الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمود محمد شاكر .. والسِّهام الطائشة
(1)
ما تردَّدت في اختيار عنوان لمقالة ما تردّدت في عنوان هذه المقالة، فأنا حريص دائماً أن يكون عنوان ما أكتب صريحاً في الدلالة على ما أريد، كاشفاً لما هو مطوي تحت لساني وما يدور في فكري. والذي أكتب فيه اليوم مما زلزل نفسي وملأني غضباً وغيظاً، فكان حقاً أن يكون عنوان المقالة دالاً على هذه الحالة النفسية الغاضبة وممهداً لها.
وقد ترددت بين عدة عنوانات، منها: محمود شاكر والسيوف الكهام - وهي السيوف الكليلة التي لا تقطع ولا تؤثر - ليس هذا بعُشّكِ فادْرُجي - إن بني عمك فيهم رِماح -كناطح صخرة يوماً ليوهنها، ونحو ذلك من العنوانات التي يحمل عليها الغضب. والغضب - ونعوذ بالله منه - نار تأجج في الصدر، وإذا استبد بالمرء أعمى بصره وأكل قلبه وفَرَى كبده وأطلق لسانه، وقديماً ما تعوّذ الناس منه.
أما الذي أغضبني أيها القارئ الكريم فهو ما جاء في العدد الثاني من مجلة الجيل - 8 نوفمبر 1998 م - من هجوم كاسح أَكُول على شيخ العربية وحارسها أبي فهر محمود محمد شاكر، برَّد الله مضجعه، والذي تولى كِبْر هذا الهجوم هو الأستاذ حسين أحمد أمين.
والأستاذ حسين هو ابن العلامة أحمد أمين، الذي يُعدّ من أعلام النهضة الحديثة في الفكر العربي الإِسلامي، وكانت مؤلفاته عن فجر الإِسلام وضحاه وظهره
(1) مجلة "الجيل"، 1998 م.
منارات وصوّى على طريق العلم والمعرفة، ورصداً عظيماً لمسيرتنا الفكرية، ثم كانت لجنة التأليف والترجمة والنشر التي أنشأها سنة 1914 م مع مجموعة من الشباب النابهين في ذلك الوقت: أمين مرسي قنديل، وعبد الحميد العبادي، ومحمد صبري أبو علم باشا، ومحمد عوض محمد، ومحمد بدران - كانت هذه اللجنة منارة علم ضخمة. فكان من حقه علينا أن نوقّر تاريخه ونرعاه في احترام أولاده وأحفاده، وايضا فمان الأستاذ حسين من كتاب الهلال، فبهذه المنزلة يكون عتابنا وحديثنا للأستاذ حسين أحمد أمين. ونسأل الله العصمة من الخطأ والزلل.
والهجوم على محمود محمد شاكر بدأ غداة وفاته، وكان أول من نَقَب هذا النَّقْب السيدة صافيناز كاظم، في كلمة لها بجريدة الدستور 20/ 8/1997، أي بعد وفاة الشيخ بثلاثة عشر يوماً، وهي كلمة تقطر غضبا، وتوشك أن تكون شماتة بالموت الذي هو غاية كل حي، وما أصدق الفرزدق:
وما نحن إلا مثلهم غير أننا
…
أقمنا قليلاً بعدهم وتقدّموا
وكنت حقيقاً أن أردّ على الأستاذة صافيناز لولا أني رأيت ثورتها ترجع إلى مقابلة جافة من الشيخ لها، في يوم من أيام سنة 1982، وبعض الكتاب الذين تتردد أسماؤهم كثيراً في الصحف ووسائل الأعلام يرون لأنفسهم حقاً على الناس، كل الناس أن يهشوا لهم وان يستقبلوهم بكل ما وسعهم من أسباب الترحيب والبشاشة، وما أريد أن أستطرد في مناقشة الأستاذة صافيناز؟ لأني أرى في كتاباتها في السنوات الأخيرة وجوها من الخير ينبغي أن نستبقيها وأن نستزيد منها (إحنا ما صدقنا! )، لكني أحب أن أنشدها قول أبي العلاء:
لا تظلموا الموتى وإن طال المدى
…
إني أخاف عليكم أن تلتقوا
ثم قول أبي العتاهية:
إلى الديَّان يوم العرض نمضي
…
وعند الله تجتمع الخصومُ
ونترك السيدة صافيناز لنأتي إلى صديقنا الأستاذ نسيم مجلى، فقد كتب بعد
وفاة الشيخ كتاباً نشره بالأهالي، سمَّاه: صدام الأصالة والمعاصرة - محمود شاكر ولويس عوض. وكان قد كتب كتاباً كبيراً في القضية نفسها، سمَّاه: لويس عوض ومعاركه الأدبية، وأهداه إلى الشيخ محمود في حياته، وكتب بخطه:"إلى الصديق الكبير الذي أحببته كثيراً، واختلفت معه كثيراً، وتعلمت منه الكثير، إلى الأستاذ محمود شاكر بطل هذه المعارك ومفجرها مع أجمل أمنياتي. نسيم مجلى 6/ 1/1995".
فلمَّا غاب وجه محمود شاكر بالموت، رَتَعَ نسيم مجلى في لحمه، وإذا الذي كان همساً صار صراخاً، والذي كان تلميحاً أضحى تصريحاً، وإذا الذي كان كلاماً في الحواشي بالبنط الصغير، قفز إلى المتن بالبنط الكبير، فكان هذا الكتاب الذي صدر عن الأهالي، وسأعود إليه في آخر المقالة.
لكني أعجب كل العجب من الأستاذ نسيم مجلى، فقد كنت أشهد استقبال الشيخ محمود له وحفاوته به وتوديعه له على باب المصعد، وقوله له: ابقى تعال يا نسيم، وهي كلمة حانية من الشيخ، لا يقولها إلا لمن يحبه ويودَّه، ويا ليته كان قد قالها للأستاذة صافيناز (وكنا خُلُصنا).
