أَيْ: مُلْتَبِسٌ إِلَيْهِ وَانْظُرُ إِلَيْهِ، يُرِيدُ بِهِ مَنْ يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ، وَكَأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام ذَكَرَهُ بَعْدَمَا ذَكَرَ أَنَّهُ يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ أَحَدٌ، وَأَمَّا مَا قَالَهُ الْمُظْهِرُ مِنْ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَجْرُورَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَغَيْرُ ظَاهِرٍ، إِذْ لَمْ يُعْرَفِ اتِّصَالُ الْحَدِيثَيْنِ لَا سِيَّمَا مَعَ اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَفِيهِ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لَهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ التَّقْدِيرُ: كَأَنِّي بِرَجُلٍ أَسْوَدَ أَفْحَجَ إِلَخْ. (أَسْوَدَ) : وَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْمَصَابِيحِ، ثُمَّ هُوَ إِمَّا بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي بِهِ، أَوْ حَالٌ عَنْهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ:(أَفْحَجَ) : بِتَقْدِيمِ الْحَاءِ عَلَى الْجِيمِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَدَانَى صُدُورُ قَدَمَيْهِ وَيَتَبَاعَدُ عَقِبَاهُ، وَيَتَفَحَّجُ سَاقَاهُ، وَمَعْنَاهُ يَتَفَرَّجُ، وَالْفُحْجُ بِجِيمَيْنِ فَتْحُ مَا بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ، وَهُوَ أَقْبَحُ مِنَ الْفَحْجِ (يَقْلَعُهَا) : أَيْ: بِنَاءَ الْكَعْبَةِ (حَجَرًا حَجَرًا) : حَالَانِ نَظِيرُ بَوَّبْتُهُ بَابًا بَابًا، ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمَا بَدَلَانِ عَنْ ضَمِيرِ الْكَعْبَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا بِنَاؤُهَا، وَأَيْضًا الْحَجَرُ جَامِدٌ، وَالْبَابُ مُشْتَقٌّ فَلَا يُقَالُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَتَدَبَّرْ، ثُمَّ قِيلَ: وَيَرْمُونَهَا فِي الْبَحْرِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُهَنْدِسُونَ أَنَّ بَقَاءَهُمَا الْمُدَّةَ الْمَدِيدَةَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَةِ الْعَدِيدَةِ. (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

ص: 1867

الْفَصْلُ الثَّانِي

2723 -

عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «احْتِكَارُ الطَّعَامِ فِي الْحَرَمِ إِلْحَادٌ فِيهِ» ". رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

2723 -

(وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " احْتِكَارُ الطَّعَامِ فِي الْحَرَمِ) : وَهُوَ اشْتِرَاءُ الْقُوتِ فِي حَالَةِ الْغَلَاءِ لِيُبَاعَ إِذَا اشْتَدَّ غَلَاهُ، وَهُوَ حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ وَفِي الْحَرَمِ أَشَدُّ (إِلْحَادٌ فِيهِ) : أَيْ: مَيْلٌ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ فِي الْحَرَمِ قَالَ - تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] . (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .

ص: 1867

2724 -

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَكَّةَ: " «مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا.

ــ

2724 -

(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَكَّةَ) : أَيْ: خِطَابًا لَهَا حِينَ وَدَاعِهَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَهْمِهَا وَسَمَاعِهَا، وَذَلِكَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ (مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ) : صِيغَةُ تَعَجُّبٍ (وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ) ، عَطْفٌ عَلَيْهِ، وَالْأُولَى بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَدِّ ذَاتِهَا أَوْ لِلْإِطْلَاقِ، وَالثَّانِيَةُ لِلتَّخْصِيصِ (وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي) : أَيْ صَارُوا سَبَبًا لِخُرُوجِي (مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ) . وَهَذَا دَلِيلٌ لِلْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَدِينَةِ، خِلَافًا لِلْإِمَامِ مَالِكٍ رحمه الله وَقَدْ صَنَّفَ السُّيُوطِيُّ رِسَالَةً فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ إِسْنَادًا) : تَمْيِيزٌ.

