الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمود محمد شاكر
(1)
ركن باذخ من أركان الثقافة العربية الإِسلامية في العصر الحديث، وإمام ضخم من أئمة البعث والإِحياء، ورأس مدرسة الأفذاذ في تحقيق التراث ونشره. ولد محمود محمد شاكر بمدينة الإِسكندرية يوم الاثنين العاشر من شهر الله المحرم سنة 1327 هـ، الموافق أول فبراير عام 1909 م.
ووالده الشيخ محمد شاكر بن أحمد بن عبد القادر. من أسرة أبي علياء من أشراف مدينة جرجا بصعيد مصر. والشيخ محمد شاكر من أعلام العصر، ومن زعماء الإِصلاح في الَأزهر الشريف، وكان وكيلاً له، توفي سنة 1939 م.
وجدُّه لأمه الشيخ هارون بن عبد الرازق، أحد كبار علماء المذهب المالكي في مصر، توفي سنة 1918 م، وهو جد المحقق الكبير عبد السلام محمد هارون المتوفى سنة 1988 م.
وأخوه الأكبر الشيخ أحمد محمد شاكر، محدث العصر ومُسْنِده. اشتغل بالقضاء، وكانت له أحكام مشهورة، ونشر جملة من نصوص التراث، من أعلاها "الرسالة" للإِمام الشافعي، وأجزاء من "مسند أحمد بن حنبل"، ومن "سنن الترمذي"، و "المعرَّب" للجواليقي، و "لباب الآداب" لأسامة بن منقذ. توفي سنة 1958 م.
تلقى محمود محمد شاكر أول مراحل تعليمه في مدرسة الوالدة أم عباس في القاهرة سنة 1916 م.
(1) مؤسسة الفرقان للتراث، 1998 م، لندن.
حصل على شهادة البكالوريا - الثانوية العامة - القسم العلمي، فقد كان أبوه يُعدّه ليكون طبيباً، من المدرسة الخديوية سنة 1925 م.
في سنة 1926 م التحق بكلية الآداب، الجامعة المصرية، واستمر بها إلى السنة الثانية، حيث نشب الخلاف المعروف بينه وبين الدكتور طه حسين حول (قضية الشعر الجاهلي)، وقد أفضى هذا الخلاف إلى أن يترك الدراسات الجامعية كلها.
وفي سنة 1347 هـ = 1928 م سافر إلى الحجاز مهاجراً، وهناك أنشأ بناءً على طلب من الملك عبد العزيز آل سعود، مدرسة جدة السعودية الابتدائية وعمل مديراً لها، ولكنه ما لبث أن عاد إلى القاهرة في أواسط عام 1929 م، ومنذ ذلك التاريخ وهو ملازم بيته وكتبه، لم يَلِ عملاً وظيفيّاً يأكل وقته، ولم يتقلد منصباً يريد له أن ينمو ويُكْسِبه الوجاهة عند الناس.
وقد أخذ نفسه منذ طراءة الصبا وأوائل الشباب بأسلوب صارم حازم، فقرأ القرآن صبيّاً، وقرأ "لسان العرب" كله وهو طالب بالتعليم الثانوي، ثم أقبل على قراءة الشعر مبكراً، ويحفظه لاكما يحفظه الناس؟ مقطوعات للإِنشاد والتسلي والمطارحة في المجالس، وإنما الشعر عنده باب العربية كلها، وقد قاده الشعر إلى كتب العربية كلها، والمكتبة العربية عند أبي فهر كتاب واحد، والعلوم العربية عنده علم واحد، فهو يقرأ "صحيح البخاري" كما يقرا "أغاني أبي الفرج"، ويقرأ:"كتاب سيبويه"، كما يقرأ:"المواقف" لعضد الدين الإِيجي.
وهكذا خالط أبو فهر العربية منذ أيامه الأولى، وعرف مناهج الكتب، وطرائق الكتاب، في مختلف فنون العربية، وخبر مصطلحات الأقدمين وأعرافهم اللغوية، وهذا فَرْق ما بينه وبين سواه من الكتاب والنقاد، فأنت قد تجد ناقداً ذا ذوق وبصيرة، ولكن محصوله اللغوي على قدر الحاجة، وقد تصادفه يجمع بين الذوق والبصيرة واللغة، ولكن معارفه التاريخية لا تتجاوز الشائع العام الدائر على الألسنة، وقد تراه فاز من الثلاثة بأوفر الحظ والنصيب، ولكنك لن تجد عنده ما تجد عند أبي فهر من
الأُنس بالمكتبة العربية كلها في فنونها جميعها، ودوران هذه الفنون في فكره وقلبه دوران الدم في العروق.
ولقد سارت حياة محمود محمد شاكر في طريقين، استويا عنده استواء واضحًَ عدلاً: الطريق الأول: طريق العلم والمعرفة، يعب منهما ولا يروَى. والطريق الثاني: التنبه الشديد لما يُحاك لأمتنا العربية من كيد ومكر، وما يُراد لثقافتها وعلومها من غياب واضمحلال، وظل حياته كلها قائماً على حراسة العربية، والذود عنها، يحب من أجلها، ويخاصم من أجلها، وقد احتمل في حالتيه من العناء والمكابدة ما تنوء بحمله العُصبة أولو القوة.
