الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القيامة، عظّم الله عز وجل أمر القرآن الذي يعلم منه هذا البيان، ونبّه إلى عظمة منزّل القرآن ذي الأسماء الحسنى الذي انقادت السموات والأرض لحكمه وأمره ونهيه، وتنزه عن النقائص.
التفسير والبيان:
{لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ} أي لقد بلغ من شأن القرآن وعظمته وبلاغته واشتماله على المواعظ التي تلين لها القلوب، أنه لو أنزل على جبل من الجبال، وجعل له عقل كما جعل للبشر، لرأيت الجبل، مع كونه في غاية القسوة وشدة الصلابة، خاشعا خاضعا متذللا منقادا، متشققا من خوف الله، حذرا من عقابه، وخوفا من عدم أداء ما يجب عليه من تعظيم كلام الله تعالى.
وهذا تعظيم لشأن القرآن، وتمثيل لعلو قدره وشدة تأثيره على النفوس، لما فيه من المواعظ والزواجر، ولما اشتمل عليه من الوعد الحق والوعيد الأكيد، فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته، لو فهم هذا القرآن لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل، فكيف يليق بكم أيها البشر ألا تلين قلوبكم وتخشع وتتصدع من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه، ولهذا قال تعالى:
{وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ، لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي وهذه الأمثال المذكورة نضربها لجميع الناس، لعلهم يتفكرون فيما يجب عليهم التفكر فيه ليتعظوا بالمواعظ، وينزجروا بالزواجر، وقد قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ، أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ، أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى} الآية [الرعد 31/ 13] أي لكان هذا القرآن.
وثبت في الحديث المتواتر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما عمل له المنبر، وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع من جذوع المسجد، فلما وضع المنبر أول ما وضع، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليخطب، فجاوز الجذع إلى نحو المنبر، فعند
ذلك حنّ الجذع، وجعل يئن كما يئن الصبي الذي يسكّت، لما كان يسمع من الذكر والوحي عنده.
والمراد بالآية التنبيه على قساوة قلوب هؤلاء الكفار، وغلظ طباعهم، وتوبيخ الإنسان على عدم تخشعه عند تلاوة القرآن، فإذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته، لخشعت وتصدعت من خشيته، فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم؟!! ثم عظم الله تعالى شأن القرآن بوجه آخر، وهو التنبيه على أوصاف منزّله فقال:
{هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ} أي إن الله منزل القرآن، هو الذي لا إله إلا هو، فلا رب غيره، ولا إله للوجود سواه، وكل ما يعبد من دونه فباطل، وأنه عالم ما غاب عن الإحساس وما حضر، يعلم جميع الكائنات المشاهدات لنا والغائبات عنا، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، من جليل وحقير، وصغير وكبير، في الذرّ (النمل الأسود) في الظلمات، وأنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، قال تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف 156/ 7] وقال سبحانه: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام 54/ 6].
ثم ذكر الله تعالى أوصافا أخرى لنفسه، فقال:
{هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ، الْعَزِيزُ الْجَبّارُ الْمُتَكَبِّرُ، سُبْحانَ اللهِ عَمّا يُشْرِكُونَ} أكد تعالى صفة الوحدانية مرة أخرى، وكرر ذلك للتأكيد والتقرير في مطلع هذه الآية كالتي قبلها، فهو تعالى الإله الواحد الذي لا شريك له، المالك لجميع الأشياء، المتصرف فيها، بلا ممانع
ولا مدافع، الظاهر من كل عيب، المنزه عن كل نقص، الذي سلم من كل نقص وعيب لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله، وسلم الخلق من ظلمه، والواهب الأمن والصدق لأنبيائه بالمعجزات، وأمن خلقه من أن يظلمهم، فهو المصدق لرسله بإظهار المعجزات، وللمؤمنين بما وعدهم به من الثواب، وهو الشاهد الرقيب على عباده بأعمالهم، فهو بمعنى الرقيب عليهم، كقوله تعالى:{وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج 9/ 85]. وقوله: {ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ} [يونس 46/ 10]. وقوله: {أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ} [الرعد 33/ 13].
وهو القاهر الغالب غير المغلوب، الذي قد عزّ كل شيء، فقهره وغلب الأشياء، ذو الجبروت أي العظمة، الذي تكبر عن كل نقص، وتعظم عما لا يليق به، والكبر في صفات الله مدح، وفي صفات المخلوقين ذم،
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الصحيح: «العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما عذّبته»
(1)
.
{سُبْحانَ اللهِ عَمّا يُشْرِكُونَ} أي تنزه الله عما يصفه به المشركون من إشراكهم بالله غيره، كالصاحبة والولد والشريك.
ثم قال الله تعالى:
{هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ، لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى، يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي هو الله الخالق أي المقدّر للأشياء على مقتضى إرادته ومشيئته، البارئ، أي المنشئ المخترع للأشياء الموجد لها،
(1)
أخرجه مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري بلفظ: «العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن ينازعني في واحد منهما فقد عذبته» وفي رواية: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني في واحد منهما قصمته ثم قذفته في النار» .
فالخلق: التقدير، والبرء: هو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود، وليس كل من قدر شيئا ورتّبه، يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله عز وجل، وهو المصوّر، أي الموجد للصور على هيئات مختلفة، وصفات أرادها، كما قال:{فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار 8/ 82] وله الأسماء والصفات الحسنى التي لا يماثله أحد فيها، لعزته، ومن عزته كان منزها عن النقائص، أهلا للتسبيح، ينطق بتنزيهه بلسان الحال أو المقال كل ما في السموات والأرض، ومن حكمته أنه أمر المكلفين في السموات والأرض بأن يسبحوا له ليربحوا، لا ليربح هو عليهم، كما قال تعالى:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء 44/ 17].
وهو القوي الغالب القاهر الذي لا يغالبه مغالب، الشديد الانتقام من أعدائه، الحكيم في تدبير خلقه وشرعه وقدره، وفي كل الأمور التي يقضي فيها، فهو كامل القدرة، كامل العلم.
وإنما قدم ذكر الخالق على البارئ، لأن ترجيح الإرادة مقدم على تأثير القدرة، وقدم البارئ على المصور، لأن إيجاد الذوات مقدم على إيجاد الصفات.
وتقدم بيان أسماء الله الحسنى في الآية (180) من سورة الأعراف والآية (110) من سورة الإسراء.
ويحسن
ذكر الحديث المروي في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر»
ورواه أيضا الترمذي وابن ماجه بالزيادة التالية، وأذكر هنا لفظ الترمذي:
«هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدّوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار، المتكبّر، الخالق، البارئ، المصوّر، الغفّار،