المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3067 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله - مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٥

[الملا على القاري]

فهرس الكتاب

- ‌[بَابُ جَامِعِ الدُّعَاءِ]

- ‌[كِتَابُ الْمَنَاسِكِ]

- ‌[بَابُ الْإِحْرَامِ وَالتَّلْبِيَةِ]

- ‌[بَابُ قِصَّةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ]

- ‌[بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ وَالطَّوَافِ]

- ‌[بَابُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ]

- ‌[بَابٌ الدَّفْعُ مِنْ عَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ]

- ‌[بَابُ رَمْيِ الْجِمَارِ]

- ‌[بَابُ الْهَدْيِ]

- ‌[بَابُ الْحَلْقِ]

- ‌[بَابٌ فِي تَقْدِيمِ وَتَأْخِيرِ بَعْضِ الْمَنَاسِكِ]

- ‌[بَابٌ خُطْبَةُ يَوْمِ النَّحْرِ وَرَمْيُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَالتَّوْدِيعُ]

- ‌[بَابُ مَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ]

- ‌[بَابُ الْمُحْرِمِ يَجْتَنِبُ الصَّيْدَ]

- ‌[بَابُ الْإِحْصَارِ وَفَوْتِ الْحَجِّ]

- ‌[بَابُ حَرَمِ مَكَّةَ]

- ‌[بَابُ حَرَمِ الْمَدِينَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْبُيُوعِ] [

- ‌بَابُ الْكَسْبِ وَطَلَبِ الْحَلَالِ]

- ‌[بَابُ الْمُسَاهَلَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ]

- ‌[بَابُ الْخِيَارِ]

- ‌[بَابُ الرِّبَا]

- ‌[بَابُ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا مِنَ الْبُيُوعِ]

- ‌[بَابُ السَّلَمِ وَالرَّهْنِ]

- ‌[بَابُ الِاحْتِكَارِ]

- ‌[بَابُ الْإِفْلَاسِ وَالْإِنْظَارِ]

- ‌[بَابُ الشِّرْكَةِ وَالْوِكَالَةِ]

- ‌[بَابُ الْغَصْبِ وَالْعَارِيَّةِ]

- ‌[بَابُ الشُّفْعَةِ]

- ‌[بَابُ الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ]

- ‌[بَابُ الْإِجَارَةِ]

- ‌[بَابُ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَالشِّرْبِ]

- ‌[بَابُ الْعَطَايَا]

- ‌[بَابُ اللُّقَطَةِ]

- ‌[بَابُ الْفَرَائِضِ]

- ‌[بَابُ الْوَصَايَا]

- ‌[كِتَابُ النِّكَاحِ]

- ‌[بَابُ النَّظَرِ]

- ‌[بَابُ الْوَلِيِّ فِي النِّكَاحِ وَاسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ]

- ‌[بَابُ إِعْلَانِ النِّكَاحِ وَالْخِطْبَةِ وَالشَّرْطِ]

- ‌[بَابُ الْمُحَرَّمَاتِ]

- ‌[بَابُ الْمُبَاشِرَةِ]

- ‌[بَابُ الصَّدَاقِ]

- ‌[بَابُ الْوَلِيمَةِ]

- ‌[بَابُ الْقَسْمِ]

- ‌[بَابُ عِشْرَةِ النِّسَاءِ وَمَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْحُقُوقِ]

- ‌[بَابُ الْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ]

- ‌[بَابُ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا]

- ‌[بَابٌ فِي كَوْنِ الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةٍ مُؤْمِنَةً]

- ‌[بَابُ اللِّعَانِ]

- ‌[بَابُ الْعِدَّةِ]

- ‌[بَابُ الِاسْتِبْرَاءِ]

الفصل: الْفَصْلُ الثَّالِثُ 3067 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

3067 -

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا كَانَ مِنْ مِيرَاثٍ قُسِّمَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ عَلَى قِسْمَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا كَانَ مِنْ مِيرَاثٍ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ فَهُوَ عَلَى قِسْمَةِ الْإِسْلَامِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

3067 -

(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا كَانَ مِنْ مِيرَاثٍ قُسِمَ» ) بِالتَّخْفِيفِ ( «وَفِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَهُوَ عَلَى قِسْمَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا كَانَ مِنْ مِيرَاثٍ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ، فَهُوَ عَلَى قِسْمَةِ الْإِسْلَامِ» " رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

ص: 2034

3068 -

وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ كَثِيرًا يَقُولُ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: عَجَبًا لِلْعَمَّةِ تُورَثُ وَلَا تَرِثُ. رَوَاهُ مَالِكٌ.

ــ

3068 -

(وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ) بِفَتْحِ مُهْمِلَةٍ فَسُكُونِ زَايٍ (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ كَثِيرًا) أَيْ: سَمَاعًا كَثِيرًا (يَقُولُ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: عَجَبًا لِلْعَمَّةِ تُورَثُ وَلَا تَرِثُ) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هَذَا التَّعْجِيبُ مِنْ حَيْثُ الْقِيَاسِ وَرَأَيِ الْعَقْلِ، وَإِذَا نَظَرَ إِلَى التَّعَبُّدِ وَأَنَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى فَلَا عَجَبَ (رَوَاهُ مَالِكٌ) .

ص: 2034

3069 -

وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ. وَزَادَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَالطَّلَاقَ وَالْحَجَّ. قَالَا: فَإِنَّهُ مِنْ دِينِكُمْ. رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.

