الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- (القسم الثاني: تتمة مقالاته رحمه الله تعالى) -
هذه النقطة .. وقضية التصحيف والتحريف
(1)
كتب الأستاذ سامح كريم بصفحة الأهرام الأدبي 1/ 8/1995 كلمة أشار فيها إلى ذلك الخطأ الذي جاء في امتحان اللغة العربية (سؤال البلاغة) للثانوية العامة هذا العام، حيث جاء بيت أحمد شوقي:
ولم أخل من وجد عليك ورقة
…
إذا حل عيد أو ترحل عيد
بالعين المهملة في الكلمتين، والصواب «غيد» بالغين المعجمة.
وفي ظني وتقريري أن الذي أوقع في هذا الخطأ هو مجيء الفعل «حل» خالياً من تاء التأنيث، فظن واضع السؤال أن الكلمة لو كانت «غيد» بالغين المعجمة، للحقت التاء الفعل، فكان يكون «حلت» ، لأن «الغيد» جمع «غيداء» وهي المرأة المتثنية من اللين، ومن ذلك: الغادة، وهي الفتاة الناعمة، ولو قال الشاعر «حلت» لاختل الوزن. وقد نسي واضع السؤال أو مراجعه أن الفاعل إذا كان مجازي التأنيث، جاز ترك تأنيث فعله.
ومهما يكن من أمر، فهذه النقطة التي سقطت من فوق الغين لها تاريخ في تراثنا الأدبي قديماً وحديثاً.
روي أن سليمان بن عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي كان غيوراً، فقيل له: إن المخبثين قد أفسدوا النساء النساء بالمدينة، فكتب إلى أبي بكر بن عمرو بن حزم
(1) مجلة «الهلال» ، سبتمبر 1995 م.
وإلى المدينة «أن أحص من قبلك من المخنثين» يريد إحصاء بأسمائهم. فلما وصل الكتاب إلى ابن حزم صحف كاتبه فقرأ «اخص» بالخاء المنقوطة من فوق.
قال الراوي: فدعا ابن حزم بمن عرف من المخنثين - وكانوا ستة أو سبعة - فخاصهم، قال ابن جعدبة: فقلت لكاتب ابن حزم: زعموا أنه كتب إليه: أن أحصهم. لإقال: يا ابن أخي، عليها والله نقطة إن شئت أريتكها. وقال الأصمعي: عليها نقطة مثل سهيل - وهو النجم المعروف -. وروي أن أحد المخنثين قال لما اختلفوا في الحاء والخاء، لا أدري ما حاؤكم وخاؤكم، قد ذهبت خصانا بين الحاء والخاء. انظر لهذه القصة: تصحيفات المحدثين لأبي أحمد العسكري 1/ 72، وشرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف، له أيضاً ص 43، والتنبيه على حدوث التصحيف لحمزة بن الحسن الأصفهاني ص 10، وتصحيح وتحرير التحريف لصلاح الدين الصفدي ص 17، والحيوان للجاحظ 1/ 121.
ولا ينبغي التشكيك في هذه القصة، لأنها مروية بأسانيدها، ولأن هؤلاء الذين خصوا معروفون بأسمائهم، ويقال في ترجمة كل منهم:«وهو ممن خصي بالنقطة» .
انظر مع المراجع السابقة الأغاني لأبي الفرج 4/ 276 (طبعة دار الكتب المصرية).
فهذه أشهر نقطة، صنعت ما صنعت قديماً.
أما النقطة الثانية فكانت في أوائل الستينات من هذا القرن، حين كتب الدكتور لويس عوض في الأهرام، على امتداد شهري أكتوبر ونوفمبر 1964 م، سلسلة مقالات حول أبي العلاء المعري ورسالة الغفران، وجعل عنوانها:«علىهامش الغفران شيء من التاريخ» ، وفي بعض هذه المقالات أورد الدكتور لويس من شعر أبي العلاء قوله:
صليت جمرة الهجير نهاراً
…
ثم باتت تغص بالصلبان
هكذا أثبت الدكتور قافية البيت «الصلبان» بباء منقوطة بنقطة واحدة، على أنها جمع «صليب» ، وكتب تحت البيت «سقط الزند في وصف حلب» ، وساق الكلام كله في بيان غلبة نصارى الروم على أهل الإسلام.