ص: 1867

2725 -

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ حَمْرَاءَ رضي الله عنه قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاقِفًا عَلَى الْحَزْوَرَةِ، فَقَالَ:" «وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

2725 -

(وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ حَمْرَاءَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاقِفًا عَلَى الْحَزْوَرَةِ) . قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: عَلَى وَزْنِ الْقَسْوَرَةِ مَوْضِعٌ بِمَكَّةَ، وَبَعْضُهُمْ شَدَّدَهَا أَيِ: الرَّاءَ، وَالْحَزْوَرَةُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى التَّلِّ الصَّغِيرِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ هُنَاكَ كَانَ تَلًّا صَغِيرًا، وَقِيلَ: لِأَنَّ وَكِيعَ بْنَ سَلَمَةَ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ إِيَادٍ كَانَ وَلِيَ أَمْرَ الْبَيْتِ بَعْدَ جُرْهُمٍ فَبَنَى صَرْحًا هُنَاكَ، وَجَعَلَ فِيهَا أُمَّهُ، يُقَالُ: لَهَا حَزْوَرَةُ فَسُمِّيَتْ مَكَّةُ بِهَا اهـ. وَقِيلَ: اسْمُ سُوقٍ بِمَكَّةَ وَهُوَ الْآنَ مَعْرُوفٌ بِالْغَرْوَرَةِ، وَهُوَ بَابُ الْوَدَاعِ. (فَقَالَ) : أَيْ: مُخَاطِبًا لِلْكَعْبَةِ وَمَا حَوْلَهَا مِنْ حَرَمِهَا، وَفِيهِ تَأْنِيسٌ فِي الْجُمْلَةِ لِقَوْلِ أَئِمَّتِنَا الْحَنَفِيَّةِ مِنْ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُوَدِّعِ أَنْ يَكُونَ مُلْتَفِتًا إِلَى مَا وَرَاءَهُ، كَالْمُتَنَدِّمِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا، بَلْ كَالْكُرْهِ فِي الِانْصِرَافِ عَنْهَا، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ الْأَدَبِ فِي مُفَارَقَةِ بَيْتِ الرَّبِّ، وَأَمَّا الْقَهْقَرَى وَإِنْ كَانَتْ بِدْعَةً إِلَّا أَنَّهَا لَا تُزَاحِمُ سُنَّةً، وَلَا تَدْفَعُهَا مَرَّةً فَهِيَ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: بَلْ رَفَعَهُ أَنَّ مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ. ( «وَاللَّهِ إِنَّكِ لِخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ» ) : فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَدِينَةِ كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ إِلَّا الْبُقْعَةَ الَّتِي ضَمَّتْ أَعْضَاءَهُ عليه الصلاة والسلام فَإِنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ، بَلْ مِنَ الْعَرْشِ إِجْمَاعًا وَتَمَحَّلَ الْمَالِكِيَّةُ فِي رَدِّ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ جِهَةِ الْمَبْنَى وَالْمَعْنَى بِمَا اعْتَرَفَ بِهِ الْإِمَامُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ أَئِمَّتِهِمْ، أَنَّهُ تَشَبُّثٌ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّهُمْ عَارَضُوا هَذَا الْحَدِيثَ الثَّابِتَ بِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ ; بَلْ مَوْضُوعَةٍ مِنْهَا:«اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ أَخْرَجُونِي مِنْ أَحَبِّ الْبِلَادِ إِلَيَّ فَأَسْكِنِّي فِي أَحَبِّ الْبِلَادِ إِلَيْكَ» ، فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ دِحْيَةَ، بَلْ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى إِخْرَاجِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ قَالُوا: مِنْ كَمَالِ تَسَاهُلِهِ فِي كِتَابِهِ عُطِّلَ تَمَامُ النَّفْعِ بِهِ، مَعَ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ يَكُونُ التَّقْدِيرُ بَعْدَ مَكَّةَ، فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَكُنْ أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَيْهِ إِلَّا مَا كَانَ أَحَبَّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ أَيْضًا لِمَا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام خُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، أَوِ الْبَحْرِينِ، أَوْ قِنَّسْرِينَ، فَدَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ لِيَخْتَارَ اللَّهُ - تَعَالَى - لَهُ خَيْرَ تِلْكَ الْبِلَادِ، وَأَحْفَظَهَا مِنَ الْفِتَنِ وَالْفَسَادِ، وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ. (وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ) : أَيْ: بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ (مَا خَرَجْتُ) : وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، وَهُوَ الضَّرُورَةُ الدِّينِيَّةُ أَوِ الدُّنْيَوِيَّةُ، وَلِذَا قِيلَ: الدُّخُولُ فِيهَا سَعَادَةٌ، وَالْخُرُوجُ مِنْهَا شَقَاوَةٌ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : وَغَيْرُهُمَا وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ.