فهاأنذا يا أستاذ نسيم أنشدك قول أبي العلاء:
فيسمع مني سجعَ الحمامِ
…
وأسمع منه زئيرَ الأسَد
ثم أترك الأستاذ نسيم لأصل إلى الأستاذ سمير غريب في كتابه الذي صدر أخيراً عن دار الشروق بعنوان (في تاريخ الفنون الجميلة)، وفي ص 79 منه ينقد مقالاً للأستاذ محمود شاكر، نشره في مجلة الرسالة بتاريخ 12 فبراير 1940 م، وكان محمود شاكر يرد على الدكتور طه حسين كلمة له عن "الفن الفرعوني"، والأستاذ سمير غريب لم يشهد تلك الأيام، فكأن هذه المقالة الشاكرية التي قضى عليها (58) عاماً فد دُسَّت إليه دساً للهجوم على الرجل (لاحظ أن ما ذكره سمير غريب في كتابه ص 81، عن رأي محمود شاكر في الفن الفرعوني، هو نفس ما ذكره نسيم مجلى في
ص 51 من كتابه. فنقول إذن ما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن امرأة قالت كلاماً لا يظن أن يكون منها: "أما والله ما قالته ولكن قُوّلَتْه".
ثم إن الأستاذ سمير غريب لا يعرف فكر محمود شاكر وتوجّهاته ورأيه في الحضارات السابقة على الإِسلام، بل هو لا يعرف لغته، والدليل على ذلك انه وقف عند كلمة له واعتبرها غامضة، وهي قول الشيخ:"من أعظم الآثار الفنية التي يعدها الجيل الأوروبي"، يقول الأستاذ سمير:"وتعبير الجيل الأوروبي هذا غامض"، وأقول: ليس غامضاً، فالجيل في كلام العرب: هو الصنف من الناس، وقيل: الأمة، وقيل: كل قوم يختصون بلغةٍ: جيل. فبأي هذه المعاني أخذت يكون تأويل كلام الشيخ!
وما أريد أيضاً أن استطرد في مناقشة الأستاذ سمير غريب، لكني ما كنت أحب له أن يتورط في تلك الظاهرة التي شاعت في زماننا الرديء، وهي ظاهرة التحرش بالناس وإغراء السفهاء بهم، وذلك قوله:"وخطورة كلام محمود محمد شاكر هنا أنه يمكن أن يستند إليها المتطرفون دينياً بغير تأمل ولا تفكير سليمين، وقد نادت به بالفعل جماعات الإِرهاب باسم الدين في مصر بعد نشر كلام شاكر بحوالي خمسين عاماً".
والذي لا تعرفه يا أستاذ سمير أن محمود شاكر كان من أكثر الناس بغضاً لهذه الجماعات التي أشرت إليها، بل إن مواقفه ضد الإِخوان المسلمين وكل الجماعات الإِسلامية، مواقف معروفة غاضبة ومستنكرة، وكان يجهر بمواقفه هذه ولا يكتمها، وكذلك كان أخوه الأكبر محدث العصر الشيخ أحمد شاكر، ومقالته عقب اغتيال محمود فهمي النقراشي مشهورة، وكان قد سمَّاها:"ديَّد الإِيمان الفتك"، ونشرها على الناس، بجريدة الأساس، فاقرأوا التاريخ يا ناس! (وانتظروا آخر كلمة لي في هذا المقال، ففيها رفع لهذا الالتباس).
ثم أطوي الكلام لأفرغ إلى ما قاله الأستاذ حسينِ أحمد أمين، وقبل ذلك أحب أن أسأل: ما هذا يا قوم؟ أتهاجمون الرجل بعد أن غيَّبَه القبر؟ لماذا لما تردُّوا على
الشيخ كلامه في حياته؟ ما أظن إلا أنكم خفتم أن يأخذ بأكظامكم، ويأتيكم من فوقكم ومن أسفل منكم، فتزيغ أبصاركم كالذي يغشى عليه من الموت، ثم يترككم فإذا أنتم ضُحكة الضاحك وهُزءة المستهزئ، فنُنْشدكم قول طرفة بن العبد:
يا لكِ من قُبَّرة بمَعْمَرِ
خلا لكِ الجوُّ فبيضي واصفِرِي
ونَقِّري ما شمتِ أن تُنَقِّري
قد رَحَلَ الصيادُ عنك فابشري
ورُفع الفخ فماذا تحذري؟
ثم ننشدكم أيضاً قول المهلهل بن ربيعة يرثي أخاه كليباً الذي كان يضرب به المثل في العزة المتناهية، وكان من خبره أنه إذا حضر مجلسه الناس لا يجسر أحد أن يفخر أو يجاذب، إعظاماً لقدره وإجلالاً لشأنه، فلما مات قال المهلهل:
نُبَّئتُُ أن النار بعدَك أُوقِدَت
…
واستبَّ بعدك يا كليب المجلسُ
وتكلََّموا في أمر كلِّ عظيمةٍ
…
لو كنت حاضر أمرهم لم يَنْبِسُوا
ومن وراء ذلك كله: فليس من النَّبالة والإِنصاف أن تهاجم من لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ويردَّ عليك قولك، وقد أمرنا ديننا في مثل هذه المواطن بالمكاشفة والمواجهة، يقول ربنا عز وجل يخاطب نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم:{وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواءٍ} [الأنفال: 58]، قال أبو جعفر الطبري: فناجزهم بالحرب، وأعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم بما كان منهم من ظهور أمار الغدر والخيانة منهم، حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب، فيأخذوا للحرب آلتها، وتبرأ من الغدر.
وجاء في حديث سلمان الفارسي الذي أخرجه الترمذي وأحمد: "وإن أبيتم نابَذْناكم على سواء"، قال ابن الأثير: أي كاشفناكم وقاتلناكم على طريق مستقيم مستوٍ في العلم والمنابذة، منا ومنكم.
وهذا أوان الفحص عن أمر الأستاذ حسين أحمد أمين، وما كتبه في حق شيخ العربية محمود شاكر.
