الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا أداة التشبيه، وإنما ذكر المشبه به فقط، ودلت القرائن على إرادة التشبيه. وهمزة {أَيَوَدُّ} للاستفهام الإنكاري أي ما يود أحد ذلك.
المفردات اللغوية:
{وَمَثَلُ} صفة نفقات المنفقين {اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ} أي طلبا لرضوانه {وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} تحقيقا للثواب أو تصديقا ويقينا بثواب الإنفاق من عند أنفسهم، ومن: ابتدائية، أي مبتدأ من أنفسهم، أو تمكين أنفسهم في مرتبة الإيمان والإحسان، بخلاف المنافقين المترددين في إيمانهم ولا يرجون الثواب، وقال ابن كثير: أي وهم متحققون ومتثبتون أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء، ونظير هذا
الحديث المتفق على صحته: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا» أي يؤمن أن الله شرعه ويحتسب عند الله ثوابه {كَمَثَلِ جَنَّةٍ} بستان {بِرَبْوَةٍ} مكان مرتفع من الأرض {وابِلٌ} مطر غزير {فَآتَتْ} أعطت {أُكُلَها} ثمرها {ضِعْفَيْنِ} مثلي ما يثمر غيرها {فَطَلٌّ} مطر خفيف يصيبها ويكفيها لارتفاعها، والمعنى: تثمر وتزكو، كثر المطر أم قل، فكذلك نفقات من ذكر، تزكو عند الله، كثرت أم قلت {وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكم به.
{أَيَوَدُّ} أيحب، والهمزة للاستفهام الإنكاري والنفي، أي ما يود أحد ذلك.
{وَأَعْنابٍ} ثمر الكرم {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ} أولاد صغار لا يقدرون على شيء.
{إِعْصارٌ} ريح شديدة، تستدير في الأرض بشدة، ثم ترتفع إلى الجو حاملة الغبار، كهيئة العمود وهي الزوبعة {نارٌ} سموم شديدة، المراد: ريح فيها برد شديد وسموم يحرق الشجر
(1)
{كَذلِكَ} كما بين ما ذكر {يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ، لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} فتعتبروا. وهذا تمثيل لنفقة المرائي والمانّ، في ذهابها وعدم نفعها، مع أن أحوج ما يكون لثوابها في الآخرة.
التفسير والبيان:
صفة نفقات المنفقين أموالهم طلبا لرضوان الله ومغفرته، وهم متحققون ومتثبتون أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء، أو تثبيتا لأنفسهم على الإيمان
(1)
قال الحسن البصري: الإعصار: ريح فيها برد شديد. وقال ابن عباس: ريح فيها سموم شديدة، وكذا قال السدي: الإعصار: الريح والنار السموم، قال ابن عطية: ويكون ذلك في شدة الحر، ويكون في شدة البرد، وكل ذلك من فيح جهنم ونفسها.
واليقين
(1)
بترويض أنفسهم على إنفاق المال الذي هو شقيق الروح، وبذل أشق شيء على النفس من سائر العبادات ومن الإيمان، صفة نفقاتهم الكثيرة والقليلة كبستان جيد التربة، ملتف الشجر، خصب النبات، وهو بمكان مرتفع متمتع بالشمس والهواء، ينزل عليه المطر الغزير، فيثمر ضعفي غلته، وإذا نزل عليه مطر خفيف أثمر أيضا لجودة تربته وكرم منبته، وحسن موقعه.
وإنما وصف البستان بكونه في ربوة: مكان مرتفع، فلأن الشجر في الربوة أزكى وأحسن ثمرا. وإنما قال من أنفسهم أي مبتدأ منها دون عامل خارجي ليدل على أن إنفاقه نابع من ذاته ويقينه، وقناعته بجدوى فعله، ومجاهدته بخل النفس، كما قال تعالى:{وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ} [الأنفال 72/ 8].
والمعنى في هذا التشبيه: أن المنفق لله وفي سبيله ويقصد تثبيت نفسه على بذل المال وفعل الخير أو التأكد من نيل الثواب يجود بقدر سعته، فإن أصابه خير كثير أنفق كثيرا، وإن أصابه قليل أنفق بقدر طاقته، فخيره دائم وبره لا ينقطع، فهو محسن في كلا الحالين، ويجد ثمرة بذله على كل حال، فهو كالأرض الجيدة التربة الخصبة النبات تثمر مطلقا وتغل الخير، ونتاجها وفير دائما، سواء أصابها مطر كثير أو قليل.
(1)
قال ابن عباس: معناه: تصديقا ويقينا، وقال قتادة: معناه: احتسابا من أنفسهم، وقال الشعبي والسدي وغيرهما: معناه: وتيقنا، أي أن نفوسهم لها بصائر، فهي تثبتهم على الإنفاق في طاعة الله تعالى تثبيتا. قال القرطبي: وهذه الأقوال الثلاث أصوب من قول غيرهم. والخلاصة: أن لهذه الكلمة معنيين: إما التيقن من ثواب الله، وإما تثبيت النفس على الإيمان ومجاهدتها من أجل البذل في سبيل الله، أي تزكية النفس وتطهيرها من مرض البخل وحب المال، والمعنى الثاني أولى؛ لأنه قال: من أنفسهم، ولم يقل: لأنفسهم، قال أبو حيان:(في البحر المحيط: 311/ 2) معناه أن من بذل ماله لوجه الله، فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل ماله وروحه معا فهو الذي ثبتها كلها.
والله لا يخفى عليه شيء من أعمال عباده، ويجازي كلا من المخلص والمرائي بما يستحق.
هذا هو المثال الأول لمن ينفق ماله ابتغاء وجه الرحمن وطلب رضوانه، والمثال الثاني لمن ينفق على عكس الأول في سبيل الشيطان والهوى أو لغير وجه الله. وبدأه تعالى بالإنكار والنفي؛ لأن شأن المؤمن المخلص ألا يقصد ذلك، فهو مثل لمن يعمل الأعمال الحسنة لا يبتغي وجه الله، فإذا كان يوم القيامة، وجدها محبطة مبددة متلاشية، فيتحسر عند ذلك حسرة من كانت له جنة من أبهى الجنات وأجمعها للثمار، فبلغ الكبر، وله أولاد ضعاف، والجنة معاشهم ومنتعشهم، فهلكت بالصاعقة.
قال البخاري عند تفسير هذه الآية: قال عمر بن الخطاب يوما لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فيمن ترون هذه الآية نزلت؟: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ..} . قالوا: الله أعلم، فغضب عمر وقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر: يا ابن أخي، قل، ولا تحقر نفسك، فقال: ضربت مثلا بعمل، قال عمر: أي عمل؟ قال: لرجل غني يعمل بطاعة الله، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي، حتى أغرق أعماله
(1)
.
وقال الحسن البصري: هذا مثل، قلّ والله من يعقله من الناس: شيخ كبير، ضعف جسمه، وكثر صبيانه، أفقر ما كان إلى جنته، فجاءها الإعصار فأحرقها، وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله، إذا انقطعت عنه الدنيا
(2)
.
وتوضيح هذا المثل: أتحب أيها المنفق لغير الله أن تكون لك جنة فيها
(1)
تفسير ابن كثير: 319/ 1
(2)
تفسير الكشاف: 299/ 1