الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مطبعة للمنشورات .. وليست للثقافة
(1)
تشتجر الأقلام الآن حول الحملة الفرنسية وأثرها على مصر؛ فمن قائل إنها جاءتنا بالمنِّ والسلوى، وأنها أزالت عنا غواشي الظلم، واستنقذتنا من قرابة التخلف وردغة الخبال، ومن قائل إنها مرَّغتنا في التراب وسامتنا سوء العذاب، وتوسَّط فريق ثالث فقال عن الحملة ونابليون إنهما جاءانا بشيء من النفع، وإثمهما أكبر من نفعهما.
لكن الذي يعنيني هنا قصة تلك "المطبعة" التي أتى بها نابليون. لقد ضخم الناس من أمر هذه المطبعة تضخيماً، ورأوا أنها فتحت لنا طريق العلم والمعرفة. وحقيقة الأمر أن هذه المطبعة لا تعدو أو توشك أن تكون "آلة كاتبة" كبيرة، أحضرها نابليون معه لطبع منشوراته وأوامره باللغة العربية.
وكانت هذه المطبعة الصغيرة تعمل وهي على السفينة في عُرض البحر، وحين اقتحم نابليون ثغر الإِسكندرية قام رجال حملته بتوزيع المنشورات والأوامر التي أعدوها في البحر، وأطلق على هذه المطبعة الصغيرة آنذاك اسم "المطبعة الأهلية"، ثم نقلت إلى القاهرة ووضعت في "بيت السناري" بحي السيدة زينب، وقد طبع نابليون على تلك المطبعة الصغيرة إلى جانب المنشورات والأوامر: أمثال لفمان الحكيم، ثم بعض رسائل في النصائح الطبية؟ استمالة لقلوب المصريين واجتلاباً لرضاهم.
(1) جريدة "الأهرام"(مصر)، 14 أبريل 1998 م.
وقد طبعت على تلك المطبعة أيضاً محاكمة سليمان الحلبي قاتل كليبر، ووضع اسم المطبعة على الغلاف هكذا "مطبعة الجمهور الفرنساوي 1799 م - 1800 م"، ولم تطبع هذه المطبعة الصغيرة بعد ذلك شيئاً ذا بال، ولا غير ذي بال.
ومهما يكن من أمر، فقد طويت صفحة هذه المطبعة وخرجت من مصر، وعادت إلى فرنسا، كما ذكر الدكتور خليل صابات، والدكتور أبو الفتوح رضوان.
لكن الجديد في هذه القضية أن الدكتور قاسم السامرائي، العالم العراقي والأستاذ بجامعة ليدن بهولندا ذهب إلى أن هذه المطبعة التي جاء بها نابليون إلى مصر، إنما هي مطبعة "آل ميدتشي" بروما، أخذها نابليون من إيطاليا أيام غزوه لها، وحين دخل الإِنجليز مصر، وأخرجوا من بقي بها من الفرنسيين، أخذ هؤلاء تلك المطبعة، وأعادوها إلى مكانها الأول في إيطاليا، وما زالت بقايا هذه المطبعة محفوظة بمدينة "فرنزة" في مقاطعة "بروفاونس" بإيطاليا. وهذا الدكتور قاسم السامرائي ثقة مصدق؛ لأنه خبير في الوثائق وتاريخ الكتاب (مخطوطاً ومطبوعاً (، وله دراية عظيمة بالاستشراق والمستشرقين.
فإذا ثبت هذا - وهو ثابت إن شاء الله - فيكون قول أحد كتابنا عن محاسن الحملة الفرنسية: "إن المدفع ذهب وبقيت المطبعة" قولاً غير صحيح، وفيه من خداع الكلام واللعب بالألفاظ ما لا يغني شيئاً.
على أنه مما ينبغي التنبه له والتنبيه عليه أن المطبعة قد عرفت في الشرق قبل مولد نابليون، وكانت "مطبعة حلب" أول مطبعة عربية في الشرق كله، وقد ظهر أول إنتاج لها عام 1706 م (ولد نابليون سنة 1769 م).
وقد أطلعني الدكتور محمد هيثم الخياط العالم السوري الحجة، على صورة غلاف لبعض مطبوعات هذه المطبعة الرائدة في هذه الفترة المتقدمة. وانظر معلومات
أكثر في مقالة للدكتور وحيد قدورة التونسي بعنوان: "أوائل المطبوعات العربية في تركيا وبلاد الشام"، مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي 1996 م.
ولا يبقى إلا القول إن المطبعة التي أضاءت الدنيا كلها إنما هي "مطبعة بولاق" التي أنشأها محمد علي باشا، سنة 1819 م، أو 1821 م، بأيدي المصريين وبهيمنة مشايخ الأزهر، مثل الشيخ نصر الهوريني، والشيخ محمد قطة العدوي، وتفصيل ذلك كله في كتابي:"الكتاب المطبوع في مصر في القرن التاسع عشر".
* * *