ــ

3069 -

(وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ) أَيْ: مَوْقُوفًا (تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ. وَزَادَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَالطَّلَاقَ وَالْحَجَّ. قَالَا) أَيْ: عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ (فَإِنَّهُ) أَيْ: هَذَا الْعِلْمُ، وَفِي نُسْخَةٍ فَإِنَّهَا أَيْ: الْفَرَائِضَ أَوِ الْمَذْكُورَاتَ (مِنْ دِينِكُمْ) أَيْ: مِنْ مُهِمَّاتِهِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَمِنْهُ مَا رُوِيَ " «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ، فَإِنَّهُ نِصْفُ الْعِلْمِ» "، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ نِصْفَ الْعِلْمِ إِمَّا تَوَسُّعًا فِي الْكَلَامِ، أَوِ اسْتِكْثَارًا لِلْبَعْضِ، أَوِ اعْتِبَارًا لِحَالَيِ الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. قَالَ السَّيِّدُ الشَّرِيفُ: هَكَذَا رِوَايَةُ الْفُقَهَاءِ فَالْفَرَائِضُ جَمْعُ فَرِيضَةٍ وَهِيَ مَا قُدِّرَ مِنَ السِّهَامِ فِي الْمِيرَاثِ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْعِلْمَ بِهَا نِصْفَ الْعِلْمِ إِمَّا لِاخْتِصَاصِهَا بِإِحْدَى حَالَيِ الْإِنْسَانِ، وَهِيَ الْمَمَاتُ دُونَ سَائِرِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْحَيَاةِ وَإِمَّا لِاخْتِصَاصِهَا بِإِحْدَى سَبْيِ الْمَلَكِ، أَعْنِي الضَّرُورِيَّ دُونَ الِاخْتِيَارِيِّ لِشِرَاءِ وَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَإِمَّا لِلتَّرْغِيبِ فِي تَعَلُّمِهَا لِكَوْنِهَا أُمُورًا مُهِمَّةً وَإِنَّ رِوَايَةَ الدَّارِمِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيِّ:" «تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَعَلِمُوهُ النَّاسَ، تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ» "، وَعَلَى هَذَا الرِّوَايَةِ فَالْفَرَائِضُ إِمَّا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا ذَكَرَ، أَوْ عَلَى مِمَّا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنَ التَّكَالِيفِ، وَخَصَّ ذِكْرِهَا بَعْدَ التَّعْمِيمِ لِمَزِيدِ الِاهْتِمَامِ اه.

وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ آخِرُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ: «تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ وَعَلِّمُوهُ النَّاسَ ; فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ وَالْعَلَمُ سَيُقْبَضُ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ حَتَّى يَخْتَلِفَ اثْنَانِ فِي فَرِيضَةٍ لَا يَجِدَانِ أَحَدًا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا» ، فَإِنْ قِيلَ: لَمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ: تَعَلَّمُوا الْفُرُوضَ الْمُقَدَّرَةَ فِي الْكِتَابِ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ، فَإِنَّهَا نِصْفٌ لِعِلْمِ الْمَوَارِيثِ، إِذْ عِلْمُ الْمَوَارِيثِ نَوْعَانِ، عِلْمٌ بِالْفُرُوضِ وَعِلْمُ الْعَصَبَاتِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّكَلُّفِ. قُلْنَا لَا يَجُوزُ هَذَا لِمَانِعٍ وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: " «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ فَإِنَّهَا أَوَّلُ قَضِيَّةٍ تُنْسَى، وَأَوَّلُ قَضِيَّةٍ تُنْسَى لَا يَكُونُ الْفُرُوضُ لِأَنَّ نِسْيَانَهَا مَوْقُوفٌ عَلَى نِسْيَانِ الْكِتَابِ، وَهُوَ بَاقٍ إِلَى انْقِرَاضِ الْعَالَمِ. فَلَا يَكُونُ أَوَّلَ قَضِيَّةٍ تُنْسَى، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنَّ يُقَالَ تُنْسَى مَعْرِفَتُهَا أَوْ يُتْرَكُ الْعَمَلُ بِهَا» ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي زَمَانِنَا هَذَا، وَاللَّهُ وَلِي دِينِهِ جل جلاله.

ص: 2034

[بَابُ الْوَصَايَا]

ص: 2034

(20)

بَابُ الْوَصَايَا

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

3070 -

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصَى فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

20 -

بَابُ الْوَصَايَا

جَمْعُ الْوَصِيَّةِ اسْمٌ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مَنْ وَصَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا وَصَلْتَهُ وَسُمِّيَتْ وَصِيَّةً لِأَنَّهُ وَصَلَ مَا كَانَ فِي حَيَاتِهِ بِمَا بَعْدَهُ، وَيُقَالَ: وَصَّى وَأَوْصَى أَيْضًا. قُلْتُ: وَكُلَّمَا قُرِئَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة: 132] وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ الْوَصِيَّةُ بِمَعْنَى النَّصِيحَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] .

