الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأخرج ابن مردويه والخطيب عن ابن عباس قال: «جاء عوف بن مالك الأشجعي، فقال: يا رسول الله، إن ابني أسره العدو، وجزعت أمه، فما تأمرني؟ قال: آمرك وإياها أن تستكثروا من: لا حول ولا قوة إلا بالله فقالت المرأة: نعم ما أمرك، فجعلا يكثران منها، فتغفل عنه العدو، فاستاق غنمهم، فجاء بها إلى أبيه، فنزلت: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً}» .
التفسير والبيان:
{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ، فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} : أي يا أيها الرسول والمؤمنون به إذا أردتم تطليق النساء وعزمتم عليه، فطلقوهن مستقبلات لعدتهن أو قبل وقت عدتهن. والمراد الأمر بالطلاق في طهر لم يقع فيه جماع، والنهي عن إيقاعه في الحيض، كما وردت السنة الصريحة بذلك في حديث ابن عمر المتقدم.
وإنما كان النداء خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، والخطاب بالحكم عاما له ولأمته، تكريما له صلى الله عليه وسلم، وإظهارا لجلالة منصبه، كما يقال لرئيس القوم، أو قائد الجند: يا فلان، افعلوا كذا وكذا، إظهارا لمقامه فيهم، وكونه القائد المسؤول عن التوجيه.
والآية دليل على حرمة الطلاق في الحيض، وذكر الفقهاء أن الطلاق أنواع ثلاثة
(1)
: طلاق سني، وطلاق بدعي
(2)
، وطلاق ليس بسني ولا بدعي، أما الطلاق السني: فهو الطلاق في طهر لإجماع فيه، أو أثناء حمل قد استبان. وأما
(1)
تفسير ابن كثير: 378/ 4
(2)
سمي طلاق السنة لاتفاقه مع تقدير القرآن والسنة، وسمي طلاق البدعة للزيادة على الأقراء الثلاثة، لأنها إذا طلقت وهي حائض لم تحسب حيضتها، بل تزيد على ثلاثة أقراء فتطول العدة عليها.
الطلاق البدعي: فهو الطلاق أثناء الحيض، أو في طهر قد تم فيه الوقاع، خشية الحمل، وهو حرام لإلحاقه الضرر بالزوجة، بتطويل المدة التي تنتظرها لانتهاء العدة، لأن بقية الحيض لا تحسب من العدة عند القائلين بأن الأقراء الأطهار، وكذلك الطهر الذي بعد الحيضة التي طلقت فيها عند القائلين بأن الأقراء الحيضات، ولا بد من حيضات ثلاث كاملة.
وألحق الفقهاء بذلك في الحرمة الطلاق في النفاس.
ونصت السنة على صورة الطلاق البدعي المحرم في طهر جامعها فيه، إذ ربما تحمل، ويندم الرجل على الطلاق.
لكن الخلع في الحيض بعوض من المرأة ليس محرما عند كثير من الفقهاء، لأن بذلها المال يشعر بحاجتها إلى الخلاص، وبرضاها بتطويل المدة، والله تعالى قال:{فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة 229/ 2] وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس في الخلع على مال، دون سؤال عن حال زوجته.
وأما الطلاق الذي ليس بسني ولا بدعي: فهو طلاق الصغيرة والآيسة من الحيض وغير المدخول بها.
والأفضل بالاتفاق كون الطلقة مرة واحدة، ويكره عند مالك الثلاث متفرقة أو مجموعة، وعند الحنفية: يكره الزيادة على الواحدة في طهر واحد، ويباح عند الشافعي الثلاث.
واستدل الشافعي بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} على أن الأقراء:
الأطهار، لأن اللام لام الوقت، أي فطلقوهن وقت عدتهن، ويؤيده حديث ابن عمر المتقدم الذي بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء هي الطهر الذي بعد الحيضة، ولو كان القرء هو الحيض، كان قد طلقها قبل العدة، لا في العدة، وكان ذلك تطويلا عليها.
