الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شَرْطِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ [فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صلى الله عليه وسلم (سُبْحَانَ اللَّهِ!) : تَنْزِيهٌ لَهُ تَعَالَى عَنِ الظُّلْمِ وَعَنِ الْعَجْزِ، أَوْ تَعَجُّبٌ مِنَ الدَّاعِي فِي هَذَا الْمَطْلَبِ وَهُوَ أَقْرَبُ. (لَا تُطِيقُهُ) : أَيْ فِي الدُّنْيَا (وَلَا تَسْتَطِيعُهُ) : فِي الْعُقْبَى أَوْ كَرَّرَ لِلتَّأْكِيدِ، فَبَطَلَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ، فَمَآلُ الْجُمْلَتَيْنِ وَاحِدٌ، إِذْ يُحْتَمَلُ اخْتِلَافُهُمَا بِخِلَافِ تَعَلُّقِهَا. وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قَوْلُهُ: (لَا تُطِيقُهُ) بَعْدَ مَا صَارَ الرَّجُلُ كَالْفَرْخِ، وَبَعْدَ قَوْلِهِ: كُنْتُ أَقُولُ لِحِكَايَةِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ الْحَالُ وَالِاسْتِقْبَالُ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فَقَالَ: أَيْ لَا تُطِيقُ هَذَا الْعَذَابَ الَّذِي سَأَلْتَهُ لَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا، وَلَا فِيمَا سِوَاهَا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ عُمُومُ النَّفْيِ، فَانْدَفَعَ قَوْلُ الطِّيبِيِّ إِلَخْ فَتَأَمَّلْ. فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَكْفِيهِ الْإِشَارَةُ، وَالْغَافِلَ لَا تَنْفَعُهُ كَثْرَةُ الْعِبَارَةِ.
(أَفَلَا قُلْتَ) : أَيْ بَدَلَ مَا قُلْتَ: ( «اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً» ) : أَيْ عَافِيَةً (وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) : أَيْ مُعَافَاةً (وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ؟) قَالَ،: أَيْ: أَنَسٌ (فَدَعَا) : أَيِ الرَّجُلُ (اللَّهَ بِهِ) : أَيْ بِهَذَا الدُّعَاءِ الْجَامِعِ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ حَالَ كَوْنِهِ مُلْتَبِسًا بِقَوْلِهِ هَذَا الدُّعَاءَ، أَوْ مُسْتَغْنًى عَنْهُ نَشَأَ عَنِ الْغَفْلَةِ عَنْ قَوْلِهِ: صلى الله عليه وسلم ( «هَلْ دَعَوْتَ اللَّهَ بِشَيْءٍ» ؟) فَإِنَّ الْبَاءَ لِلتَّعْدِيَةِ أَيِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي (فَشَفَاهُ اللَّهُ) : أَيْ: بِالدَّوَاءِ النَّافِعِ. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
2503 -
وَعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صلى الله عليه وسلم ( «لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ) . قَالُوا: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قَالَ (يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ» ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
ــ
2503 -
[وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صلى الله عليه وسلم (لَا يَنْبَغِي) : أَيْ: لَا يَجُوزُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ) : أَيْ: بِاخْتِيَارِهِ، فَلَا يُنَافِي مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَخْلُو مِنْ عِلَّةٍ أَوْ قِلَّةٍ أَوْ ذِلَّةٍ قَالُوا: (وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟) : وَجْهُ اسْتِبْعَادِهِمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ إِعْزَازِ نَفْسِهِ، (قَالَ (يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلَاءِ) : بَيَانٌ لِمَا لَا يُطِيقُ، الظَّاهِرَةُ أَنَّ اللَّامَ بِمَعْنَى إِلَى وَفِي نُسْخَةٍ بِحَذْفِهَا وَمِنَ الْعَجِيبِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ قِيلَ: بَيَانٌ لِمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ) : أَيْ: فِي سُنَنِهِمَا. [وْالْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ] .
2504 -
وَعَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (قُلْ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ سَرِيرَتِي خَيْرًا مِنْ عَلَانِيَتِي، وَاجْعَلْ عَلَانِيَتِي صَالِحَةً، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ صَالِحِ مَا تُؤْتِي النَّاسَ مِنَ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ غَيْرِ الضَّالِّ وَلَا الْمُضِلِّ» ) . (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
ــ
2504 -
(وَعَنْ عُمَرَ) رضي الله عنه (قَالَ عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) : أَيْ دُعَاءً (قَالَ) : بَيَانُ عَلَّمَنِي (قُلِ اللَّهُمَّ اجْعَلْ سَرِيرَتِي) ، هِيَ وَالسِّرُّ بِمَعْنًى، وَهُوَ مَا يُكْتَمُ (خَيْرًا مِنْ عَلَانِيَتِي) : بِالتَّخْفِيفِ ( «وَاجْعَلْ عَلَانِيَتِي صَالِحَةً» ) : طَلَبَ أَوَّلًا سَرِيرَةً خَيْرًا مِنَ الْعَلَانِيَةِ، ثُمَّ عَقَّبَ بِطَلَبِ عَلَانِيَةٍ صَالِحَةٍ، لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّ السَّرِيرَةَ رُبَّمَا تَكُونُ خَيْرًا مِنْ عَلَانِيَةٍ غَيْرِ صَالِحَةٍ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ صَالِحِ مَا تُؤْتِي النَّاسَ» ) : قِيلَ: مِنْ زَائِدَةٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْأَخْفَشِ وَقَوْلُهُ (مِنَ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ) : بَيَانُ (مَا) وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ (غَيْرِ الضَّالِّ)، أَكِيدٌ بِنَفْسِهِ (وَلَا الْمُضِلِّ) : أَيْ لِغَيْرِهِ.
قَالَ الطِّيبِيُّ: مَجْرُورٌ بَدَلٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّالُّ بِمَعْنَى النِّسْبَةِ أَيْ غَيْرِ ذِي ضَلَالٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) .
وَأَجْمَعُ مَا وَرَدَ فِي الدُّعَاءِ: ( «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَاذَ مِنْهُ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ لِي خَيْرًا» ) . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ كُلُّهُمْ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا.
وَقَدْ جَمَعْتُ الدَّعَوَاتِ النَّبَوِيَّةَ بَعْدَ الدَّعَوَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَخَتَمْتُهَا بِالصَّلَوَاتِ الْمُصْطَفَوِيَّةِ فِي كَرَارِيسَ لَطِيفَةٍ مُرْضِيَّةٍ هِيَ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا مِنْ سَائِرِ الْأَحْزَابِ وَالْأَوْرَادِ كَأَوْرَادِ الْفَتْحِيَّةِ، وَأَحْزَابِ الْزَيْنِيَّةِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ جَامِعَةٌ لِلشَّمَائِلِ السَّنِيَّةِ وَمَانِعَةٌ مِنَ الْأَخْلَاقِ الرَّدِيَّةِ، فَهِيَ زُبْدَةُ رَسَائِلِ الصُّوفِيَّةِ الصَّفِيَّةِ.
[كِتَابُ الْمَنَاسِكِ]
(كِتَابُ الْمَنَاسِكِ)
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ)
2505 -
ــ
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ
2505 -
(عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ خَطَبَنَا) أَيْ وَعَظَنَا أَوْ خَطَبَ لَنَا عَامَ فُرِضَ الْحَجُّ فِيهِ، أَوْ ذَكَرَ لَنَا فِي أَثْنَاءِ خِطْبَةٍ لَهُ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فُرِضَ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ (عَلَيْكُمُ الْحَجُّ فَحُجُّوا) فَحَجَّ بِالنَّاسِ ثَمَانٍ، وَهِيَ عَامُ الْفَتْحِ عَتَّابُ بْنُ أُسَيْدٍ، وَحَجَّ بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ فِي سَنَةِ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَتْ حَجَّتُهُ صلى الله عليه وسلم سَنَةَ عَشْرٍ كَذَا وَذَكَرَهُ الشُّمُنِّيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: فَرْضِيَّةُ الْحَجِّ كَانَتْ سَنَةَ تِسْعٍ، أَوْ سَنَةَ خَمْسٍ، أَوْ سَنَةَ سِتٍّ وَتَأْخِيرُهُ عليه الصلاة والسلام لَيْسَ يَتَحَقَّقُ فِيهِ تَعْرِيضُ الْفَوَاتِ وَهُوَ الْمُوجِبُ لِلْفَوْرِ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَعِيشُ حَتَّى يَحُجَّ وَيُعَلِّمَ النَّاسَ مَنَاسِكَهُمْ تَكْمِيلًا لِلتَّبْلِيغِ اهـ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَخَّرَهُ عَنْ سَنَةِ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ لِعَدَمِ فَتْحِ مَكَّةَ، وَأَمَّا تَأْخِيرُهُ عَنْ سَنَةِ ثَمَانٍ فَلِأَجْلِ النَّسِيءِ، وَأَمَّا تَأَخُّرُهُ عَنْ سَنَةِ تِسْعٍ فَلِمَا ذَكَرْنَا فِي رِسَالَةٍ مُسَمَّاةٍ بِالتَّحْقِيقِ فِي مَوْقِفِ الصِّدِّيقِ.
هَذَا وَقِيلَ وَجَبَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ حَتَّى تَحَصَّلَ أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا، وَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ:«كَانَ عليه الصلاة والسلام يَحُجُّ كُلَّ سَنَةٍ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ» ، وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ حَجَّ حِجَجًا لَا يُعْلَمُ عَدَدُهَا.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الثَّوْرِيِّ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام حَجَّ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ حِجَجًا» ، وَأَمَّا مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَجَّ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ حَجَّتَيْنِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ ثَلَاثًا فَمَبْنِيٌّ عَلَى عِلْمِهِ وَلَا يُنَافِي إِثْبَاتَ زِيَادَةِ ذِكْرِهِ (فَقَالَ رَجُلٌ) يَعْنِي الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ (أَكُلَّ عَامٍ) بِالنَّصْبِ لِمُقَدَّرٍ: أَيْ تَأْمُرُنَا أَنْ نَحُجَّ بِكُلِّ عَامٍ، أَوْ أَفُرِضَ عَلَيْنَا أَنْ نَحُجَّ كُلَّ عَامٍ؟ (يَا رَسُولَ اللَّهِ) قِيلَ: إِنَّمَا صَدَرَ هَذَا السُّؤَالُ عَنْهُ لِأَنَّ الْحَجَّ فِي تَعَارُفِهِمْ هُوَ الْقَصْدُ بَعْدَ الْقَصْدِ، فَكَانَتِ الصِّيغَةُ مُوهِمَةً لِلتَّكْرَارِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَبْنَى السُّؤَالِ قِيَاسُهُ عَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَزَكَاةِ الْأَمْوَالِ وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ تَكْرَارَهُ كُلَّ عَامٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحَالِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أَهْلِ الْكَمَالِ.
