الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير والبيان:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ، فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ} أي يا أيها المصدقون بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، إذا طلب منكم التوسع في الأماكن والمجالس، وعدم التضايق فيها، سواء مجالس النبي أو مواضع القتال، فليفسح بعضكم لبعض، وليوسع أحدكم للآخر، يوسع الله لكم في الجنة، أي إن الجزاء من جنس العمل.
والآية عامة في كل مجلس، اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر، سواء كان مجلس حرب أو ذكر وعلم، أو يوم جمعة أو عيد، وكل واحد أحق بمكانه الذي يسبق إليه، ولكن يوسع لأخيه.
جاء في الحديث الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقم الرجل الرجل من مجلسه، ثم يجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا»
(1)
.
قال: الرازي: {يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ} : هو مطلق في كل ما يطلب الناس الفسحة فيه، من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة.
والآية دلت على أن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة، وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة، ولا ينبغي للشخص أن يقيد الآية بالتفسح في المجلس، بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم، وإدخال السرور في قلبه، لذا
قال صلى الله عليه وسلم: «ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»
(2)
.
(1)
رواه مالك والشافعي وأحمد والترمذي وابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه الشيخان في الصحيحين.
(2)
تفسير الرازي: 269/ 29، والحديث أخرجه مسلم عن أبي هريرة.
وهذا الأدب له تأثيره الكبير في غرس المحبة والتقدير في القلوب. وهو يومئ إلى أن الصحابة كانوا يتنافسون في القرب من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم لسماع حديثه، والانتفاع بهديه وأدبه وفضله.
وفي الحديث المروي في السنن: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس، ولكن حيث يجلس، يكون صدر ذلك المجلس، فكان الصحابة رضي الله عنهم يجلسون منه على مراتبهم، فالصديق رضي الله عنه يجلسه عن يمينه، وعمر عن يساره، وبين يديه غالبا عثمان علي، لأنهما كانا ممن يكتب الوحي وكان يأمرهما بذلك،
روى مسلم وأحمد وأهل السنن إلا الترمذي عن أبي مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «ليلني منكم أولو الأحلام والنّهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» وما ذاك إلا ليعقلوا عنه ما يقوله صلوات الله وسلامه عليه.
ولهذا أمر أولئك النفر بالقيام ليجلس الذين وردوا من أهل بدر، إما لتقصير أولئك في حق البدريين، أو ليأخذ البدريون نصيبهم من العلم، كما أخذ أولئك قبلهم، أو تعليما بتقديم الأفاضل إلى الأمام.
وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال:
فمنهم من رخص في ذلك، محتجا
بحديث أبي داود عن أبي سعيد الخدري:
«قوموا إلى سيدكم» وهو سعد بن معاذ حينما استقدمه النبي صلى الله عليه وسلم حاكما في بني قريظة.
ومنهم من منع ذلك محتجا بحديث أحمد وأبي داود والترمذي عن معاوية بن أبي سفيان: «من أحب أن يتمثّل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار» .
ومنهم من فصّل، فقال: يجوز عند القدوم من سفر، وللحاكم في محل ولايته، كما دلت عليه قصة سعد المتقدمة، ليكون أنفذ لحكمه، فأما اتخاذه ديدنا فإنه من شعار العجم، وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا جاء لا يقومون له، لما يعلمون من كراهته لذلك
(1)
.
{وَإِذا قِيلَ: اُنْشُزُوا فَانْشُزُوا} أي إذا طلب من بعض الجالسين في المجلس أن ينهضوا من أماكنهم، ليجلس فيها أهل الفضل في الدين، وأهل العلم بشرع الله، فليقوموا.
وهذا يشمل أيضا ما إذا قال صاحب مجلس لمن في مجلسه: قوموا، ينبغي أن يجاب.
وبعد أن نهى الله تعالى المؤمنين عن بعض الأشياء، ثم أمرهم ثانيا ببعض الأشياء، وعدهم على الطاعات، فقال:
{يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ، وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي يرفع الله منازل المؤمنين في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيها، ويرفع أيضا بصفة خاصة منازل العلماء درجات عالية في الكرامة في الدنيا، والثواب في الآخرة، فمن جمع الإيمان والعلم، رفعه الله بإيمانه درجات، ثم رفعه بعلمه درجات، ومن جملة ذلك رفعه في المجالس، والله خبير بمن يستحق ذلك وبمن لا يستحقه، مطّلع على أحوال ونوايا جميع عباده، ومجازيهم على أعمالهم جميعا، خيرا أو شرا.
روى الإمام أحمد ومسلم عن أبي الطفيل عامر بن واثلة: أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان، وكان عمر استعمله على مكة، فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزى، رجل من موالينا، فقال عمر: استخلفت عليهم مولى؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قاض، فقال عمر رضي الله عنه: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب قوما، ويضع به آخرين» .
(1)
تفسير ابن كثير: 325/ 4