الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقترا أو مضيّقا عليه في الرزق، فلينفق مما أعطاه الله من الرزق بقدر سعته، ليس عليه إلا ذلك، كما قال تعالى:{لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها} [البقرة 286/ 2].
وقال هنا:
{لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها} أي لا يكلف الله نفسا إلا ما أعطاها من الرزق، فلا يكلف الفقير بأن ينفق على الزوجة والقريب الرحم ما ليس في وسعه، كنفقة الغني.
ثم وعد الله تعالى بالعطاء والفضل، فقال:
{سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} أي سيجعل الله بعد ضيق وشدة سعة وغنى، وهذا وعد منه تعالى، ووعده حق لا يخلفه، وهو بشرى بالفرج بعد الكرب، كما قال تعالى:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الانشراح 5/ 94 - 6].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على الأحكام التالية:
1 -
السكنى بقدر الطاقة وفي المستوى اللائق بحال الزوج واجبة لكل مطلقة. وقد أجمع العلماء على أن للمرأة الرجعية (التي يحق مراجعتها بعد طلقة واحدة رجعية أو طلقتين) السكنى والنفقة، أما السكنى: فللآية:
{أَسْكِنُوهُنَّ} وآية {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} وأما النفقة ولو لم تكن حاملا فلأن الرجعية كالزوجة في بقاء حق الاحتباس وسلطة الزوج عليها، فيكون الإجماع مخصصا لمفهوم قوله تعالى:{وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} .
واتفق العلماء أيضا على أن للبائن (التي طلقت طلاقا بائنا) الحامل السكنى والنفقة، لقوله تعالى:{أَسْكِنُوهُنَّ} وقوله سبحانه: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} .
وأما البائن غير الحامل أو المطلقة ثلاثا، فاختلف العلماء في سكناها ونفقتها على أقوال ثلاثة تقدم ذكرها، وموجزها كما يلي:
أحدها-وجوب السكنى والنفقة لها: وهو مذهب عمر وابن سعود وكثير من فقهاء الصحابة والتابعين، ومذهب الحنفية والثوري، لقوله تعالى:
{أَسْكِنُوهُنَّ} فهو أمر بالسكنى لكل مطلقة، ولأن النفقة جزاء الاحتباس لحق الزوج، سواء كانت حاملا أو حائلا. والمقصود بآية {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} دفع توهم ألا نفقة لها لطول مدة الحمل. وقد قال عمر رضي الله عنه: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة، لا ندري جهلت أم نسيت. يريد قول فاطمة بنت قيس حين طلقها زوجها البتة:«لم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنى ولا نفقة» .
والثاني-ألا نفقة للمبتوتة ولا سكنى: وهو رأي ابن عباس وأصحابه وجابر بن عبد الله وفاطمة بنت قيس وبعض التابعين، وإسحاق وداود وأحمد، لحديث مسلم وغيره المتقدم عن فاطمة بنت قيس حينما طلقها عمرو بن حفص البتة، فلم يفرض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى.
والثالث-للمطلقة البائن بينونة كبري السكنى دون النفقة: وهو مذهب مالك والشافعي، أما السكنى فلقوله تعالى:{أَسْكِنُوهُنَّ} وأما عدم النفقة فلمفهوم قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فإن الله سبحانه لما ذكر السكنى أطلقها لكل مطلقة، فلما ذكر النفقة قيدها بالحمل، فدل مفهوم:{وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ} على أن المطلقة البائن غير الحامل لا نفقة لها.
وردّ الجصاص على حديث فاطمة بنت قيس بقوله: وهذا حديث قد ظهر من السلف النكير على راويه، ومن شرط قبول أخبار الآحاد تعريها من نكير السلف، أنكره عمر بن الخطاب على فاطمة بنت قيس، فقال: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله تعالى:{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، وَلا يَخْرُجْنَ إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}
(1)
.
ثم جمع بين هذا الحديث-على فرض صحته-وبين الآية، فقال:
وللحديث عندنا وجه صحيح يستقيم على مذهبنا فيما روته من نفي السكنى والنفقة، وذلك لأنه قد روي أنها استطالت بلسانها على أحمائها، فأمرها بالانتقال، فلما كان سبب النقلة من جهتها، كانت بمنزلة الناشزة، فسقطت نفقتها وسكناها جميعا، فكانت العلة الموجبة لإسقاط النفقة هي الموجبة لإسقاط السكنى
(2)
.
2 -
تحريم مضارة المرأة المطلقة في المسكن والنفقة، كما تحرم الرجعة والطلاق بقصد الضرار، وهو أن يطلقها، فإذا بقي يومان من عدتها راجعها ثم طلقها.
3 -
لا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة ثلاثا، أو أقل منهن حتى تضع حملها.
أما الحامل المتوفى عنها زوجها: فقال جماعة من الصحابة كعلي وابن عمر وابن مسعود والتابعين كالنخعي والشعبي وحماد: ينفق عليها من جميع المال أي من التركة حتى تضع. وقال ابن عباس وابن الزبير ومالك والشافعي وأبو حنيفة: لا ينفق عليها إلا من نصيبها،
روى الدارقطني بإسناد صحيح
(1)
أحكام القرآن 461/ 3
(2)
المرجع السابق 462/ 3
عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس للحامل المتوفى عنها زوجها نفقة» .
4 -
إذا أرضعت المطلقات أولاد الزوج، فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة إرضاعهن. ويجوز عند مالك والشافعي للرجل أن يستأجر امرأته للرضاع، كما يستأجر أجنبية. ولا يجوز عند أبي حنيفة الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم يبنّ أي يصبحن بائنات.
