الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والذين جاؤوا من بعدهم، فاستوعبت هذه الآية الناس، فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق
(1)
.
وروى ابن جرير عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: قرأ عمر بن الخطاب: {إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ..} . حتى بلغ {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة 60/ 9] ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ:{وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى..} . الآية [الأنفال 41/ 8] ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ:{ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى} حتى بلغ {لِلْفُقَراءِ}
…
{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ}
…
{وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ} ثم قال: استوعبت هذه المسلمين عامة، وليس أحد إلا وله فيها حق، ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي، وهو بسرو حمير، نصيبه فيها لم يعرق فيها جبينه
(2)
.
قال الرازي: واعلم أن هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين، لأنهم إما المهاجرون أو الأنصار، أو الذين جاؤوا من بعدهم، وبين أن من شأن من جاء من بعد المهاجرين والأنصار أن يذكر السابقين، وهم المهاجرون والأنصار بالدعاء والرحمة، فمن لم يكن كذلك، بل ذكرهم بسوء، كان خارجا من جملة أقسام المؤمنين بحسب نص هذه الآية
(3)
.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى الأحكام التالية:
1 -
كانت أموال بني النضير ونحوها التي ردها الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من
(1)
رواه أبو داود، وفيه انقطاع.
(2)
تفسير ابن كثير: 339/ 4 - 340
(3)
تفسير الرازي: 288/ 29
غير قتال ولا حرب ولا مشقة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصّة يضعها حيث شاء، فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين لشدة حاجتهم. ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر محتاجين، هم أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمّة.
2 -
أموال الفيء: هي-كمال قال ابن عباس-قريظة والنضير، وهما بالمدينة، وفدك وهي على ثلاثة أيام من المدينة، وخيبر، وقرى عرينة، وينبع، جعلها الله تعالى، لرسوله صلى الله عليه وسلم.
3 -
الأموال التي للدولة فيها حق التدخل ثلاثة أنواع: الصدقات والزكوات: وهي ما أخذ من المسلمين على طريق التطهير لهم. والثاني-الغنائم:
وهي ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكافرين بالحرب والقهر والغلبة.
والثالث-الفيء: وهو ما رجع للمسلمين من أموال الكفار عفوا صفوا من غير قتال ولا إيجاف (إسراع) خيل ولا ركاب، كالصلح والجزية والخراج والعشور المأخوذة من تجار الكفار. ومثله أن يهرب المشركون ويتركوا أموالهم، أو يموت أحد منهم في دار الإسلام، ولا وارث له.
أما الزكاة (أو الصدقة) فتصرف إلى الفقراء والمساكين والعاملين عليها وهم الأصناف الثمانية المذكورون في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ..} .
[براءة 60/ 9].
وأما الغنائم الحربية: فكانت في صدر الإسلام للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيها ما شاء، كما قال في سورة الأنفال:{قُلِ: الْأَنْفالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ} ثم نسخ بقوله تعالى:
{وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية [الأنفال 41/ 8] فيكون الخمس لمن ذكر الله تعالى، والأربعة أخماس الباقية للغانمين.
وأما الفيء وهو العقار: فالأمر فبه عند المالكية للإمام، يفعل ما يراه
مصلحة، من قسمته كالغنائم أو ترك قسمته وجعله لمصالح المسلمين العامة، كما فعل عمر بن الخطاب في سواد العراق ومصر وغيرهما، واحتج على الزبير وبلال وسلمان الفارسي وغيرهم الذين طالبوا بالقسمة بهذه الآية آية الفيء:{ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ..} . إلى قوله: {وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ} وشاور عليا وجماعة من الصحابة في ذلك، فأشاروا عليه بترك القسمة وأن يقر أهلها (أهل أراضي العراق) ويضع عليها الخراج، ففعل ذلك، ووافقته الجماعة عند احتجاجه بالآية
(1)
. وتكون آية الحشر في رأي المالكية ناسخة في شأن العقارات لآية الأنفال: {وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ..} .. وذكروا أنه يقسم كل مال في البلد الذي جبي فيه، ولا ينقل عن ذلك البلد الذي جبي فيه حتى يغنوا، ثم ينقل إلى الأقرب من غيرهم، إلا أن ينزل بغير البلد الذي جبي فيه فاقة شديدة، فينقل إلى أهل الفاقة حيث كانوا، كما فعل عمر رضي الله عنه عام الرمادة، وقال الحنفية: تقسم الغنائم-أي المنقولات-على النحو الذي ذكره الله في قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ..} . الخمس لمن ذكرت الآية، والباقي للغانمين، وأما حكم الفيء أي الأرض فهو أن يكون لكافة المسلمين، ولا يخمس، بل يصرف جميعه في مصالح المسلمين. لكن الغنيمة تقسم على ثلاثة أسهم فقط:
سهم اليتامى، وسهم المساكين، وسهم أبناء السبيل. وأما ذكر الله تعالى، في الخمس فهو لافتتاح الكلام، تبركا باسمه تعالى، وسهم النبي صلى الله عليه وسلم سقط بموته، فالحنفية والمالكية يتركون الخيار للإمام في قسمة العقار، فهو مخير في قسمته أو جعله وقفا على مصالح المسلمين.
