الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{أَنِّي أَخْلُقُ} أصور، والخلق: التصوير والتكوين على مقدار معين، لا الإنشاء والاختراع {كَهَيْئَةِ} مثل صورة الطير {الْأَكْمَهَ}: من ولد أعمى {الْأَبْرَصَ} : الذي به برص أي بياض في الجلد يتطير به {بِإِذْنِ اللهِ} بإرادته.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصة زكريا ويحيى أقارب عيسى، وذكر قصة أمه، ناسب أن يذكر قصة عيسى وكيفية ولادته.
التفسير والبيان:
اذكر يا محمد لقومك وقت أن قال جبريل من الملائكة: إن الله يبشرك يا مريم بعيسى الموصوف بالكلمة على معنى: نبشرك بمكون منه أو بموجود من الله، إيذانا بأنه خلق خلقا غير عادي، استحق أن يوصف بهذه الصفة، وإن كان في الواقع أن جميع الكائنات وجدت بكلمة الله كما ذكر عقب خلق عيسى بقوله:{إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ} وذكر في مكان آخر:
{إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ} [يس 82/ 36] لكن في العرف تنسب الأشياء الأخرى إلى الأسباب العادية، وأطلق اسم الكلمة على عيسى مجازا كما قال تعالى:{وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ} [النساء 171/ 4].
والمراد من الملائكة هنا جبريل، لقوله تعالى:{فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا، فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا} [مريم 17/ 19] وذكر بلفظ الجمع؛ لأنه رئيسهم.
اسمه المسيح الذي جاء لرفع الظلم وهداية الناس وإشاعة الأخوة الصادقة فيما بينهم، وكانت مملكته روحانية لا جسدية. والمسيح: لقب الملك عندهم، فهو من ألقاب المدح. وقال القرطبي: معناه الصدّيق.
وإنما قيل: ابن مريم، مع أن الخطاب لها، إشارة إلى أنه ينسب لها، لولادته من غير أب، وليظل هذا الوصف ثابتا مقررا في الأذهان في كل زمان،
وردا على من ألّهه، وبيانا لمكانتها وتكريما لها.
وهو ذو وجاهة في الدنيا لما له من مكانة عند أتباعه والمؤمنين، وفي الآخرة بين الناس، ومن المقربين إلى الله يوم القيامة.
ويمتاز أيضا بأنه يكلم الناس وهو رضيع في المهد، وفي حال الكهولة وتمام الرجولة، كلاما متزنا معقولا. وهذا يشير إلى أنه سيكون رجلا سويا. قال ابن عباس: كان كلامه في المهد لحظة بما قصة الله علينا، ثم لم يتكلم حتى بلغ أوان الكلام. وكانت العادة أن من تكلم في المهد لم يعش.
وهو كذلك من الصالحين الذين أنعم الله عليهم بالنبوة والاستقامة وصلاح الحال. ولما بشرت مريم بعيسى المتصف بما ذكر، قالت متعجبة: كيف يكون لي ولد، وليس لي زوج؟ فأجابها الله: مثل هذا الخلق المتعجب منه وهو خلق الولد بغير أب، يخلق الله ما شاء، فخلق السماء والأرض، وخلق آدم من تراب بلا أب ولا أم، وخلق جميع الموجودات في الأصل من غير سبب ظاهر.
وسبب التعبير في قصة زكريا وابنه يحيى بقوله تعالى: {كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ} وفي قصة خلق عيسى بقوله: {كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ} : هو أن إيجاد يحيى من شيخين عجوزين كإيجاد سائر الناس في العادة، فعبر عنه بالفعل، وأما إيجاد عيسى فهو من أم بلا أب، خلافا للمعتاد في التوالد، بل بمحض القدرة الإلهية، وهو أبلغ من إيجاد يحيى، فناسب التعبير عنه بالخلق والإيجاد والإبداع، لكونه من غير سبب عادي.
