الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثبت على إيمانه {وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} كالنصارى بعد المسيح واليهود بعد موسى، والكفر: ضد الإيمان، وهو أيضا جحود النعمة، وهو ضد الشكر {وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ} من توفيق من شاء وخذلان من شاء.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصة طالوت وجالوت وداود، وأعقبها بقوله:
{تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ليقيم الدليل بمعرفة تلك القصص على أن محمدا صلى الله عليه وسلم من المرسلين الذين أوحي إليهم الوحي المبين لأحوال الماضين.
ذكر تعالى هنا أن الرسل درجات، ميّز الله بعضهم على بعض، بمزايا ومناقب ليست لغيره، وأن أحوال الناس عموما في اتباع الرسل: إما مؤمنون وإما كفار، وإما مسالمون وإما متقاتلون، لحكمة ربانية مردها إلى قضاء الله وقدره.
التفسير والبيان:
هؤلاء الرسل المشار إليهم في الآية السابقة: {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} على مراتب في الكمال، وقد فضل الله بعضهم على بعض بتخصيصه بمآثر أو خصائص أو مفاخر جليلة ليست لغيره، مع استوائهم جميعا في اختيارهم لتبليغ الرسالة الإلهية وهداية الناس إلى سعادة الدنيا والآخرة.
وجاءت عبارة التفضيل في آية أخرى هي: {وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ، وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً} [الإسراء 55/ 17] وهنا: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ} .
من هؤلاء الرسل: من فضله الله بأنه كلمه مشافهة من غير واسطة وهو موسى عليه السلام: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً} [النساء 164/ 4]، {وَلَمّا جاءَ
مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف 143/ 7]، فسمي «كليم الله» .
ومنهم من رفعه الله على غيره درجات ومراتب في الفضل والشرف، والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم، كما رواه الطبري عن مجاهد، ويؤيده السياق أيضا.
وتفضيله بأوجه ذكرناها، وبأوجه أخرى منها رؤيته الأنبياء في السموات ليلة الإسراء والمعراج بحسب تفاوت منازلهم عند الله عز وجل، ومنها سمو أخلاقه الشريفة، كما قال تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم 4/ 68]، ومنها تأييده بالقرآن الخالد إلى يوم القيامة كما قال تعالى:{إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ} [الحجر 9/ 15] وقال في فضل القرآن: {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء 9/ 17] ومنها تفضيل أمته: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ، تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران 110/ 3] وجعل أمته وسطا بين الأمم عدولا وشهداء على الأمم:
{وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النّاسِ} [البقرة 143/ 2].
ولو لم يؤت من المعجزات والخصائص إلا القرآن وحده، لكفى به فضلا على سائر الأنبياء، لأنه المعجزة الباقية أبد الدهر،
روى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» .
وروى مسلم والترمذي عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «فضّلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون» .
وآتى الله عيسى بن مريم عليه السلام البينات: وهي الآيات الواضحات التي يتبين بها الحق من الباطل، كتكليمه في المهد، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه
والأبرص بإذن الله ومشيئته، وتأييده بروح القدس: جبريل عليه السلام، ردا على اليهود الذين أنكروا نبوته والطعن به، وحفظا له من أذاهم، وتبيانا لحقيقته أنه بشر مؤيد من عند الله بالآيات الواضحات، لا إله، كما زعمت النصارى في عيسى، فكان الناس في شأنه بين مفرّط ومفرط.
ولو شاء الله ما اقتتلت الأمم التي جاءت بعد الرسل، من بعد ما جاءهم الرسل بالبينات والمعجزات الدالة على الحق الموجبة لاتباعهم، ولو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا بأن جعلهم متفقين على اتباع الرسل وقبول الحق من ربهم، وإنما ترك لهم حرية التفكير والنظر والإدراك بالعقل الذي أودعه فيهم، ليختاروا طريق الخير والسعادة بأنفسهم، ولكنهم لم يفكروا تفكيرا سليما واختلفوا اختلافا بينا كبيرا في قبول الدين، فمنهم من آمن بما جاء به الرسل، ومنهم من كفر برسالاتهم، وقد اختلف اليهود في دينهم واقتتلوا، وكذلك النصارى اختلفوا وانقسموا، وتعددت الفرق والانقسامات في كل من اليهودية والنصرانية، واتهم كل فريق الآخر بالخروج عن أصل الدين، ووجد هذا الاختلاف أيضا بين المسلمين، حيث عصفت بهم الأهواء، وفرقتهم المصالح، واحتدم القتال فيما بينهم.
ولو شاء الله-بالرغم من اختلاف ميولهم ونزعاتهم وأهوائهم-ما اقتتلوا على ما يختلفون فيه، ولكن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وكل ذلك من قضاء الله وقدره، فصارت ردود الفعل متفاوتة، إما بخصومة الكلام والطعن والنقد والسب، وإما بالاحتكام إلى حد السيف وإراقة الدماء. وقد كرر تعالى قوله:
{وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا} للتأكيد.
والله قادر على كل شيء، فإن أراد التوفيق لبعض عباده آمن به وأطاعه، وإن أراد الخذلان لبعض آخر كفر به وعصاه، فالخذلان والعصمة من فعل الله وإرادته.