وبدءة ذي بدء، فإني أقول للأستاذ حسين: لقد بنيت مقالتك هذه على إثر مقابلة مع الشيخ محمود لم تقع منك موقع الرضا، وكانت هذه المقابلة يوم 12 ديسمبر 1983 م، وإني لأعجب لك ومنك يا رجل: هذه خمسة عشر عاماً مُجَرَّمة - بتشديد الراء، أي تامة - منذ تلك الليلة التي أشعلتك ناراً، وأنت لا زلت طاوياً صدرك على هذه الحَسِيكة، فأيُّ صبرٍ على الكريهة هذا؟ وأي حِمل ثقيل حملته وظللت تدور به حالاً ومرتحلاً طوال هذه السنوات الطِّوال التي يمحو الله فيها ما يشاء ويثبت.
ويحضرني الآن شاهد من الشعر وصورة من التشبيه، ولكني أمسك عنهما؟ صوناً لنفسي من الزلل، واستمساكاً بأصول أخلاقية ألزمت بها نفسي منذ أن عرفت طريقي للكتابة والمذاكرة والمحاضرة. وأنا أنشد لنفسي دائماً قول ابن فرج الجياني الأندلسي:
فملَّكْتُ النُّهى جَمَحَاتِ أمري
…
لأجريَ في العفاف على طباعي
يقول: جعلت عقلي حاكماً على نفسي، كابحاً لجماح الهوى والخطأ، لكي استمر على ما طُبعت عليه من العفة والشرف.
ثم إني علمت أنك كنت أعددت هذه المقالة في حينها، ودفعت بها إلى مجلة الهلال، ولكن الأستاذ مصطفى نبيل رفض نشرها، مع أن مصطفى نبيل من رؤساء التحرير الذين ينظرون إلى المكتوب لا إلى الكاتب، وهو أيضاً يفتح كل النوافذ، ولا يتعصب لاتجاه لحساب اتجاه، فما اعرض عن مقالتك إلا لما وجد فيها من انحراف وضلال، كما قالت العرب في كلامها الحكيم:"لو كان خيراً ما تركوه". وكأني بك يا أستاذ حسين تنشد مصطفى نبيل قول أبي الأسود الدؤلي يعاتب الحصين بن الحر العنبري، وكان أبو الأسود قد أرسل له كتاباً يستجديه فأهمله، فقال أبو الأسود:
نظرْتَ إلى عُنوانه فنبَذْتَهُ
…
كَنَبْذِكَ نَعْلاً أَخْلَقَتْ من نِعالكا
[أخلقت: أي بليت وتقادم عليها عهد].
وأول ما أبدأ به الكلام أن أقول: إن ما حدث للأستاذ حسين، ومن قبله للسيدة صافيناز، من جفاف مقابلة الشيخ محمود شاكر، إنما هو ما أسمِّيه: صدمة اللقاء الأول. فمحمود شاكر يحب أن يعجم عود من يزوره أول مرة، وهل يصبر على تكاليف العلم، وأعباء التلقي والسماع، أم هو إنسان جاء (يتفرج على هذه القعدة) ويرى بعض الشخصيات، ثم يخرج إلى الناس ويقول: إني حضرت ندوة محمود شاكر، كهؤلاء الذين يقولون: إننا من تلاميذ العقاد، لأننا كنا نحرص على حضور ندوته، ويعلم الله أنه ما كان يلقي إلى كثير منهم بالاً.
ومحمود شاكر ليس عنده وقت يضيعه في المجاملة والمصانعة. وهذا شيء عرفناه منه، يهاجم في اللقاء الأول هجوماً شرساً، فإذا رأى الذي أمامه حريصاً على العلم راغباً فيه أقبل عليه واستمسك به وشَدَ عليه يد الضَّنانة. وفي محنة هذا اللقاء الأول ثبت من ثبت محسناً في ثباته، ونكص من نكص مسيئاً في نكوصه. ولو أنهم صبروا حتى يطمئن إليهم لكان خيراً لهم.
على أنه مما يزيد في محنة اللقاء الأول أن يكون لهذا الزائر الوافد الجديد صورة سابقة عند الشيخ محمود، كأن يكون منتمياً إلى اتجاه معين، أو يكون قد كتب شيئاً لم يعجب الشيخ.
وسآخذ في مناقشتك الآن يا أستاذ حسين، وسأترك الحديث عن الشتائم التي وجهتها للشيخ، إلى آخر المقالة، حتى تكون آخر ما يذكره القارئ من أمرك.
أولاً: قلت إن مفتاح شخصية محمود شاكر يكمن في إحساسه العميق بالفشل، وفي شعوره بأن حياته قد ضاعت سدى.
أي فشل يا أستاذ وأي ضياع؟ إن الذي يعرف محمود شاكر عن قرب لا يحس شيئاً من ذلك. وقد عرفت هذا الرجل معرفة وثيقة خلال ثلاثين عاماً، وخبرت سواده وبياضه، وكاشفني بذات نفسه ودخيلة أمره وتقلبه في العالَمين، وقد رأيت إنساناً سويّاً واضحاً مكشوفاً، لا يداري ولا يماري، يصرّح ولا يكني، ينطق ولا يجمجم،
باطنه وظاهره سواء، وهو سعيد منشرح مقبل على الحياة، يستمتع بطيباتها إذا أقبلت، ولا يحفل بها إذا أدبرت، وينعم بما أفاء الله عليه من مكتبة ضخمة عامرة، لم تتيسّر لأحد من علماء عصرنا، قراها كلها قراءة كتاب واحد، بذلك العقل الذكي الذي يجمع كل شاذَّة وفاذَّة، ثم هو سعيد أيضاً بالقلوب التي تجمعت حوله، طوائف من مختلف البلدان والأعمار والانتماءات، وسعهم هذا البيت الكبير، الذي لم يعرف الرسميات فلم يُفتح لهم ساعة دون ساعة.