الْفَصْلُ الْأَوَّلُ

3070 -

(عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا ") أَيْ: لَيْسَ ( «حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ» ) مِنْ صِفَتِهِ أَنَّ أَوَّلَهُ (" «شَيْءٌ يُوصَى فِيهِ» ") بِفَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِهَا (" يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ ") فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ أَنْ يَبِيتَ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [الروم: 24] الْآيَةَ ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ. ( «إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ» ) أَيْ: مُثَبَّتَةٌ (" عِنْدَهُ ") وَخُلَاصَةُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ حَقُّهُ مِنْ جِهَةِ الْحَزْمِ وَالِاحْتِيَاطِ وَالِانْتِبَاهِ لِلْمَوْتِ أَنْ يَتْرُكَ الْوَصِيَّةَ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: " مَا " بِمَعْنَى لَيْسَ وَيَبِيتُ صِفَةٌ ثَالِثَةٌ لِامْرِئٍ وَيُوصَى فِيهِ صِفَةُ شَيْءٍ، وَالْمُسْتَثْنَى خَبَرٌ أَيْ لِلَيْسَ، ثُمَّ قَيَّدَ لَيْلَتَيْنِ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُظْهِرُ تَأْكِيدًا وَلَيْسَ بِتَحْدِيدٍ، وَالْمَعْنَى لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ زَمَانٌ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ إِلَّا أَنْ يَبِيتَ بِهَذِهِ الْحَالِ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ وَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةً عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَتَى يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَفِي تَخْصِيصِ لَيْلَتَيْنِ تَسَامُحٌ فِي إِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ أَيْ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يَبِيتَ لَيْلَةً وَقَدْ سَامَحْنَاهُ فِي الْمِقْدَارِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنْهُ، قُلْتُ: وَفِي تَخْصِيصِ لَيْلَةٍ تَسَامُحٌ فِي إِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ أَيْضًا إِذْ يَتَصَوَّرُ الْمَوْتَ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ عَلَى غَفْلَةٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله مَعْنَاهُ مَا الْحَزْمُ وَالِاحْتِيَاطُ لِمُسْلِمٍ إِلَّا أَنْ تَكُونَ وَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةً عِنْدَهُ. وَقَالَ دَاوُدُ وَغَيْرُهُ مَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ: هِيَ وَاجِبَةٌ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْوُجُوبِ، لَكِنْ إِنْ كَانَ عَلَى الْإِنْسَانِ دَيْنٌ أَوْ وَدِيعَةٌ لَزِمَهُ الْإِيصَاءُ بِذَلِكَ، وَيُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهَا وَأَنْ يَكْتُبَهَا فِي صَحِيفَةٍ وَيُشْهَدَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَإِنْ تَجَدَّدَ لَهُ أَمْرٌ يَحْتَاجُ إِلَى الْوَصِيَّةِ بِهِ أَلْحَقَهُ بِهَا، وَبِمَا قُلْنَا يُشْهِدُ عَلَيْهِ فِيهَا لِأَنَّهُ لَمْ تَنْفَعْهُ الْوَصِيَّةُ إِذَا لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: ذَهَبَ بَعْضٌ إِلَى وُجُوبِهَا لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى نَدْبِهَا ; لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم جَعَلَهَا حَقًّا لِلْمُسْلِمِ لَا عَلَيْهِ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَكَانَتْ عَلَيْهِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ. قِيلَ: هَذَا فِي الْوَصِيَّةِ الْمُتَبَرَّعِ بِهَا، وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ، رَدُّ الْأَمَانَاتِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ فَوَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ مُجَرَّدَ الْكِتَابَةِ بِلَا إِشْهَادٍ عَلَيْهِ كَانَتْ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الشَّاهِدَيْنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ تَعَلَّقَ بِهِ، فَلَا بُدَّ لَإِزَالَتِهِ مِنْ حُجَّةٍ شَرْعِيةٍ، وَلَا يَكْفِي أَنْ يُشْهِدَهَا عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْلِعَهُمَا عَلَيِهِ اه.

وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّ هَذَا فِي الْوَصِيَّةِ الْمُتَبَرَّعِ بِهَا قَوْلُهُ لَهُ شَيْءٌ يُوصَى فِيهِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، فِي رِوَايَةٍ لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ.

وَفِي شَرْحِ الصُّدُورِ لِلسُّيُوطِيِّ: أَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ذَكَرْتُ حَدِيثًا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَبِيتُ ثَلَاثَ لَيَالٍ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَدَعَوْتُ بِدَوَاةٍ وَقِرْطَاسٍ لِأَكْتُبَ وَصِيَّتِي وَغَلَبَنِي النَّوْمُ، فَنِمْتُ وَلَمْ أَكْتُبْهَا، فَبَيِنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ دَخَلَ دَاخِلٌ أَبْيَضُ الثِّيَابِ حَسَنُ الْوَجْهِ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ قُلْتُ: مَا هَذَا مَنْ أَدْخَلَكَ دَارِي؟ قَالَ: أَدْخَلَنِيهَا رَبُّهَا. قُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مَلَكُ الْمَوْتِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَقَالَ: لَا تُرَعْ إِنِّي لَمْ أُومَرْ بِقَبْضِ رُوحِكَ؟ قُلْتُ: فَاكْتُبْ لِي إِذَاً بَرَاءَةً مِنَ النَّارِ. قَالَ: هَاتِ دَوَاةً وَقِرْطَاسًا فَمَدَدْتُ يَدَيْ إِلَى الدَّاوَةِ وَالْقِرْطَاسِ الَّذِي نِمْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ عِنْدَ رَأْسِي، فَنَاوَلْتُهُ، فَكَتَبَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اسْتَغْفِرِ اللَّهَ، اسْتَغْفِرِ اللَّهَ حَتَّى مَلَأَ ظَهَرَ الْكَاغِدِ وَبَطْنِهِ ثُمَّ نَاوَلَنِيهِ، وَقَالَ: هَذَا بَرَاءَتُكَ رَحِمَكَ اللَّهُ وَانْتَبَهْتُ فَزِعًا، وَدَعَوْتُ بِالسِّرَاجِ فَنَظَرْتُ فَإِذَا الْقِرْطَاسُ الَّذِي نِمْتُ وَهُوَ عِنْدَ رَأْسِي مَكْتُوبٌ ظَهْرُهُ وَبَطْنُهُ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ اه» . وَلَعَلَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَرَدَ: "«مَنْ أَحَبَّ أَنْ تَسُرَّهُ صَحِيفَتُهُ فَلْيُكْثِرْ فِيهَا مِنَ الِاسْتِغْفَارِ» "، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ مَرْفُوعًا.