وتأول الحنفية والحنابلة قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أن المعنى لاستقبال عدتهن، لا في عدتهن، إذ من المحال أن يكون الطلاق وهو سبب العدة واقعا في العدة، والذي يستقبل إنما هو الحيض لا الطهر.
لكن المعروف أن اللام إذا دخلت الوقت أفادت معنى التأقيت والاختصاص بذلك الوقت، فيكون المعنى: فطلقوهن للوقت الذي يشرعن فيه في العدة على الاتصال بالطلاق.
ثم أمر الله تعالى بضبط العدة وإحصاء وقتها، فقال:
{وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} أي احفظوها واعرفوا ابتداءها وانتهاءها، لتكون عدة كاملة، وهي ثلاثة قروء تامة، والخطاب للأزواج. وضبط العدة واجب لإجزاء أحكامها فيها من تحديد حق الرجعة للزوج والإشهاد عليها، ونفقة الزوجة وسكناها، وعدم خروجها من بيتها قبل انقضائها.
{وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ} فلا تعصوه فيما أمركم، ولا تضارّوهن بتطويل العدة على المرأة، فتمتنع من الأزواج.
{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} أي لا تخرجوا المطلقات من بيوتهن في مدة العدة، فلكل امرأة معتدة حق السكنى على الزوج، ما دامت معتدة منه، فليس للرجل أن يخرجها، ولا يجوز لها أيضا الخروج، فليس للمعتدات الزوجات الخروج من تلك البيوت ما دمن في العدة إلا لأمر ضروري، رعاية لحق الزوج، فإذا خرجت المعتدة لغير ضرورة ليلا أو نهارا، كان الخروج حراما.
وفيه دليل على وجوب السكنى للزوجات المطلقات أو المعتدات ما دمن في العدة، وأضاف البيوت إليهن، وهي لأزواجهن لتأكيد النهي عن الإخراج والخروج، ببيان كمال استحقاقهن للسكنى، كأنها ملك لهن.
والصحيح عند الحنفية أن للشرع في ملازمة المعتدة بيت الزوجية حقا في ذلك، لا يملك الزوج إسقاطه، فيكون قوله تعالى:{لا تُخْرِجُوهُنَّ} دالا على حرمة إخراجهن بمنطوقه، وعلى حرمة الإذن لهن في الخروج بإشارته، لأن الإذن في المحرم محرم.
ورأى الشافعية أن ملازمة المعتدة بيت الزوجية خالص حق الزوجين، فلو اتفقا على الانتقال جاز، لأن الحق لهما وحدهما. وهذا هو المطبق فعلا اليوم حال الطلاق، فلا نرى مطلقة تبقى في بيت الفراق.
{إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أي لا تخرجوهن من بيوتهن إلا إذا ارتكبن فاحشة الزنى، أو إذا نشزن أو صدر منهن بذاءة في اللسان واستطالة على الساكن معهن في ذلك البيت من أهل الرجل، وآذتهم المرأة في الكلام والفعال، فحينئذ يحل إخراجهن في المساكن لبذاءتهن وسوء خلقهن.
{وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ، فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} أي وهذه الأحكام السابقة التي بينها الله لعباده هي حدود الله التي حدها لهم، لا يحل لهم أن يتجاوزوها إلى غيرها، ومن يتجاوز هذه الحدود المذكورة فقد أوقع نفسه في الظلم وأضرّ بها وأوردها مورد الهلاك.
ثم ذكر الله تعالى علة تحريم تعدي حدود الله، فقال:
{لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً} أي لا تدري أيها المطلّق، فإنما أبقينا المطلقة في منزل الزوج في مدة العدة، لعل الزوج يندم على طلاقها، ولعلها إذا بقيت في بيتها أن يؤلف الله بين قلوبهما، فيتراجعا، بأن يراجعها الزوج، فيكون ذلك أيسر وأسهل، فالمقصود بالآية الرجعة.