وقد وصفت كثيراً مجلس محمود شاكر وما ضمّ من فئات الناس، ونقلت وصف الأديب الكبير فتحي رضوان له، وهو قوله:"كان بيته ندوة متصلة لا تنفض، من أعضائها الثابتين: يحيى حقي إذا حضر من أوروبا، وعبد الرحمن بدوي، وحسين ذو الفقار صبري، وغيرهم وغيرهم، ولم يكن من حظي أن أكون عضواً دائماً فيها، فقد كنت المّ بهم أحياناً، فأراهم وأرى من العالم العربي كله، ومن العالم الإِسلامي على تراميه، شخصيات لا حصر لها، تتباين بعضها عن بعض، في الزي والمظهر والثقافة واللهجة، والشواغل والمطامح، ولكنها تلتفي كلها عند محمود شاكر، تسمع له، وتأخذ عنه، وتقرأ عليه، وتتأثر به، وكلما كان من حظي أن أشهد جانباً من هذه الندوة أحسست بسعادة غامرة، أن يبقى ركن في بلدي كهذا الركن، ينقطع أصحابه للفكر والدرس والتحدث في أمور لا تجد من يسمع بها أو يعرف عنها شيئاً في مكان آخر"، انتهى كلام الأستاذ فتحي رضوان.
ومن الحقائق التي لا تُدفع أنه لم يحظ أحد من الأدباء المعاصرين الكبار، الذين تقام لهم الموالد ما بين الحين والحين، بمعشار ما حظي به محمود شاكر من التلاميذ والمريدين الذين صار كثير منهم رؤوساً ورؤساء ببلادهم ومواقعهم.
أما هذه الحدة التي قي طبع الشيخ - ونحن نعترف بها - فليست نتيجة الإِحساس بالفشل، أو ضياع الحياة سدى. هذه الحِدَّة يا سيدي جاءت نتيجة لإِدراك الرجل لمأساة هذه الأمة العربية التي ورثت مجداً شامخاً أضاعه الورثة من أبنائها. وقد تنبه الرجل منذ طراءة الصبا وأوائل الشباب إلى محنة أمته العربية، في قطع
صلتها بموروثها العظيم، ثم وقوعها في حبائل العدو، ينهش في عظمها ويُحكم الغُل مي أيديها، فسارت حياته في طريقين استويا عنده استواء واضحاً:
الأول: العلم والمعرفة يعبّ منهما عباً، ويغُري الناس بهما إغراءً.
والطريق الثاني: التنبه الشديد لما يحاك لأمتنا العربية من كيد ومكر، وقد حارب في سبيل كشف ذلك وتعريته في جبهات كثيرة، مما فضَّلتُه في غير موضع من كتاباتي.
وقد أورثه شعوره بذلك الهم الكبير حدَة في الطبع، وشراسة في الخطاب. والحِدَّة: إذا كان هذا هو مبعثها ومحرِّكها لم تكن مذمومة، فقد جاء في الحديث:"الحِدَّة تعتري خيار أمتي"، قال ابن الأثير:"الحِدَّة كالنشاط والسرعة في الأمور والمضاء فيها، مأخوذ من حد السيف، والمراد بالحدة هاهنا: المضاء في الدين والصلابة والقصد في الخير، ومنه الحديث: "خيار أمتي أحِدَّاؤها"، وهو جمع حديد، كشديد وأشداء".
وقد تحدثت يا أستاذ حسين عن قلة إنتاج الرجل، مع هذه الشهرة العريضة والقراءة والثقافة التي لم يُحصل طه حسين جزءاً من المائة منها، وقد صدقت في هذا، لكنك لم تصدق في ذلك السياق كله، فقد ذكرت أنه مع شهرته لم يترك غير كتاب عادي عن المتنبي، وديوان شعر هزيل ضحل، ثم تحقيق لبعض كتب التراث. وهذا كله باطل:
فكتابه عن المتنبي ليس كتاباً عاديّاً، فقد عرض فيه لقضايا ثلاث، لم يكشف القول فيها غيره، ولم يحسم الحكم فيها سواه: نسب المتنبي - حبه لخولة أخت سيف الدولة - ترتيب القسم الثاني من شعر المتنبي على السِّنين. وقولك: "ديوان شعر هزيل ضحل" ليس لمحمود شاكر ديوان شعر مجموع، وإن كان له شعر معروف، أذاعه من قديم وطرب له الناس. ولعلك تقصد "القوس العذراء"، وهي قصيدة طويلة مستوحاة من قصيدة للشمَّاخ، وهذه "القوس العذراء" من عيون الشعر
العربي، وقد هزت الدنيا وشغلت الأدباء، وكتب عنها كبار الأدباء: إحسان عباس، ومحمد مصطفى هدَّارة، ومحمد أبو موسى. ثم كتب عنها المفكر والأديب الكبير زكي نجيب محمود، ولا شك انك تعرفه حق المعرفة، لأن له مع والدك تاريخا قد يسوؤك بعضه!
وكلمة زكي نجيب محمود عن "القوس العذراء" كلمة عالية جدّا، وقد أذاعها في مجلة الكتاب العربي (أغسطس 1965 م)، قال في أولها:"درة ساطعة هذه بين الدرر، وآية هذه من الفن محكمة من آيات الفن المحكمات".
وقال في آخرها: "وإني لأستأذن أديبنا شاكر في أن أهدي آيته هذه إلى شعراء اليوم ليروا بآذانهم وليسمعوا بعيونهم، إذا كانت للآذان رؤية، وإذا كان للعيون سمع، كيف يكون الفن الشعري صياغة وارتفاعاً في دنيا القيم من حضيض إلى أوج".