ص: 2035

3071 -

وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: «مَرِضْتُ عَامَ الْفَتْحِ مَرَضًا أَشْفَيْتُ عَلَى الْمَوْتِ، فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ لِي مَالًا كَثِيرًا وَلَيْسَ يَرِثُنِي إِلَّا ابْنَتِي، أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ؟ قَالَ: " لَا " قُلْتُ: فَثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: " لَا " قُلْتُ: فَالشَّطْرِ؟ قَالَ: " لَا " قُلْتُ: فَالثُّلُثِ؟ قَالَ: " الثُّلُثُ " وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ــ

3071 -

(وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: مَرِضْتُ عَامَ الْفَتْحِ) وَفِي هَامِشِ نُسْخَةِ مَيْرَكَ شَاهْ: صَوَابُهُ عَامُ حِجَّةِ الْوَدَاعِ. (مَرَضًا أَشْفَيْتُ) أَيْ: أَشْرَفْتُ (عَلَى الْمَوْتِ) يُقَالَ: أَشْفَى عَلَى كَذَا أَيْ: قَارَبَهُ وَصَارَ عَلَى شِفَاهٍ وَلَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الشَّرِّ ( «فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي» ) حَالٌ ( «فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ لِي مَالًا كَثِيرًا وَلَيْسَ يَرِثُنِي» ) أَيْ: مِنْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ (إِلَّا ابْنَتِي)(أَفَأُوصِي) بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ (بِمَالِي) أَيْ: بِتَصَدُّقِهِ (كُلِّهِ؟) لِلْفُقَرَاءِ ( «قَالَ: " لَا " قُلْتُ: فَثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: " لَا " قُلْتُ: فَالشَّطْرِ؟» ) بِالْجَرِّ أَيْ: فَبِالنِّصْفِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالنِّصْفِ، وَفِي أُخْرَى بِالرَّفْعِ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: يَجُوزُ نَصْبُهُ عَطَفًا عَلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَرَفَعَهُ أَيْ: فَالشَّطْرُ كَافٍ وَجَرُّهُ عَطْفًا عَلَى مَجْرُورِ الْبَاءِ. (قَالَ: " لَا " قُلْتُ: فَالثُّلُثِ؟) بِالْجَرِّ وَجَوَّزَ النَّصْبَ وَالرَّفْعَ عَلَى مَا سَبَقَ (قَالَ: الثُّلُثَ) بِالنَّصْبِ وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِالرَّفْعِ. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله: يَجُوزُ نَصْبُ الثُّلُثِ الْأَوَّلِ وَرَفْعُهُ فَالنَّصْبُ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ أَعْطَ الثُّلُثَ، وَأَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ أَيْ: يَكْفِيكَ الثُّلُثُ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ أَوْ عَكْسُهُ (وَالثُّلُثُ) بِالرَّفْعِ لَا غَيْرَ عَلَى الِابْتِدَاءِ خَبَرُهُ (كَثِيرٌ) وَهُوَ بِالْمُثَلَّثَةِ فِي جَمِيعِ النُّسَخِ الْحَاضِرَةِ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: رُوِيَ بِالْمُثَلَّثَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ. قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْإِيصَاءَ بِالثُّلُثِ جَائِزٌ لَهُ وَأَنَّ النَّقْصَ مِنْهُ أَوْلَى (إِنَّكَ) اسْتِئْنَافُ تَعْلِيلٍ (أَنْ تَذَرَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالرَّاءِ. وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ: أَنْ تَتْرُكَ (وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ) أَيْ: مُسْتَغْنِينَ عَنِ النَّاسِ ( «خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً» ) أَيْ: فُقَرَاءَ ( «يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» ) أَيْ: يَسْأَلُونَهُمْ بِالْأَكُفِّ وَمَدِّهَا إِلَيْهِمْ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ وَرَثَتَهُ كَانُوا فُقَرَاءَ، وَهُمْ أَوْلَى بِالْخَيْرِ مِنْ غَيْرِهِمْ.