ثم أعقبه بما يناسبه ويؤكده فقال: إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون، والمراد بالأمر هنا الأمر التكويني، لا الأمر التكليفي في مثل قوله تعالى:
{أَقِيمُوا الصَّلاةَ} وهذا تبيان لعظمة الله، ونفاذ أمره ومشيئته، وسرعة إنجاز مطلوبه، تقريبا للأذهان، وإلا فالإيجاد أسرع مما هو قائم بين حرفي
{كُنْ} . وهو يشبه قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ، فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ: اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً، قالَتا: أَتَيْنا طائِعِينَ} [فصلت 11/ 41].
وهناك خلق آخر أعظم من خلق عيسى وهو خلق آدم من غير أب ولا أم:
{إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ قالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران 59/ 3].
فهذه الأحوال في الخلق على نحو غير عادي دليل على قدرة الله المطلقة، وإرادة تكميل الكون بعجائب المخلوقات.
ومن أوصاف عيسى: أن الله يعلمه الكتابة والخط، والعلم النافع الذي يبعث النفس إلى تنفيذ الفعل ويرشد إلى أسرار الأحكام، ويعرفه التوراة التي أنزلت على موسى، والإنجيل الذي أوحي إليه.
وأنه رسول مرسل إلى بني إسرائيل، مؤيد بآيات تدل على صدق رسالته وهي:
1 -
أنه يصور من الطين صورة على قدر معين كصورة الطير، لا ينشئ ويخترع من الطين هيئة جديدة، فينفخ فيه، فيكون طيرا بقدرة الله ومشيئته، لا بقدرته وأمره، فإنه مخلوق لا يقدر على هذا.
روي أنهم طالبوه بخلق خفّاش، فأخذ طينا وصوره ونفخ فيه، فإذا هو يطير، وهم ينظرونه، فإذا غاب عن أعينهم، سقط ميتا، ليتميز فعل المخلوق من فعل الخالق وهو الله تعالى، وليعلم أن الكمال لله. قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم، سقط ميتا، ليتميز من خلق الله.
3، 2 - ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله: وتخصيصهما بالذكر؛ لأن مداواتهما أعيت الأطباء، علما بأن الطب كان متقدما في زمن عيسى، فأراهم
الله المعجزة من جنس الطب. قال كثير من العلماء: بعث الله كل نبي من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه، فكان الغالب في مصر على زمان موسى عليه السلام السحر وتعظيم السحرة، فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار، وحيرت كل سحّار، فلما استيقنوا أنها من عند الله العظيم الجبار، انقادوا للإسلام، وصاروا من عباد الله الأبرار. وأما عيسى عليه السلام فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه، إلا أن يكون مؤيدا من الذي شرع الشريعة، فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، أو على مداواة الأكمه والأبرص، وبعث من هو في قبره. وقد أحيا صديقا له اسمه عازر، وابن العجوز، وابن العاشر، فعاشوا وولد لهم، وأحيا سام بن نوح ومات في الحال.
وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم بعث في زمان الفصحاء والبلغاء وتحليق الشعراء، فأتاهم بكتاب من الله عز وجل، فلو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة من مثله، لم يستطيعوا أبدا، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وما ذاك إلا أن كلام الرب عز وجل لا يشبه كلام الخلق أبدا.
4 -
وأخبركم بما تأكلونه، وما تخبئونه وتحفظونه للمستقبل في بيوتكم.
والفرق بين إخبار النبي بالمغيباب وإخبار المنجمين والكهنة: أن النبي يخبر بإعلام الله من غير اعتماد على شيء آخر، أما الكاهن والمنجم فيعتمد على طرق الاحتيال واستخدام بعض الأسباب المؤدية إلى معرفته كالنجوم والجن وبعض الإنس.
إن في ذلك لدليلا قاطعا على صدق رسالتي، إن كنتم مصدقين بآيات الله الباهرة، مقرين بتوحيده وبقدرته الكاملة على كل شيء.
5 -
وجئتكم مصدقا لما تقدم من التوراة، لا ناسخا لها، ولا مخالفا أحكامها إلا ما خفف الله في الإنجيل مما كان مشددا عليهم فيها، كما قال تعالى: {وَلِأُحِلَّ