ثم إن قولك: "تحقيق بعض كتب التراث "يدل على عدم معرفتك، أتسمِّي تحقيق ستة عشر جزءاً من تفسير الطبري، وستة أجزاء من "تهذيب الآثار" له، وطبقات فحول الشعراء لابن سلام، ودلائل الإِعجاز وأسرار البلاغة، وكلاهما لعبد القاهر الجرجاني، والمكافأة وحسن العقبى لابن الداية الكاتب، وفضل العطاء على العُسْر لأبي هلال العسكري، وإمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع، للمقريزي، وكتاب الوحشيات لأبي تمام، وجمهرة نسب قريش، وأخبارها للزبير بن بكار. أتسمي ذلك كله بعض كتب التراث؟
وإن في بعض حواشيه على هذه الكتب ما يعدّ علامات ضخمة في طريق الفكر العربي والإِسلامي. ولو كنتَ مُهَيَّا لإِدراك مرامي هذه التعليقات لدللتك عليها. ثم انظر القائمة الببليوجرافية التي أصدرها المجلس الأعلى للثقافة ودار الكتب المصرية بذكرى الأربعين لوفاته وسترى فيها رصدا جيدا لإِنتاج محمود شاكر منذ سنة 1926 م إلى سنة 1997 م، وهي السنة التي توفي فيها.
وإذا كنت ترى أن هذا الإِنتاج كله قليل بالنسبة لرجل في مثل قامة محمود شاكر: فإن أثر العالم لا يقاس بكثرة إنتاجه، ففي تاريخنا التراثي أعلام احتلوا مكانة عالية بكتاب واحد أو كتابين ليس غير، فسيبويه إمام النحاة ليس له إلا "الكتاب"، وليس لابن سلَاّم إلا "طبقات فحول الشعراء"، والقَرْشي ليس له إلَاّ "جمهرة أشعار العرب"، وابن عبد ربه ليس له إلا "العقد الفريد"، وابن خلكان ليس له إلا "الوفيات"، وليس لأبي الفرج الأصبهاني إلَاّ "الأغاني" و "مفاتل الطالبيين".
وفي عصرنا الحديث لم يترك الأستاذ أمين الخولي من الكتب ما يجاوز أصابع اليد الواحدة، ومع ذلك فإن تلاميذه يرونه رأسا في المنهج، وأنه فتح لهم أبواباً من النظر والتأمل لم يفتحها غيره.
ويتبع وصف محمود شاكر بالحِدَّة وصفه بالتعالي والاعتداد بالنفس وحب الثناء. وهذه القضية ينبغي أن تعالج في هذا الإِطار:
العلماء الكبار حين يرون أن الله قد وهبهم ما لم يهبه لغيرهم، يرتفعون بأنفسهم عما حولهم، وفي بعض اللحظات يرون أن من عداهم لا وزن لهم. رُوي أن إبراهيم بن المهدي، وهو أخو هارون الرشيد، وكان حاذقاً بالغناء، اختلف هو وإسحاق الموصلي - وكان أيضاً من أساطين الغناء والموسيقى - اختلفا في صوت، ففال إبراهيم لإِسحاق:"إلى من نتحاكم والناس مَن عدانا بهائم"؟ ، وقال الأصمعي: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول - ولم يقله إن شاء الله بغياً ولا تطاولاً-: "ما رأيت أحداً قطُّ أعلم مني".
على أن حب الثناء مركوزٌ في الطباع، ثابت في أصل الخِلقة. قال أبو حيان التوحيدي: "ومن لم يرغب في الثناء فقد رغِب عن ملة إبراهيم؛ لأن الله تعالى أخبر أنه سأله ذلك فقال: {واجعل لي لسان صدق فى الآخرين} [الشعراء: 184]، ولسان الصدق: هو الثناء الحسن.
وإذا بلغ الكبار هذا المبلغ من سعة العلم وغزارة المعرفة كان حقيقاً على الناس أن يُوسِعوا لهم في المعذرة، وأن يتغمدوا أخطاءهم. ذكر الحافظ الذهبي في ترجمة التابعي الجليل "قتادة بن دِعامة الشَدوسي" أنه كان يرى القول بالقدر، وهي مقالة منكورة عند أهل السنة والجماعة، ثم عقَب الذهبي على ذلك، فقال في كتاب سير أعلام النبلاء 5/ 271:"ثم إن الكبير من أهل العلم إذا كثر صوابه، وعُلم تحزَيه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحُه وورَعُه وإتباعُه، يُغْفر له زَلَله، ولا نضلِّله ونطرحه وننسى محاسنه". وهذا كلام عال نفيس في تأصيل موضوعية النقد ورحابة الصدر العلمي، والإِنصاف في تغليب الإِيجابي على السلبي في الحكم على الرجال، على حد قول زفر بن الحارث:
أيذهب يومٌ واحدٌ إن أسأتُه
…
بصالح أيامي وحُسْنِ بلائيا
وقول المتنبي:
فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً
…
فأفعاله اللائي سَرَرْن ألوفُ
وقول الآخر:
وإذا الحبيب أتى بذنبٍ واحدٍ
…
جاءت محاسنُه بألف شفيع
وهكذا ينبغي أن يُنظر إلى محمود شاكر، أنه من هذا الطراز؟ رجل حصَّّل من العلم ما لم يحصله غيره، وجمع من الكتب ما لم يجمعه سواه، وقرأ قراءة ما أطاقها أحد من جيله، ثم إنه راعه ما رأى فيه الأمة من جهل وتأخر، وفزع من قضية انتحال الشعر الجاهلي، واهتاج لما رآه من محاولة اغتيال تاريخ الأمة العربية، في علومها ومعارفها كلها، وطَمْس معالم حضارتها، ولم تكن المسألة عند الرجل من باب التوهم والظنون، والتماس المعابة عند الآخرين، فقد قامت دلائلها عنده واضحة جلية، ثم أثبتت الأيام صدقها فيما بعد.