قَالَ النَّوَوِيُّ: أَنْ تَذَرَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا رِوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ. وَفِي الْفَائِقِ: أَنْ تَذَرَ مَرْفُوعُ الْمَحَلِّ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَيْ تَرْكُكَ أَوْلَادَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ، وَالْجُمْلَةُ بِأَسْرِهَا خَبَرُ إِنَّكَ. قَالَ الْأَشْرَفُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ أَنْ حَرْفَ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ يَبْقَى الشَّرْطُ حِينَئِذٍ بِلَا جَزَاءٍ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ جَعْلُ قَوْلِهِ خَيْرُ جَزَاءٍ لَهُ، وَكَثِيرًا مَا تَصَحَّفَ فِيهِ أَهْلُ الزَّمَانِ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: إِذَا صَحَّتِ الرِّوَايَةُ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَنْ لَا يَجُوزُ حَذْفُ الْفَاءِ مِنَ الْجُمْلَةِ إِذَا كَانَتِ اسْمِيَّةً، بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنْ وَجَدْتَ بَعْدَ بُرْهَةٍ مِنَ الزَّمَانِ نَقْلًا مِنْ جَانِبِ الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ الطَّائِيِّ فِي كِتَابِ شَوَاهِدِ التَّوْضِيحِ وَالتَّصْحِيحِ لِمُشْكِلَاتِ الْجَامِعِ الصَّحِيحِ، إِنَّهُ أَتَى فِي الْحَدِيثِ بِالشَّرْطِ وَقَالَ: الْأَصْلُ إِنْ تَرَكْتَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ، فَحَذَفَ الْفَاءَ وَالْمُبْتَدَأَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ:" «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا اسْتَمْتَعَ بِهَا» ". وَقَوْلُهُ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ: " «الْبَيِّنَةَ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» " وَذَلِكَ مِمَّا زَعَمَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالضَّرُورَةِ وَلَيْسَ مَخْصُوصًا بِهَا، بَلْ يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الشِّعْرِ، وَيَقِلُّ فِي غَيْرِهِ، وَمَنْ خَصَّ هَذَا الْحَذْفَ بِالشِّعْرِ حَادَ عَنِ التَّحْقِيقِ وَضَيَّقَ حَيْثُ لَا يَضِيقُ، (" «وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً» ") مَفْعُولٌ بِهِ أَوْ مُطْلَقٌ ( «تَبْتَغِي فِيهَا وَجْهَ اللَّهِ» ) أَيْ: رِضَاهُ (إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ: صِرْتَ مَأْجُورًا بِسَبَبِ تِلْكَ النَّفَقَةِ (حَتَّى اللُّقْمَةَ) بِالنَّصْبِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالْجَرِّ وَحُكِيَ بِالرَّفْعِ (تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ) وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ أَيْ: فِي فَمِهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُنْفِقَ لِابْتِغَاءِ رِضَاهُ تَعَالَى يُؤْجَرُ، وَإِنْ كَانَ مَحَلُّ الْإِنْفَاقِ مَحَلَّ الشَّهْوَةِ وَحَظَّ النَّفْسِ، لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، وَنِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: قَوْلُهُ: إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِنَّكَ إِنْ تَذَرَ وَهُوَ عِلَّةٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ كَأَنَّهُ قِيلَ: لَا تَفْعَلْ لِأَنَّكَ مُتُّ وَتَذَرُ

ص: 2036

وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ تَذَرُهُمْ فُقَرَاءَ، وَإِنْ عِشْتَ وَتَصَدَّقْتَ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثُّلُثِ وَأَنْفَقْتَ عَلَى عِيَالِكَ يَكُنْ خَيْرًا لَكَ. قَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله:" فِيهِ جَوَازُ ذِكْرِ الْمَرِيضِ مَا يَجِدُهُ مِنَ الْوَجَعِ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ مِنْ مُدَاوَاةٍ أَوْ دُعَاءٍ أَوْ وَصِيَّةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ إِذْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ السُّخْطِ، فَإِنَّهُ قَادِحٌ فِي أَجْرِ مَرَضِهِ " اه.

وَفِيهِ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ إِلَّا حِكَايَةُ أَنَّهُ مَرِضَ مَرَضًا مَخُوفًا. قَالَ: " وَدَلِيلٌ عَلَى إِبَاحَةِ جَمْعِ الْمَالِ وَمُرَاعَاةِ الْعَدْلِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْوَصِيَّةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ وَارِثٌ لَا تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَجَوَّزَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله وَأَصْحَابُهُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَحْمَدُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَفِي الْحَدِيثِ حَثٌّ عَلَى صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَقَارِبِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْوَرَثَةِ، فَإِنَّ صِلَةَ الْقَرِيبِ وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الْأَبْعَدِ، وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ الْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُثَابُ عَلَى عَمَلِهِ بِنِيَّتِهِ، وَأَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْعِيَالِ يُثَابُ عَلَيْهِ إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ الْمُبَاحَ إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ صَارَ طَاعَةً، فَإِنَّ زَوْجَةَ الْإِنْسَانِ مَنْ أَحَظِّ حُظُوظِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَشَهَوَاتِهَا وَمَلَاذِّهَا الْمُبَاحَةِ، وَوَضْعُ اللُّقْمَةِ فِي فِيهَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْعَادَةِ عِنْدَ الْمُلَاعَبَةِ وَالْمُلَاطَفَةِ، وَهِيَ أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ عَنِ الطَّاعَةِ وَأُمُورِ الْآخِرَةِ، وَمَعَ هَذَا فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ إِذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى حَصَلَ لَهُ الْأَجْرُ، فَغَيْرُ هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْلَى بِحُصُولِ الْأَجْرِ اه. وَقَوْلُهُ:(أَبْعَدُ الْأَشْيَاءِ عَنِ الطَّاعَةِ) فِيهِ مُسَامَحَةٌ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالطَّاعَةِ الْعِبَادَةَ، وَإِلَّا فَالطَّاعَةُ الْمُقَابَلَةُ بِالْمَعْصِيَةِ لَا يَصِحُّ إِيرَادُهَا هُنَا كَمَا لَا يَخْفَى (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) . وَرَوَاهُ مَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْأَرْبَعَةُ.

