الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قصته مع قومه، حيث دعاهم للإيمان، فآمن به بعضهم، وأعرض الآخرون، وما لقيه منهم من إيذاء وعزم على قتله، وإنجائه منهم برفعه إليه، وإنذار الكافرين بالعذاب الشديد، ومجازاة المؤمنين الذين عملوا الصالحات. وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وبيان أن الأدلة وحدها لا تؤدي إلى الإيمان، وإنما لا بد من هداية الله وتوفيقه.
التفسير والبيان:
لما شعر عيسى من قومه بني إسرائيل بالتصميم على الكفر، والاستمرار على الضلال، وتحقق من ذلك، أراد التعرف صراحة عن المؤمنين بدعوته، فقال:
من يتبعني إلى الله، ومن ينصرني ملتجئا إلى الله؟ والظاهر أنه يريد: من أنصاري في الدعوة إلى الله،
كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مراسم الحج قبل أن يهاجر: «من رجل يؤويني حتى أبلّغ كلام ربي، فإن قريشا قد منعوني أن أبلّغ كلام ربي؟» فوجد الأنصار، فآووه ونصروه وهاجر إليهم، فواسوه ومنعوه من الأعداء.
وهكذا عيسى انتدب طائفة من بني إسرائيل لنصرته، فآمنوا به وآزروه ونصروه، كما جاء في آية أخرى: «{كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ؟} [الصف 14/ 61].
قال الحواريون أي الأنصار: نحن أنصار دين الله وجنوده المخلصون المؤيدون دعوتك، آمنا بوجود الله وبوحدانيته إيمانا صادقا، واشهد بأنا مسلمون، أي خاضعون منقادون لأوامره، وجوهر الإسلام متفق عليه بين كل الأديان.
ثم تضرعوا إلى الله قائلين: ربنا آمنا وصدقنا بما أنزلت في كتابك واتبعنا الرسول عيسى ابن مريم، فاكتبنا مع الشاهدين الذين يشهدون لأنبيائك
بالصدق. وذكر الاتباع في قولهم دليل على صحة الإيمان، لأن الإيمان يقتضي العمل.
ثم أخبر الله تعالى عن مؤامرة جماعة من بني إسرائيل على قتل عيسى، فوشوا به إلى ملك ذلك الزمان، وكان كافرا: أن هنا رجلا يضل الناس، ويصدهم عن طاعة الملك، ويفسد الرعايا، ويفرق بين الأب وابنه، وهذا هو مكرهم بتوكيل من يقتله غيلة، فأبطل الله مكرهم وأفسد تدابيرهم، إذ بعث الملك في طلبه لأخذه وصلبه والتنكيل به، فلما أحاطوا بمنزله، وظنوا أنهم قد ظفروا به، بإلقاء شبهه على رجل ممن كان عنده في المنزل، نجّاه الله تعالى من بينهم، ورفعه إلى السماء.
والله خير المدبرين، وأنفذهم خطة، وأحكمهم وأقواهم صنعا، وأقدرهم على إضرارهم، وإتمام حكمته، وإنفاذ مشيئته، وتركهم في ضلالهم يعمهون:
يعتقدون أنهم قد ظفروا بمطلبهم، وحققوا مأربهم.
وقال أبو حيان: معناه: أي المجازين أهل الخير بالفضل وأهل الجور بالعدل؛ لأنه فاعل حق في ذلك، والماكر من البشر فاعل باطل في الأغلب
(1)
.
ثم ذكر الله رفع عيسى إلى السماء مخاطبا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وقائلا: اذكر يا محمد حين قال الله لعيسى: إني موفيك أجلك كاملا، ورافعك إلي، وهذه بشارة له بنجاته من كيدهم وتدبيرهم.
وللمفسرين رأيان في تأويل هذه الآية:
1 -
إن في الآية تقديما وتأخيرا: والتقدير: إني رافعك إلي ومطهرك من
(1)
البحر المحيط: 472/ 2
الذين كفروا ومتوفيك بعد أن تنزل من السماء، أي أنه رفعه إلى السماء حيا بجسمه وروحه، وسينزل في آخر الزمان، فيحكم بشريعة الإسلام، ثم يميته الله. وهذا ما دلت عليه الأحاديث النبوية الصحيحة،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن عيسى لم يمت، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة» .
2 -
التوفي: الإماتة العادية، والرفع: رفع الروح والمكانة، لا المكان، كما قال تعالى في شأن إدريس عليه السلام:{وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا} [مريم 57/ 19] وقال في شأن المؤمنين: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر 55/ 54] ويكون المعنى: إني مميتك وجاعلك بعد الموت في مكان علي رفيع.
ويؤيد التأويل الأول أكثر العلماء، وقال بعضهم وهو الربيع بن أنس:
المراد بالوفاة هاهنا: النوم، كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفّاكُمْ بِاللَّيْلِ} [الأنعام 60/ 6] وقال: {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها} [الزمر 42/ 39]
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا قام من النوم: «الحمد لله الذي أحيانا، بعد ما أماتنا» . وقال القرطبي: والصحيح أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم، وهو اختيار الطبري، وهو الصحيح عن ابن عباس.
وذكر الله تعالى قصة صلب عيسى ورفعه في آيات أخرى هي: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً. وَقَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ، وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ، وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ، ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ، وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً. بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ، وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} [النساء 156/ 4 - 159]. والضمير في قوله {قَبْلَ مَوْتِهِ} عائد على عيسى عليه السلام، أي: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن
بعيسى، وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة، فحينئذ يؤمن به أهل الكتاب كلهم؛ لأنه يضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام.
ثم أبان الله تعالى بعض وجوه أخرى من إكرام عيسى عليه السلام، فقال:
وجاعل الذين آمنوا بأنه عبد الله ورسوله، وصدقوه في قوله، واتبعوا دينه فوق الذين كفروا أي أعلى منهم، وهي إما فوقية روحانية: وهي فضلهم عليهم في حسن الأخلاق، وكمال الآداب، والقرب من الحق، والبعد عن الباطل، وإما فوقية دنيوية وهي كونهم أصحاب السيادة عليهم، وليس ذلك أمرا مطردا دائما في كل وقت، مما يرجح كون الفوقية روحانية ومعنوية وأدبية.
هذه الفوقية في صحة العقيدة وسمو الآداب والأخلاق وقوة الحجة وعلو القدر تدوم لأهل الإيمان إلى يوم القيامة.
ثم مصيركم جميعا إلى يوم البعث، فأحكم بينكم فيما اختلفتم فيه من أمور الدين.
ثم بيّن الله جزاء المحق والمبطل: فأما الذين كفروا بعيسى وكذبوه وهم اليهود فلهم عذاب في الدنيا بذنوبهم بالإذلال والقتل والأسر وتسليط الأمم عليهم، وعذاب في الآخرة بنار جهنم، وما لهم في الآخرة من نصير ولا معين.
وأما الذين آمنوا بعيسى وصدقوا بنبوته وبما جاء به من عند الله، وعملوا صالحا بتنفيذ الأوامر وترك النواهي، فيعطيهم الله أجورهم كاملة غير منقوصة.
ثم أكد تعالى جزاء الكافرين فقال: والله لا يحب الظالمين أي يعاقبهم ويجازيهم بما يستحقون، أو لا يريد ظلم الظالمين.
هذه الأخبار عن عيسى نتلوها عليك يا محمد، وهي من الأدلة الواضحة الدالة على صدق نبوتك، وهي من القرآن الحكيم الذي يبين وجوه العبرة والحكمة