وَأَمَّا خَبَرُ الطَّبَرَانِيِّ: الْمَدِينَةُ خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ فَضَعِيفٌ ; بَلْ مُنْكَرٌ وَأَنَّهُ كَمَا قَالَ الذَّهَبِيُّ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ يَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى زَمَانِهِ لِكَثْرَةِ الْفَوَائِدِ فِي حَضْرَتِهِ، وَمُلَازِمَةِ خِدْمَتِهِ لِأَنَّ شَرَفَ الْمَدِينَةِ لَيْسَ بِذَاتِهِ، بَلْ بِوُجُودِهِ عليه الصلاة والسلام فِيهِ، وَنُزُولِهِ مَعَ بَرَكَاتِهِ، وَنَاهِيكَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْبُقْعَتَيْنِ أَنَّ السَّفَرَ إِلَى مَكَّةَ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِلَى الْمَدِينَةِ سُنَّةٌ بِلَا نِزَاعٍ، وَأَيْضًا نَفْسُ الْمَدِينَةِ لَيْسَ أَفْضَلَ مِنْ مَكَّةَ اتِّفَاقًا، إِذَا لَا تَضَاعُفَ فِيهِ أَصْلًا، بَلِ الْمُضَاعَفَةُ فِي الْمَسْجِدَيْنِ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي قَالَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ:" «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ» ". وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا، وَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ مِثْلُهُ بِالرَّأْيِ: صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ بِمَسْجِدِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام.

قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَرَاهَةِ الْمُجَاوَرَةِ بِمَكَّةَ وَعَدَمِهَا، فَذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُخْتَارَ اسْتِحْبَابًا إِلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْوُقُوعُ فِي الْمَحْذُورِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رحمهم الله وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ إِلَى كَرَاهَتِهَا، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِدَارِ هِجْرَةٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ: مَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا عَلَى الْحَجِّ وَالرُّجُوعِ، وَهُوَ أَيِ الْأَوَّلُ أَعْجَبُ، وَهَذَا أَيِ: الثَّانِي أَحْوَطُ لِمَا فِي خِلَافِهِ مِنْ تَعْرِيضِ النَّفْسِ عَلَى الْخَطَرِ، إِذْ طَبْعُ الْإِنْسَانِ التَّبَرُّمُ وَالْمَلَلُ مِنْ تَوَارُدِ مَا خَالَفَ هَوَاهُ فِي الْمَعِيشَةِ، وَزِيَادَةُ الِانْبِسَاطِ الْمُخِلِّ بِمَا يَجِبُ مِنْ