ص: 2037

الْفَصْلُ الثَّانِي

3072 -

عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: «عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا مَرِيضٌ، فَقَالَ: أَوْصَيْتَ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: " بِكَمْ ": قُلْتُ بِمَالِي كُلِّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ: " فَمَا تَرَكْتَ لِوَلَدِكَ؟ " قُلْتُ: هُمْ أَغْنِيَاءُ بِخَيْرٍ. فَقَالَ: " أَوْصِ بِالْعُشْرِ " فَمَا زِلْتُ أُنَاقِصُهُ، حَتَّى قَالَ: " أَوْصِ بِالثُّلُثِ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّانِي

3072 -

(وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: «عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» -) أَيْ زَارَنِي، فَفِيهِ تَجْرِيدٌ لِقَوْلِهِ (وَأَنَا مَرِيضٌ) حَالٌ (فَقَالَ:" أَوْصَيْتَ ") أَيْ أَرَدْتَ الْوَصِيَّةَ ( «قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: " بِكَمْ "؟ قُلْتُ: بِمَالِي كُلِّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: " فَمَا تَرَكْتَ لِوَلَدِكَ؟» ) بِفَتْحَتَيْنِ وَفِي نُسْخَةٍ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ يُطْلَقُ عَلَى الْبِنْتِ لِمَا تَقَدَّمَ. (قُلْتُ: هُمْ) فِيهِ تَغْلِيبٌ لِلْعَصَبَةِ عَلَى الْبِنْتِ (أَغْنِيَاءُ) أَيْ بِاعْتِبَارِ الْمَجْمُوعِ لَا الْجَمِيعِ فَلَا يُنَافِي مَا سَبَقَ (بِخَيْرٍ) ، أَيْ بِمَالٍ وَهُوَ خَبَرٌ ثَانٍ أَوْ صِفَةٌ، أَيْ: مُلْتَبَسُونَ بِخَيْرٍ (فَقَالَ: " أَوْصِ بِالْعُشُرِ ") بِالضَّمِّ وَيُسْكَنُ (فَمَا زِلْتُ أُنَاقِصُهُ) بِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ وَفِي نُسْخَةٍ بِالْمُعْجَمَةِ (حَتَّى قَالَ: " «أَوْصِ بِالثُّلُثِ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ» ") قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: " أَيْ قَالَ سَعْدٌ: فَمَا زِلْتُ أُنَاقِضُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُنَاقَضَةِ أَيْ: يَنْقُضُ عليه الصلاة والسلام قَوْلِي، وَأَنْقُضُ قَوْلَهُ، أَرَادَ بِهِ الْمُرَاجَعَةَ حِرْصًا عَلَى الزِّيَادَةِ، وَرُوِيَ بِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ مِنَ النُّقْصَانِ. وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: " أَيْ لَمْ أَزَلْ أُرَاجِعُهُ فِي النُّقْصَانِ أَيْ أَعُدُّ مَا ذَكَرَ نَاقِصًا حَتَّى قَالَ بِالثُّلُثِ، وَلَوْ رُوِيَ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ لَكَانَ مِنَ الْمُنَاقَضَةِ ". فِي النِّهَايَةِ: " فِي حَدِيثِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ فَنَاقَضَنِي وَنَاقَضْتُهُ أَيْ يَنْقُضُ قَوْلِي وَأَنْقُضُ قَوْلَهُ مِنْ نَقَضِ الْبِنَاءِ، وَأَرَادَ بِهِ الْمُرَاجَعَةَ وَالْمُرَادَّةَ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) وَتَقَدَّمَ مَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَفْظُهُ:«إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ» .

ص: 2037

3073 -

وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: إِنِ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ:" «الْوَلَدُ لِلْفَرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» ".

ــ

3073 -

(وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ» ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَيُكْسَرُ ( «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ» ) أَيْ: بَيَّنَ لَهُ حَظَّهُ وَنَصِيبَهُ الَّذِي فُرِضَ لَهُ ( «فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» ) قَالَ الْمُظْهِرُ: كَانَتِ الْوَصِيَّةُ لِلْأَقَارِبِ فَرْضًا قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْمِيرَاثِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ فَإِنْ أَوْصَى وَأَجَازَ بَاقِي الْوَرَثَةِ صَحَّتْ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ: «الْوَلَدُ لِلْفَرَاشِ» ) بِفَتْحِ الْفَاءِ أَيْ: لِلْأُمِّ، فِي النِّهَايَةِ: وَتُسَمَّى الْمَرْأَةُ فِرَاشًا لِأَنَّ الرَّجُلَ يَفْتَرِشُهَا. أَيْ: الْوَلَدُ مَنْسُوبٌ إِلَى صَاحِبِ الْفِرَاشِ، سَوَاءٌ كَانَ زَوْجًا أَوْ سَيِّدًا، أَوْ وَاطِئَ شُبْهَةٍ، وَلَيْسَ لِلزَّانِي فِي نِسْبَةِ حَظٍّ إِنَّمَا الَّذِي جُعِلَ لَهُ مِنْ فِعْلِهِ اسْتِحْقَاقَ الْحَدِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ:( «وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» ) قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: يُرِيدُ أَنَّ لَهُ الْخَيْبَةَ، وَهُوَ كَقَوْلِكَ: لَهُ التُّرَابُ، وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَى الرَّجْمِ فَقَدْ أَخْطَأَ لِأَنَّ الرَّجْمَ لَا يَشْرَعُ فِي سَائِرِهِ، وَكُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا نَصِيبَ لِأَحَدٍ بَعْدَمَا بَيَّنَ اللَّهُ الْأَنْصِبَاءَ إِلَّا لِلْأَجْنَبِيِّ فَلَا حَظَّ لِلْأَوَّلِ فَكَيْفَ بِالثَّانِي؟ ، وَكَانَ مِنْ حَقِّ الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ: لَا حَقَّ لِلْعَاهِرِ ثُمَّ لَهُ التُّرَابُ، فَوَضَعَ الْحَجَرَ مَوْضِعَهُ لِيَدُلَّ بِإِشَارَةِ النَّصِّ عَلَى الْحَدِّ وَبِعِبَارَتِهِ عَلَى الْخَيْبَةِ، فَكَانَ أَجْمَعُ مِنْ لَوْ قِيلَ التُّرَابُ. (وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ) قَالَ الْمُظْهِرُ: يَعْنِي نَحْنُ نُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى الزُّنَاةِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُمْ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُمْ، هَذَا مَفْهُومُ الْحَدِيثِ. وَقَدْ جَاءَ مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الدُّنْيَا لَا يُعَذَّبُ بِذَلِكَ الذَّنْبِ فِي الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُثْنِيَ الْعُقُوبَةَ عَلَى مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَنْ زَنَى أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ وَلَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ.