(فَسَكَتَ) أَيْ عَنْهُ أَوْ عَنْ جَوَابِهِ أَوْ لِأَنَّ السُّكُوتَ جَوَابُ الْجَاهِلِ فَإِنَّ حُسْنَ السُّؤَالِ نِصْفُ الْعِلْمِ (حَتَّى قَالَهَا) أَيِ الْأَقْرَعُ الْكَلِمَةَ الَّتِي تَكَلَّمَهَا (ثَلَاثًا) قِيلَ: إِنَّمَا سَكَتَ زَجْرًا لَهُ عَنِ السُّؤَالِ الَّذِي كَانَ السُّكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَسْكُتُ عَمَّا تَحْتَاجُ الْأُمَّةُ إِلَى كَشْفِهَا، فَالسُّؤَالُ عَنْ مِثْلِهِ تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَقَدْ نَهَوْا عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] وَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ ضَرْبٌ مِنَ الْجَهْلِ، ثُمَّ لَمَّا رَآهُ صلى الله عليه وسلم لَا يَنْزَجِرُ وَلَا يَقْنَعُ إِلَّا بِالْجَوَابِ الصَّرِيحِ صَرَّحَ بِهِ (فَقَالَ: لَوْ قَلْتُ نَعَمْ) أَيْ فَرْضًا وَتَقْدِيرًا، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ عليه الصلاة والسلام انْتِظَارًا لِلْوَحْيِ أَوِ الْإِلْهَامِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ: قِيلَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيجَابَ كَانَ مُفَوَّضًا إِلَيْهِ، وَرُدَّ بِأَنَّ قَوْلَهُ: لَوْ قَلْتُ نَعَمْ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ أَوْ بِوَحْيٍ نَازِلٍ أَوْ بِرَأْيٍ يَرَاهُ إِنْ جَوَّزْنَا لَهُ الِاجْتِهَادَ - ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - وَفِيهِ أَنَّ التَّفْوِيضَ إِلَيْهِ أَيْضًا أَعَمُّ فَلَا يَكُونُ مَرْدُودًا مَعَ أَنَّ الْقَوْلَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مُجَرَّدًا عَنْ وَحْيٍ جَلِيٍّ أَوْ خَفِيٍّ مَرْدُودٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4](لَوَجَبَتْ) أَيْ هَذِهِ الْعِبَادَةُ أَوْ فَرِيضَةُ الْحَجِّ الْمَدْلُولُ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: فُرِضَ، أَوِ الْحَجَّةُ كُلَّ عَامٍ أَوْ حَجَّاتٌ كَثِيرَةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَوَجَبَ، بِغَيْرِ تَاءٍ أَيْ لَوَجَبَ الْحَجُّ كُلَّ عَامٍ (وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ) أَوْ مَا قَدَرْتُمْ كُلُّكُمْ إِتْيَانَ الْحَجِّ فِي كُلِّ عَامٍ، وَلَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا (ثُمَّ قَالَ ذَرُونِي) أَيِ اتْرُكُونِي (مَا تَرَكْتُمْ) أَيْ مُدَّةَ تَرْكِي إِيَّاكُمْ مِنَ التَّكْلِيفِ (فَإِنَّمَا هَلَكَ) وَفِي نُسْخَةٍ أُهْلِكَ، بِالْهَمْزِ، عَلَى بِنَاءِ الْمَجْهُولِ (مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ) أَيْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى (بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ) كَسُؤَالِ الرُّؤْيَةِ وَالْكَلَامِ وَقَضِيَّةِ الْبَقَرَةِ (وَاخْتِلَافِهِمْ) عَطْفٌ عَلَى الْكَثْرَةِ لَا عَلَى السُّؤَالِ لِأَنَّ نَفْسَ الِاخْتِلَافِ مُوجِبٌ لِلْهَلَاكِ مِنْ غَيْرِ الْكَثْرَةِ (عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ) يَعْنِي إِذَا أَمَرَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ بَعْدَ السُّؤَالِ أَوْ
قَبْلَهُ وَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِمْ فَهَلَكُوا وَاسْتَحَقُّوا الْإِهْلَاكَ (وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ) أَيْ مِنَ الْفَرَائِضِ (فَأْتُوا مِنْهُ) أَيِ افْعَلُوهُ (مَا اسْتَطَعْتُمْ) فَإِنَّ مَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: هَذَا مِنْ أَجْلِ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ وَمِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ وَيَنْدَرِجُ فِيهِ مَا لَا يُحْصَى مِنَ الْأَحْكَامِ كَالصَّلَاةِ بِأَنْوَاعِهَا فَإِنَّهُ إِذَا عَجَزَ عَنْ بَعْضِ أَرْكَانِهَا وَشُرُوطِهَا يَأْتِي بِالْبَاقِي مِنْهَا (وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ) أَيْ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ (فَدَعُوهُ) أَيِ اتْرُكُوهُ كُلَّهُ حَتَّى قِيلَ إِنَّ التَّوْبَةَ عَنْ بَعْضِ الْمَعَاصِي غَيْرُ صَحِيحَةٍ مَعَ أَنَّ الصَّحِيحَ صِحَّتُهَا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
2506 -
عَنْهُ قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
ــ
2506 -
وَعَنْهُ أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْعَمَلِ) أَيِ الْأَعْمَالِ (أَفْضَلُ) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله قَدِ اخْتَلَفَتِ الْأَحَادِيثُ فِي مُفَاضَلَةِ الْأَعْمَالِ عَلَى وَجْهٍ يُشْكِلُ التَّوْفِيقَ بَيْنَهَا وَالْوَجْهُ مَا بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّلَاةِ (قَالَ إِيمَانٌ) التَّنْكِيرُ لِلتَّفْخِيمِ (بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) وَالْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ الْقَلْبِيُّ وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ الْبَاطِنِ (قِيلَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ الْجِهَادُ) التَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِهَادُ الْخَالِصُ، وَفِي نُسْخَةٍ جِهَادٌ (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) لِأَنَّ الْمُجَاهِدَ لَا يَكُونُ إِلَّا مُصَلِّيًا وَصَائِمًا (قِيلَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ حَجٌّ مَبْرُورٌ) أَيْ مَقْبُولٌ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: بَرَّهُ أَيْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ يُقَالُ بَرَّ اللَّهُ عَمَلَهُ أَيْ قَبِلَهُ كَأَنَّهُ أَحْسَنَ إِلَى عَمَلِهِ بِقَبُولِهِ، وَقِيلَ أَيْ مُقَابَلٌ بِالْبَرِّ وَهُوَ الثَّوَابُ أَوْ هُوَ الَّذِي لَمْ يُخَالِطْهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَآثِمِ وَفِي الدُّرِّ لِلسُّيُوطِيِّ رحمه الله، أَخْرَجَ الْأَصْبَهَانِيُّ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ مَا الْحَجُّ الْمَبْرُورُ قَالَ أَنْ يَرْجِعَ زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا رَاغِبًا فِي الْآخِرَةِ اهـ.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَكَ وَجْهُ التَّرْتِيبِ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ إِذْ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ أَفْضَلُ مُطْلَقًا ثُمَّ الْجِهَادُ إِذْ لَا يَكُونُ عَادَةً إِلَّا مَعَ الِاجْتِهَادِ فِي الْعِبَادَةِ وَزِيَادَةِ الرَّغْبَةِ فِي الْآخِرَةِ بِالسَّعْيِ إِلَى وَسِيلَةِ سَعَادَةِ الشَّهَادَةِ، ثُمَّ الْحَجُّ الْجَامِعُ بَيْنَ الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، وَمُفَارَقَةِ الْوَطَنِ الْمَأْلُوفِ وَتَرْكِ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ أَوْ يُقَالُ ذَكَرَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى تَرْتِيبِ فَرْضِيَّتِهَا فَوَجَبَ الْجِهَادُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ثُمَّ فُرِضَ الْحَجُّ تَكْمِلَةً لِلْأَرْكَانِ قَالَ تَعَالَى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3](مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2507 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
ــ
2507 -
وَعَنْهُ أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ حَجَّ لِلَّهِ) أَيْ خَالِصًا لَهُ تَعَالَى (فَلَمْ يَرْفُثْ) أَيْ فِي حَجِّهِ بِتَثْلِيثِ الْفَاءِ وَالضَّمُّ أَشْهَرُ قَالَ السُّيُوطِيُّ رحمه الله الرَّفَثُ يُطْلَقُ عَلَى الْجِمَاعِ، وَعَلَى التَّعْرِيضِ، وَعَلَى الْفُحْشِ فِي الْقَوْلِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَفَاؤُهُ مُثَلَّثَةٌ فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ وَالْأَفْصَحُ الْفَتْحُ فِي الْمَاضِي وَالضَّمُّ فِي الْمُضَارِعِ (وَلَمْ يَفْسُقْ) بِضَمِّ السِّينِ أَيْ لَمْ يَفْعَلْ فِيهِ كَبِيرَةٌ، وَلَا أَصَرَّ عَلَى صَغِيرَةٍ، وَمِنَ الْكَبَائِرِ تَرَكُ التَّوْبَةِ عَنِ الْمَعَاصِي قَالَ تَعَالَى:{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]( «رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَقِيلَ بِالْجَرِّ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله أَيْ مُشَابِهًا فِي الْبَرَاءَةِ عَنِ الذُّنُوبِ لِنَفْسِهِ فِي يَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ فِيهِ، وَالرَّفَثُ التَّصْرِيحُ بِذِكْرِ الْجِمَاعِ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ هُوَ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يُرِيدُهُ الرَّجُلُ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَقِيلَ الرَّفَثُ فِي الْحَجِّ إِتْيَانُ النِّسَاءِ، وَالْفُسُوقُ السِّبَابُ، وَالْجِدَالُ الْمُمَارَاةُ مَعَ الرُّفَقَاءِ وَالْخَدَمِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْجِدَالَ فِي الْحَدِيثِ اعْتِمَادًا عَلَى الْآيَةِ، أَوْ لِدُخُولِهِ فِي الْفِسْقِ أَوِ الرَّفَثِ، وَقِيلَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّهْيُ لَا النَّفْيُ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ الرَّفَثُ الْفُحْشُ مِنَ الْقَوْلِ، وَكَلَامُ الْجِمَاعِ عِنْدَ النِّسَاءِ وَالْفِسْقُ هُوَ الْخُرُوجُ عَنْ حَدِّ الِاسْتِقَامَةِ يَعْنِي الْعِصْيَانَ، وَيَوْمَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ مُضَافٌ إِلَى الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، قِيلَ رَجَعَ بِمَعْنَى صَارَ خَبَرُهُ كَيَوْمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَاهُ الْمَوْضُوعِ لَهُ فَيَكُونُ كَيَوْمَ حَالًا أَيْ رَجَعَ إِلَى وَطَنِهِ مُشَابِهًا يَوْمَهُ بِيَوْمِ وِلَادَتِهِ فِي خُلُوِّهِ مِنَ الذُّنُوبِ، لَكِنْ عَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْمَكِّيُّ عَمَّا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى فَرَغَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ اهـ.
وَقَدْ بُنِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] عَلَى خِلَافٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ فِي مَعْنَى الرُّجُوعِ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ هُنَا، فَنَقُولُ فِي الْحَدِيثِ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ فَلَا يَخْرُجُ الْمَكِّيُّ فَتَأَمَّلْ.
(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ يُفِيدُ غُفْرَانَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ السَّابِقَةِ لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ أَنَّ الْمُكَفِّرَاتِ مُخْتَصَّةٌ بِالصَّغَائِرِ عَنِ السَّيِّئَاتِ الَّتِي لَا تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِحُقُوقِ الْعِبَادِ مِنَ التَّبِعَاتِ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى
إِرْضَائِهِمْ مَعَ أَنَّ مَا عَدَا الشِّرْكَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ وَقَدْ كَتَبْتُ رِسَالَةً مُسْتَقِلَّةً فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَنْ حَجَّ بِقَصْدِ الْحَجِّ وَالتِّجَارَةِ كَانَ ثَوَابُهُ دُونَ ثَوَابِ التَّخَلِّي عَنِ التِّجَارَةِ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْحَاجِّ التَّاجِرِ ثَوَابٌ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام مَنْ حَجَّ لِلَّهِ أَيْ خَالِصًا لِرِضَاهُ إِلَّا أَنَّهُ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّاسَ تَحَرَّجُوا مِنَ التِّجَارَةِ وَهُمْ حُرُمٌ بِالْحَجِّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ أَنْ يَكْرِيَ جِمَالَهُ لِلْحَجِّ وَيَحُجَّ، وَأَنَّ نَاسًا يَقُولُونَ لَهُ لَا حَجَّ لَكَ، فَقَالَ إِنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ وَقَالَ لَكَ حَجٌّ» وَجَاءَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ لَوْ آجَرُ نَفْسِي مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ فَأَنْسَكُ أَلِيَ أَجْرٌ قَالَ أُولَئِكَ لَهُمْ نُصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَاللَّهُ الْمُلْهِمُ بِالصَّوَابِ.
2508 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
ــ
2508 -
(وَعَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعُمْرَةُ) أَيِ الْمُنْضَمَّةُ أَوِ الْمَوْصُولَةُ أَوِ الْمُنْتَهِيَةُ (إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا) أَيْ مِنَ الصَّغَائِرِ (وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ) أَيْ ثَوَابٌ (إِلَّا الْجَنَّةُ) بِالرَّفْعِ أَوِ النَّصْبِ وَهُوَ نَحْوُ: لَيْسَ الطِّيبُ إِلَّا الْمِسْكُ، فَإِنَّ بَنِي تَمِيمٍ يَرْفَعُونَهُ حَمْلًا لَهَا عَلَى مَا فِي الْإِهْمَالِ عِنْدَ انْتِقَاضِ النَّفْيِ، كَمَا حَمَلَ أَهْلُ الْحِجَازِ مَا عَلَى لَيْسَ كَذَا فِي مُغْنِي اللَّبِيبِ.
(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَالْعُمْرَةُ بِالضَّمِّ وَالسُّكُونِ عَلَى مَا تَوَاتَرَ فِي الْقِرَاءَاتِ وَثَبَتَ فِي اللُّغَاتِ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي قَوْلِهِ الْعُمْرَةُ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ أَوْ ضَمٍّ وَبِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وَهِيَ لُغَةً الزِّيَارَةُ وَشَرْعًا قَصَدُ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ.
2509 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
ــ
2509 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ» ) أَيْ كَائِنَةً ( «تَعْدِلُ حَجَّةً» ) أَيْ تُعَادِلُ وَتُمَاثِلُ فِي الثَّوَابِ، وَبَعْضُ الرِّوَايَاتِ حَجَّةً مَعِي وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي إِلْحَاقِ النَّاقِصِ بِالْكَامِلِ تَرْغِيبًا، وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ فَضِيلَةَ الْعِبَادَةِ تَزِيدُ بِفَضِيلَةِ الْوَقْتِ فَيَشْمَلُ يَوْمَهُ وَلَيْلَهُ أَوْ بِزِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ فَيَخْتَصُّ بِنَهَارِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قِيلَ الْمُرَادُ عُمْرَةٌ آفَاقِيَّةٌ، وَلَا تَجُوزُ الْعُمْرَةُ الْمَكِّيَّةُ عِنْدَ الْحَنْبَلِيَّةِ، وَيُؤَيِّدُهُمْ سَبَبُ وُرُودِ الْحَدِيثِ وَهُوَ «أَنَّ امْرَأَةً شَكَتْ إِلَيْهِ صلى الله عليه وسلم تَخَلُّفَهَا عَنِ الْحَجِّ مَعَهُ، فَقَالَ لَهَا اعْتَمِرِي، وَكَانَ مِيقَاتُ تِلْكَ الْمَرْأَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ» .
وَأَيْضًا لَمْ يُحْفَظْ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم إِيقَاعُهَا فِي رَمَضَانَ: مَعَ إِدْرَاكِهِ أَيْامًا مِنْهُ فِي مَكَّةَ بَعْدَ فَتْحِهَا: مَعَ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ إِحْرَامٍ بِهَا وَإِنَّمَا وَقَعَ عُمَرُهُ كُلُّهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَقِيلَ قَدِ اعْتَمَرَ مَرَّةً فِي رَجَبٍ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَأَنْكَرَتْهُ عَائِشَةُ رضي الله عنها.
وَقَدْ ذَهَبَ مَالِكٌ وَتَبِعَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ فِي الْعَامِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، إِلَّا أَنَّ عُلَمَاءَنَا وَالشَّافِعِيَّ رحمه الله ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ الْعُمْرَةُ بِوُقُوعِ أَفْعَالِهَا فِي رَمَضَانَ لَا إِحْرَامُهَا كَمَا مَالَ إِلَيْهِ ابْنُ حَجَرٍ فَتَدَبَّرْ.
2510 -
وَعَنْهُ قَالَ: «إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَقِيَ رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ فَقَالَ: مَنِ الْقَوْمُ، قَالُوا: الْمُسْلِمُونَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا، فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ قَالَ: نَعَمْ وَلَكِ أَجَرٌ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
ــ
2510 -
(وَعَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ «إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم (لَقِيَ رَكْبًا» ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْكَافِ جَمْعُ رَاكِبٍ أَوِ اسْمُ جَمْعٍ كَصَاحِبٍ، وَهُمُ الْعَشَرَةُ فَمَا فَوْقَهَا مِنْ أَصْحَابِ الْإِبِلِ فِي السَّفَرِ دُونَ بَقِيَّةِ الدَّوَابِّ ثُمَّ اتَّسَعَ لِكُلِّ جَمَاعَةٍ (بِالرَّوْحَاءِ) بِفَتْحِ الرَّاءِ مَوْضِعٌ مِنْ أَعْمَالِ الْفَرْعِ عَلَى نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِينَ مِيلًا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ مِيلًا مِنْهَا، (فَقَالَ مَنِ الْقَوْمُ) بِالِاسْتِفْهَامِ (قَالُوا) أَيْ بَعْضُهُمْ (الْمُسْلِمُونَ) أَيْ نَحْنُ الْمُسْلِمُونَ (فَقَالُوا مَنْ أَنْتَ قَالَ) أَيِ النَّبِيُّ (رَسُولُ اللَّهِ) أَيْ أَنَا (فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا) أَيْ أَخْرَجَتْهُ مِنَ الْهَوْدَجِ رَافِعَةً لَهُ عَلَى يَدَيْهَا (فَقَالَتْ أَلِهَذَا) أَيْ يَحْصُلُ لِهَذَا الصَّغِيرِ (حَجٌّ) أَيْ ثَوَابُهُ (قَالَ نَعَمْ) أَيْ لَهُ حَجُّ النَّفْلِ (وَلَكِ أَجْرٌ) أَيْ أَجْرُ السَّبَبِيَّةِ وَهُوَ تَعْلِيمُهُ إِنْ كَانَ مُمَيِّزًا أَوْ أَجْرُ النِّيَابَةِ فِي الْإِحْرَامِ وَالرَّمْيِ وَالْإِيقَافِ وَالْحَمْلِ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُمَيِّزًا (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .
2511 -
وَعَنْهُ قَالَ: «إِنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
ــ
2511 -
(وَعَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ إِنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمٍ) بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، أَبُو قَبِيلَةٍ مِنَ الْيَمَنِ سُمُّوا بِهِ وَيَجُوزُ مَنْعُهُ وَصَرْفُهُ (قَالَتْ) فِي صَدْرِ الْحَدِيثِ «أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ رَدِيفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ، وَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي هَذَا يَوْمٌ مَنْ مَلَكَ فِيهِ بَصَرَهُ إِلَّا مِنْ حَقٍّ، وَسَمْعَهُ إِلَّا مِنْ حَقٍّ وَلِسَانَهُ إِلَّا مِنْ حَقٍّ: غُفِرَ لَهُ» أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، كَذَا فِي الدُّرِّ لِلسُّيُوطِيِّ.
فَقَالَتْ (يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ) أَيْ فِي أَمْرِهِ وَشَأْنِهِ، وَيُمْكِنُ فِي بِمَعْنَى مِنَ الْبَيَانِيَّةِ (أَدْرَكَتْ) أَيِ الْفَرِيضَةُ (أَبِي) مَفْعُولٌ (شَيْخًا) حَالٌ (كَبِيرًا) نَعْتٌ لَهُ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله بِأَنَّ أَسْلَمَ شَيْخًا وَلَهُ الْمَالُ، أَوْ حَصَلَ لَهُ الْمَالُ فِي هَذَا الْحَالِ (لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ) نَعْتٌ آخَرُ أَوِ اسْتِئْنَافٌ مُبَيِّنٌ، أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى رُكُوبِهَا قَالَ ابْنُ الْمَلِكَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الزَّمِنِ، وَالشَّيْخِ الْعَاجِزِ عَنِ الْحَجِّ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رحمه الله اهـ، يَعْنِي خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ.
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله يَعْنِي إِذَا لَمْ يَسْبِقِ الْوُجُوبُ حَالَةَ الشَّيْخُوخَةِ بِأَنْ لَمْ يَمْلِكْ مَا يُوَصِّلُهُ إِلَّا بَعْدَهَا، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُمَا يَجِبُ الْحَجُّ عَلَيْهِ، إِذَا مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَمُؤْنَةَ مَنْ يَرْفَعُهُ وَيَضَعُهُ وَيَقُودُهُ إِلَى الْمَنَاسِكِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَإِذَا عَجَزَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْجَاجُ لِلُزُومِهِ الْأَصْلَ وَهُوَ الْحَجُّ بِالْبَدَنِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْبَدَلُ وَهُوَ الْإِحْجَاجُ وَجَّهَ قَوْلَهُمَا حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ «إِنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ عَنْهُ أَكَانَ يُجْزِئُ عَنْهُ، قَالَتْ نَعَمْ قَالَ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ» وَلَنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] قَيَّدَ الْإِيجَابَ بِهِ، وَالْعَجْزُ لَازِمٌ مَعَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا الِاسْتِطَاعَةِ، (أَفَأَحُجُّ عَنْهُ) أَيْ أَيَصِحُّ مِنْ أَنْ أَكُونَ نَائِبَةً عَنْهُ فَأَحُجُّ عَنْهُ (قَالَ نَعَمْ) دَلَّ عَلَى أَنَّ حَجَّ الْمَرْأَةِ يَصِحُّ عَنِ الرَّجُلِ، وَقِيلَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَلْبَسُ فِي الْإِحْرَامِ مَا لَا يَلْبَسُهُ الرَّجُلُ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَجُوزُ الْحَجُّ عَنِ الْحَيِّ، سَوَاءً وَجَدَ الْمَالَ قَبْلَ الْعَجْزِ أَوْ بَعْدَهُ، كَذَا ذَكَرَهُ الْمُظْهِرُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ هُوَ أَنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي وَهُوَ عَاجِزٌ أَيَصِحُّ مِنِّي أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ تَبَرُّعًا قَالَ نَعَمْ، ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنِ الْآمِرِ وَهُوَ مُخْتَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رحمه الله، وَجَمْعٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ.
(وَذَلِكَ) أَيِ الْمَذْكُورُ جَرَى (فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَقِيلَ بِكَسْرِهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَدَّعَ النَّاسَ فِيهَا، وَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ غَيْرَهَا، وَكَانَتْ فِي سَنَةِ عَشْرٍ مِنَ الْهِجْرَةِ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2512 -
وَعَنْهُ قَالَ: «أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ وَإِنَّهَا مَاتَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكَنْتَ قَاضِيَهُ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَاقْضِ دَيْنَ اللَّهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
ــ
2512 -
(وَعَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ( «قَالَ أَتَى رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ وَإِنَّهَا) بِالْكَسْرِ (مَاتَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ» ) بِالْإِضَافَةِ (قَالَ نَعَمْ) قِيلَ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّائِلَ وَرِثَ مِنْهَا، فَسَأَلَ مَا سَأَلَ، فَقَاسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَقَّ اللَّهِ عَلَى حَقِّ الْعِبَادِ ( «قَالَ فَاقْضِ دَيْنَ اللَّهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ» ) أَيْ مِنْ دِينِ الْعِبَادِ وَهَذَا الْإِجْمَالُ لَا يُنَافِي التَّفْصِيلَ الْفِقْهِيَّ عِنْدَنَا، أَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ الْإِحْجَاجُ عَلَى الْوَارِثِ إِذَا أَوْصَى الْمَيِّتُ وَإِلَّا فَيَكُونُ تَبَرُّعًا.
(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) وَرَوَى مُسْلِمٌ «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ قَطُّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ حُجِّي عَنْهَا» ، وَصَحَّ أَيْضًا «أَنَّ رَجُلًا مِنْ خَثْعَمٍ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ رُكُوبَ الرَّاحِلَةِ، وَالْحَجُّ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ أَنْتَ أَكْبَرُ وَلَدٍ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ تَقْضِيهِ عَنْهُ أَكَانَ ذَلِكَ يُجْزِئُ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَاحْجُجْ عَنْهُ» .
2513 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ وَلَا تُسَافِرَنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، وَخَرَجَتِ امْرَأَتِي حَاجَّةً قَالَ: اذْهَبْ فَاحْجُجْ مَعَ امْرَأَتِكَ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
ــ
2513 -
(وَعَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَخْلُوَنَّ) أَكَّدَ النَّهْيَ مُبَالَغَةً (رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ) أَيْ أَجْنَبِيَّةٍ (وَلَا تُسَافِرَنَّ) أَيْ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيْامٍ بِلَيَالِيهَا عِنْدَنَا (امْرَأَةٌ) أَيْ شَابَّةٌ أَوْ عَجُوزَةٌ (إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ)
قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ فِي الصَّحِيحَيْنِ «لَا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ ثَلَاثًا إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» ، وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا فَوْقَ ثَلَاثٍ، وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ ثَلَاثَةَ أَيْامٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْبَزَّارِ «لَا تَحُجُّ امْرَأَةٌ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» ، وَفِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ «لَا تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» .
قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ الْحَجِّ عَلَيْهَا إِذْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مَحْرَمٌ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهَا إِذَا كَانَ مَعَهَا جَمَاعَةُ النِّسَاءِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله يَلْزَمُهَا إِذَا كَانَ مَعَهَا امْرَأَةٌ ثِقَةٌ اهـ.
وَقَالَ الشُّمُنِّيُّ مَذْهَبُ مَالِكٍ إِذَا وَجَدَتِ الْمَرْأَةُ صُحْبَةً مَأْمُونَةً لَزِمَهَا الْحَجُّ لِأَنَّهُ سَفَرٌ مَفْرُوضٌ كَالْهِجْرَةِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ إِذَا وَجَدَتْ نِسْوَةً ثِقَاتٍ فَعَلَيْهَا أَنْ تَحُجَّ مَعَهُنَّ، ثُمَّ قَالَ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمَرْأَةِ أَيْضًا أَنْ لَا تَكُونَ مُعْتَدَّةً، وَالْمُرَادُ بِالْمَحْرَمِ مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ: بِسَبَبِ قَرَابَةٍ أَوْ رِضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا لَيْسَ بِمَجُوسِيٍّ وَلَا غَيْرِ مَأْمُونٍ.
(فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ اكْتُتِبْتُ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ بَابِ الِافْتِعَالِ (فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا) . قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله أَيْ كُتِبَ وَأُثْبِتَ اسْمِي فِيمَنْ يَخْرُجُ فِيهَا يُقَالُ اكْتَتَبْتُ الْكِتَابَ أَيْ كَتَبْتُهُ، وَيُقَالُ اكْتَتَبَ الرَّجُلُ إِذَا كَتَبَ نَفْسَهُ فِي دِيوَانِ السُّلْطَانِ، وَاكْتَتَبَ أَيْضًا إِذَا طَلَبَ أَنْ يُكْتَبَ فِي الزَّمْنَى وَلَا يُنْدَبُ لِلْجِهَادِ (وَخَرَجَتِ امْرَأَتِي) أَيْ أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ (حَاجَّةً) أَيْ مُحْرِمَةً لِلْحَجِّ، أَوْ قَاصِدَةً لَهُ يَعْنِي وَلَيْسَ مَعَهَا أَحَدٌ مِنَ الْمَحَارِمِ (قَالَ اذْهَبْ فَاحْجُجْ) بِضَمِّ الْجِيمِ الْأُولَى (مَعَ امْرَأَتِكَ) وَفِي رِوَايَةِ الْبَزَّارِ «قَالَ ارْجِعْ فَحُجَّ مَعَهَا» قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله فِيهِ تَقْدِيمُ الْأَهَمِّ إِذْ فِي الْجِهَادِ يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2514 -
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجِهَادِ، فَقَالَ: جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
ــ
2514 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجِهَادِ قَالَ جِهَادُكُنَّ الْحَجُّ» ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ لَا جِهَادَ عَلَيْكُنَّ وَعَلَيْكُنَّ الْحَجُّ إِذَا اسْتَطَعْتُنَّ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2515 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
ــ
2515 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا تُسَافِرُ امْرَأَةٌ» ) نَفْيٌ مَعْنَاهُ نَهْيٌ، وَفِي نُسْخَةٍ بِصِيغَةِ النَّهْيِ ( «مَسِيرَةُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» ) فِي الْهِدَايَةِ يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ إِلَى مَا دُونَ مُدَّةِ السَّفَرِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رحمه الله يُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه مَرْفُوعًا «لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ يَوْمَيْنِ إِلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا» ، وَأَخْرَجَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ عَلَيْهَا» ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ مَسِيرَةَ لَيْلَةٍ وَفِي لَفْظٍ: يَوْمٍ وَفِي لَفْظِ أَبِي دَاوُدَ بَرِيدًا يَعْنِي فَرْسَخَيْنِ وَاثَّنَيْ عَشَرَ مِيلًا عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمِ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلِلطَّبَرَانِيِّ فِي مُعْجَمِهِ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ قِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ ثَلَاثَةَ أَيْامٍ، فَقَالَ: وَهِمُوا قَالَ الْمُنْذِرِيُّ لَيْسَ فِي هَذِهِ تَبَايُنٌ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَهَا فِي مَوَاطِنَ مُخْتَلِفَةٍ بِحَسَبِ الْأَسْئِلَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ تَمْثِيلًا لِأَقَلِّ الْأَعْدَادِ وَالْيَوْمُ الْوَاحِدُ أَوَّلُ الْعَدَدِ وَأَقَلُّهُ وَالِاثْنَانِ أَوَّلُ الْكَثِيرِ وَأَقَلُّهُ وَالثَّلَاثَةُ أَوَّلُ الْجَمْعِ فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ هَذَا فِي قِلَّةِ الزَّمَنِ لَا يَحِلُّ لَهَا السَّفَرُ مَعَ غَيْرِ مَحْرَمٍ فَكَيْفَ إِذَا زَادَ؟ ! اهـ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ نَبَّهَ بِمَنْعِ الْخُرُوجِ أَقَلَّ كُلِّ عَدَدٍ عَلَى مَنْعِ خُرُوجِهَا عَنِ الْبَلَدِ مُطْلَقًا إِلَّا بِمَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا أَنَّ حَمْلَ السَّفَرِ عَلَى اللُّغَوِيِّ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا:«لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» ، وَالسَّفَرُ لُغَةً يُطْلَقُ عَلَى دُونِ ذَلِكَ اهـ. كَلَامُ الْمُحَقِّقِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْمَحْرَمُ مِنَ النِّسَاءِ الَّتِي يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا وَالْمُسَافِرَةُ مَعَهَا كُلُّ مَنْ حَرُمَ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ لِحُرْمَتِهَا فَخَرَجَتْ بِالتَّأْبِيدِ أُخْتُ الزَّوْجَةِ وَعَمَّتُهَا وَخَالَتُهَا وَخَرَجَتْ بِسَبَبٍ أُمُّ الْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ وَبِنْتُهَا فَإِنَّهُمَا يُحَرَّمَانِ أَبَدًا، وَلَيْسَتَا مُحَرَّمَيْنِ لِأَنَّ وَطْءَ الشُّبْهَةِ لَا يُوصَفُ بِالْإِبَاحَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ، وَخَرَجَ بِقَوْلِنَا لِحُرْمَتِهَا الْمُلَاعَنَةُ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا عُقُوبَةٌ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ التَّحْدِيدَ، بَلْ كُلُّ مَا يُسَمَّى سَفَرًا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا زَوْجٌ أَوْ مَحْرَمٌ أَوْ نِسَاءٌ ثِقَاتٌ سَوَاءٌ كَانَتِ الْمَرْأَةُ شَابَّةً أَوْ كَبِيرَةً نَعَمْ لِلْمَرْأَةِ الْهِجْرَةُ عَنْ دَارِ الْكُفْرِ بِلَا مَحْرَمٍ اهـ.
