الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناسبة:
بعد بيان أحكام العلاقات بين المسلمين وغيرهم في حال السلم، أبان الله تعالى حكم ردّ النساء المهاجرات من بلاد الكفر إلى ديار الإسلام، والتزوج بهن عقب صلح الحديبية، والزواج بالمشركات، ورد مهور هؤلاء النساء إلى أزواجهن، وتعويض الأزواج المسلمين من الغنائم عن مهور زوجاتهن اللاتي ذهبن إلى بلاد الكفار، والاعتصام في كل ذلك بتقوى الله تعالى. قال القرطبي: لما أمر الله المسلمين بترك موالاة المشركين، اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين عن بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة، فبيّن أحكام مهاجرة النساء.
التفسير والبيان:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} أي يا أيها الذين صدقوا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم النساء اللاتي آمنّ مهاجرات من بين الكفار، فاختبروهن، لتعلموا مدى رغبتهن في الإسلام، واسألوهن عن سبب مجيئهن. وقوله:{فَامْتَحِنُوهُنَّ} أمر بمعنى الوجوب، أو بمعنى الندب أو بمعنى الاستحباب.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صالح قريشا يوم الحديبية على أن يردّ عليهم من جاءهم من المسلمين، فلما هاجر إليه النساء، أبي الله أن يرددن إلى المشركين، وأمر بامتحانهن، فكن يستحلفن بالله ما خرجن من بغض زوج، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا لالتماس دنيا، بل حبا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ورغبة في دينه. فإذا حلفت على هذا النحو أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها، ولم يردّها إليه.
أي إن الامتحان أمر في الظاهر فقط، أما في الحقيقة والواقع، فلا يعلم حقيقة حالهن إلا الله سبحانه، والله أمركم بالظواهر، وهو يتولى السرائر، فإن غلب على ظنكم أنهن مؤمنات بحسب الظاهر بعد الامتحان الذي أمرتم به، فلا تردّوهن إلى أزواجهن المشركين الكافرين. وإنما سمّي الظن علما من باب الظن الغالب، وما يفضي إليه الاجتهاد، والقياس جار مجرى العلم.
قال ابن كثير: فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطّلاع عليه يقينا.
ثم أردف الله تعالى ذلك بأحكام أخرى تتعلق بهن، فقال:
1 -
{لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} أي ليست المؤمنات حلالا للكفار، وإسلام المرأة يوجب فرقتها من زوجها، لا مجرد هجرتها، وليس الكفار حلالا للمؤمنات. وهذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة، ولهذا كان أبو العاص بن الربيع زوج ابنة النّبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها، وقد كانت مسلمة، وهو على دين قومه، فلما وقع في الأسارى يوم بدر، بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها، كانت لأمها خديجة، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقّ لها رقة شديدة،
وقال للمسلمين: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا» .
فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبعث ابنته إليه، فوفى له بذلك، وصدقه فيما وعده، وبعثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن حارثة رضي الله عنه، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر سنة اثنتين، إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان، فردها عليه بالنكاح الأول، ولم يحدث لها صداقا
(1)
، كما
قال الإمام أحمد عن ابن عباس: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّ ابنته زينب على
(1)
تفسير ابن كثير: 351/ 4
أبي العاص، وكانت هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول، ولم يحدث شهادة ولا صداقا»
(1)
. ومنهم من يقول: بعد سنتين.
وأخرج عبد بن حميد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّ ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد» قال يزيد بن هارون: حديث ابن عباس أجود إسنادا، والعمل على حديث عمرو بن شعيب. وأجاب الجمهور عن حديث ابن عباس بأن ذلك كان قضية عين يحتمل أنه لم تنقض عدتها منه، لأن الذي عليه الأكثرون أنها متى انقضت العدة، ولم يسلم، انفسخ نكاحها منه.
2 -
{وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا} أي وادفعوا إلى أزواج المهاجرات من المشركين الذي غرموه عليهن من المهور. وهذا يدل على أن عهد صلح الحديبية اقتصر على ردّ الرجال دون النساء. قال الشافعي: وإذا طلبها غير الزوج من قراباتها، منع منها بلا عوض.
3 -
{وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي لا إثم ولا حرج عليكم أيها المؤمنون في الزواج بالمؤمنات المهاجرات إذا أعطيتموهن مهورهن، وبشرط انقضاء العدة، وتزويج الولي وغير ذلك.