ص: 1868

الِاحْتِرَامِ لِمَا يَكْثُرُ تَكَرُّرُهُ عَلَيْهِ وَمُدَاوَمَةُ نَظَرِهِ إِلَيْهِ، وَأَيْضًا الْإِنْسَانُ مَحَلُّ الْخَطَأِ، كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام:" «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَؤُهُ الْمُضَاعَفُ يُضَاعَفُ» " أَيْ: كَمِّيَّةً عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِنْ صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّهَا فِي حَرَمِ اللَّهِ أَفْحَشُ وَأَغْلَظُ، أَيْ تُضَاعَفُ كَيْفِيَّةً فَتَنْهَضُ سَبَبًا لِغِلْظِ الْمُوجَبِ وَهُوَ الْعِقَابُ، وَيُمْكِنُ كَوْنُ هَذَا هُوَ مَحْمَلُ الْمَرْوِيِ مِنَ التَّضَاعُفِ كَيْلَا يُعَارِضَ قَوْلَهُ - تَعَالَى:{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] أَعْنِي أَنَّ السَّيِّئَةَ تَكُونُ فِيهِ سَبَبًا لِمِقْدَارٍ مِنَ الْعِقَابِ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ مِقْدَارِهِ عَنْهَا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ إِلَى أَنْ يَصِلَ إِلَى مِقْدَارِ سَيِّئَاتٍ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ سَبَبٌ لِمَقْتِ اللَّهِ - تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ سَجِيَّةَ الْبَشَرِ، فَالسَّبِيلُ التَّرَوُّحُ عَنْ سَاحَتِهِ، وَقَلَّ مَنْ يَطْمَئِنُّ إِلَى نَفْسِهِ فِي دَعْوَاهَا الْبَرَاءَةَ هَذِهِ الْأُمُورَ - إِلَّا وَهُوَ فِي ذَلِكَ مَغْرُورٌ، أَلَا تَرَى إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُحَبَّبِينَ إِلَيْهِ الْمَدْعُوِّ لَهُ، كَيْفَ اتَّخَذَ الطَّائِفَ دَارًا وَقَالَ: لَأَنْ أُذْنِبَ خَمْسِينَ ذَنْبًا بِرَكِيَّةٍ - وَهُوَ مَوْضِعٌ بِقُرْبِ الطَّائِفِ - أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُذْنِبَ ذَنْبًا وَاحِدًا بِمَكَّةَ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَا مِنْ بَلْدَةٍ يُؤْخَذُ الْعَبْدُ فِيهَا بِالْهِمَّةِ قَبْلَ الْعَمَلِ إِلَّا مَكَّةَ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ لِلَّذِي جَاءَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَطْلُبُ الْعِلْمَ: ارْجِعْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَإِنَّا نَسْمَعُ أَنَّ سَاكِنَ مَكَّةَ لَا يَمُوتُ حَتَّى يَكُونَ الْحَرَمُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْحِلِّ ; لِمَا يُسْتَحَلُّ مِنْ حَرَمِهَا. وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه خَطِيئَةٌ أُصِيبُهَا بِمَكَّةَ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ سَبْعِينَ خَطِيئَةً بِغَيْرِهَا. نِعْمَ أَفْرَادٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ اسْتَخْلَصَهُمْ وَخَلَّصَهُمْ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الطِّبَاعِ، فَأُولَئِكَ هُمْ أَهْلُ الْجَوَازِ الْفَائِزُونَ بِفَضِيلَةِ مَنْ يُضَاعَفُ لَهُ الْحَسَنَاتُ وَالصَّلَاةُ مِنْ غَيْرِ مَا يُحْبِطُهَا مِنَ السَّيِّئَاتِ. وَفِي الْحَدِيثِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم:" «صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ فِي مَسْجِدِهِ» ". وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ سَمِعْتُهُ يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" «مَنْ طَافَ أُسْبُوعًا يُحْصِيهِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَ كَعَدْلِ رَقَبَةٍ ". قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: " مَا رَفَعَ رَجُلٌ قَدَمًا وَلَا وَضَعَهَا إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَحَطَّ عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، وَرَفَعَ لَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ» ". وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْهُ صلى الله عليه وسلم:" «مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ بِمَكَّةَ فَصَامَهُ، وَقَامَ مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ كُتِبَ لَهُ مِائَةُ أَلْفِ شَهْرِ رَمَضَانَ فِيمَا سِوَاهُ، وَكَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ عِتْقَ رَقَبَةٍ، وَبِكُلِّ لَيْلَةٍ عِتْقَ رَقَبَةٍ، وَكُلِّ يَوْمٍ حِمْلَانِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» "، وَلَكِنَّ الْفَائِزَ بِهَذَا مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ إِحْبَاطِهَا أَقَلُّ الْقَلِيلِ، فَلَا يُبْنَى الْفِقْهُ بِاعْتِبَارِهِمْ وَلَا بِذِكْرِ حَالِهِمْ قَيْدًا فِي جَوَازِ الْجِوَارِ، لِأَنَّ شَأْنَ النُّفُوسِ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةُ، وَالْمُبَادِرَةُ إِلَى الدَّعْوَةِ الْمُهْلِكَةِ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى مَا يُشْتَرَطُ فِيمَا يُتَوَجَّهُ إِلَيْهِ وَتَطَلَّبَهُ، وَإِنَّهَا لَأَكْذَبُ مَا يَكُونُ إِذَا حَلَفَتْ، فَكَيْفَ إِذَا ادَّعَتْ وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.

وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ كَوْنُ الْجِوَارُ فِي الْمَدِينَةِ الْمُشَرَّفَةِ كَذَلِكَ، فَإِنَّ تَضَاعُفَ السَّيِّئَاتِ وَتَعَاظُمَهَا وَإِنْ فُقِدَ فِيهَا، فَمُخَالِفَةُ السَّلَامَةِ وَقِلَّةِ الْأَدَبِ إِلَى الْإِخْلَالِ بِوَاجِبِ التَّوْقِيرِ، وَالْإِحْلَالُ قَائِمٌ أَيْضًا، وَهُوَ أَيْضًا مَانِعٌ إِلَّا لِلْأَفْرَادِ ذَوِي الْمَلَكَاتِ، فَإِنَّ مَقَامَهُمْ وَمَوْتَهُمْ فِيهَا السَّعَادَةُ الْكَامِلَةُ. فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ:" «لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَاءِ الْمَدِينَةِ وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي ; إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ شَهِيدًا» ". وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ غَيْرَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام: " «مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا» " اهـ.

وَلَوْ أَدْرَكَ الْأَوَّلُونَ مَا انْتَهِي إِلَيْهِ الْآخَرُونَ كَمَا عَلَيْهِ أَهْلُ زَمَانِنَا الْغَافِلُونَ، لَحَكَمُوا بِحُرْمَةِ الْمُجَاوَرَةِ فِي الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ مِنْ شُيُوعِ الظُّلْمِ، وَكَثْرَةِ الْجَهْلِ، وَقِلَّةِ الْعِلْمِ، وَظُهُورِ الْمُنْكَرَاتِ، وَفُشُوِّ الْبِدَعِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَأَكْلِ الْحَرَامِ وَالشُّبَهَاتِ. وَفِي الْحَقِيقَةِ لَيْسُوا بِمُجَاوِرِينَ، بَلْ لَهُمْ مَقَاصِدُ فَاسِدَةٌ صَارُوا بِهَا مُقِيمِينَ غَيْرَ مُسَافِرِينَ، مِنْ تِجَارَةٍ أَوْ مَنْصِبٍ أَوْ جِرَايَةٍ أَوْ " جَامَكِيَّةٍ " أَوْ صُرَّةٍ أَوْ شُهْرَةٍ، غَالِبُهُمْ يَأْكُلُونَهَا، غَيْرَ اسْتِحْقَاقٍ لِحَالَتِهِمْ وَمِنْ غَيْرِ قِيَامٍ بِوَظَائِفِ خِدْمَتِهِمْ، وَمِنْ غَيْرِ رِعَايَةٍ لِشُرُوطِ الْأَوْقَافِ فِي مُدَاخَلَاتِهِمْ، لَكِنَّ هَذِهِ الْبَلِيَّةَ حَيْثُ عَمَّتِ الْبِلَادَ وَطَمَّتِ فِي الْبِلَادِ " طَابَتْ "، حَتَّى عَلَى الزُّهَّادِ وَالْعُبَّادِ. قَالَ - تَعَالَى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم: 41] لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. قَالَ - تَعَالَى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، " وَلَعَلَّهُ لَا يُؤَاخِذُنَا بِالْفِعْلِ وَالْإِحْسَانِ ".