وَيُحْمَلُ عَلَيْهَا حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «يُوشِكُ أَنَّ تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الْحِيرَةِ تَؤُمُّ الْبَيْتَ لَا جِوَارَ مَعَهَا لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) وَفِي مَعْنَاهَا الْمَأْسُورَةُ إِذَا خَلُصَتْ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ فِي غَيْرِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ إِلَّا الْهِجْرَةَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ إِقَامَتَهَا فِي دَارِ الْكُفْرِ إِذَا لَمْ تَسْتَطِعْ إِظْهَارَ الدِّينِ حَرَامٌ اهـ. وَتَسْتَوِي فِيهَا الشَّابَّةُ وَالْعَجُوزُ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَظِنَّةُ الشَّهْوَةِ إِذْ لِكُلِّ سَاقِطَةٍ لَاقِطَةٌ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2516 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ فَهُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ لِمَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ وَكَذَاكَ وَكَذَاكَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
ــ
2516 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَقَّتَ) بِتَشْدِيدِ الْقَافِ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) قِيلَ الْوَقْتُ نِهَايَةُ الزَّمَانِ الْمَفْرُوضِ وَالْمِيقَاتُ الْوَقْتُ الْمَضْرُوبُ لِلْفِعْلِ وَالْمَوْضِعِ أَيْضًا، يُقَالُ مِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي يَحْرِمُونَ مِنْهُ، وَمَعْنَى وَقَّتَ جَعَلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِيقَاتَ الْإِحْرَامِ أَيْ بَيَّنَ حَدَّ الْإِحْرَامِ وَعَيَّنَ مَوْضِعَهُ، (لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ) عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَعَشْرُ مَرَاحِلَ مِنْ مَكَّةَ قَالَهُ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله، وَهُوَ مَاءٌ مِنْ مِيَاهِ بَنِي جُشْمٍ، وَالْحُلَيْفَةُ تَصْغِيرُ الْحَلَفَةِ مِثَالُ الْقَصَبَةِ وَهِيَ نَبْتٌ فِي الْمَاءِ وَجَمْعُهَا حُلَفَاءُ، وَقَدِ اشْتُهِرَ الْآنَ بِبِئْرِ عَلِيٍّ وَلَمْ يُعْرَفْ مُسَمَّى هَذَا الِاسْمِ، وَمَا قِيلَ إِنَّ عَلِيًّا - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - قَاتَلَ الْجِنَّ فِي بِئْرٍ فِيهَا كَذِبٌ لَا أَصْلَ لَهُ (وَلِأَهْلِ الشَّامِ) أَيْ مِنْ طَرِيقِهِمُ الْقَدِيمِ لِأَنَّهُمُ الْآنَ يَمُرُّونَ عَلَى مَدِينَةِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله إِذَا لَمْ يَمُرُّوا بِطَرِيقِ الْمَدِينَةِ، وَإِلَّا لَزِمَهُمُ الْإِحْرَامُ مِنَ الْحُلَيْفَةِ إِجْمَاعًا عَلَى مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ، أَقُولُ: وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْهُ وَعَجِيبٌ، فَإِنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَأَبَا ثَوْرٍ يَقُولُونَ بِأَنَّ لَهُ التَّأْخِيرَ إِلَى الْجُحْفَةِ، وَعِنْدَنَا مَعْشَرَ الْحَنَفِيَّةِ يَجُوزُ لِلْمَدَنِيِّ أَيْضًا تَأْخِيرُهُ إِلَى الْجُحْفَةِ فَدَعْوَى الْإِجْمَاعِ بَاطِلَةٌ مَعَ وُقُوعِ النِّزَاعِ، ثُمَّ زَادَ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَتِهِ وَلِأَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ (الْجُحْفَةَ) وَهِيَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْحَاءِ، مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ مِنَ الْجَانِبِ الشَّامِيِّ يُحَاذِي ذَا الْحُلَيْفَةِ عَلَى خَمْسِينَ فَرْسَخًا مِنْ مَكَّةَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ، وَكَانَ اسْمُهُ مَهْيَعَةُ فَأَجْحَفَ السَّيْلُ بِأَهْلِهَا فَسُمِّيَتْ جُحْفَةً، يُقَالُ: أَجْحَفَ إِذَا ذُهِبَ بِهِ وَسَيْلٌ جُحَافٌ إِذَا جَرَفَ الْأَرْضَ وَذَهَبَ بِهِ وَالْآنَ مَشْهُورٌ بِالرَّابِغِ (وَلِأَهْلِ نَجْدٍ) أَيْ نَجْدِ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ (قَرْنَ الْمَنَازِلِ) بِسُكُونِ الْوَاوِ وَتَحْرِيكِهَا خَطًّا جَبَلٌ مُدَوَّرٌ أَمْلَسُ كَأَنَّهُ بَيْضَةٌ مُشْرِفٌ عَلَى عَرَفَاتٍ (وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ) جَبَلٌ بَيْنَ جِبَالِ تِهَامَةَ عَلَى لَيْلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ، وَيُقَالُ أَلَمْلَمُ بِالْهَمْزَةِ (فَهُنَّ) أَيْ هَذِهِ الْمَوَاضِعُ (لَهُنَّ) أَيْ لِأَهْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَلَكِ رحمه الله تَبَعًا لِلطِّيبِي: الْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْمَوَاقِيتَ لِهَذِهِ الْمَوَاقِيتِ أَيْ لِأَهْلِهَا عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ( «وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ» ) أَيْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتُ لِأَهْلِهِنَّ الْمُقِيمِينَ بِهِنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ اهـ. وَهَذَا غَيْرُ صَوَابٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْفَاءَ فِي فَهُنَّ تَفْرِيعٌ لِمَا بَعْدَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ ذَكَرَهُ إِجْمَالًا بَعْدَ تَفْصِيلٍ لِيَعْطِفَ عَلَيْهِ حُكْمَ مَا لَمْ يُذْكَرْ مِنَ الْمَوَاضِعِ اسْتِيفَاءً لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ مَوَاقِيتٌ لِهَذِهِ الْبُلْدَانِ أَيْ لِأَهْلِهِنَّ الْمَوْجُودِينَ سَوَاءً الْمُقِيمُونَ وَالْمُسَافِرُونَ، وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ أَيْ مَرَّ عَلَى هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْبُلْدَانِ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرُويَ هُنَّ لَهُمْ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ وَالتَّقْدِيرُ هُنَّ لِأَهْلِهِنَّ، وَأَمَا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ إِنَّمَا هِيَ لِلْآفَاقِيِّينَ بِأَنْ لَا يَتَجَاوَزُوا عَنْهَا وُجُوبًا مِنْ غَيْرِ إِحْرَامٍ تَعْظِيمًا لِلْحَرَمِ الَّذِي يُرِيدُونَ دَاخِلَهُ وَأَمَّا أَهْلُ الْمَوَاقِيتِ نَفْسِهَا فَحُكْمُهُمْ كَمَنْ دَاخِلِهَا مِنْ أَرْضِ الْحِلِّ فِي أَنَّ مِيقَاتَهُمُ الْحِلُّ وَلَهُمْ تَجَاوُزُ مِيقَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِحْرَامٍ إِذَا لَمْ يُرِيدُوا النُّسُكَ، فَإِنْ أَرَادُوهُ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا مُحْرِمِينَ (لِمَنْ كَانَ) بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ لِإِعَادَةِ الْجَارِ (يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) أَيْ مَكَانَ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ وَهُوَ الْحَرَمُ عِنْدَنَا وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيهِ أَقْوَالٌ وَتَفْصِيلٌ وَأَحْوَالٌ، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ حَيْثُ قَالَ: وَفِي تَقْيِيدِ لُزُومِ الْإِحْرَامِ بِإِرَادَةِ النُّسُكِ أَظْهَرُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ لَا تَخْفَى (فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ أَيْ مَنْ كَانَ بَيْتُهُ أَقْرَبَ إِلَى مَكَّةَ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ اهـ. وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمَوَاقِيتِ أَيْ بَيْنَ الْمَوَاقِيتِ نَفْسِهَا: بَيْنَ الْحَرَمِ وَلَمْ يَذْكُرِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حُكْمَ أَهْلِ الْمَوَاقِيتِ نَفْسِهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ دَاخِلِ الْمَوَاقِيتِ خِلَافًا لِلطَّحَاوِيِّ حَيْثُ جَعَلَ حُكْمَهَا حُكْمَ الْآفَاقِيِّ (فَمُهَّلُهُ) بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ أَيْ مَوْضِعُ إِحْرَامِهِ (مِنْ أَهْلِهِ) أَيْ مِنْ بَيْتِهِ وَلَوْ كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْمَوَاقِيتِ وَلَا يَلْزَمُهُ الذَّهَابُ إِلَيْهَا (وَكَذَاكَ وَكَذَاكَ) أَيِ الْأَدْوَنُ فَالْأَدْوَنُ إِلَى آخَرِ الْحِلِّ (حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ) بِالرَّفْعِ وَالْجَرِّ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ.
أَيْ حَتَّى أَهْلُ الْحَرَمِ (يُهِلُّونَ) أَيْ يُحْرِمُونَ بِالْحَجِّ (مِنْهَا) أَيْ مِنْ مَكَّةَ تَوَابِعِهَا مِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله الْمُهَّلُ مَوْضِعُ الْإِهْلَالِ وَهُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ أَيْ مَوْضِعُ الْإِحْرَامِ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْمَكِّيَّ مِيقَاتُهُ مَكَّةُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْمُعْتَمِرَ يَخْرُجُ إِلَى الْحِلِّ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمْرَ عَائِشَةَ رضي الله عنها بِالْخُرُوجِ فَهَذَا الْحَدِيثُ مَخْصُوصٌ بِالْحَجِّ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ وَأَفْضَلُ بِقَاعِ الْحِلِّ الْجِعْرَانَةُ: لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «أَحْرَمَ بِهَا مِنْهَا فِي رُجُوعِهِ مِنْ حُنَيْنٍ ثَانِي عَشَرَ الْقَعْدَةَ سَنَةَ ثَمَانٍ لَيْلًا وَرَجَعَ لَيْلًا خِفْيَةً» ، وَمِنْ ثَمَّ أَنْكَرَهَا بَعْضُ الصَّحَابَةِ.
فَمَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي أُصُولِهِ مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ أَقْوَى مِنَ الْقَوْلِ، خِلَافَ مَذْهَبِنَا الْمَبْنِيِّ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يَقَعُ اتِّفَاقِيًّا بِخِلَافِ الْقَوْلِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا قَصْدِيًّا، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ رَجَعَ مِنَ الطَّائِفِ: وَالْجِعْرَانَةُ عَلَى طَرِيقِهِ، فَإِحْرَامُهُ مِنْهُ كَانَ مُتَعَيِّنًا، نَعَمْ لَوْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَأَحْرَمَ مِنْهُ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ فِي كَوْنِهِ أَفْضَلَ وَنَظِيرُهُ إِحْرَامُ عَلِيٍّ مِنْ يَلَمْلَمَ، حَيْثُ كَانَ عَلَى طَرِيقِهِ مِنَ الْيَمَنِ وَالشِّيعَةُ يَخْرُجُونَ مِنْ مَكَّةَ إِلَيْهِ، وَيُحْرِمُونَ لَدَيْهِ وَهُوَ عَكْسُ الْمَوْضُوعِ، بَلْ خِلَافُ الْمَشْرُوعِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّ إِحْرَامَهُ عليه الصلاة والسلام فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ سَنَةَ سَبْعٍ كَانَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ فَقَدْ أَخْطَأَ، بَلْ كَانَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَكَذَا كَانَ إِحْرَامُهُ مِنْ عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ هَمَّ بِالِاعْتِمَارِ مِنْهَا فَقَدْ وَهِمَ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2517 -
وَعَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ الْجُحْفَةُ، وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ، وَمُهَلُّ أَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ، وَمُهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ» (رَوَاهُ مُسْلِمٌ)
ــ
2517 -
(وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ» ) أَيْ مَوْضِعُ إِحْرَامِهِمُ اسْمُ مَكَانٍ هُنَا، وَأَغْرَبَ ابْنُ حَجَرٍ فِي قَوْلِهِ أَيْ إِحْرَامُهُمْ، وَأَصْلُهُ مَوْضِعُ إِهْلَالِهِمْ ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الزَّمَنِ وَالْمَصْدَرُ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ، وَوَجْهُ غَرَابَتِهِ لَا يَخْفَى، إِذِ اسْمُ الْمَفْعُولِ الْمَزِيدُ فِيهِ مُشْتَرَكَ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَاسْمِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ مِنْ مُتُونِ عِلْمِ الصَّرْفِ (مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ) أَيْ مِنْ طَرِيقِهِ (وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ) بِالرَّفْعِ أَيْ مُهَلُّ الطَّرِيقِ الْآخَرِ لَهُمْ (الْجُحْفَةُ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ إِذَا جَاءُوا مِنْ طَرِيقِ الْجُحْفَةِ فَهِيَ مُهَلُّهُمُ اهـ.
وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ مَنْ جَاوَزَ وَقْتَهُ غَيْرُ مُحْرِمٍ ثُمَّ أَتَى وَقْتًا آخَرَ وَأَحْرَمَ مِنْهُ أَجْزَأَهُ وَلَوْ كَانَ أَحْرَمَ مِنْ وَقْتِهِ كَانَ أَحَبَّ، وَقِيلَ التَّأْخِيرُ مَكْرُوهٌ، وَقِيلَ التَّأْخِيرُ أَنْسَبُ وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ، الشَّافِعِيُّ (إِذْ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ الْمُجَاوَزَةُ إِلَى الْمِيقَاتِ الْآخَرِ، وَلِذَا تَكَلَّفَ ابْنُ حَجَرٍ فِي حِلِّهِ حَيْثُ قَالَ: أَيْ وَمُهَلُّ أَهْلِ الطَّرِيقِ الْآخَرِ الَّذِي لَا يَمُرُّ سَالِكُهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَلَا يُجَاوِزُهَا يُمْنَةً أَوْ يُسْرَةً هُوَ الْجُحْفَةُ (وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتُ عِرْقٍ) وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ وَهِيَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمَلَكِ.
وَقَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله مَوْضِعٌ فِيهِ عِرْقٌ وَهُوَ الْجَبَلُ الصَّغِيرُ وَقِيلَ كَوْنُ ذَاتِ عِرْقٍ مِيقَاتًا ثَبَتَ بِاجْتِهَادِ عُمَرَ رضي الله عنه نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ رِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ لَمَّا فُتِحَ الْمِصْرَانِ الْبَصْرَةُ وَالْكُوفَةُ فِي زَمَنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَيْ أُسِّسَا حِينَئِذٍ إِذْ هُمَا إِسْلَامِيَّتَانِ أَتَوْا عُمَرَ فَقَالُوا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّ لِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَأْتِيَ قَرْنًا يَشُقُّ عَلَيْنَا قَالَ فَانْظُرُوا حُدُودَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ، فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه لَمْ يَبْلُغْهُ الْخَبَرُ، فَاجْتَهَدَ فِيهِ فَأَصَابَ، وَوَافَقَ السُّنَّةَ فَهُوَ مِنْ عَادَاتِهِ فِي مُوَافَقَاتِهِ، وَلِهَذَا نَصَّ الشَّافِعِيُّ رحمه الله عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِرَاقَ لَمْ يُفْتَحْ إِلَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ عليه الصلاة والسلام لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ سَيُفْتَحُ فَوَقَّتَ لِأَهْلِهِ ذَلِكَ، كَمَا وَقَّتَ لِأَهْلِ مِصْرَ وَالشَّامِ مَا مَرَّ قَبْلَ فَتْحِهِمَا أَيْضًا، ثُمَّ كَأَهْلِ الْعِرَاقِ أَهْلُ خُرَاسَانَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَمُرُّ بِذَاتِ عِرْقٍ وَلَا يُنَافِيهِ أَيْضًا خَبَرُ التِّرْمِذِيَّ وَحَسَّنَهُ، وَإِنِ اعْتُرِضَ بِأَنَّ فِيهِ ضَعْفًا مِنْ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ الْعَقِيقَ فَإِنَّ عِرْقًا جَبَلٌ مُشْرِفٌ عَلَى الْعَقِيقِ وَقَرْيَةُ ذَاتِ عِرْقٍ خُرِّبَتْ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ يَجِبُ عَلَى الْعِرَاقِيِّ أَنْ يَتَحَرَّاهَا وَيَطْلُبَ آثَارَهَا الْقَدِيمَةَ لِيُحْرِمَ مِنْهَا.
وَأَقُولُ إِذَا أَحْرَمَ مِنَ الْعَقِيقِ يَكُونُ أَحْوَطَ لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ الْجُحْفَةُ وَرَابِغٌ فَإِنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهَا، فَالِاحْتِيَاطُ فِي الْإِحْرَامِ بِالسَّابِقِ (وَمُهَلُّ أَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ) بِسُكُونِ الرَّاءِ وَوَهِمَ الْجَوْهَرِيُّ فِي قَوْلِهِ بِفَتْحِ الرَّاءِ فَإِنَّهُ اسْمُ قَبِيلَةٍ يُنْسَبُ إِلَيْهَا أُوَيْسٌ الْقَرْنِيُّ (وَمُهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
2518 -
وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ عُمَرٍ كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ: إِلَّا الَّتِي كَانَتْ مَعَ حَجَّتِهِ عُمْرَةً مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنَ الْجِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةً مَعَ حَجَّتِهِ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
ــ
2518 -
(وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَ عُمَرٍ» ) عَلَى زِنَةِ عُمَرَ لَكِنَّهُ مَصْرُوفٌ جَمْعُ عُمْرَةٍ (كُلُّهُنَّ) أَيْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ (فِي ذِي الْقَعْدَةِ) بِفَتْحِ الْقَافِ وَيُكْسَرُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَرَّةِ أَوِ الْهَيْئَةِ (إِلَّا الَّتِي كَانَتْ مَعَ حَجَّتِهِ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا (عُمْرَةً) بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ وَبِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَوْصُوفٌ بِقَوْلِهِ (مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ) بِالتَّخْفِيفِ وَيُشَدَّدُ أَحَدُ حُدُودِ الْحَرَمِ عَلَى تِسْعَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكَّةَ وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ (فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةً مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ) وَهِيَ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ (فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةً مِنَ الْجِعْرَانَةِ) بِكَسْرِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ، وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَهُوَ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ أَوْ تِسْعَةِ أَمْيَالٍ وَهُوَ الْأَصَحُّ (حَيْثُ قَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ) أَيْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ سَنَةَ ثَمَانٍ (فِي ذِي الْقَعْدَةِ) أَيْ كَانَتْ فِيهَا (وَعُمْرَةً) أَيْ مَقْرُونَةً مَعَ حَجَّتِهِ وَهِيَ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ إِحْرَامِهَا كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَقَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ فَإِنَّهَا فِي ذِي الْحِجَّةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَفْعَالِهَا، وَحِينَئِذٍ يُرَدُّ عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى مَذْهَبِهِ مِنْ تَدَاخُلِ الْأَفْعَالِ لِلْقَارِنِ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِهَا حَقِيقَةً بَلْ حُكْمًا، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ، ثُمَّ قَوْلُ أَنَسٍ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِهَا مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ هَمَّ بِالدُّخُولِ مُحْرِمًا بِهَا، إِلَّا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام صُدَّ عَنْهُ وَأُحْصِرَ مِنْهُ، فَفِي الْجُمْلَةِ إِطْلَاقُ الْعُمْرَةِ عَلَيْهَا مَعَ عَدَمِ أَفْعَالِهَا، بِاعْتِبَارِ النِّيَّةِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا الْمَثُوبَةُ.
ثُمَّ الْحُدَيْبِيَةُ بِئْرٌ بَيْنَ حِدَّةٍ بِالْمُهْمَلَةِ وَمَكَّةَ، تُسَمَّى الْآنَ بِئْرَ شُمَيْسٍ بِالتَّصْغِيرِ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ سِتَّةُ فَرَاسِخَ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وَالْمُعْتَمَدُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ ثَلَاثُ فَرَاسِخَ وَكَذَا كَانَ إِحْرَامُ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ.
وَتَأْوِيلُ الشَّافِعِيَّةِ الْقَضَاءَ بِالْقَضِيَّةِ مِنَ الْمُقَاضَاةِ وَالتَّقَاضِي وَهُوَ الصُّلْحُ نَشَأَ مِنَ الْمَادَّةِ التَّعَصُّبِيَّةِ، وَبَحْثُهُ يَطُولُ فَأَعْرَضْنَا عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ، مَعَ أَنَّهُ فِي قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ لِأَنَّهُ اشْتَرَطَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يَأْتِيَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ مُحْرِمًا، وَأَنَّهُمْ يُمَكِّنُونَهُ مِنْ مَكَّةَ ثَلَاثَةَ أَيْامٍ حَتَّى يَقْضِيَ عُمْرَتَهُ: حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ وَبَيِّنَةٌ بَاهِرَةٌ عَلَيْهِ وَمَنْ مَالَ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَاتِبُ الْوَاقِدِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «لَمَّا قَدِمَ عليه الصلاة والسلام مِنَ الطَّائِفِ، نَزَلَ الْجِعْرَانَةَ وَقَسَّمَ فِيهَا الْغَنَائِمَ، ثُمَّ اعْتَمَرَ مِنْهَا وَذَلِكَ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ شَوَّالٍ» ، فَهُوَ ضَعِيفٌ وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ السِّيَرِ وَالْمُحَدِّثِينَ مَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ) .
2519 -
وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذِي الْقَعْدَةِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ مَرَّتَيْنِ» (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
ــ
2519 -
(وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذِي الْقَعْدَةِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ مَرَّتَيْنِ» ) لَا يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ غَيْرُ مَحْسُوبَةٍ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِهَا وَلَمْ يَفْعَلْ أَفْعَالَهَا لِكَوْنِهِ مُحْصَرًا وَالْعُمْرَةُ الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ لَمْ تَكُنْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ إِلَّا بِاعْتِبَارِ إِحْرَامِهَا، وَأَمَّا أَفْعَالُهَا فَكَانَتْ فِي ذِي الْحِجَّةِ، وَتَأْوِيلُنَا هَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْ عُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ لِمَا مَرَّ فِيهَا أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ أَنْكَرَهَا لِخَفَائِهَا (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
(الْفَصْلُ الثَّانِي)
2520 -
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَقَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَقَالَ أَفِي كُلِّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ لَوْ قُلْتُهَا نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهَا وَلَمْ تَسْتَطِيعُوا. وَالْحَجُّ مَرَّةٌ فَمَنْ زَادَ فَتَطَوُّعٌ» (رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ) .
ــ
(الْفَصْلُ الثَّانِي)
2520 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَا أَيُّهَا النَّاسُ) خِطَابٌ عَامٌّ يَخْرُجُ مِنْهُ غَيْرُ الْمُكَلَّفِ (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ) أَيْ فَرَضَ (عَلَيْكُمُ الْحَجَّ) أَيْ بِقَولِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97](فَقَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَقَالَ أَفِي كُلِّ عَامٍ) أَيِ أَكُتِبَ فِي كُلِّ عَامٍ (يَا رَسُولَ اللَّهِ) قِيَاسًا عَلَى الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَالثَّانِي طَاعَةٌ مَالِيَّةٌ وَالْحَجُّ مُرَكَّبٌ مِنْهُمَا (قَالَ لَوْ قُلْتُهَا) أَيْ فِي جَوَابِ كَلِمَةِ الْأَقْرَعِ (نَعَمْ) أَيْ بِالْوَحْيِ أَوِ الِاجْتِهَادِ (لَوَجَبَتْ) أَيِ الْحَجَّةُ فِي كُلِّ عَامٍ (وَلَوْ وَجَبَتْ) أَيْ بِالْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ ابْتِدَاءً أَوْ بِنَاءً عَلَى الْجَوَابِ (لَمْ تَعْمَلُوا بِهَا) أَيْ لِكَمَالِ الْمَشَقَّةِ فِيهَا (وَلَمْ تَسْتَطِيعُوا) أَيْ وَلَمْ تُطِيقُوا لَهَا وَلَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا فَهُوَ إِمَّا عَطْفُ تَفْسِيرٍ
وَالْخِطَابُ إِجْمَالِيٌّ لِلْأُمَّةِ أَوْ لِلْحَاضِرِينَ وَالْبَاقُونَ عَلَى التَّبَعِيَّةِ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ فِي رِوَايَةٍ وَلَمْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْمَلُوا بِهَا أَيْ كُلُّكُمْ مِنْ حَيْثُ الْمَجْمُوعُ وَإِمَّا عَطْفُ تَغَايُرٍ وَعَدَمُ الِاسْتِطَاعَةِ مُخْتَصٌّ بِمَنْ يَكُونُ بَعِيدًا عَنِ الْحَرَمِ، وَهَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ أُرِيدَ بِهَا الْقُدْرَةُ عَلَى الْفِعْلِ، وَالِاسْتِطَاعَةُ فِي الْآيَةِ إِنَّمَا هِيَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ فِي قَوْلِهِ لَوْ قُلْتُهَا نَعَمْ إِنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ لِمَا عُلِمَ مِمَّا قَبْلَهُ وَهُوَ حَجَّةٌ كُلَّ عَامٍ فَلَا طَائِلَ تَحْتَهُ، لَا بِحَسَبِ الْمَبْنَى وَلَا بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى كَمَا لَا يَخْفَى (الْحَجُّ) وَفِي نُسْخَةٍ صَحِيحَةٍ وَالْحَجُّ (مَرَّةٌ) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ أَيْ وُجُوبُهُ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ (وَمَنْ زَادَ فَتَطَوُّعٌ) أَيْ وَمَنْ زَادَ عَلَى مَرَّةٍ فَحَجَّتُهُ أَوْ فَزِيَادَتُهُ تَطَوُّعٌ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا الْحَجُّ فَرْضُ كِفَايَةٍ بَعْدَ أَدَاءِ فَرْضِ الْعَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ، نَعَمْ يُنْدَبُ لِلْقَادِرِ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْحَجَّ فِي كُلِّ خَمْسِ سِنِينَ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام " «قَالَ إِنَّ عَبْدًا صَحَّحْتُ لَهُ جِسْمَهُ وَوَسَّعْتُ عَلَيْهِ فِي الْمَعِيشَةِ يَمْضِي عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ لَا يَفِدُ إِلَيَّ فَهُوَ مَحْرُومٌ» " وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ بِوُجُوبِهِ فِي كُلِّ خَمْسِ سِنِينَ وَرُدَّ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا زَعْمُ وُجُوبِهِ كُلَّ سَنَةٍ عَلَى مَا نَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ فَمِنَ الْمُحَالِ إِمْكَانُهُ لِأَنَّهُ فِي حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ عَلَى هَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ (رَوَاهُ أَحْمَدُ) أَيْ فِي مُسْنَدِهِ (وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارِمِيُّ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَقَالَ الشُّمُنِّيُّ وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ.
2521 -
وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلَمْ يَحُجَّ، فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] » (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ وَهِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَجْهُولٌ وَالْحَارِثُ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ) .
