الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدّنيا الفانية، لا لابتغاء رضوان الله، وترقية شؤون الأمة، وهذا المرائي في الواقع لا يؤمن بالله واليوم الآخر إيمانا صحيحا، حتى يرجو ثوابا أو يخشى عقابا، ومثله الذي يمنّ ويؤذي السائل.
وصفة عمل كل من المرائي والذي يمنّ ويؤذي كصفة تراب على حجر أملس، نزل عليه مطر شديد، فأزال التراب وترك الحجر أملس لا شيء عليه، أي أنه لا ثمرة ولا بقاء لعمله، وإنما يضمحل ويتبدد بالظواهر الطارئة، ويبقى فارغا لا أثر لعمله، ولا ينتفع بشيء مما فعل لا في الدّنيا ولا في الآخرة، أما في الدّنيا فلأنّ المنّان بغيض إلى الناس، والمرائي مذموم منبوذ لدى المجتمع، وأما في الآخرة فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا له وابتغي به وجهه، والرّياء ومثله المنّ والأذى ينافي الإخلاص، وهو نوع من الشرك بالله إذ هو الشرك الخفي؛ فإن صاحبه يقصد به غير الله.
والله لا يهدي القوم الكافرين لما فيه خيرهم ورشادهم ما داموا على الكفر، أو لا يهديهم في أعمالهم وهم على الكفر
(1)
، وأما الإيمان فهو الذي يهدي صاحبه إلى الإخلاص والخير وابتغاء وجه الله، والتأدّب بالإنفاق بما أدّب الله به أهل الإيمان. وهذا يشير إلى أنّ كلاّ من الرياء والمنّ من صفات الكافرين لا من صفات المؤمنين.
فقه الحياة أو الأحكام:
1 -
تضمنت الآية بيان مثال لشرف النفقة في سبيل الله، والتحريض والحثّ على الإنفاق في سبيل الله، إما عن طريق حذف مضاف تقديره: مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة، وإما بطريق آخر: مثل الذين
(1)
البحر المحيط: 310/ 2
ينفقون أموالهم كمثل زارع زرع في الأرض حبة، فأنبتت الحبة سبع سنابل، فشبه المتصدّق بالزارع، وشبّه الصدقة بالبذر، فيعطيه الله بكل صدقة له سبعمائة حسنة.
2 -
وهي تشمل الإنفاق المندوب إليه، والواجب أيضا؛ لأن سبل الله كثيرة، ولا حاجة للقول: بأنها نزلت قبل آية الزكاة، ثم نسخت بآية الزكاة؛ لأن الإنفاق في سبيل الله مندوب إليه في كلّ وقت.
3 -
وقد ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشر أمثالها، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد حسنتها بسبعمائة ضعف، ثم دلّ قوله تعالى:{وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ} على أنه تعالى يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف، بدليل حديث ابن عمر المتقدم في مناسبة الآية.
4 -
وفي هذه الآية دليل على أن اتّخاذ الزرع من أعلى الحرف التي يتّخذها الناس، والمكاسب التي يشتغل بها العمال، ولذلك ضرب الله به المثل، فقال:
{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ} . و
في صحيح مسلم عن النّبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له صدقة» ، و
أخرج الترمذي عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«التمسوا الرزق في خبايا الأرض» يعني الزرع. والزراعة من فروض الكفاية، فيجب على الإمام أن يجبر الناس عليها، وغرس الأشجار في معناها.
5 -
الإنفاق في سبيل الله دون منّ ولا أذى سبب لرضوان الله، كما رضي الله ورسوله عن عثمان الذي جهز جيش العسرة، وجاء بألف دينار ووضعها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال: «ما ضرّ ابن عفان ما عمل بعد اليوم، اللهم لا تنس هذا اليوم لعثمان» .
وهذا الرضا الإلهي والثواب العظيم إنما هو لمن لا يتبع إنفاقه منّا ولا أذى؛
لأن المنّ والأذى مبطلان لثواب الصدقة، كما أخبر تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى.} . وإنما على المرء أن يريد وجه الله تعالى وثوابه بإنفاقه على المنفق عليه، ولا يرجو منه شيئا، قال تعالى:{إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ، لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان 9/ 76]. ومن طلب بعطائه الجزاء والشكر والثناء، كان صاحب سمعة ورياء. قال ابن عباس: في قوله تعالى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر 6/ 74]، أي لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها.
6 -
المنّ من الكبائر، والمنّ: ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها، مثل أن يقول: قد أحسنت إليك، ونعشتك ونحوه، وقال بعضهم: المنّ:
التحدّث بما أعطى حتى يبلغ ذلك المعطى فيؤذيه. ودليل كونه من الكبائر:
ما ثبت في صحيح مسلم وغيره، وأنه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم.