وتكون آية الحشر الثانية: {ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ} بيانا لما أفاء الله على المسلمين من أموال سائر الكفار. روى مالك أن عمر قال: لولا من يأتي من آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر.
(1)
أحكام القرآن للجصاص: 430/ 3
وذهب الشافعية إلى أن حكم الفيء والغنيمة واحد، فيخمس الفيء قياسا على الغنيمة التي ثبت التخميس فيها بالنص القرآني:{وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} بجامع أن كلاّ منهما مال الكفار استولى عليه المسلمون، وأما اختلاف سبب الاستيلاء بالقتال وغيره، فلا تأثير له، فعلى الإمام قسمة العقار، ومن طاب نفسا عن حقه، فللإمام أن يجعله وقفا على المسلمين.
وتقسم الغنيمة في رأي الشافعية والحنابلة على خمسة أسهم، أولها-سهم المصالح (سهم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أي يصرف لمصالح المسلمين العامة كالثغور وقضاة البلاد وعلماء الشرع والأئمة والمؤذنين ولو أغنياء ونحوهم وثانيها-سهم ذوي القربى وهم بنو هاشم من أولاد فاطمة وغيرها، وثلاثة أسهم أخرى إلى ما نص الله عليهم.
4 -
علة قسمة الفيء: إن تقسيم الفيء على النحو السابق كيلا يختص به الأغنياء، كما كانوا يستأثرون بالغنيمة، وكانوا يغترون به، وبذلك قضى الإسلام على الطبقية وتجمع الثروة في يد فئة قليلة، وحرمان الأكثرية من سيولة المال.
5 -
قوله تعالى: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ..} . دليل واضح على وجوب امتثال جميع أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، واجتناب جميع نواهيه، فإنه لا يأمر إلا بصلاح، ولا ينهى إلا عن فساد.
وقد استدل الصحابة كابن مسعود وغيره بتحريم أشياء عملا بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنها، كتحريم الوشم والتنمص (نتف شعر الوجه) وتفليج الأسنان، وجواز قتل الزّنبور في الإحرام، اقتداء فيه بعمر الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء به في
قوله:
«اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر» وأمر الله سبحانه بقبول قول النبي صلى الله عليه وسلم. ويؤكده
قوله صلى الله عليه وسلم-فيما يرويه ابن ماجه عن أبي هريرة-:
وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الله تعالى، قال تعالى:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ} [النساء 80/ 4]
وعن أبي رافع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(1)
6 - دل قوله سبحانه: {وَاتَّقُوا اللهَ، إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ} على وجوب اتقاء عذاب الله، فإنه شديد على من عصاه، وعلى وجوب تقوى الله في أوامره ونواهيه، فلا تضيّع، فإن الله شديد العقاب لمن خالف ما أمره به.
7 -
المقصود بأولئك الأصناف الأربعة الذين يصرف لهم الفيء: {وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} هم هؤلاء الأصناف من الفقراء، وهم المهاجرون ثم الأنصار، ثم التابعون لهم بإحسان.
