الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأخرج أيضا عن أنس عن عمر قال: بلغني عن بعض أمهاتنا أمهات المؤمنين شدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذاهنّ إياه، فاستقريتهنّ امرأة امرأة أعظها، وأنهاها عن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: إن أبيتنّ أبدله الله خيرا منكنّ، حتى أتيت على زينب، فقالت: يا ابن الخطاب، أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت، فأمسكت، فأنزل الله:{عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ} الآية.
التفسير والبيان:
{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ، تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي يا أيها الرسول النبي، لماذا تمنع نفسك من بعض ما أباح الله لك، قاصدا إرضاء أزواجك، والله غفور لما فرط منك من تحريم ما أحل الله لك، وما تقدم من الزلّة، رحيم بك، فلا يعاقبك على ذنب تبت منه، ولم يؤاخذك به.
وهذا عتاب بطريق التلطف، مثل قوله تعالى:{عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة 43/ 10]، وسمي الامتناع عن الحلال ذنبا، وهو مباح لغيره، تعظيما لقدره الشريف، وإشارة إلى أن ترك الأولى بالنسبة إليه كالذنب، وإن لم يكن ذنبا في الواقع. والمراد بالتحريم: الامتناع من تناول العسل أو الاستمتاع ببعض الزوجات، وليس المراد اعتقاد كونه حراما بعد ما أحله الله، لأن تحريم الحلال كفر. قال القرطبي: والصحيح أنه معاتبة على ترك الأولى، وأنه لم تكن له صغيرة ولا كبيرة.
وتحريم الحلال يراه أبو حنيفة يمينا في كل شيء، حسبما ينوي، فإذا حرّم طعاما فقد حلف على أكله، وإذا حرّم ملبسا أو شرابا أو شيئا مباحا، فهو بمنزلة اليمين، وإذا حرم امرأة فقد حلف يمين الإيلاء منها إذا لم يكن له نية، وإن نوى
الظهار فظهار، وإن نوى الطلاق فطلاق بائن، وإن نوى عددا معينا في الطلاق كاثنتين أو ثلاث فعلى ما نوى.
ولا يراه الشافعي يمينا، ولكن سببا في الكفارة في النساء وحدهن، وإن نوى الطلاق فهو رجعي. فإن حلف ألا يأكل شيئا فخالف، حنث ويبرّ بالكفارة.
{قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ، وَاللهُ مَوْلاكُمْ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} أي شرع الله لكم تحليل أيمانكم بأداء الكفارة المقررة في سورة المائدة [الآية 89] وهي:
وبيّن لكم ذلك، وليس لأحد أن يحرّم ما أحل الله، فالتحليل والتحريم إلى الله سبحانه، فإن فعل الإنسان شيئا من ذلك لا ينعقد ولا يلزم صاحبه، والله متولي أموركم وناصركم على الأعداء، وهو العليم بما فيه صلاحكم وفلاحكم، الحكيم في أقواله وأفعاله وتدبير أموركم.
وسبب إيراد آية التحليل هذه أن التحريم الذي كان من النبي صلى الله عليه وسلم كان في الظاهر مقترنا بيمين، لظاهر الآية:{قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ} فهو دليل على أن هناك يمينا تحتاج إلى التحلة، وأيد ذلك بعض الروايات، فتكون هذه الآية مناسبة لما قبلها باعتبار كون تحريم المرأة أو العسل يمينا، وهو يمين إيلاء من المرأة.
وهل كفّر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه هذه؟ اختلف العلماء في ذلك، فقال الحسن البصري: إنه لم يكفّر، لأنه كان مغفورا له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وإنما هو تعليم للمؤمنين. وفي هذا نظر، لأن الأحكام الشرعية عامة، ولم يقم دليل على
التخصيص، لذا قال مقاتل: إنه-أي النبي-أعتق رقبة في تحريم مارية، ونقل عن الإمام مالك في المدونة أنه أعطى الكفارة.
أما تحريم الرجل لزوجته كأن يقول لها: أنت علي حرام أو الحلال علي حرام دون استثناء شيء، ففيه كما ذكر ابن العربي
(1)
خمسة عشر قولا
(2)
، منها ما ذكرناه سابقا أن أبا حنيفة يقول: إن نوى الطلاق أو الظهار كان ما نوى، وإلا كانت يمينا، وكان الرجل موليا من امرأته.
وذهب الشافعي ومالك إلى أن ذلك ليس بيمين، لكن إن حرم الزوجة ونوى بالتحريم الطلاق، يقع الطلاق الرجعي.
وذهب مالك إلى أنه طلاق بائن يقع به ثلاث تطليقات.
وقال أبو بكر الصديق وعائشة والأوزاعي: إنه يمين تكفر.