وروى النسائي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجّلة تتشبه بالرجال، والدّيوث. وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاقّ لوالديه، والمدمن الخمر، والمنّان بما أعطى»
(1)
.
والأذى: السب والتشكي، وهو أعم من المنّ؛ لأن المنّ جزء من الأذى، لكنه نص عليه لكثرة وقوعه.
والمن والأذى هادم للفائدة المقصودة من الصدقة ومبطل لها: وهو تخفيف بؤس المحتاجين ودفع غائلة الفقر عنهم.
7 -
جعل الله تعالى ثواب النفقة في سبيله أمورا ثلاثة: ضمن الله له الأجر،
(1)
وروى القسم الأخير أيضا ابن مردويه وابن حبان والحاكم في مستدركه.
والأجر الجنة، ونفى عنه الخوف بعد موته في المستقبل، وأذهب عنه الحزن أو الألم على ما سلف في الدنيا؛ لأنه يغتبط بآخرته، فقال:{لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} وفيها دلالة لمن فضّل الغنى على الفقر.
8 -
القول المعروف خير من صدقة الأذى، والقول المعروف: هو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله. وهذا فيه أجر، ولا أجر فيها،
قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم: «الكلمة الطيبة صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق» أي يتلقى السائل بالبشر والترحيب، ويقابله بالطلاقة والتقريب، ليكون مشكورا إن أعطى، ومعذورا إن منع، وهو نظير قوله تعالى:{وَإِمّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها، فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً} [الإسراء 28/ 17].
وأيضا الفعل المؤدي إلى المغفرة خير من صدقة يتبعها أذى. والمغفرة: ستر سوء حالة المحتاج، أو التجاوز عن السائل إذا ألحّ وأغلظ وجفا.
ودلت آية {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ} على مبدأ مهم عام في الشريعة وهو «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» .
9 -
لا تقبل الصدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمنّ أو يؤذي بها، وعبر الله تعالى عن عدم القبول وحرمان الثواب بالإبطال. والمراد إبطال الصدقة المصحوبة بالمن أو الأذى، لا غيرها، فالمن والأذى في صدقة لا يبطل صدقة غيرها، وإنما يقتصر الأمر على حرمان المرائي والمنان من الانتفاع بصدقته المشتملة على الرياء أو المن.
ودل قوله تعالى: {وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} على تسلية الفقراء، وتعليق قلوبهم بحبل الرجاء بالله الغني الحليم، وتهديد الأغنياء وإنذارهم بأن لا يغتروا بحلم الله وإمهاله إياهم.
10 -
كره الإمام مالك لهذه الآية: {لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ} أن يعطي الرجل صدقته الواجبة أقاربه، لئلا يعتاض منهم الحمد والثناء، ويظهر منّته عليهم، ويكافئوه عليها، فلا تخلص لوجه الله تعالى. واستحب أن يعطيها الأجانب، وأن يولّي غيره تفريقها إذا لم يكن الإمام عدلا، لئلا تحبط بالمن والأذى والشكر والثناء والمكافأة بالخدمة من المعطى.
وهذا بخلاف صدقة التطوع السرّية؛ لأن ثوابها إذا حبط سلم من الوعيد، وصار في حكم من لم يفعل، والواجب إذا حبط ثوابه توجه الوعيد عليه، لكونه في حكم من لم يفعل.
11 -
صاحب المن والأذى مثل المرائي المنافق، عمل كل منهما باطل لا فائدة فيه، ولا فضل له، ولا دوام لأثره. وإنما ينمحي بسرعة، كما تعصف الرياح بالغبار الموجود على الحجارة أو الصخور الصلبة الملساء، وتعد أفعال المرائي الواجبة أو الخيرية من صلاة وصيام وتطوع كلها باطلة، لا تجاه قلبه إلى من يرائيه، لا إلى الله الصمد الذي يستحق العبادة دون سواه.
ويوصف كل من المرائي والمنّان أيضا بأنه لا يؤمن حقا بالله ولا باليوم الآخر؛ لأن قصده من فعله مدح الناس له، أو شهرته بالصفات الجميلة ليشكره الناس أو ليقال: إنه كريم ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية.
ولا يقدر المرائي الكافر والمانّ على الانتفاع بثواب شيء من إنفاقهم وهو كسبهم، عند حاجتهم إليه؛ إذ كان لغير الله، فعبّر عن النفقة بالكسب؛ لأنهم قصدوا بها الكسب. وفي قوله تعالى:{لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمّا كَسَبُوا} تعريض بأن كلا من الرياء والمن والأذى من صفات الكافرين، لا المؤمنين، فلا ينبغي للمؤمنين الاتصاف بها، وعليهم تجنبها؛ لأن الإخلاص لله هو من صفات الإيمان، قال تعالى:{وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة 5/ 98].