ــ
2521 -
(وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً» ) أَيْ وَلَوْ بِالْإِجَارَةِ (تُبَلِّغُهُ) بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِهَا أَيْ تَوَصِّلُهُ، وَالضَّمِيرُ الْمُؤَنَّثُ لِلرَّاحِلَةِ وَتَقْيِيدُهَا يُغْنِي عَنْ تَقْيِيدِ الزَّادِ أَوِ الْمَجْمُوعِ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الِاسْتِطَاعَةِ (إِلَى بَيْتِ اللَّهِ) أَيْ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْمَوَاقِفِ الْعِظَامِ، وَتَرَكَ ذِكْرَ نَفَقَةِ الْعُودِ لِلظُّهُورِ أَوْ لِعَدَمِ لُزُومِ الرُّجُوعِ (وَلَمْ يَحُجَّ) بِفَتْحِ الْجِيمِ الْمُشَدَّدَةِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا وَكَسْرُهَا وَكَأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لَمْ تَكُنْ فِي أَصْلِ ابْنِ حَجَرٍ فَقَدَّرَ ثُمَّ تَرَكَ الْمَجِيءَ إِلَيْهِ لِلْحَجِّ (فَلَا عَلَيْهِ) أَيْ فَلَا بَأْسَ وَلَا مُبَالَاةَ وَلَا تَفَاوُتَ عَلَيْهِ (أَنْ يَمُوتَ) أَيْ فِي أَنْ يَمُوتَ أَوْ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ (يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا) فِي الْكُفْرِ إِنِ اعْتَقَدَ عَدَمَ الْوُجُوبِ وَفِي الْعِصْيَانِ إِنِ اعْتَقَدَ الْوُجُوبَ، وَقِيلَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّغْلِيظِ الشَّدِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْوَعِيدِ قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ: وَإِنَّمَا خَصَّ الطَّائِفَتَيْنِ بِالذِّكْرِ لِقِلَّةِ مُبَالَاتِهِمَا بِالْحَجِّ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَفْرُوضًا عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ مِنْ شِعَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ خَاصَّةً اهـ. وَفِيهِ مُنَاقَشَةٌ ظَاهِرَةٌ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ وَجْهَ التَّخْصِيصِ كَوْنُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ عَامِلَيْنِ بِهِ فَشُبِّهَ بِهِمَا مَنْ تَرَكَ الْحَجَّ حَيْثُ لَمْ يَعْمَلْ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ كَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَالْمَعْنَى أَنَّ وَفَاتَهُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ: وَوَفَاتَهُ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ سَوَاءٌ، وَالْمَقْصُودُ التَّغْلِيظُ فِي الْوَعِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَمَنْ كَفَرَ " اهـ.
يَعْنِي حَيْثُ إِنَّهُ وَقَعَ مَوْضِعَ مَنْ لَمْ يَحُجَّ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ حَيْثُ عَدَلَ عَنْ (عَنْهُ) إِلَى عَنِ الْعَالَمِينَ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ: غَنِيٌّ عَنْهُ وَعَنْهُمْ وَعَنْ عِبَادَتِهِمْ، وَإِنَّمَا هُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ إِيجَادًا وَإِمْدَادًا وَنَفْعُ الطَّاعَةِ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ وَالْقِيَامُ بِالْعُبُودِيَّةِ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ.
هَذَا وَقَدْ قَدَّرَ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ فَلَا تَفَاوُتَ عَلَيْهِ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الْحَجِّ، وَأَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَيْ كَافِرًا لِاسْتِوَاءِ هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ حَقِيقَةً: إِنْ تَرَكَ الْحَجَّ مَعَ الْقُدْرَةِ مُسْتَحِلًّا لِعَدَمِ وُجُوبِهِ وَجَعَلَهُ عَلَى وِزَانِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] فِي التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ الْأَكِيدِ وَلَا يَخْفَى عَدَمُ صِحَّتِهِ، وَتَقْرِيرُهُ مَعَ التَّكَلُّفِ فِي تَقْدِيرِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ مُسْتَحِلًّا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي تَحْرِيرِهِ، وَلَمْ يُفِدْ فَائِدَةً فِي تَعْبِيرِهِ عَلَى أَنَّ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ أَبْلَغُ فِي مَقَامِ تَحْذِيرِهِ، وَأَبْعَثُ عَلَى تَرْكِ مَا فِي ضَمِيرِهِ، وَالتَّوَجُّهِ إِلَى الْحَجِّ الْمُوجِبِ لِتَكْفِيرِهِ بَعْدَ تَكْفِيرِهِ، ثُمَّ فِي رِوَايَةٍ: فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، يُبْطِلُ تَقْدِيرَ ابْنِ حَجَرٍ فَتَدَبَّرْ فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّقْدِيرِ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ صَحِيحًا بِدُونِ التَّغْيِيرِ، (وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ شَرْطِ الزَّادِ
وَالرَّاحِلَةِ وَالْوَعِيدِ عَلَى تَرْكِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ لِأَنَّ اللَّهَ (تَبَارَكَ) أَيْ تَكَاثَرَ خَيْرُهُ وَبِرُّهُ عَلَى بَرِيَّتِهِ (وَتَعَالَى) عَظَمَتُهُ وَغِنَاهُ عَلَى خَلِيقَتِهِ (يَقُولُ) أَيْ فِي كِتَابِهِ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} [آل عمران: 97] أَيْ وَاجِبٌ {حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا وَيُبْدَلُ مِنَ النَّاسِ {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] أَيْ طَرِيقًا وَفَسَّرَهُ صلى الله عليه وسلم بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ.
كَذَا فِي الْجَلَالَيْنِ ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ الْآيَةَ إِلَى آخِرِهَا وَاقْتَصَرَ الرَّاوِي عَلَى مَا ذَكَرَهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ بِتَمَامِهَا، لِأَنَّ تَمَامَ الِاسْتِدْلَالِ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَمَامِهَا وَكَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الطِّيبِيُّ وَبَيَّنَ وَجْهَهُ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ) قِيلَ: قَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ أَبِي أَمُامَةَ، وَالْحَدِيثُ إِذَا رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا يَقْوَى عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ، وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ (وَهِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَجْهُولٌ) قَالَ الذَّهَبِيُّ قَدْ جَاءَ بِإِسْنَادٍ أَصَحَّ مِنْهُ، وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ قَدْ أَخْطَأَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِالْوَضْعِ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَهْلِ الرَّاوِي وَضْعُ الْحَدِيثِ (وَالْحَارِثُ يُضْعَفُ) أَيْ يُنْسَبُ إِلَى الضَّعْفِ (فِي الْحَدِيثِ) قَالَ الْقَاضِي لَا الْتِفَاتَ إِلَى حُكْمِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ بِالْوَضْعِ كَيْفَ وَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ، وَقَدْ قَالَ إِنَّ كُلَّ حَدِيثٍ فِي كِتَابِهِ مَعْمُولٌ بِهِ إِلَّا حَدِيثَيْنِ وَلَيْسَ هَذَا أَحَدَهُمَا، هَذَا فِي رِوَايَةِ مَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ الْحَجِّ حَاجَةٌ أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ لَكِنَّهُ صَحَّ عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا وَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.
2522 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا صَرُورَةَ فِي الْإِسْلَامِ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) .
ــ
2522 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَا صَرُورَةَ فِي الْإِسْلَامِ» ) وَهُوَ بِالصَّادِّ الْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَةِ هُوَ الَّذِي لَمْ يَحُجَّ قَطُّ أَيْ: مَنْ لَمْ يَحُجَّ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ فِي الْإِسْلَامِ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله فَدَلَّ ظَاهِرُهُ عَلَى أَنَّ مَنْ يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَلَمْ يَحُجَّ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ كَامِلٍ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالصَّرُورَةِ التَّبَتُّلُ وَتَرْكُ النِّكَاحِ أَيْ: لَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ بَلْ هُوَ فِي الرَّهْبَانِيَّةِ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الصَّرِّ وَهُوَ الْحَبْسُ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ) وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ.
وَأَمَّا مَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَنَّهُ يُكْرَهُ تَنْزِيهًا أَنَّ يُقَالَ لِمَنْ لَمْ يَحُجَّ صَرُورَةٌ، فَتَعَقَّبَهُ النَّوَوِيُّ وَذَكَرَهُ بِأَنَّ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ نَظَرًا إِذْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ تَعَرُّضٌ لِلنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ.
2523 -
وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيُعَجِّلْ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ) .
ــ
2523 -
(وَعَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيُعَجِّلْ» ) بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله أَيْ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْحَجِّ فَلْيَغْتَنِمِ الْفُرْصَةَ وَقِيلَ أَمْرُ اسْتِحْبَابٍ اهـ.
وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا رَوَى ابْنُ شُجَاعٍ عَنْهُ أَنَّ الرَّجُلَ يَجِدُ مَا يَحُجُّ بِهِ وَقَصَدَ التَّزَوُّجَ أَنَّهُ يَحُجُّ بِهِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رحمه الله وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي إِلَّا أَنْ يَظُنَّ فَوَاتَهُ لَوْ أَخَّرَهُ لِأَنَّ الْحَجَّ وَقْتُهُ الْعُمْرُ نَظَرًا إِلَى ظَاهِرِ الْحَالِ فِي بَقَاءِ الْإِنْسَانِ، فَكَانَ كَالصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إِلَى آخِرِ الْعُمْرِ كَمَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا، إِلَّا أَنَّ جَوَازَ تَأْخِيرِهِ مَشْرُوطٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِأَنْ لَا يَفُوتُ يَعْنِي لَوْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ أَثِمَ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحَجَّ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ مِنَ السَّنَةِ وَالْمَوْتُ فِيهَا لَيْسَ بِنَادِرٍ، فَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ لِلِاحْتِيَاطِ لَا لِانْقِطَاعِ التَّوَسُّعِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَوْ حَجَّ فِي الْعَامِ الثَّانِي كَانَ مُؤَدِّيًا بِاتِّفَاقِهِمَا، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الْعَامِ الثَّانِي كَانَ آثِمًا بِاتِّفَاقِهِمَا، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ بَيْنَهُمَا إِنَّمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ تَفْسِيقِ الْمُؤَخِّرِ وَرَدِّ شَهَادَتِهِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْفَوْرِ وَعَدَمِ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالتَّرَاخِي، كَذَا حَقَّقَهُ الشُّمُنِّيُّ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالدَّارِمِيُّ) وَكَذَا الْحَاكِمُ.
وَقَدْ وَرَدَ «حُجُّوا قَبْلَ أَنْ لَا تَحُجُّوا» ، أَيْ قَبْلَ أَنْ يَحْدُثَ بَاعِثٌ عَلَى تَرْكِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ آخِرُ الْحَدِيثِ، «فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى حَبَشِيٍّ أَصْمَعَ أَفْدَعَ بِيَدِهِ مِعْوَلٌ يَهْدِمُهَا حَجَرًا حَجَرًا» ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَلِيٍّ وَالْأَصْمَعُ الصَّغِيرُ الْأُذُنِ وَالْأَفْدَعُ مَنْ فِي يَدِهِ وَرِجْلِهِ زَيْغٌ وَاعْوِجَاجٌ.
2524 -
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةَ» (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) .
ــ
2524 -
(وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ» ) أَيْ قَارِبُوا بَيْنَهُمَا إِمَّا بِالْقِرَانِ أَوْ بِفِعْلِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْآخَرِ قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: إِذَا اعْتَمَرْتُمْ فَحُجُّوا، وَإِذَا حَجَجْتُمْ فَاعْتَمِرُوا، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: بِحَيْثُ يُسَمَّى مُتَابِعًا لَهُ عُرْفًا، فَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ لُغَةً وَلَا شَرْعًا (فَإِنَّهُمَا) أَيِ الْحَجَّ وَالِاعْتِمَارَ (يَنْفِيَانِ) أَيْ كُلٌّ مِنْهُمَا وَأَبْعَدَ ابْنُ حَجَرٍ رحمه الله فِي تَجْوِيزِ جَمْعِهِمَا (الْفَقْرَ) أَيْ يُزِيلَانِهِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْفَقْرَ الظَّاهِرَ بِحُصُولِ غِنَى الْيَدِ، وَالْفَقْرَ الْبَاطِنَ بِحُصُولِ غِنَى الْقَلْبِ (وَالذُّنُوبَ) أَيْ يَمْحُوَانِهَا، قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الصَّغَائِرُ وَلَكِنْ يَأْبَاهُ قَوْلُهُ (كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ) وَهُوَ مَا يَنْفُخُ فِيهِ الْحَدَّادُ لِاشْتِعَالِ النَّارِ لِلتَّصْفِيَةِ (خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) أَيْ وَسَخَهَا الْمُشَبَّهَ بِوَسَخِ الْمَعْصِيَةِ، فَيُحْمَلُ عَلَى صُدُورِهِمَا مِنَ التَّائِبِ، أَوْ يُقَالُ: مَحْوُ الذُّنُوبِ عَلَى قَدْرِ الِاشْتِغَالِ فِي إِزَالَةِ الْعُيُوبِ ( «وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةَ» ) بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ) أَيْ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِكَمَالِهِ.
2525 -
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عُمَرَ إِلَى قَوْلِهِ خَبَثَ الْحَدِيدِ.
ــ
2525 -
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عُمَرَ إِلَى قَوْلِهِ: خَبَثَ الْحَدِيدِ) وَقَدْ أَخْرَجَ الْمُنْذِرِيُّ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ جَاءَ حَاجًّا يُرِيدُ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَشُفِّعَ فِيمَنْ دَعَا لَهُ» ، وَقَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام:«مَنْ قَضَى نُسُكَهُ وَسَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ» ، وَقَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام:«إِذَا خَرَجَ الْحَاجُّ مِنْ بَيْتِهِ كَانَ فِي حِرْزِ اللَّهِ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ نُسُكَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَإِنْفَاقُ الدِّرْهَمِ الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ يَعْدِلُ أَلْفَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِيمَا سِوَاهُ» .
2526 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُوجِبُ الْحَجَّ قَالَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) . .
ــ
2526 -
(وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُوجِبُ الْحَجَّ» ) أَيْ مَا شَرْطُ وُجُوبِ الْحَجِّ، وَإِلَّا فَالْمُوجَبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى (قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ) يَعْنِي: الْحَجُّ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ وَجَدَهُمَا ذَهَابًا وَإِيَابًا، وَاقْتَصَرَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الشُّرُوطِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَالْأَهَمُّ الْمُقَدَّمُ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا عَنْ أَحَدٍ فِي كَوْنِهِ شَرْطَ الْوُجُوبِ اهـ.
