الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحيي بن أخطب: حرّفوا التّوراة، وبدّلوا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا الرّشوة على ذلك
(1)
.
قال الحافظ ابن حجر: والآية محتملة، لكن العمدة في ذلك ما ثبت في الصحيح.
المناسبة:
تتابع الآيات في تبيان أوصاف أهل الكتاب، فمنهم الأمين، ومنهم الخائن، ومنهم المستحل أموال غير اليهود بالباطل بتأويلات واهية، لذا فإن القرآن يحذر المؤمنين من الاغترار بهم.
التفسير والبيان:
لقد أنصف القرآن في وصف أهل الكتاب، فمنهم طائفة تؤتمن على الأموال القليلة والكثيرة، والودائع أو الأمانات، مثل عبد الله بن سلام استودعه رجل من قريش ألفا ومائتي أوقية ذهبا، فأدّاها إليه، ومثل السموءل بن عاديا اليهودي المشهور بالوفاء.
ومنهم طائفة أخرى تخون الأمانة، وإن كانت قليلة، ويتعذر استردادها منهم إلا بمتابعة المطالبة والتحصيل، أو باللجوء إلى التقاضي والمحاكمة وإقامة البيّنة عليهم، مثل كعب بن الأشرف أو فنحاص بن عازوراء، استودعه رجل قرشي دينارا، فجحده وخانه.
والذي حمل هذه الطائفة من اليهود على الخيانة: زعمهم أن التوراة تبيح لهم أكل أموال الأميين وهم العرب، قائلين: إنه لا تبعة ولا إثم عليهم في أكل أموال العرب بل وكل ما عدا اليهود، إذ هم شعب الله المختار، فلهم السمو والتفوق
(1)
البحر المحيط: 501/ 2
العنصري على غيرهم، وأما من سواهم فلا حرمة له عند الله، فهو مبغوض عنده، محتقر لديه، ولا حق له ولا حرمة، روي أن بني إسرائيل كانوا يعتقدون استحلال أموال العرب لكونهم أهل أوثان، فلما جاء الإسلام، وأسلم من أسلم من العرب، بقي اليهود فيهم على ذلك المعتقد، فنزلت الآية مانعة من ذلك
(1)
.
وهذا أمر مرفوض في شرعة الله التي لا تفرق في أداء الحقوق بين المؤمن والكافر، ولكنهم اليهود الذين يحرّفون الكلم عن مواضعه، ويتأوّلون النصوص على وفق أهوائهم. ومن أمثلة ذلك أيضا: ما رواه ابن جرير الطبري: أن جماعة من المسلمين باعوا لليهود بعض سلع لهم في الجاهلية، فلما أسلموا تقاضوهم الثمن، فقالوا: ليس علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا؛ لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه، وادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم.
فليحذر أتباع شرع مثل فعل اليهود، روى عبد الرزاق وأبو إسحاق أنّ رجلا سأل ابن عباس فقال: إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة: الدجاجة والشاة، قال ابن عباس: فماذا تقولون؟ قال: نقول: ليس علينا بذلك بأس، قال: هذا كما قال أهل الكتاب: {لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} إنهم إذا أدّوا الجزية، لم تحلّ لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم.
وروى ابن أبي حاتم وابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: لما قال أهل الكتاب: ليس علينا في الأميين سبيل، قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم:«كذب أعداء الله، ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين، إلا الأمانة، فإنها مؤداة إلى البرّ والفاجر» هذا ردّ عليهم.
وردّ الله عليهم أيضا بأنهم يكذبون على الله بادعائهم أن ذلك في كتابهم، وهم يعلمون كذبهم الصريح فيه؛ لأن التوراة خالية من هذا الحكم الجائر وهو خيانة الأميين.
(1)
البحر المحيط: 500/ 2
بل إن حكم التوراة عكس ذلك، فإنها توجب الوفاء بالعقود، وتأمر بوفاء الأمانات، وقال الله لهم: بلى عليهم في الأميين سبيل العذاب بكذبهم، واستحلالهم أموال العرب، فمن اقترض إلى أجل، أو باع بثمن مؤجل، أو اؤتمن على شيء مثلا، وجب عليه الوفاء به، وأداء الحق لصاحبه في حينه، دون حاجة إلى إلحاح في الطلب أو تقاض، وهكذا فإن كل من أوفى بما عاهد عليه، واتقى الله في ترك الخيانة والغدر، فإن الله يحبه ويرضى عنه؛ لأن الله عهد إلى الناس في كتبه أن يلتزموا الصدق والوفاء بالعهود والعقود.
وليس العهد مقصورا على الوفاء بالعقود والالتزامات وأداء الأمانات وإنما يشمل أيضا عهد الله تعالى: وهو الوفاء بما التزم به المؤمن من تكاليف وأوامر وواجبات شرعية. ولو وفي اليهود بعهودهم لآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولو أنصفوا لما فرقوا في وفاء العهد بين اليهودي وغيره.
ثم بيّن الله تعالى جزاء الذين يخونون العهد، ويكتمون ما أنزل الله، ويبدلون بالحق الباطل، ويستبدلون بكلام الله وأوامره عوضا حقيرا، وثمنا قليلا: وهو متاع الدنيا من الترؤس والارتشاء ونحو ذلك، ذلك الجزاء هو خسارة نعيم الآخرة، واستحقاق غضب الله وسخطه، وعدم الثناء عليهم، وانعدام الإحسان إليهم والرحمة بهم، والاستهانة بأحوالهم وأوضاعهم، ولهم عذاب مؤلم شديد في نار جهنم.
وقد عبر الله تعالى عن كل ذلك بطريق المجاز، فجعل نكث العهد وأخذ شيء مقابله بمثابة الشراء والمعاوضة، ولكنها صفقة خاسرة؛ لأن المقابل أو الثمن مهما كان كثيرا، فهو في الواقع قليل إذا قيس بعظم الجرم والذنب وشدة العقاب الذي يلقاه في الآخرة.