ص: 1869

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

2726 -

عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعُدُوِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِغَدٍ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ: حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: " «إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا. فَقُولُوا لَهُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ. وَإِنَّمَا أُذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، وَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالُ لَكَ عَمْرٌو؟ قَالَ: قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ! أَنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي الْبُخَارِيِّ: الْخَرْبَةُ: الْخِيَانَةُ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

2726 -

(وَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعُدُوِيِّ) : بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالدَّالِ (أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ) أَيِ: ابْنِ الْعَاصِ الْأُمَوِيِّ الْقُرَشِيِّ، كَانَ أَمِيرًا بِالْمَدِينَةِ نَائِبًا عَنِ ابْنِ عَمِّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ لِقِتَالِ ابْنِ الزُّبَيْرِ الْخَلِيفَةِ بِالْحَقِّ فِي مَكَّةَ وَأَعْمَالِهَا وَالْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا لَا الشَّامَ، فَإِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا (وَهُوَ) : أَيْ: عَمْرُو (يَبْعَثُ الْبُعُوثَ) : أَيْ: يُرْسِلُ الْجُيُوشَ (إِلَى مَكَّةَ) وَالْبَعْثُ: جَمَاعَةٌ مِنَ الْجُنْدِ يُرْسِلُهَا الْأَمِيرُ إِلَى قِتَالِ فِرْقَةٍ وَفَتْحِ بِلَادٍ. (ائْذَنْ لِي) : بِفَتْحِ الذَّالِ وَتُبَدَّلُ هَمْزَتُهُ الثَّانِيَةُ بِالْيَاءِ عِنْدَ الِابْتِدَاءِ، وَهُوَ أَمْرٌ مِنَ الْإِذْنِ. بِمَعْنَى الْإِجَازَةِ (أَيُّهَا الْأَمِيرُ! أُحَدِّثْكَ) : بِالْجَزْمِ وَقِيلَ بِالرَّفْعِ (قَوْلًا) : أَيْ: حَدِيثًا (قَامَ بِهِ) : أَيْ: بِذَلِكَ الْقَوْلِ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أَيْ خَطِيبًا، وَالْمَعْنَى حَدَّثَ بِهِ (الْغَدَ) أَيِ: الْيَوْمَ الثَّانِي (مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ) : بِضَمِّ الذَّالِ وَسُكُونِهَا (وَوَعَاهُ قَلْبِي)، أَيْ: حَفِظَهُ (وَأَبْصَرَتْهُ) : أَيْ: قَائِلَهُ (عَيْنَايَ) : فِيهِ تَأْكِيدَاتٌ لَا تَخْفَى (حِينَ تَكَلَّمَ حَمِدَ اللَّهَ) : جُمْلَةٌ اسْتِئْنَافِيَّةٌ مَبْنِيَّةٌ أَيْ: شَكَرَ اللَّهَ شُكْرًا جَزِيلًا (وَأَثْنَى عَلَيْهِ)، أَيْ: ثَنَاءً جَمِيلًا (ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ) : أَنْ جَعَلَهَا مُحَرَّمَةً مُعَظَّمَةً وَأَهْلُهَا تَبَعٌ لَهَا فِي الْحُرْمَةِ (وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ)، أَيْ: مِنْ عِنْدِهِمْ فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ حَرَّمَهَا إِبْرَاهِيمُ بِأَمْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - (فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأُخَرِ) : اكْتَفَى بِطُرُقَيِ الْمُؤْمِنِ بِهِ عَنْ بَقِيَّتِهِ (أَنْ يَسْفِكَ) : أَيْ: يَسْكُبَ (بِهَا دَمًا) أَيْ: بِالْجُرْحِ وَالْقَتْلِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ دَمًا مُهْدَرًا وَفْقُ قَوَاعِدِنَا، وَإِلَّا فَالدَّمُ الْمَعْصُومُ يَسْتَوِي فِيهِ الْحَرَمُ وَغَيْرُهُ فِي حُرْمَةِ سَفْكِهِ (وَلَا يَعْضِدَ) : بِكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَضَمِّهَا أَيْ: وَلَا يَقْطَعَ (بِهَا