وصحة رواية البيت كما جاء في سقط الزند 1/ 451 - وبها تمام وزنه - "الصَِّلِّيان" بالصاد المكسورة بعدها لام مشددة، مكسورة أيضاً، ثم ياء مثناة من تحت، أي بنقطتين اثنتين. وأبو العلاء يذكر في هذا البيت الإِبل، ويصف ما لاقته نهاراً في البيداء من هجير وظمأ، وما رعت ليلاً من صلِّيان، وهو نبت له جذور ضخمة في الأرض، تجتثها الإِبل بأفواهها فتأكلها من شدة حبها لها، فإذا كانت رطبة أساغتها، وإذا كانت يابسة غصَّت
بها، أي شرقت وقد فجرت هذه القضية بركان غضب عند شيخ العربية أبي فهر محمود محمد شاكر، وأدار عليها كتابه الفذ الدامغ (أباطيل وأسمار).
فهذان مثالان على البلايا التي جرَّتها النقطة، زيادة أو نقصاً.
وفي الرد الذي أرسلته وزارة التربية والتعليم ونشر في الأهرام 8/ 8/1995 اعتذار عن الخطأ في "غيد" التي كتبت "عيد"، وتسويغ له بأنه راجع إلى ظاهرة "التصحيف والتحريف"، وهذا خلط شديد ومغالطة صريحة كما ورد في تعقيب الأستاذ سامح كريم.
فهذا الذي جاء في سؤال البلاغة في امتحان الثانوية العامة، إنما يرجع إلى الغفلة وعدم المراجعة، وترك التثبت، ولا صلة له بقضية التصحيف والتحريف، لأن هذه القضية لها وجه آخر، وقد كتب فيها أهل العلم قديماً وحديثاً، ووضعت فيها مؤلفات كاملة، وأشهرها ما ذكرته في صدر هذه الكلمة في قصة خصاء المخنثين.
وأخطر ما في هذه القضية أن بعض الذين يكتبون فيها الآن يردون "التصحيف" كله إلى طبيعة الحرف العربي الذي يتشابه مع عدم النقط، وهذا غير صحيح، لأننا نجد كلمات كثيرة منقوطة نقطاً واضحاً لا لبس فيه، ومع ذلك تقرأ على غير وجهها، وهذا هو مفتاح القضية، إن كثيراً مما يتصحَّف من الكلام إنما يأتي نتيجة للغفلة، أو الجهل بتاريخ أمتنا وعلومها، وتاريخ رجالها، وكل ما أبدعته وأنتجته، ومن قبل ذلك ومن بعده عدم إعطاء الكلام حقه من التأمل والأناة، يؤكد هذا قول
أبي أحمد العسكري - وهو خال أبي هلال صاحب كتاب الصناعتين، وكتاب ديوان المعاني - يقول أبو أحمد:"فالاحتراس من التصحيف لا يُدرك إلا بعلم غزير، ورواية كثيرة، وفهم كبير، وبمعرفة مقدمات الكلام، وما يصلح ان يأتي بعدها مما يشاكلها، وما يستحيل مضامته لها ومقارنته بها، ويمتنع من وقوعه بعدها، وتمييز هذا مستصعب عسر إلا على أهله الحاملين لثقله والمستعذبين لمرارته، وقد قالت الحكماء: العلم عزيز الجانب، لا يعطيك بعضه أو تعطيه كلك، وقالوا: لا يدرك العلم براحة الجسم"، شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف
ص 1، 2.
هذا وقد عزَّف العلماء التصحيف والتحريف بتعريفات شتى، أعدلها وأقربها إلى الصواب ما قيل من أن التصحيف: هو تغيير في نقط الحروف أو حركاتها مع بقاء صورة الخط، مثل كلمة "العيب" التي يمكن أن تقرأ هكذا، وتقرأ أيضاً: الغيث - العنب - الغيب - العتب. فلو أهمل النقط في هذه الكلمة لأمكنك تحديد المراد عن طريق السياق والقرائن والفطنة، على الوجه الذي بينَّه أبو أحمد العسكري.
وأما التحريف: فهو العدول بالشيء عن جهته، قال عزَّ مِن قائل:{من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه} [النساء: 46]، وقال تقدست أسماؤه:{وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} [البقرة: 75].
والتحريف قد يكون بالزيادة في الكلام أو النقص منه، وقد يكون بتبديل بعض كلماته، وقد يكون بحمله على غير المراد منه، فهو بكل هذه التعريفات أعم من التصحيف، وبعض القدماء لا يفرق بين التصحيف والتحريف، يجعلهما مترادفين. راجع الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث لابن كثير. شرح الشيخ أحمد محمد شاكر ص 172.
والمأخذ اللغوي لمصطلح "التصحيف" يرجع إلى الأخذ عن الصحف، دون التلقي من أفواه المشايخ، لأن علومنا في الأصل قائمة على التلقي والرواية والمشافهة.