وَالْمُرَادُ بِالرَّاحِلَةِ مَحْمَلٌ أَوْ شِقُّ مَحْمَلٍ أَوْ زَامِلَةٌ، لَا قَدْرُ مَا يُكْتَرَى عُقْبَةً وَيُمْشِي الْبَاقِيَ، وَالْحَدِيثُ بِعُمُومِهِ يَشْمَلُ الْمَكِّيَّ وَغَيْرَهُ خِلَافًا لِمَنْ خَالَفَهُ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ رحمه الله حَيْثُ أَوْجَبَ الْحَجَّ عَلَى مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ وَعَلَى الْشَحْذَةِ أَوِ الْكَسْبِ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ: وَرَوَى الْحَاكِمُ «عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» ، وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَجَابِرٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَبَاقِي الْأَحَادِيثِ بِطُرُقِهَا عَمَّنْ ذَكَرْنَا مِنَ الصَّحَابَةِ عِنْدَ التِّرْمِذِيَّ وَابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَابْنِ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ لَا تَسْلَمُ مِنْ ضَعْفٍ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْحَدِيثِ طُرُقٌ صَحِيحَةٌ ارْتَفَعَ بِكَثْرَتِهَا إِلَى الْحَسَنِ فَكَيْفَ وَمِنْهَا الصَّحِيحُ اهـ. وَبِهِ بَطَلَ قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: وَفِي سَنَدِهِ ضَعِيفٌ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ، فَإِنَّهُ حَسَّنَ التِّرْمِذِيُّ الْحَدِيثَ، وَقَدْ يُحْمَلُ ضِعْفُ الْبَيْهَقِيِّ وَابْنِ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيِّ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ فَهُوَ حُسْنٌ لِغَيْرِهِ وَالْحَسَنُ قَدْ يُوصَفُ بِالصِّحَّةِ أَيْضًا فَارْتَفَعَ النِّزَاعُ.
2527 -
وَعَنْهُ قَالَ: «سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا الْحَاجُّ. قَالَ: الشَّعِثُ التَّفِلُ فَقَامَ آخَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ قَالَ: الْعَجُّ وَالثَّجُّ، فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السَّبِيلُ قَالَ: زَادٌ وَرَاحِلَةٌ» (رَوَاهُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْفَصْلَ الْأَخِيرَ) .
ــ
2527 -
(وَعَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ عُمَرَ (قَالَ: «سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَا الْحَاجُّ» ) أَيِ الْكَامِلُ، وَالْمَعْنَى مَا صِفَةُ الْحَاجِّ الَّذِي يَحُجُّ، أَوْ يَكُونُ مَا بِمَعْنَى مَنْ قَالَ الطِّيبِيُّ يُسْأَلُ بِمَا عَنِ الْجِنْسِ وَعَنِ الْوَصْفِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الثَّانِي بِجَوَابِهِ صلى الله عليه وسلم، (قَالَ: الشَّعِثُ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيِ الْمُغَبَّرُ الرَّأْسِ مِنْ عَدَمِ الْغَسْلِ، مُفَرَّقُ الشَّعْرِ مِنْ عَدَمِ الْمَشْطِ، وَحَاصِلُهُ تَارِكُ الزِّينَةِ، (التَّفِلُ) بِكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ تَارِكُ الطِّيبِ، فَيُوجَدُ مِنْهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ مِنْ تَفَلَ الشَّيْءَ مِنْ فِيهِ إِذَا رَمَى بِهِ مُتَكَرِّهًا لَهُ، (فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْحَجِّ) أَيْ أَعْمَالِهِ أَوْ خِصَالِهِ بَعْدَ أَرْكَانِهِ، (أَفْضَلُ) أَيْ أَكْثَرُ ثَوَابًا، (قَالَ الْعَجُّ وَالثَّجُّ) بِتَشْدِيدِهِمَا وَالْأَوَّلُ رَفَعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَالثَّانِي سَيَلَانُ دِمَاءِ الْهَدْيِ، وَقِيلَ دِمَاءِ الْأَضَاحِي.
قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عَنْ نَفْسِ الْحَجِّ، وَيَكُونُ الْمُرَادُ مَا فِيهِ الْعَجُّ وَالثَّجُّ، وَقِيلَ عَلَى هَذَا يُرَادُ بِهِمَا الِاسْتِيعَابُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَوَّلَهُ الَّذِي هُوَ الْإِحْرَامُ، وَآخِرَهُ الَّذِي هُوَ التَّحَلُّلُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ، اقْتِصَارًا بِالْمَبْدَأِ وَالْمُنْتَهَى عَنْ سَائِرِ الْأَفْعَالِ، أَيِ الَّذِي اسْتَوْعَبَ جَمِيعَ أَعْمَالِهِ مِنَ الْأَرْكَانِ وَالْمَنْدُوبَاتِ، (فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السَّبِيلُ) أَيِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] وَقَوْلُ ابْنِ مَالِكٍ أَيْ مَا اسْتِطَاعَةُ السَّبِيلِ غَيْرُ صَحِيحٍ، (قَالَ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ) أَيْ بِحَسَبِ مَا يَلِيقَانِ بِكُلِّ أَحَدٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْوَسَطُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالِ الْحَاجِّ، (رَوَاهُ) أَيْ صَاحِبُ الْمَصَابِيحِ، (فِي شَرْحِ السُّنَّةِ) أَيِ الْحَدِيثَ بِكَمَالِهِ مُسْنَدًا، (وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ) أَيِ الْحَدِيثَ وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ (فِي سُنَنِهِ إِلَّا أَنَّهُ) أَيِ ابْنَ مَاجَهْ لَمْ يَذْكُرِ الْفَصْلَ الْأَخِيرَ) أَيْ مِنَ الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ الْآخَرُ مِنْ قَوْلِهِ فَقَامَ آخَرُ، وَالْفَصْلُ هُنَا بِمَعْنَى الْفِقْرَةِ فِي الْكَلَامِ فَتَدَبَّرْ.
2528 -
وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ «أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ، لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَلَا الْعُمْرَةَ، وَلَا الظَّعْنَ قَالَ: حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ» (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) .
ــ
2528 -
(وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ (الْعَقِيلِيِّ)«أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَلَا الْعُمْرَةَ» ) أَيْ أَفْعَالَهُمَا، (وَلَا الظَّعْنَ) أَيِ الرِّحْلَةَ إِلَيْهِمَا وَهُوَ بِالسُّكُونِ وَالْفَتْحِ السَّفَرُ، وَالْمَعْنَى انْتَهَى بِهِ كِبَرُ السِّنِّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَقْوَى عَلَى السَّيْرِ وَلَا عَلَى الرُّكُوبِ، (قَالَ: حِجَّ) بِالْحَرَكَاتِ فِي الْجِيمِ وَالْفَتْحُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، (عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ) دَلَّ عَلَى جَوَازِ النِّيَابَةِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْعُمْرَةَ سُنَّةٌ عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَوْلِ الْجَدِيدِ إِنَّهَا فَرْضٌ لِقِرَانِهَا بِالْحَجِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وَلِمَا رَوَى الْحَاكِمُ وَقَالَ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ أَبِي رَزِينٍ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَدِيثَ، وَلَنَا مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ قَالَ لَا وَأَنْ تَعْتَمِرُوا هُوَ أَفْضَلُ» ، وَأُجِيبَ عَنِ الْآيَةِ بِأَنَّ الْقِرَانَ فِي الذِّكْرِ لَا يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فِي الْحُكْمِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَقِرَانُهَا بِالْحَجِّ فِي الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي الْإِتْمَامِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الشُّرُوعِ.
وَعَنْ حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ بِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام إِنَّمَا أَمَرَهُ بِأَنْ يَحُجَّ وَيَعْتَمِرَ عَنْ أَبِيهِ وَحَجُّهُ وَاعْتِمَارُهُ عَنْ أَبِيهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، مَعَ أَنَّ قَوْلَ أَبِي رَزِينٍ لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَلَا الْعُمْرَةَ يَقْتَضِي عَدَمَ وُجُوبِهَا عَلَى أَبِيهِ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ فِي حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ لِلِاسْتِحْبَابِ، كَذَا وَذَكَرَهُ الشُّمُنِّيُّ (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ) ، وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ رحمه الله فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النِّيَابَةِ عَنِ الْمَيِّتِ، فَغَيْرُ مُتَوَجِّهٍ، بَلِ الْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ دَلَّ عَلَى جَوَازِ النِّيَابَةِ عَنِ الْحَيِّ فَعَنِ الْمَيِّتِ بِالْأَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى.
2529 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ قَالَ: مَنْ شُبْرُمَةُ قَالَ: أَخٌ لِي أَوْ قَرِيبٌ لِي قَالَ: أَحَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ قَالَ: لَا، قَالَ: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) .
ــ
2529 -
(وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ» ) بِضَمِّ الشِّينِ وَالرَّاءِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ ( «قَالَ مَنْ شُبْرُمَةُ قَالَ أَخٌ لِي أَوْ قَرِيبٌ لِي» ) شَكَّ الرَّاوِي، (قَالَ أَحَجَجْتَ) بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ، (عَنْ نَفْسِكَ) أَيْ أَوَّلًا، ( «قَالَ لَا. قَالَ حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» ) قَالَ الطِّيبِيُّ رحمه الله: دَلَّ عَلَى أَنَّ الصَّرُورَةَ لَا يَحُجُّ عَنْ غَيْرِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ لِأَنَّ إِحْرَامَهُ عَنْ غَيْرِهِ يَنْقَلِبُ عَنْ نَفْسِهِ، وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمهم الله إِلَى أَنَّهُ يَحُجُّ اهـ.
إِلَّا أَنَّهُ يُغَيِّرُهُ فَيُحْمَلُ الْأَمْرُ عَلَى النَّدْبِ وَالْعَمَلُ بِالْأَوْلَى، (رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رحمه الله: هَذَا إِسْنَادٌ لَيْسَ فِي الْبَابِ أَصَحُّ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا لَمْ يُجَوِّزِ الشَّافِعِيُّ لِلصَّرُورَةِ، قُلْنَا هَذَا الْحَدِيثُ مُضْطَرِبٌ فِي وَقْفِهِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَفْعِهِ، وَقَدْ بُسِطَ بَسْطًا وَسِيعًا، ثُمَّ قَالَ وَلِأَنَّ ابْنَ الْمُفْلِسِ ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ ضَعَّفَ هَذَا الْحَدِيثَ بِأَنَّ سَعِيدَ بْنَ أَبِي عَرُوبَةَ كَانَ يُحَدِّثُ بِهِ بِالْبَصْرَةِ، فَيَجْعَلُ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ كَانَ بِالْكُوفَةِ يُسْنِدُهُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَا يُفِيدُ اشْتِبَاهَ الْحَالِ عَلَى سَعِيدٍ، وَقَدْ عَنْعَنَهُ قَتَادَةُ وَنُسِبَ إِلَيْهِ تَدْلِيسٌ فَلَا تُقْبَلُ عَنْعَنَتُهُ، وَلَوْ سُلِّمَ فَحَاصِلُهُ أَمْرُهُ بِأَنْ يَبْدَأَ بِالْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ النَّدْبَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ بِدَلِيلٍ وَهُوَ إِطْلَاقُهُ عليه الصلاة والسلام قَوْلَهُ لِلْخَثْعَمِيَّةِ حُجِّي عَنْ أَبِيكِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِخْبَارِهَا عَنْ حَجِّهَا لِنَفْسِهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَحَدِيثُ شُبْرُمَةَ يُفِيدُ اسْتِحْبَابَ تَقْدِيمِ حَجَّةِ نَفْسِهِ، وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ الْجَمْعُ وَيَثْبُتُ أَوْلَوِيَّةُ تَقَدُّمِ الْفَرْضِ عَلَى النَّفْلِ مَعَ جَوَازِهِ اهـ. مُلَخَّصًا لَكِنْ بَقِيَ فِيهِ إِشْكَالٌ عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدِنَا مِنْ أَنَّ الشَّخْصَ إِذَا تَلَبَّسَ بِإِحْرَامٍ عَنْ غَيْرِهِ: لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِانْتِقَالِ عَنْهُ إِلَى الْإِحْرَامِ عَنْ نَفْسِهِ لِلُّزُومِ الشَّرْعِيِّ بِالشُّرُوعِ، وَعَدَمِ تَجْوِيزِ الِانْقِلَابِ بِنَفْسِهِ، فَكَيْفَ فِي إِطَاعَةِ الْأَمْرِ سَوَاءً قُلْنَا إِنَّهُ لِلْوُجُوبِ أَوِ الِاسْتِحْبَابِ، فَلَا مُخَلِّصَ عَنْهُ إِلَّا بِتَضْعِيفِ الْحَدِيثِ أَوْ نَسْخِهِ، لِأَنَّ حَدِيثَ الْخَثْعَمِيَّةِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، أَوْ بِتَخْصِيصِ الْمُخَاطَبِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
2530 -
وَعَنْهُ قَالَ: «وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ الْعَقِيقَ» (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) .
ــ
2530 -
(وَعَنْهُ) أَيْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، (قَالَ وَقَّتَ) أَيْ عَيَّنَ وَحَدَّ وَبَيَّنَ (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ) أَيْ لِإِحْرَامِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ مَنْ مَنْزِلُهُ خَارِجَ الْحَرَمِ مِنْ شَرْقِيَّ مَكَّةَ إِلَى أَقْصَى بِلَادِ الشَّرْقِ وَهُمُ الْعِرَاقِيُّونَ، (الْعَقِيقَ) وَهُوَ مَوْضِعٌ بِحِذَاءِ ذَاتِ الْعِرْقِ مِمَّا وَرَاءَهُ، وَقِيلَ دَاخِلٌ فِي حَدِّ ذَاتِ الْعِرْقِ، وَأَصْلُهُ كُلُّ مَسِيلٍ شَقَّهُ السَّيْلُ فَوَسَّعَهُ مِنَ الْعَقِّ وَهُوَ الْقَطْعُ وَالشَّقُّ، (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ) وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ فِيهِ ضَعْفًا.
2531 -
وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) .
ــ
2531 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ» ) قَالَ ابْنُ الْمَلَكِ كَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم عَيَّنَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ مِيقَاتَيْنِ الْعَقِيقَ وَذَاتَ عِرْقٍ، فَمَنْ أَحْرَمَ مِنَ الْعَقِيقِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى ذَاتِ عِرْقٍ فَهُوَ أَفْضَلُ، وَمَنْ جَاوَزَهُ فَأَحْرَمَ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ جَازَ: وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ) وَكَذَا الدَّارَقُطْنِيُّ وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ السَّابِقِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ أَمَّا تَوْقِيتُ ذَاتِ عِرْقٍ، فَفِي مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَحْسَبُ رَفَعَ الْحَدِيثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، إِلَى أَنْ قَالَ وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ» ، وَفِيهِ شَكٌّ مِنَ الرَّاوِي فِي رَفْعِهِ هَذِهِ الْمَرَّةَ، وَرَوَاهُ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى مَا أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ مَاجَهْ وَلَمْ يَشُكَّ، وَلَفْظُهُ:«وَمُهَلُّ أَهْلِ الشَّرْقِ ذَاتُ عِرْقٍ» إِلَّا أَنَّ فِيهِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ يَزِيدَ الْخُوزِيَّ لَا يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ، وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ» وَزَادَ فِيهِ النَّسَائِيُّ بَقِيَّةً، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمِنْ طَرِيقِهِ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ لَمْ يُوَقِّتِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ عِرْقٍ، وَلَمْ يَكُنْ أَهْلُ شَرْقٍ حِينَئِذٍ فَوَقَّتَ النَّاسُ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله وَلَا أَحْسَبُهُ إِلَّا كَمَا قَالَ طَاوُسٌ.
وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي الْبُخَارِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ لَمَّا فُتِحَ الْمِصْرَانِ أَتَوْا عُمَرَ، فَقَالُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّ لِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وَهِيَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا، وَإِنَّا إِذَا أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا قَالَ انْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ، فَحَدَّ لَهُمْ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِمَامِ، الْمِصْرَانِ هُمَا الْبَصْرَةُ وَالْكُوفَةُ، وَحَذْوُهَا مَا يَقْرُبُ مِنْهَا قَالَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَاتَ عِرْقٍ مُجْتَهَدٌ فِيهِ: لَا مَنْصُوصَةٌ اهـ.
وَالْحَقُّ أَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَبْلُغْهُ تَوْقِيتُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ عِرْقٍ، فَإِنْ كَانَتِ الْأَحَادِيثُ بِتَوْقِيتِهِ حَسَنَةً، فَقَدْ وَافَقَ اجْتِهَادُهُ تَوْقِيتَهُ عليه الصلاة والسلام وَإِلَّا فَهُوَ اجْتِهَادِيٌّ.
2532 -
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، أَوْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) .
ــ
2532 -
(عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ) أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، (قَالَتْ:«سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مَنْ أَهَلَّ» ) أَيْ أَحْرَمَ، (بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ) أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، (مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) قِيلَ إِنَّمَا خَصَّ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى لِفَضْلِهِ، وَبِرَغْمِ الْمِلَّةِ الَّتِي مَحَجُّهَا بَيْتُ الْمَقْدِسِ، ( «إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ» ) أَيْ مِنَ الصَّغَائِرِ وَيُرْجَى الْكَبَائِرِ، (أَوْ وَجَبَتْ) أَيْ ثَبَتَتْ لَهُ الْجَنَّةُ) أَيِ ابْتِدَاءً، وَأَوْ لِلشَّكِّ قِيلَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَوْضِعَ الْإِحْرَامِ مَتَى كَانَ أَبْعَدَ كَانَ الثَّوَابُ أَكْثَرَ اهـ.
وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيمَ الْإِحْرَامِ عَلَى الْمَوَاقِيتِ وَمِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ أَفْضَلُ عِنْدَنَا، وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ الَّذِي صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ بِأَنْ لَا يَقَعَ فِي مَحْظُورٍ، وَإِلَّا فَالتَّأْخِيرُ إِلَى الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ بِخِلَافِ تَقْدِيمِ الْإِحْرَامِ عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ أَنَّهُ يَنْقَلِبُ عُمْرَةً وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إِحْرَامُهُ، (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ) قَالَ ابْنُ الْهُمَامِ رَوَى الْحَاكِمُ رحمه الله فِي التَّفْسِيرِ مِنَ الْمُسْتَدْرَكِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ الْمُرِّيِّ قَالَ سُئِلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] فَقَالَ أَنْ تُحْرِمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ، وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ اهـ.
وَقَالَ عليه الصلاة والسلام مَنْ «أَهَلَّ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِنَحْوِهِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَعِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ مِنَ الْبَصْرَةِ، وَابْنَ عَبَّاسٍ مِنَ الشَّامِ، وَابْنَ مَسْعُودٍ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ وَهِيَ قَرِيبُ الْكُوفَةِ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ حَدِيثَ الْمَتْنِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَآخَرُونَ، وَمُقْتَضَى كَلَامِهِمْ أَنَّهُ حَسَنٌ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ رحمه الله لَيْسَ بِقَوِيٍّ وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ الْحَسَنَ لِغَيْرِهِ يُقَالُ فِيهِ إِنَّ إِسْنَادَهُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ، وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي دَاوُدَ لَا يَصِحُّ تَقَدُّمُ الْإِحْرَامِ عَلَى الْمِيقَاتِ فَمَرْدُودٌ، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ عَلَى الصِّحَّةِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ.
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ)
2533 -
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ فَلَا يَتَزَوَّدُونَ، وَيَقُولُونَ نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197](رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
ــ
الْفَصْلُ الثَّالِثُ
2533 -
(عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ) أَيْ يَقْصِدُونَ الْحَجَّ قَصْدًا مُعَظَّمًا بِتَرْكِ الْأَسْبَابِ، (فَلَا يَتَزَوَّدُونَ) أَيْ لَا يَأْخُذُونَ الزَّادَ مَعَهُمْ مُطْلَقًا، أَوْ يَأْخُذُونَ مِقْدَارَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي الْبَرِّيَّةِ، (وَيَقُولُونَ) بِطَرِيقِ الدَّعْوَى لَيْسَ تَحْتَهَا الْمَعْنَى، (نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ) وَالْحَالُ أَنَّهُمُ الْمُتَأَكِّلُونَ، أَوِ الْمُعْتَمِدُونَ عَلَى النَّاسِ، زَادَ الْبَغَوِيُّ يَقُولُونَ نَحُجُّ بَيْتَ اللَّهِ وَلَا يُطْعِمُنَا؟ ! ، (فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ) أَيْ أَهْلَ مَكَّةَ أَوْ أَعَمَّ مِنْهُمْ حَيْثُ فَرَغَتْ زُوَادَتُهُمْ، أَوْ سَأَلُوا فِي مَكَّةَ كَمَا سَأَلُوا فِي الطَّرِيقِ، زَادَ الْبَغَوِيُّ وَرُبَّمَا يُفْضِي بِهِمُ الْحَالُ إِلَى النَّهْبِ وَالْغَصْبِ، (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَزَوَّدُوا) أَيْ خُذُوا زَادَكُمْ مِنَ الطَّعَامِ، وَاتَّقُوا الِاسْتِطْعَامَ وَالتَّثْقِيلَ عَلَى الْأَنَامِ، وَقَالَ الْبَغَوِيُّ أَيْ مَا تَبْلُغُونَ بِهِ وَتَكُفُّونَ بِهِ وُجُوهَكُمْ، وَقَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ الْكَعْكَ، وَالزَّبِيبَ، وَالسَّوِيقَ، وَالتَّمْرَ وَنَحْوَهَا {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] أَيْ مِنَ السُّؤَالِ وَالنَّهْبِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي هِيَ كَالزَّادِ إِلَى سَفَرِ الْآخِرَةِ، فَمَفْعُولُ تَزَوَّدُوا مَحْذُوفٌ هُوَ التَّقْوَى، وَلَمَّا حَذَفَ مَفْعُولَهُ أَتَى بِخَبَرِ إِنَّ ظَاهِرًا لِيَدُلَّ عَلَى الْمَحْذُوفِ، وَمِنَ التَّقْوَى الْكَفُّ عَنِ السُّؤَالِ وَالْإِبْرَامُ، كَذَا ذَكَرَهُ السَّيِّدُ مَعِينُ الدِّينِ الصَّفَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ.
فَفِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ ارْتِكَابَ الْأَسْبَابِ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ عَلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ، بَلْ هُوَ الْأَفْضَلُ مِنَ الْكَمَلِ، وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ التَّوَكُّلَ الْمُجَرَّدَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مُسْتَقِيمًا فِي حَالِهِ، غَيْرَ مُضْطَرِبٍ فِي مَالِهِ، حَيْثُ لَا يَخْطُرُ الْخَلْقُ بِبَالِهِ، وَإِنَّمَا ذَمَّ مَنْ ذَمَّ لِأَنَّهُمْ مَا قَامُوا فِي طَرِيقِ التَّوَكُّلِ حَقَّ الْقِيَامِ، حَيْثُ اعْتَمَدُوا عَلَى جِرَابِ اللِّئَامِ، وَغَفَلُوا عَنْ أَنَّهُ قَسَمَ الْقِسَامَ وَالنَّاسُ نِيَامٌ (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .
2534 -
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ قَالَ: نَعَمْ عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ» (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) .
ــ
2534 -
(وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ» ) بِحَذْفِ الِاسْتِفْهَامِ، ( «قَالَ نَعَمْ عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ» ) بَلْ فِيهِ اجْتِهَادٌ وَمَشَقَّةُ سَفَرٍ، وَتَحَمُّلُ زَادٍ، وَمُفَارَقَةُ أَهْلٍ وَبِلَادٍ كَمَا فِي الْجِهَادِ، (الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ) بَدَلٌ مِنْ جِهَادٌ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَيَجُوزُ نَصْبُهُمَا بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) وَغَيْرُهُ مِنْ طُرُقٍ أَحَدُهَا عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَبِهِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْعُمْرَةَ وَاجِبَةٌ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
2535 -
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ الْحَجِّ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ، أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ، أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ، فَمَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا» (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) .
ــ
2535 -
(وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ الْحَجِّ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ» ) أَيْ فَقْدُ زَادٍ وَرَاحِلَةٍ فَإِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ شَرْطُ الْوُجُوبِ بِلَا خِلَافٍ، (أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ) أَيْ ظَالِمٌ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْعَهُ بِطَرِيقِ الْجَوْرِ وَالْعُنْفِ، فَلَا عِبْرَةَ بِمَنْعِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمَحَبَّةِ وَاللُّطْفِ.
وَأَيْضًا مِنَ الْمَوَانِعِ لِلْوُجُوبِ إِذَا كَانَ فِي الطَّرِيقِ سُلْطَانٌ جَائِرٌ بِالْقَتْلِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، فَالسَّلَامَةُ مِنْهُمَا مِنْ شُرُوطِ الْأَدَاءِ عَلَى الْأَصَحِّ، نَعَمْ إِذَا كَانَ الْأَمْنُ غَالِبًا فَيَجِبُ عَلَى الصَّحِيحِ، (أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ) أَيْ مَانِعٌ مِنَ السَّفَرِ لِشِدَّتِهِ، فَسَلَامَةُ الْبَدَنِ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْعِلَلِ شَرْطُ الْوُجُوبِ فَحَسْبُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقِيلَ شَرْطُ الْأَدَاءِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَجِبُ الْحَجُّ، وَلَا الْإِحْجَاجُ، وَلَا الْإِيصَاءُ بِهِ عَلَى الْأَعْمَى، وَالْمُقْعَدِ، وَالْمَفْلُوجِ، وَالزَّمِنِ وَالْمَقْطُوعِ الرِّجْلَيْنِ، وَالْمَرِيضِ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ، ( «فَمَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا» ) أَيْ شَبِيهًا بِهِمَا، حَيْثُ يَتْرُكَانِ الْعَمَلَ بِالْكِتَابِ مَعَ إِيمَانِهِمْ بِهِ، وَتِلَاوَتِهِمْ وَعِلْمِهِمْ بِمَوَاضِعِ الْخِطَابِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِهِ مِنَ الْعِقَابِ، (رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ) وَفِي نُسْخَةِ التِّرْمِذِيِّ بَدَلُهُ.
2536 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «الْحَاجُّ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ إِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ وَإِنِ اسْتَغْفَرُوا غَفَرَ لَهُمْ» (رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) . .
ــ
2536 -
(وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ الْحَاجُّ) أَيِ الْفَرِيقُ الْحَاجُّ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، (وَالْعُمَّارُ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ جَمْعُ الْعَامِرِ بِمَعْنَى الْمُعْتَمِرِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمْ نَسْمَعْ عَمَرَ بِمَعْنَى اعْتَمَرَ، وَلَكِنْ عَمَرَ اللَّهَ بِمَعْنَى عَبَدَهُ، وَلَعَلَّ غَيْرَنَا سَمِعَهُ وَاسْتَعْمَلَ بَعْضَ تَصَارِيفِهِ دُونَ بَعْضٍ، (وَفْدُ اللَّهِ) الْإِضَافَةُ لِلتَّشْرِيفِ وَالْمُرَادُ وَفْدُ حَرَمِهِ، أَيْ كَجَمَاعَةٍ قَادِمُونَ عَلَيْهِ، وَنَازِلُونَ لَدَيْهِ، وَمُقَرَّبُونَ إِلَيْهِ، ( «إِنْ دَعَوْهُ أَجَابَهُمْ، وَإِنِ اسْتَغْفَرُوا غَفَرَ لَهُمْ» ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ) قَالَ ابْنُ حَجَرٍ وَجْهُ إِفْرَادِ الْحَاجِّ وَجَمْعِ مَا بَعْدَهُ الْإِشَارَةُ إِلَى تَمَيُّزِ الْحَجِّ بِأَنَّ الْمُتَلَبِّسَ بِهِ وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ: يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ قَائِمًا مَقَامَ الْوَفْدِ الْكَثِيرِينَ بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ، فَإِنَّهَا لِتَرَاخِي مَرْتَبَتِهَا عَنِ الْحَجِّ لَا يَكُونُ الْمُتَلَبِّسُ بِهَا وَحْدَهُ قَائِمًا مَقَامَ أُولَئِكَ اهـ.
وَهُوَ وَجْهٌ وَجِيهٌ كَمَا لَا يَخْفَى وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى مَذْهَبِنَا أَنَّ الْعُمْرَةَ سُنَّةٌ، وَإِلَّا عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ، فَلَا يَظْهَرُ وَجْهُ التَّفَاوُتِ فِي الْفَرِيضَةِ لِعَدَمِ الْفَرْقِ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ وَالظَّنِّيَّةِ، وَلِاسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وَهُمَا مُسْتَوَيَانِ فِي اقْتِضَاءِ الْآمِرِيَّةِ، ثُمَّ قَوْلُهُ إِنَّ هَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الشَّارِحِ إِنَّ هَذَا مِنْ إِطْلَاقِ الْمُفْرِدِ عَلَى الْجَمْعِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى لِلْجِنْسِ مَجَازٌ مَعْرُوفٌ، وَقَدْ تَبِعَهُ فِي قَوْلِهِ الْحَاجُّ مُفْرَدُ الْحُجَّاجِ وَأُرِيدَ بِهِ الْجِنْسُ بِدَلِيلِ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ مَا تَنَبَّهَ إِلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ، وَدَوْرٌ عَلَى الدَّاعِي إِلَيْهِ، وَهُوَ كَالْمُنَادَى فِيمَا لَدَيْهِ.