4 -
{وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ} أي ويحرم عليكم أيها المؤمنون زواج المشركات والاستمرار معهن في العصمة الزوجية، فمن كانت له امرأة كافرة مشركة، فليست له بامرأة، لانقطاع عصمتها باختلاف الدين. وكان الكفار يزوجون المسلمين، والمسلمون يتزوجون المشركات، ثم نسخ ذلك بهذه الآية. وهذا دال على تحريم صريح للمشركات، وهو خاص بهن، دون الكوافر من أهل الكتاب.
(1)
ورواه أيضا أبو داود والترمذي وابن ماجه.
وينفسخ الزواج ببقاء الزوجة على الشرك، ولا مانع من نكاح أختها أو نكاح امرأة خامسة، ما دامت في العدة.
ثبت في الصحيح كما تقدم عن المسور ومروان بن الحكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية، جاءه نساء من المؤمنات، فأنزل الله عز وجل:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ} -إلى قوله- {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ} فطلق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين، تزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى صفوان بن أمية.
5 -
{وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ، وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا} أي وطالبوا بمهور نسائكم إذا ارتددن، وليطالبوا بمهور نسائهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين. قال المفسرون:
كان من ذهب من المسلمات مرتدة إلى الكفار من أهل العهد، يقال للكفار:
هاتوا مهرها، ويقال للمسلمين إذا جاءت امرأة من الكفار إلى المسلمين وأسلمت:
ردّوا مهرها على زوجها الكافر
(1)
.
{ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي ذلكم المذكور من إرجاع المهور من الجهتين، والمذكور في صلح الحديبية واستثناء النساء منه هو حكم الله وشرعه يحكم به بين خلقه، والحكم متعلق بالمشركين بعد صلح الحديبية، بخلاف المشركين الذين لا عهد لهم. والله بليغ العلم لا تخفى عليه خافية، بالغ العلم بما يصلح عباده، بليغ الحكمة في أقواله وأفعاله، فلا يشرع إلا ما تقتضيه الحكمة.
قال ابن العربي: وكان هذا مخصوصا بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة بإجماع الأمة
(2)
، أي رد المهور.
(1)
أحكام القرآن لابن العربي: 1776/ 4
(2)
المرجع والمكان السابق، تفسير القرطبي: 68/ 18
6 -
{وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفّارِ، فَعاقَبْتُمْ، فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا، وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} أي إن سبقكم وانفلت منكم وذهبت امرأة من أزواجكم إلى الكفار، بأن ارتدت المسلمة ورجعت إلى دار الكفر، ولو أهل كتاب، فأصبتم غنيمة من قريش أو غيرها بعد الانتصار في الحرب، فأعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة إذا لم يرد المشركون على زوجها مهرها، واحذروا أن تتعرضوا لشيء مما يوجب العقوبة عليكم، وخافوا الله تعالى بتنفيذ حكمه وشرعه.
قال ابن عباس وآخرون: يعني إن لحقت امرأة رجل من المهاجرين بالكفار، أمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يعطى مثل ما أنفق من الغنيمة قبل أن تخمّس، أي قبل قسمتها أخماسا
(1)
. فقوله: {فَعاقَبْتُمْ} معناه فغنمتم، أو ظفرتم. وقال الزهري: يعطى من مال الفيء.
والخلاصة: على الكفار رد مهر المرأة التي تعود إلى دار الكفر، فإن أمكن ذلك فهو الأولى، وإلا فمن الغنائم التي تؤخذ من أيدي الكفار.
روي عن الزهري ومسروق: أن من حكم الله تعالى أن يسأل المسلمون من الكفار مهر المرأة المسلمة إذا صارت إليهم، ويسأل الكفار من المسلمين مهر من صارت إلينا من نسائهم مسلمة، فأقر المسلمون بحكم الله تعالى، وأبي المشركون، فنزلت:{وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ} أي سبقكم وانفلت منكم.
وقال الحسن ومقاتل: نزلت في أم حكيم بنت أبي سفيان ارتدت وتركت زوجها عباس بن تميم القرشي، ولم ترتد امرأة من غير قريش غيرها، ثم عادت إلى الإسلام.
(1)
تفسير القرطبي: 70/ 18