الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناسبة:
أثبتت الآيات السابقة أمر البعث، وأن الناس يبعثون إلى دار يوفون فيها أجورهم بغير حساب، وذكر هنا فضيلة الإنفاق في سبيل الله، وسبل الله كثيرة، مثل نشر العلم ومحاولة القضاء على الجهل والفقر والمرض، وأعظمها الجهاد لتكون كلمة الله (أي دين الإسلام) هي العليا، فمن جاهد بعد هذا البرهان على البعث الذي لا يأتي به إلا نبيّ، فله في جهاده الثواب العظيم.
وقد رغّب القرآن الكريم في مواضع عديدة بالإنفاق؛ لأنه وسيلة إغناء وتحقيق رفاه للجميع، وواسطة متعيّنة لصون عزّة الأمة وكرامتها ودحر عدوان المعتدين عليها، فما بخلت أمة بمالها إلا حاق بها الذّل والاستعباد، وتكالبت عليها الأمم،
روى البستي في صحيح مسنده عن ابن عمر قال: لما نزلت هذه الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ربّ زد أمتي» فنزلت: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً، فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ربّ زد أمتي» فنزلت: {إِنَّما يُوَفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ} .
التفسير والبيان:
هذا مثل ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فأبان تعالى أن صفة نفقات المنفقين أموالهم في طاعة الله تعالى وابتغاء رضوانه وحسن مثوبته كنشر العلم والجهاد وإعداد السلاح والحج والدفاع عن الوطن والأهل، كصفة حبة زرعت في أرض خصبة، فأنبتت سبع سنابل، في كلّ سنبلة مائة حبة، وقد ثبت لدى متخصصي الزراعة أن الحبة الواحدة من قمح أو أرز أو ذرة مثلا لا تنبت سنبلة واحدة، بل أكثر، قد تصل إلى أربعين أو ست وخمسين أو سبعين، وأن السنبلة قد تشتمل على أكثر من مائة حبة، وقد أنبتت فعلا مائة
وسبع حبات. وهذا تصوير لمضاعفة ثواب المنفق.
{وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ} أي بحسب إخلاصه في عمله، فيزيده أكثر من ذلك، والله تعالى لا ينحصر فضله، ولا يحدّ عطاؤه، ففضله واسع كثير، أكثر من خلقه، عليم بمن يستحق هذه المضاعفة ممن لا يستحقها.
وهذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة؛ لأن التحديد والتعداد يظل فيه قصور، وأما عدم التحديد بحدّ فيشير إلى احتمال النمو والبركة والزيادة. وفيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عز وجل لأصحابها، كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة، وقد وردت السّنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف.
روى ابن ماجه وابن أبي حاتم الحديث الأول عن علي وأبي الدّرداء، والثاني عن عمران بن حصين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من أرسل بنفقة في سبيل الله، وأقام في بيته، فله بكل درهم سبعمائة درهم يوم القيامة، ومن غزا في سبيل الله، وأنفق في جهة ذلك، فله بكل درهم سبعمائة درهم» ، ثم تلا هذه الآية:{وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ} .
وروى الإمام أحمد عن أبي عبيدة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«من أنفق نفقة في سبيل الله، فسبع مائة، ومن أنفق على نفسه وأهله، أو عاد مريضا أو ماز أذى، فالحسنة بعشر أمثالها، والصوم جنّة ما لم يخرقها، ومن ابتلاه الله عز وجل ببلاء في جسده، فهو له حطة» وروى النسائي بعضه في الصوم.
ومن شروط الإنفاق وآدابه لاستحقاق هذا الثواب في الآخرة: ألا يتبعوا ما أنفقوا أو بذلوا منّا على الفقير بأن يحاسبه على ما أعطاه ويظهر تفضّله عليه، ولا أذى أو ضررا بأن يتطاول عليه ويطلب جزاء عمله. فهؤلاء الباذلون الذين
لا يمتنون ولا يؤذون من أحسنوا إليهم لهم ثواب كامل لا يقدر قدره، ولا خوف عليهم حين يخاف الناس، ولا هم يحزنون حين يحزن الناس البخلاء الذين لا ينفقون شيئا في سبيل الله، فيندمون، كما قال تعالى:{وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ، فَيَقُولَ: رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ، فَأَصَّدَّقَ، وَأَكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ} [المنافقون 10/ 63].
والكلام الحسن، والرّد الجميل على السائل وعدم الصدقة، وستر ما يقع منه من إلحاف في السؤال وغيره، خير للسائل والمسؤول من صدقة يتبعها أذى وضرر؛ إذ الصدقة شرعت للأخذ بيد الضعيف، وتخفيف حدّة الحسد والحقد على الأغنياء، ولتحصين مال الغني من السرقة والنهب والضياع؛ والمنّ والأذى يخرجها عن هذه الغاية السامية التي شرعت لها، والله غني عن صدقة عباده، فيستطيع أن يرزق الجميع، حليم لا يعجل بعقوبة المسيء، كمن يمنّ أو يؤذي، ولكنها الحكمة البالغة التي مدارها الابتلاء والاختبار، ومعرفة من يجاهد نفسه الشحيحة، فيحملها على البذل وتنفيذ التكاليف الإلهية عن رضا وطيب خاطر، وقد شرع الله الصدقة سبيلا لكسب المودّة، وجلب المحبّة، وتأكيد الصلة والتعاطف والتعاون بين الجميع.
ومن أجل استئصال طبيعة المنّ والأذى في نفوس الناس، أكّد سبحانه ما أخبر به من صفات المستحقين للثواب العظيم وهو عدم إتباع صدقاتهم بالمنّ والأذى، وأن الأذى من شوائب الصدقة المكروه الذي يسقط الأجر والثواب، أكّد ذلك بخطاب المؤمنين بصفة الإيمان التي تدعو إلى التقيّد بالأمر الإلهي، فنهاهم وحرم عليهم المنّ والأذى؛ لأن صفاء الصدقة وجعلها خالصة لله أدعى لقبولها واستحقاق ثوابها.
ولأن من يتبع صدقته بمنّ أو أذى يشبه حال من ينفق ماله رياء وسمعة، لأجل أن يحمده الناس، وليقال عنه: إنه كريم جواد، ونحو ذلك من مقاصد