وحين ظهرت أمامه صدع بالحق وكشف العلة، وحطَّم الأغلال، ولم يبال بمن يقع عليه مِعْوله، قديماً كان أو حديثاً، من أبناء دينه أو من غيرهم، وكثير من الناس
الذين يأخذون الأمور من أيسر طرقها يرون أن محمود شاكر قد حارب طه حسين وسلامه موسى ولويس عوض ليس غير؟ وهذا غير صحيح؟ فإن محمود شاكر وهو بسبيل تصحيح النظر إلى تراث هذه الأمة، ثم الدفاع عنه، تناول أعلاماً كباراً من المتقدمين بنقود قاسية جدّاً، وفي هذا الطريق نقد الجاحظ والمرزوقي والتبريزي، بل إنه نقد الإِمام الجليل أبا بكر الباقلاني في كتابه "إعجاز القرآن" الذي يراه أهل العلم رأساً في هذا الباب، ونقد من قبله المتكلمين المسلمين، وبخاصة المعتزلة، في قضية إعجاز القرآن، وكان يرى أن المعتزلة قد خدعوا الناس بمقولاتهم العقلية، بل رأيناه هو يقسو على نفسه كثيراً إذا زلَّ في فهم، أو غاب عنه وجه الصواب، ومن أمثلة ذلك استدراكاته على تحقيقاته التي يثبتها في آخر الكتاب، أو في الطبعة التالية، وهذه نماذج من تلك الاستدراكات التي شدد فيها على نفسه هو، وقد اخترتها من تحقيقه لكتاب جمهرة نسب قريش، للزبير بن بكار، يقول:"وقد أسأت أشدّ الإِساءة في الحاشية رقم (3) وينبغي طمس هذه الحاشية". ويقول عن شيء من تفسيره، وظهر له خطأه:"وفسَّرتُه متعجِّلاً"، ويقول في موضع ثالث:"وهو سهوٌ مني شدي".
ويقول في مستدركات تحقيق طبقات فحول الشعراء: "عجلتُ فقلت ما قاله ياقوت، فأخطأت خطأ لا شك فيه، فلا أدري كيف تهاوى فيه ياقوت؟ "
نحن إذن أمام رجل يتحرَّى الصواب، ويروم الصدق، وقد التزم جانب المكاشفة والمصارحة، وترك التجمُُّل والتكلّف والمصانعة، ويعلم الله أننا لو رُزقنا بضعة رجال من طراز محمود شاكر لكان الحال غير الحال!
ثم ذكرت يا أستاذ حسين ثورة الشيخ محمود على الأفغاني والشيخ محمد عبده، وقد غاب عنك أن الذي يقوله الشيخ في هذين الرجلين هو رأي كثير من الناس، من قبل محمود شاكر ومن بعده، ولقد أطلعنا الأديب المثقف الرقيق علي شلش رحمه الله، قبل وفاته بأيام، في بيت محمود شاكر، على وثائق خطيرة تدين الأفغاني، وتحقق رأي الناس فيه. أما الشيخ محمد عبده، فقد عابه كثير من الناس
أيضاً لصلته بكرومر، وقصر الملك، ومن هؤلاء المفكر الكبير علي سامي النشار، وقد سجل ذلك في كتاب منشور، وقد درسناه عليه في أيام الطلب.
ثم ما كان يصح يا أستاذ حسين أن توقع الدسيسة بين الشيخ محمود، وهذا النَّفَر الكريم من الباحثين: الدكتور محمد عمارة، والأستاذ فهمي هويدي، وقد كنت كثير الملازمة للشيخ، وما أذكر أنه عرض بسوء لأيٍّ من الرجلين الجادِّين، ولقد يكون رأيه في محمد عمارة سيئاً أيام أن كان عمارة يقف في الجانب الغربي، فلما أذن الله له بالفرج والانعتاق، وانتقل إلى شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة، ثم نَسِيَ ما كان يدعو إليه من قبل، رضي عنه محمود شاكر، وكذلك كنا نحن أيضاً: أعرضنا عن محمد عمارة يوم أن كان لويس عوض يفسح له صفحة كاملة في جريدة الأهرام في الستينات، والان نحئه ونحرص على ما يكتب ونوصي بقراءته.
على أن محمد عمارة كان من أكثر الناس إجلالاً لمحمود شاكر، وإن لم يغش مجلسه، وكثير من المفكرين كانوا يحبون محمود شاكر غاية الحب، ولكنهم لا يغشون مجلسه، كأنهم يشفقون من الحدة إياها، وأذكر من كبار هؤلاء المحبين المعرضين: محمد سليم العوا وطارق البشري. وأشير هنا إلى أن محمد عمارة قد أسرع إلى مسجد عمر مكرم ليقدم واجب العزاء في الشيخ محمود، وإن لم يعرف أحداً من أسرته، وقد شدّ على يديّ معرياً، وقال لي: البركة فيك يا محمود، وهي كلمة ذات دلالة. فكأنه يقول: إننا نريد لفكر محمود شاكر أن يستمر، ولطريقه أن يظل مسلوكاً.
وكأنك يا أستاذ حسين حين ذكرت اسم محمد عمارة وأقحمته إقحاماً وزججت به زجّا، إنما أردت أن تستدرج الرجل ليعفو عنك ويمحو في طبعة قادمة، ما دمغك به في كتابه الجيد: الإِسلام بين التنوير والتزوير، الذي صدر عن دار الشروق سنة 1995 م، فقد عقد فصلاً عنك، سمَّاه:"الهزل وغيبة العدالة في تناول الإِسلام"، وقد وصفك في هذا الفصل بأنك من الذين يزعمون أنهم مجتهدون في الإِسلام، ومجددون في فكره، مع افتقادهم وافتقارهم للحدود الدنيا من دراية العلم
وعدالة العلماء، بل ومع اتصافهم بقدر من سوء النية في عرض قضايا الإِسلام.
وقد ذكر محمد عمارة في حواشي هذا الفصل أنه التقاك (الأفصح والأكثر: لقيك)، وقد لقينا من كلام حسين أحمد أمين نَصَبا! ) في مكتبة دار الشروق بحضور صاحبها الأستاذ إبراهيم المعلم، وسالك عما سقطت فيه من الهجوم على سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقال لك: ماذا تريد؟ فقلت: أريد أن أشكك في كل شيء!