أَقُولُ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: وَنَحْنُ نُجْرِي أَحْكَامَ الشَّرْعِ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهِ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالسَّرَائِرِ، فَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَجَزَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، أَوْ بَقِيَّةُ مُحَاسَبَتِهِمْ وَمُجَازَاتِهِمْ مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَى ذَلِكَ بِالذَّنْبِ وَمُبَاشَرَةِ سَائِرِ الذُّنُوبِ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله:" الضَّمِيرُ فِي حِسَابِهِمْ إِذَا رَجَعَ إِلَى الْعَاهِرِ بِحَسَبِ الْجِنْسِيَّةِ جَازَ إِذَا أُرِيدَ بِالْحَجَرِ الْحَدَّ، وَإِذَا أُرِيدَ مُجَرَّدُ الْحِرْمَانِ فَلَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى مَا يُفْهَمُ مِنَ الْحَدِيثِ مِنَ الْوَرَثَةِ وَالْعَاهِرِ، وَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي قَسَّمَ أَنْصِبَاءَ الْوَرَثَةِ بِنَفْسِهِ فَأَعْطَى بَعْضَنَا الْكَثِيرَ وَبَعْضَنَا الْقَلِيلَ، وَحَجَبَ الْبَعْضَ وَحَرَمَ الْبَعْضَ، وَلَا يُعْرَفُ حِسَابُ ذَلِكَ وَحِكْمَتُهُ إِلَّا هُوَ، فَلَا تُبَدِّلُوا النَّصَّ بِالْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ وَلِلْعَاهِرِ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ أَعْطَى، وَعَلَى الْأَوَّلِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَقِرِّ فِي الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: "«وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» ". وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلسُّيُوطِيِّ: "«الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَابْنِ مَاجَهْ، عَنْ عُمَرَ، وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رحمه الله تَعَالَى، وَقَدْ عُدَّ مِنَ الْمُتَوَاتِرِ.

ص: 2038

3074 -

وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ» . مُنْقَطِعٌ، هَذَا لَفْظُ الْمَصَابِيحِ. وَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ: قَالَ: «لَا تَجُوزُ وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ» .

ــ

3074 -

(وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ» ) بِتَذْكِيرِ الْفِعْلِ وَتَأْنِيثِهِ أَيْ: وَيُرِيدُوهَا وَيُجِيزُوهَا (مُنْقَطِعٌ) أَيْ: هَذَا الْحَدِيثُ مُنْقَطِعٌ. قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: الْمُنْقَطِعُ هُوَ الْإِسْنَادُ الَّذِي فِيهِ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى التَّابِعِيِّ رَاوٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الَّذِي فَوْقَهُ، وَالسَّاقِطُ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مَذْكُورٍ، وَمِنْهُ الْإِسْنَادُ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ بَعْضَ الرُّوَاةِ بِلَفْظٍ مُبْهَمٍ نَحْوَ رَجُلٍ أَوْ شَيْخٍ أَوْ غَيْرِهِمَا اه. لِأَنَّ الْمَجْهُولَ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (هَذَا) أَيْ: الَّذِي ذَكَرَ مِنْ لَفْظِ الْحَدِيثِ لَفْظَ الْمَصَابِيحِ. وَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ قَالَ: لَا يَجُوزُ) بِالْيَاءِ وَالتَّاءِ أَيْ: لَا يَصِحُّ (وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الْوَرَثَةُ) قُلْتُ: رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» أَيْضًا عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

ص: 2038

3075 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ وَالْمَرْأَةَ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً، ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ، فَيُضَارَّانِ فِي الْوَصِيَّةِ، فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ» . ثُمَّ قَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12] إِلَى قَوْلِهِ {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13] رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.