فإذا رضيت الأم أن ترضع ولدها بأجر المثل، فهي أحق به، لوفور شفقتها، فهي أولى بحضانته وإرضاعه من كل أحد، وليس للأب أن يسترضع غيرها في هذه الحالة. وتستحق الأجرة بالفراغ من العمل، لا بالعقد، لأن الله أوجبها بعد الرضاع بقوله:{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ، فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} .
5 -
دلّ قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ.} . أيضا على أن نفقة الولد الصغير على أبيه، لأنه إذا لزمه أجرة الرضاع، فكفايته ألزم. لذا أجمعوا على ذلك في طفل لا مال له، وألحق به بالغ عاجز عن نفقة نفسه، لخبر هند بنت عتبة فيما أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عائشة:«خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» .
6 -
على الأزواج والزوجات الائتمار بينهم أو قبول بعضهم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل في الإرضاع والأجر وغيرهما. والجميل من الأم المطلقة إرضاع الولد من غير أجرة. والجميل من الأب توفير الأجرة للأم للإرضاع.
7 -
إن حدث التعاسر أو تضييق بعض الأزواج على بعض في أجرة الرضاع، فأبى الزوج أن يدفع للأم أجرة المثل، أو أبت الأم الرضاع أو تغالت في الأجرة، فليس للزوج إكراهها، وليستأجر مرضعة أخرى غير أمه.
ودلت الآية {وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ.} . أيضا على أنه إذا طلبت الأم أكثر من أجر
المثل، فللأب أن يسترضع غيرها ممن يرضى بأجر المثل، إذا قبل الصبي ثدي المرأة الأخرى، ولم يحصل له ضرر بلبنها، وإلا أجبرت الأم على إرضاعه بأجرة المثل.
فإن اختلفا في الأجرة: فإن دعت الأم إلى أجر مثلها، وامتنع الأب إلا تبرعا، فالأم أولى بأجر المثل إذا لم يجد الأب متبرعا. وإن دعا الأب إلى أجر المثل، وامتنعت الأمّ لتطلب شططا، فالأب أولى به. فإن أعسر الأب بأجرتها، أخذت جبرا برضاع ولدها.
8 -
على الزوج الإنفاق على زوجته وعلى ولده الصغير على قدر وسعه وطاقته، فإن كان غنيا موسرا أنفق نفقة الأغنياء، وإن كان فقيرا أنفق نفقة الفقراء.
وتقدر النفقة بحسب حالة المنفق وحاجة المنفق عليه بالاجتهاد على وفق العرف والعادة، في رأي المالكية. وقال الإمام الشافعي: النفقة مقدّرة محدّدة، ولا اجتهاد لحاكم أو لمفت فيها. وتقديرها هو بحال الزوج وحده يسرا وعسرا، ولا يعتبر بحالها وكفايتها، فإن كان الزوج موسرا لزمه مدّان، وإن كان متوسطا فمدّ ونصف، وإن كان معسرا فمدّ، لقوله تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} الآية، وقوله سبحانه:{عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ، وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة 236/ 2]، فجعل الاعتبار بالزوج في اليسر والعسر دونها، ولأن مراعاة كفايتها لا سبيل إلى علمه للحاكم ولا لغيره، فتقع الخصوصة، لأن الزوج يدّعي أنها تطلب فوق كفايتها، وهي تزعم أن ما تطلبه قدر كفايتها، فجعلت مقدرة قطعا للخصومة.
وأدلة المالكية على تقدير النفقة بحسب حال الزوجين معا عرفا وعادة قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة 233/ 2]،
وقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين لهند امرأة أبي سفيان: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»
وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع: «واتقوا الله في
النساء، فإنكم أخذتموهن بسنة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» ففي الحديثين إحالة على الكفاية، ولم يقل عليه الصلاة والسلام للأم في حديث هند: لا اعتبار بكفايتك، وأن الواجب لك شيء مقدر.
9 -
آية {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} أصل في وجوب النفقة للولد على الوالد، دون الأمّ، خلافا لمحمد بن الموّاز يقول: إنها على الأبوين على قدر الميراث.
وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: «تقول لك المرأة: أنفق علي وإلا فطلّقني، ويقول لك العبد: أنفق علي واستعملني، ويقول لك ولدك: أنفق عليّ، إلى من تكلني» .
10 -
قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها} دليل على أنه لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني، وعلى أنه لا فسخ بالعجز عن الإنفاق على الزوجة، لأنه تضمن عدم التكليف بالإنفاق في حال العجز، فلا يجوز إجباره على الطلاق من أجل النفقة، لأن فيه إيجاب التفريق لشيء لم يجب عليه.
وكذلك قوله تعالى: {سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} يدل على أنه لا يفرق بين الزوجين من أجل عجزه عن النفقة، لأن العسر يرجى له اليسر، وسيجعل الله بعد الضيق غنى، وبعد الشدّة سعة، كما قال تعالى:{وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ، فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ} [البقرة 280/ 2]. وهذا مذهب الحنفية ورواية عن أحمد.
والقول بالفسخ للإعسار بالنفقة مذهب مالك وأظهر قولي الشافعي ورواية أخرى عن أحمد، بدليل خبر الدارقطني والبيهقي في الرجل لا يجد شيئا ينفق على امرأته: يفرّق بينهما. ولأنه شرع الفسخ بالعنّة لإزالة الضرر، والضرر الذي يلحق المرأة بعدم النفقة أشد من ضررها بالعنة، فكان الفسخ بالعجز عن النفقة أولى من الفسخ بالعنة.