ثم ذكر الدليل على إحاطة علم الله بكل شيء، فقال:
{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً، فَلَمّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} أي واذكر حين أسرّ النّبي صلى الله عليه وسلم لزوجته حفصة حديثا هو تحريم العسل أو مارية، أو أن أباها وأبا عائشة يكونان خليفتيه على أمته من بعده، فلما أخبرت به غيرها، وأطلع الله نبيه على ما وقع منها من إخبار غيرها، عرّف حفصة بعض ما أخبرت به، وأعرض عن تعريف بعض ذلك.
{فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ: مَنْ أَنْبَأَكَ هذا؟ قالَ: نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} أي فحينما أخبرها بما أفشت من الحديث، قالت: من أخبرك به؟ قال: أخبرني به الله الذي لا تخفى عليه خافية، فهو العليم بالسر، الخبير بكل شيء في السماء والأرض.
(1)
أحكام القرآن: 1835/ 4 وما بعدها.
(2)
وذكر القرطبي في تفسيره (180/ 18) ثمانية عشر قولا.
ثم وجّه الله تعالى زوجتي النبي صلى الله عليه وسلم: حفصة وعائشة إلى التوبة وعاتبهما قائلا:
{إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ، فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما} أي إن تتوبا إلى الله، فتكتما السر، وتحبّا ما أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكرها ما كرهه، قبلت توبتكما من الذنب وكان خيرا لكما، فقد عدلت قلوبكما ومالت عن الحق والخير، وهو حق تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وصون سره وتكريمه.
والخطاب لحفصة وعائشة، لما أخرج أحمد في مسنده عن ابن عباس أنه قال: لم أزل حريصا على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى: {إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما} حتى حج عمر وحججت معه، فلما كان ببعض الطريق، عدل عمر وعدلت معه بالإداوة فتبرّز، ثم أتاني، فسكبت على يديه، فتوضأ، فقلت: يا أمير المؤمنين: من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى: {إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ، فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما} ؟ فقال عمر: وا عجبا لك يا ابن عباس، هما عائشة وحفصة.
{وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ، وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ} أي وإن تتعاضدا وتتعاونا على ما يسوؤه ويؤذيه بسبب الغيرة والرغبة في إفشاء سره، فإن الله يتولى نصره، وكذلك جبريل وصالح المؤمنين كأبي بكر وعمر، والملائكة بعد نصر الله له ونصر جبريل والمؤمنين الصالحين أعوان له وحراس وحفظة. وقوله:{بَعْدَ ذلِكَ} تعظيم للملائكة ومظاهرتهم.
ولم نر مثل هذا العون والعصمة والتأييد الرباني لأحد من الأنبياء والرسل وسائر البشر، للمبالغة في تعظيم شأن النبي صلى الله عليه وسلم، والتخلص من مكر النساء، وتبديد أوهام المشركين والمنافقين من محاولات الكيد والأذى وإلحاق الضرر.
ثم أنذرهما الله وحذرهما مع بقية الأزواج، فقال تعالى:
{عَسى 1 رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ، قانِتاتٍ تائِباتٍ، عابِداتٍ، سائِحاتٍ، ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً} أي لله القدرة البالغة، فإنه قادر إن وقع من النبي الطلاق أن يبدله أزواجا خيرا وأفضل منكن، قائمات بفروض الإسلام، كاملات الإيمان والتصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله، مطيعات لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، تائبات من الذنوب، مواظبات على عبادة الله متذللات له، صائمات، بعضهن ثيّبات، وبعضهن أبكارا. والثيب: هي المرأة التي قد تزوجت، ثم طلقها زوجها أو مات عنها. والبكر: هي العذراء. قال الكلبي: أراد بالثيب مثل آسية امرأة فرعون، وبالبكر مثل مريم بنت عمران.
وهذا مأخوذ من أحاديث ضعيفة، ومبني على أن الوعد بالتبديل في الآخرة فقط.
ويلاحظ أن جميع هذه الصفات يمكن اجتماعها في موصوف واحد، ما عدا الوصفين الأخيرين، لذا عطفا بالواو، للدلالة على التغاير أو التباين في الوصفين، والعطف يقتضي المغايرة.
والآية تتضمن غاية التهديد والوعيد على محاولات إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لا شيء أشد وأقسى على المرأة من الطلاق، والعزم على التزوج بزوجة أخرى، فذلك قاصم للظهر، مؤرّق للبال، محطم دائم للشعور الذاتي بالسعادة في الحياة.
وفي الآية أيضا وعد من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يزوجه بما يريد، قيل: في الدنيا، وقيل: في الآخرة، والأولى الجمع بين الحالتين.
(1)
عسى في القرآن: يجب تحقق ما بعدها إلا هذه، وقيل: وهنا أيضا واجب، ولكنه معلق بشرط التطليق.