ــ

3075 -

(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ» ) أَيْ لَيَعْبُدُ اللَّهَ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ (وَالْمَرْأَةَ) بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى اسْمِ إِنَّ وَخَبَرُ الْمَعْطُوفِ مَحْذُوفٌ بِدَلَالَةِ خَبَرِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَيَجُوزُ الرَّفْعُ وَخَبَرُهُ كَذَلِكَ، وَقَدْ تَنَازَعَ فِي قَوْلِهِ:(بِطَاعَةِ اللَّهِ) الْمَحْذُوفُ وَالْمَذْكُورُ (سِتِّينَ سَنَةً) أَيْ مَثَلًا أَوِ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّكْثِيرُ ( «ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ» ) أَيْ: عَلَامَتُهُ ( «فَيُضَارَّانِ فِي الْوَصِيَّةِ» ) مِنَ الْمُضَارَّةِ أَيْ: يُوصِلَانِ الضَّرَرَ إِلَى الْوَارِثِ بِسَبَبِ الْوَصِيَّةِ لِلْأَجْنَبِيِّ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ، أَوْ بِأَنْ يَهَبَ جَمِيعَ مَالِهِ لِوَاحِدٍ مِنَ الْوَرَثَةِ كَيْلَا يَرِثَ وَارِثٌ آخَرُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا، فَهَذَا مَكْرُوهٌ وَفِرَارٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَفِيهِ: أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِمَا ضَرَرٌ لِأَحَدٍ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ مَعْنَاهُ فَيَقْصِدَانِ الضَّرَرَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ يُوصِي لِغَيْرِ أَهْلِ الْوَصِيَّةِ أَوْ يُوصِي بِعَدَمِ إِمْضَاءِ مَا أَوْصَى بِهِ حَقًّا بِأَنْ نَدَمَ مِنْ وَصِيَّتِهِ أَوْ يَنْقُضُ بَعْضَ الْوَصِيَّةِ ( «فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ» ) أَيْ: ذَهَبَتْ وَالْمَعْنَى يَسْتَحِقَّانِ الْعُقُوبَةَ، وَلَكِنَّهُمَا تَحْتَ الْمَشِيئَةِ (ثُمَّ قَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ) أَيْ: اسْتِشْهَادًا وَاعْتِضَادًا {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} [النساء: 12] مُتَعَلِّقٌ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ {يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] بِبِنَاءِ الْمَعْلُومِ {غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12] أَيْ: غَيْرَ مُوصِلِ الضَّرَرِ إِلَى وَرَثَتِهِ بِسَبَبِ الْوَصِيَّةِ فَغَيْرُ حَالٍ مِنْ فَاعِلِ يُوصِي، وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ وَهِيَ قِرَاءَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ: يُوصِي مَجْهُولًا فَهُوَ حَالٌ عَنْ يُوصَى مُقَدَّرٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لِوَصِيٍّ عُلِمَ أَنَّ ثَمَّ مُوصِيًا (إِلَى قَوْلِهِ:{وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13] يَعْنِي وَصِيَّةً. مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ. {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [النساء: 13] إِلَى آخَرِ الْآيَةِ، وَالشَّاهِدُ إِنَّمَا هُوَ الْآيَةُ الْأُولَى، وَإِنَّمَا قَرَأَ الْآيَةَ الثَّانِيَةَ لِأَنَّهَا تُؤَكِّدُ الْأُولَى، وَكَذَا مَا بَعْدَهَا مِنَ الثَّالِثَةِ، وَكَأَنَّهُ اكْتَفَى بِالثَّانِيَةِ عَنِ الثَّالِثَةِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ) .

ص: 2039

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

3076 -

عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " «مَنْ مَاتَ عَلَى وَصِيَّةٍ مَاتَ عَلَى سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ، وَمَاتَ عَلَى تُقًى وَشَهَادَةٍ، وَمَاتَ مَغْفُورًا لَهُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

ــ

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

3076 -

(عَنْ جَابِرٍ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ مَاتَ عَلَى وَصِيَّةٍ مَاتَ عَلَى سَبِيلٍ» ") أَيْ: طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ وَدَلِيلٍ قَوِيمٍ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَأُبْهِمُهُ لِيَدُلَّ عَلَى ضَرْبٍ بَلِيغٍ مِنَ الْفَخَامَةِ أَيْ: عَلَى سَبِيلٍ أَيِّ سَبِيلٍ ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَسُّنَةٍ) أَيْ: طَرِيقَةٍ أَوْ سُّنَةٍ حَسَنَةٍ، قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله:" وَالتَّنَكُّرُ لِلتَّكْثِيرِ وَلِكَوْنِهِ تَفْسِيرًا لَمْ يَعُدِ الْجَارَّ "( «وَمَاتَ عَلَى تُقًى» ) بِضَمِّ التَّاءِ وَالتَّنْوِينِ عَلَى وَزْنِ هُدًى أَيْ: عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ مِنِ امْتِثَالِ الطَّاعَةِ وَاجْتِنَابِ الْمَعْصِيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى حُسْنِ خَاتِمَتِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا (وَشَهَادَةٍ) أَيْ: حُكْمِيَّةٍ أَوْ عَلَى حُضُورٍ مَعَ اللَّهِ وَغَيْبَةٍ عَمَّا سِوَاهُ ( «وَمَاتَ مَغْفُورًا لَهُ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: " كَرَّرَ الْمَوْتَ وَأَعَادَهُ لِيُفِيدَ اسْتِقْلَالَ صِفَةِ التَّقْوَى وَالشَّهَادَةِ، ثُمَّ ثَلَّثَ بِالْغُفْرَانِ تَرَقِّيًا لِأَنَّ الْغُفْرَانَ غَايَةُ الْمَطْلَبِ وَغَايَةُ الْمَقْصِدِ، وَمِنْ ثَمَّ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ قَبْلَ إِتْمَامِ النِّعْمَةِ فِي قَوْلِهِ:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] وَإِنَّمَا لَمْ يَعُدِ الْجَارُ فِي الْقَرِينَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ الْحَالَاتِ السَّابِقَةَ هَيْئَاتٌ صَادِرَةٌ عَنِ الْعَبْدِ وَالْأَخِيرَةُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ الْوَجْهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .

ص: 2039