وأقول: إن من حق محمد عمارة - بعد أن كتب فيك ما كتب وقرأ كلامك اليوم - أن يُنشدك ونحن أيضاً نُنشدك معه، قول الفرزدق يهجو جديع بن سعد الأزدي:
لا تَحْسَبَنَّ دراهِما أَعْطَيْتَها
…
تَمْحُو مخَازيَك التي بِعُمان
فماذا تنتظر يا أستاذ حسين من محمود شاكر، ثم من غيره ممن يحترمون تاريخهم ويوقرون رجالهم، ماذا تنتظر منهم بعد أن أهنت الوارث والموروث؟
وليس يصح لك أن تستنصر باسم والدك العظيم رحمه الله، فهو كان على الجادة، أقام للحضارة العربية صرحاً شامخاً، وأنت انحرفت عن الطريق، وأخذت تضرب في هذا الصرح، ولكن من نِعَم الله أن جعل مِعْولك ضعيفاً، كما جعل كيد الشيطان ضعيفاً، فما ينفعك شيئاً (1) كلما حزبك أمر أن تفزع إلى اسم أبيك، فلن يَجْزي والد عن ولده شيئاً، ولو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد صلى الله عليه وسلم يدها. وبما انك قد سببت واحداً من الصحابة الأكرمين، ولم يفعلها أبوك، فإننا ننشدك قول الأعشى:
كلا أَبَوَيْكم كان فَرْعاً دِعامةً
…
ولكنهم زادوا وأصبحت ناقصاً
(1) نبَّه الأستاذ الطناحي الطابع لهذه الكلمة بقوله: هذه على النصب صحيحة فلا تغيرها لأنها مفعول ثان. أما فاعل "ينفعك" فهو المصدر المؤول "أن تفزع"، وتقدير الكلام: فما ينفعك فزعك إلى اسم أبيك شيئاً.
ثم أنشدك قول الآخر (وقد أعْجلتني عن أن أنسبه لك):
إن القديم إذا ما ضاع آخره
…
كساعدٍ فلَّه الأيامُ محطومُ
ثم أنشدك - وهو أخفُّ الشواهد عليك إن شاء الله - قول أبي تمام:
وابن الكريم مطالَبٌ بقديمه
…
غَلِقٌ وصافي العيش لابن الزُّفَلِ
وأخيراً أترحَّم على والدك العظيم ثم أنشدك وأنشده قول جرير يخاطب الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز:
تَزَوَّدْ مثل زادِ أبيكَ فينا
…
فنعم الزادُ زادُ أبيك زادا
ثم إنك غضبت من الشيخ محمود لأنه ذكر امامك رايا في والدك لم يقع منك موقع الرضا، فاعلم أن ليس محمود شاكر أول من أبدى رأياً غير طيب في والدك، فالعقاد فعل ذلك، وأظنك لم تنس كتاب زكي مبارك "جناية أحمد أمين على الأدب العربي"، وأذكر أن أساتذتنا في أيام الطلب كانوا يكثرون من نقد كتب أبيك في عصور الإِسلام، كلٌّ في مجال تخصصه، ومن هؤلاء العالم الكبير الدكتور ضياء الدين الريس في كتابه الماتع:"النظريات السياسية الإِسلامية"، وأنت الذي أصررت أن تستخرج رأي محمود شاكر في أبيك، وقد ذكرت انك كلما ألححت عليه في الطلب قال لك "فَوِّتْ"، وكأنه رحمه الله كان يريد أن يقول ما قالته العرب قديماً:"اعْفُ عن ذِي قَبْر"، ثم أما بعد:
فيا أستاذ حسين أحمد أمين: لقد وصفت شيخ العربية وحارسها محمود محمد شاكر - على لسان الحاج وهبه، وقد برئ منه في العدد الرابع من الجيل، فصار الكلام خالصا لك، وخارجاً من كيسك وحدك - وصفت الشيخ بأنه فظ فظ فظ، وأنه يدور كالثور الهائج يهاجم ويطعن ويسبّ ويلعن. فأتيت بذلك منكراً من القول وزوراً، ولقد أهنت الأمة العربية كلها في شخص علَم كبير من أعلامها، ورأس ضخم من رؤوسها، وهذه الإِهانة لا يُعتذر عنها، ولا تسقط بالتقادم، وقد قال أبو الطيب الصعلوكي - من فقهاء الشافعية في القرن الرابع -:"عقوق الوالدِين يمحوها الاستغفار وعقوق الأستاذِين لا يمحوها شيء".
ولقد كان محمود محمد شاكر أستاذ الأستاذين. فيجب عليك أن تبرأ من هذا الكلام وتخرج من عُهدته، ثم تتوب إلى ربك وتستغفره بعد أن تغسل فمك سبع مرات إحداهن بالتراب، ليطهر من هذه البذاءات التي خرجت منه.
وعلى المستوى الشخصي فقد أدميت قلبي، وأوجعت ظهري، فلساني لا يطاوعني أن أقول لك ما يقوله بعض الناس في مثل هذه المواقف: سامحك الله، أو غفر الله لك، ولكني أدعو عليك بأن يُسْخِنَ الله عينَك، وأن يُقَيِّض لك من يكوي منك الرأس والدماغ، ولا يمنعني من الاسترسال في الدعاء عليك إلا حديثه صلى الله عليه وسلم:"لا تُبَرِّدوا عن الظالم"، أي لا تشتموه وتدعوا عليه، فتخففوا عنه من عقوبة ذنبه. وقوله لعائشة رضي الله عنها وقد سمعها تدعو على سارقٍ سرقها، فقال:"لا تُسَبِّخي عنه بدعائك عليه"، أي لا تخففي عنه الإِثم الذي استحقه بالسرقة.
ولو قام تلاميذ محمود شاكر - وهو كُثُر في الشرق والغرب - بِرَدّ شتائمك عليك وبَسْط ألسنتهم بالسوء فيك، ما كان عليهم لوم ولا تثريب، ولا تجزع ولا تفزع من فعلهم، فأنت البادئ وأنت المعتدي، وقد قال أبو ذؤيب الهذلي:
لا تَجْزَعَنْ من سُنَّةٍ أنت سِرْتَهَا
…
فأؤَّل راضي سُنَّةٍ من يسيرُها
وإذا كنت قد وصفت شيخنا بأنه يدور كالثور الهائج - وهذه عظيمة من العظائم - فإني أنشدك أيضاً لأبي ذؤيب، من القصيدة نفسها:
فلا تك كالثور الذي دُفِنَتْ له
…
حديدةُ حَتْفٍ ثم ظَلَّ يُثيرها
وصدق الله العظيم: {ولمن انتصرف بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} .