وقد حارب أبو فهر في جهات كثيرة، وخاض معارك كثيرة: حارب الدعوة إلى العامية، وحارب الدعوة إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية، وحارب الدعوة إلى هَلْهَلة اللغة العربية والعبث بها بحجة التطور اللغوي، وحارب الخرافات والبدع والشعوذة، وقد حارب في كل ذلك وحده غير مُتَحَيزٍ إلى فئة، أو منتصر بجماعة، وهو في معاركه كلها صلبٌ عنيد فاتك، ألقى الدنيا خلف ظهره، ودَبْرَ أذنيه، فلم يعبأ بإقبالها أو إدبارها، واستوى عنده سوادها وبياضها، ولقد أقصي كثيراً عن محافل الأدب ومجالي الشهرة، فلم يزده ذلك إلا إصراراً وثباتاً، ووقف وحده في ساحة الصدق شامخ الرأس مرفوع الهامة، يرقب الزيف ويرصده ويدل عليه، ولم يجد خصومه في آخر الشوط إلا أن ينقروا الشباب عنه ويُبَغَضوه إليهم، بما أشاعوه عن حدته وبأسه وتعاليه، فنكص من نكص مسيئاً في نكوصه، وثبت من ثبت محسنا في ثباته.
ومع كل هذا الحصار الذي ضرب حول محمود محمد شاكر فقد خلص إليه طلبة العلم ومحبو المعرفة، ينهلون من هذا المنهل العذب، فكان بيته جامعة عربية ضخمة: طوائف من الناس من مختلف البلدان والأعمار والانتماءات، وسعهم ذلك البيت المفتوح دائماً، ولم يفتح لهم يوماً دون يوم، أو ساعة دون ساعة.
وقد دار إنتاج أبي فهر في ميدانين: التأليف والتحقيق، وهو في كلا الميدانين
مشغول بقضية أمته العربية، وما يراد لها من كيد، في عقيدتها ولغتها وشعرها وتراثها كله. وقد أبان عن هذه القضية بياناً شافياً في كتابيه "أباطيل وأسمار"، و "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا"، ثم نثرها فيما دق وجل من كتاباته، وما برح يعتادها في مجالسه ومحاوراته، يهمس بها حيناً، ويصرخ بها أحياناً، لا تفرحه موافقة الموافق، ولا تحزنه مخالفة المخالف، ولقد قام أمره كله على المكاشفة والمصارحة، فيما بينه وبين نفسه، وفيما بينه وبين الناس، ومنذ أن ظهرت أمامه غواشي الفتن التي أحدقت بأمته العربية، فتح عينيه وأرهف سمعه، ثم شد مئزره وأيقظ حواسه كلها، وشحذ قلمه، يرصد ويحلل ويستنتج، ثم قال في كتابه الماتع أباطيل وأسمار:"فصار حقّا عليَّ واجباً ألَاّ أتلجلج أو أحجم أو أجمجم أو أداري".
ومن أبرز النصوص التراثية العالية التي نشرها أبو فهر: طبقات فحول الشعراء لابن سلام، وتفسير أبي جعفر الطبري (16) جزءاً، إلى أثناء تفسير سورة إبراهيم عليه السلام، وتهذيب الآثار لأبي جعفر الطبري (6) أجزاء، ودلائل الإِعجاز، وأسرار البلاغة، كلاهما للشيخ عبد القاهر الجرجاني.
ومما يُستطرف ذكره هنا أن أول كتاب تراثي وضع فيه أبو فهر يده بالتصحيح هو كتاب: "أدب الكاتب" لابن قتيبة، الذي أخرجه الشيخ محب الدِّين الخطيب عام 1346 هـ = 1927 م، أي منذ (70) عاماً، وكان عمره إذ ذاك (18) عاماً، وقد شاركه تصحيح صفحات من الكتاب ابن خاله الأستاذ عبد السلام هارون رحمه الله.
وفي كل تلك الأصول التراثية التي أخرجها أبو فهر يظهر علمه الغزير الواسع الذي لا يدانيه فيه احد من أهل زماننا؟ لأنه علم موصول بعلم الأوائل، منتزع منه ودال عليه ومكمل له. وكان عمله في نشر هذه النصوص التراثية جزءاً من جهاده في حراسة العربية والذود عنها، سواء فيما نشره هو، أم فيما حث الناس على نشره وأعانهم عليه.
وللأستاذ محمود محمد شاكر من الذرية اثنان: فهر المولود سنة 1965 م. وهو الآن دكتور مدرس بقسم اللغة العربية بكلية الآداب - جامعة القاهرة، وزُلْفى
المولودة سنة 1969 م، وهي متخرجة من كلية التجارة - جامعة عين شمس، وتعمل بمكتب كبير من مكاتب المحاسبة في القاهرة.
ومما يحز في النفس، ويكدر الخاطر، هذا المرض الذي ألمّ بالأستاذ، وأقعده وألزمه المستشفى الذي دخله ليلة عيد الفطر من العام المنصرم 1417 هـ = فبراير 1997 م، ولا يزال هناك إلى هذا اليوم صفر 1418 هـ = 1997 م، كشف الله عنه ما به، وردَّ عليه عافيته، إنه على ما يشاء قدير.
* * *