8 -
وصف الله تعالى المهاجرين بأوصاف ستة: أولها-أنهم فقراء، وثانيها- أنهم مهاجرون، وثالثها-أنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم، ورابعها-أنهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا، والفضل: ثواب الجنة، والرضوان قوله تعالى:
{وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ} [التوبة 72/ 9]، وخامسها- {وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} بأنفسهم وأموالهم، وسادسها- {أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ} في دينهم، لهجر هم لذات الدنيا، وتحملهم شدائدها.
وتمسك بعض العلماء بهذه الآية على إمامة أبي بكر رضي الله عنه، فقال:
هؤلاء الفقراء من المهاجرين والأنصار كانوا يقولون لأبي بكر: يا خليفة رسول الله، ومتى كان الأمر كذلك وجب الجزم بصحة إمامته.
9 -
أثنى الله على الأنصار حين طابت أنفسهم عن الفيء، إذ أعطي
(1)
أخرجه الإمامان الشافعي وأحمد، وأبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم.
للمهاجرين دونهم، ووصفهم أيضا بأوصاف ستة: أولها-أنهم استوطنوا المدينة قبل وصول المهاجرين إليها، واعتقدوا الإيمان وأخلصوه، وثانيها-محبتهم الخالصة للمهاجرين، وثالثها-لا يحملون في نفوسهم حقدا ولا حسدا ولا حزازة بسبب ما أعطي المهاجرون من الفيء وغيره، ورابعها-إيثارهم غيرهم ولو كان بهم حاجة، وخامسها-وقاهم الله من مرض الشح، وسادسها-هم المفلحون الفائزون الظافرون بما أرادوا.
10 -
استدل الإمام مالك على تفضيل المدينة على غيرها من الآفاق بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ} الآية. وقال: إن المدينة تبوئت بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف.
11 -
الأولى أن يقال: إن الآيات متعلقة ببعضها، معطوف بعضها على بعض، فتكون آية:{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا} معطوفة على قوله: {لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ} وآية: {وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي التابعون ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة. قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل:
المهاجرون، والذين تبوؤا الدار والإيمان، والذين جاؤوا من بعدهم، فاجهد ألا تخرج من هذه المنازل.
12 -
آية: {وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ} دليل على وجوب محبة الصحابة، لأنه تعالى جعل لمن بعدهم حظا في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، وأن من سبّهم أو سب واحدا منهم، أو اعتقد فيه شرا، فإنه لا حق له في الفيء.
13 -
آيات الحشر هذه في الفيء تدل على أن الصحيح من أقوال العلماء قسمة المنقول، وإبقاء العقار والأرض حقا عاما للمسلمين جميعا أو وقفا دائما على
مصالحهم، كما فعل عمر رضي الله عنه في سواد العراق ومصر والشام وغيرها من البلاد المفتوحة عنوة، لأن الله تعالى أخبر عن الفيء، وجعله لثلاث طوائف:
المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، فقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ..} . عامة في جميع التابعين والآتين بعدهم إلى يوم الدين.
جاء في الحديث الصحيح عند مسلم وغيره: «أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة، فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم حقون، وددت أن رأيت إخواننا، قالوا: يا رسول الله، ألسنا بإخوانك؟ فقال: بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم على الحوض» أي متقدمهم حتى يردوا، فبين صلى الله عليه وسلم أن إخوانهم كل من يأتي بعدهم.
14 -
دل قوله تعالى: {يَقُولُونَ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ} على أن المؤمنين المتأخرين مع مرور الأجيال مأمورون أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. قال العوام بن حوشب: أدركت صدر هذه الأمة يقولون: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تألف عليهم القلوب، ولا تذكروا ما شجر بينهم، فتجسّروا الناس عليهم.
أما من يلعن أو يسب بعض الصحابة فهو فاسق، بعيد عن أدب الإسلام وأخلاقه، وروح الدين وصفائه، متنكر لأهل الفضل والسبق، مبتدع ضال، فإن القرآن الكريم أمر بالاستغفار للصحابة، ونهى عن الحقد والحسد لجميع المؤمنين والمؤمنات. وإذا بلغ القدح ببعض الأصحاب أو أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما يصادم نصا قرآنيا أو حديثا ثابتا مقطوعا به، أدى ذلك إلى الكفر، والعياذ بالله تعالى.