وهذا واقع غالب، فإن غالب الطلاق يحدث نتيجة ثورة غضب جامحة، أو مكايدة ظاهرية، ثم تزول عوامل القلق، وتهدأ الأعصاب، ويعود الرجل إلى
عقله ووعيه، ويحس بقسوة خلو البيت من المرأة أو التفكير بالزواج بامرأة أخرى، ويتذكر محاسن امرأته، ويغض النظر عن مساوئها، كما
قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة: «لا يفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقا رضي خلقا» وقد تكون المرأة حاملا. والحديث مؤيد للآية: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً، وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء 19/ 4].
ثم بيّن الله تعالى الحكم عند الاقتراب من نهاية العدة، فقال:
{فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي إذا شارفن على انقضاء العدة، وقاربن ذلك، أي قاربت العدة على الانتهاء، ولكنها لم تنته تماما، فلكم أيها الأزواج اختيار أحد أمرين: إما الإمساك بالمعروف، وهو الرجعة إلى عصمة الزوج والاستمرار في الزوجية، مع الإحسان إليها في الصحبة، وإما المفارقة بالمعروف، أي تركهن إلى انقضاء عدتهن مع إيفاء حقهن واتقاء الضرار بهن، من غير توبيخ ولا تعنيف ولا مشاتمة، بل تطلق المرأة على وجه جميل وسبيل حسن. أما الإمساك للمضارة أو التسريح مع الأذى ومنع الحق، فإن ذلك لا يحل لأحد.
ثم أمر الله تعالى بالإشهاد على الرجعة أو الفراق، فقال:
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ، وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلّهِ} أي وأشهدوا على الرجعة إن راجعتم، أو المفارقة إن فارقتم، قطعا للنزاع، وحسما لمادة الخصومة أو الإنكار، وأدوا الشهادة أيها الشهود وأتوا بها خالصة لوجه الله، وتقربا إليه لإظهار الحق، دون تحيز أو مجاملة لأحد الخصمين، المشهود له أو عليه.
وهذه الشهادة على الرجعة والفرقة مندوبة، والأمر للندب والاستحباب عند أئمة المذاهب الأربعة في الجديد عند الشافعي، كما في قوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ} [البقرة 282/ 2] ودليل صرف الأمر عن الوجوب الإجماع على عدم
الوجوب عند الطلاق، فكذلك عند الإمساك.
وقوله: {وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلّهِ} دليل على وجوب أداء الشهادة عند القضاة على الحقوق كلها، لأن الشهادة هنا اسم للجنس. وإنما حث تعالى على أداء الشهادة لإظهار الحق، وترك التكاسل والتهرب من بعض المتاعب أو المشاق في الذهاب إلى المحاكم وانتظار القضاة، خشية تعطيل العمل أو الوقت بالنسبة للشاهد.
{ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أي ذلكم المذكور الذي أمرناكم به من الإشهاد على الرجعة والفرقة وإقامة الشهادة خالصة لله، وإيقاع الطلاق على وجه السنة، وإحصاء العدة، والكف عن الإخراج والخروج، إنما يأتمر به من يؤمن بالله واليوم الآخر ويخاف عقاب الله في الدار الآخرة. وخص المؤمن، لأنه المنتفع بذلك دون غيره.
ثم أكد الله تعالى بجملة معترضة وجوب احترام هذه الأحكام والتزام حدود الله بقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} أي ومن يتق الله فيما أمره به، وترك ما نهاه عنه، ووقف عند حدوده التي حدها لعباده، يجعل له من أمره مخرجا أو مخلصا مما وقع فيه، ويرزقه من وجه لا يخطر بباله، ولا يكون في حسابه.
وهذا دليل على أن التقوى سبيل النجاة من المآزق والهموم والغموم الدنيوية والأخروية وعند الموت، وهي أيضا سبب للرزق الطيب الحلال الواسع غير المتوقع.
روى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو عليّ هذه الآية: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} حتى فرغ من الآية، ثم قال:«يا أبا ذر، لو أن الناس كلهم أخذوا بها كفتهم» .