شَجَرَةً)، وَفِي مَعْنَاهَا النَّبَاتُ وَالْحَشِيشُ (لِأَنْ) : شَرْطِيَّةٌ (أَحَدٌ) : فَاعِلُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ وُجُوبًا يُفَسِّرُهُ (تَرَخَّصَ) : نَحْوَ قَوْلِهِ - تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} [التوبة: 6] وَ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]، (بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : كَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ (فِيهَا. فَقُولُوا: لَهُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ) : أَيْ: أَجَازَ (لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ) . وَبِهِ تَمَّ جَوَابُ الْمُتَرَخِّصِ ثُمَّ ابْتَدَأَ عَطَفَ عَلَى الشَّرْطِ فَقَالَ: (وَإِنَّمَا أُذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ) : الْتِفَاتٌ فِي الْكَلَامِ خِلَافًا لِمَا تَوَهَّمَهُ ابْنُ حَجَرٍ فَتَدَبَّرْ (وَقَدْ عَادَتْ) : أَيْ: رَجَعَتْ (حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ) : أَيْ: يَوْمَ الْخُطْبَةِ الْمَذْكُورَةِ (كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ) : أَيْ: مَا عَدَا تِلْكَ السَّاعَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَمْسِ الزَّمَنُ الْمَاضِي (وَلْيُبْلِّغِ) : بِسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا وَتَشْدِيدِ اللَّامِ (الشَّاهِدُ) : أَيِ: الْحَاضِرُ (الْغَائِبَ " فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالَ لَكَ عَمْرٌو؟) : مَا اسْتِفْهَامِيَّةٌ (قَالَ) : أَيْ: أَبُو شُرَيْحٍ (قَالَ) : أَيْ: عَمْرٌو (أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ) . أَيِ الْحَدِيثَ أَوِ الْحُكْمَ (مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النِّدَاءُ تَتِمَّةً: لِمَا قَبْلَهُ أَوْ تَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهُ (إِنَّ الْحَرَمَ) : أَيْ مَكَّةَ كَمَا فِي حَدِيثٍ آخَرَ (لَا يُعِيذُ) : أَيْ: لَا يُجِيرُ (عَاصِيًا) : أَيْ: بِنَحْوِ الْخُرُوجِ عَلَى الْخَلِيفَةِ، زَعْمًا مِنْهُ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ هُوَ الْخَلِيفَةُ بِحَقٍّ، وَالْحَالُ أَنَّهُ بَاطِلٌ (وَلَا فَارًّا) : أَيْ: هَارِبًا (بِدَمٍ) ، أَيْ قَتْلٍ بِالْكُلِّيَّةِ بِمُجَرَّدِ الِالْتِجَاءِ إِلَى الْحَرَمِ عَلَى وَجْهِ الِالْتِجَاءِ، فَإِنَّهُ يَطْلُبُ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ يُضَيَّقَ عَلَيْهِ وَلَا يُطْعَمُ وَلَا يُسْقَى وَلَا يُبَاعُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ مَأْكُولٍ وَمَشْرُوبٍ، لِيَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ مُضْطَرًّا فَيُقْتَصُّ مِنْهُ، فَبَطَلَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّ فِيهِ دَلِيلًا لِمَذْهَبِنَا أَنَّهُ يَسْتَوْفِي مَنْ فِي الْحَرَمِ مَا لَزِمَهُ مِنْ قَوَدٍ أَوْ حَدٍّ، عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى مَنْصِبِهِ عَدَمُ اعْتِبَارِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ الْعَدْلِ إِجْمَاعًا، فَكَيْفَ بِالظَّالِمِ اتِّفَاقًا (وَلَا فَارًّا) أَيْ شَارِدًا (بِخَرْبَةٍ) . بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ، وَقَدْ يُقَالُ بِضَمِّ الْخَاءِ أَيْ بِجِنَايَةٍ وَأَصْلُهَا سَرِقَةُ الْإِبِلِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَفِي الْبُخَارِيِّ: الْخَرْبَةُ: الْجِنَايَةُ) . وَفِي نُسْخَةٍ: الْخِيَانَةُ ضِدَّ الْأَمَانَةِ، وَفِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: عِنْدَ الْخَرْبَةِ الْبَلِيَّةُ.

ص: 1870