وتبقى قضية لا بدَ من الإِشارة إليها وبيان وجه الحق فيها، على سبيل الوجازة والاختصار، وهي قضية (محمود شاكر ولويس عوض)، وآخر ما رايته من ذيولها كلمات قالهن الدكتور ماهر شفيق فريد، وهو كاتب مثقف محتشِد، لكنه أنبأنا الآن انه من مريدي ومحبي الدكتور لويس عوض، ولا بأس ولا نكران، وإن من حقه علينا أن ينشدنا قول أبي ذؤيب الهذلي:
وعيَّرها الواشون أني أحبها
…
وتلك شكاة ظاهرٌ عنك عارُها
وقوله: "ظاهر عنك عارها"، أي زائل عنك هذا العار لا يعلق بك.
وهذه الكلمات قالها الدكتور ماهر بجريدة الأهالي 8 من أكتوبر 1997 م، في سياق كلام له عن ديوان "أغاني العاشق الأندلسي" لصديقنا الشاعر عبد اللطيف عبد الحليم (أبو همام)، فحين عرض الدكتور ماهر لقصيدة أبي همام عن شيخه وشيخنا أبي فهر في عيد ميلاده الثمانين، فتح أقواساً واستفرغ فيها جهداً بهذا الكلام عن أبي فهر:" لا أستطيع مهما بلغت بي الرغبة في أن أكون منافقاً أن أتظاهر بأني حزنت على رحيل الرجل الذي سبّ لويس عوض العظيم سبّاً قبيحاً".
يا دكتور ماهر: حاشاك أن تكون منافقاً، لماذا تركب هذا المركب الصعب؟ قل في محمود شاكر ما تشاء، لكن لا ينبغي أن تكون كراهيتك له من أجل موقف واحد، هو موقفه من لويس عوض! فما يمال لك إلا ما قد قيل للذين من قبلك: لقد غضبتم من محمود شاكر لأنه جرح لويس عوض، ولم تغضبوا من لويس عوض لأنه قتل أمة بأسرها، أو أراد أن يقتلها، فغضبتم من جارح، ولم تغضبوا من قاتل، فكنتم كما قال الفرزدق:
أََتغْضَبُ إن أذنا قُتَيْبَة حُزَّتا
…
جِهاراً ولم تغضب لقَتْل ابن خازِمِ؟
ومهما يكن من أمر فقد خاض محمود شاكر معركة شرسة مع الدكتور لويس عوض بسبب مقالات هذا في جريدة الأهرام حول "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري، وكان لويس عوض قد ذهب إلى أن أبا العلاء قد تأثر بالفكر اليوناني والأدب اليوناني، وأن "رسالة الغفران" تتشابه في كثير من جوانبها مع مسرحية "الضفادع" لأرسطوفانيس، وقد غضب محمود شاكر من هذه المقالات غضباً شديداً، واستخرجت منه آراءه وأفكاره التي طوى عليها صدره رَدَحاً من الزمن، فهبّ يدفع مقالات لويس عوض، ثم استطرد إلى فتن أخرى كثيرة، تريد أن تغتال تاريخ الأمة اغتيالاً، ومنها: قضية الدعوة إلى العامية في مصر. وقد أودع ذلك كله كتابه الدامغ "أباطيل وأسمار".
ولأن الدكتور لويس عوض مسيحي، فقد بدا لبعض الناس - ومنهم الأستاذ نسيم مجلى - أن يضعوا الفضية في إطار التصادم الإِسلامي المسيحي، ثم تصوير لويس عوض بأنه الديمقراطي الحر المعتدى عليه، وأن محمود شاكر مثال صارخ للتراثي المتخلف المتعصب لحد النخاع، وأنه انتهز فرصة لويس عوض ليوجه ضربة قاصمة لتيار الحداثة في الأدب والفن والفكر، وهو التيار المرتبط بالمفاهيم العقلانية والثقافة الغربية العصرية، لصالح التيار السلفي التقليدي أو الأصولي - هكذا قال صديقنا نسيم مجلى في كتابه: صدام الأصالة والمعاصرة ص 10، وكان قد قال من قبل في ص 8:"إن شاكر يفسّر الثقافة والتاريخ من خلال منظور ضيق جدّا، هو المنظور الديني فقط، بحيث ينعكس على رؤيته لكل إبداعاتنا الأدبية والنقدية الحديثة".
وكنت قد نقلت من قبل كلمة الأستاذ سمير غريب، أن ما قاله محمود شاكر في الفن الفرعوني "يمكن أن يستند إليه المتطرفون دينيّاً". وهذا كله باطل من القول يأخذ بعضه برقاب بعض، فمحمود شاكر لم يكن يوما متطرفاً، ولا محارباً للعقل، وإنما هو رجل مؤمن بتاريخ أمته، وفيٌّ لثقافتها، مدرك لعبقريتها، يسوؤه ما تردّت فيه من أسباب الضعف والتفكك، وفي سبيل دفاعه عن تاريخ أمته وعلومها ومعارفها خاض معارك كثيرة، وقد خاضها وحده غير متحيز إلى فئة ولا منتصر بجماعة، ولم يكن من بين من حاربهم إلَاّ مسيحيٌٌّ واحد، هو لويس عوض، ومن وراء لويس عوض كان من الذين صارعهم محمود شاكر واشتد في حربهم: طه حسين وعبد العزيز فهمي وسيد قطب، بل إن موقفه العنيف من الشيخ حسن البنا وجماعة الإِخوان المسلمين معروف مذكور، وكان عنيفاً جداً مع حسن البنا وجماعته، وهو ما كان يأخذه عليه كثير من المسلمين، وما أريد أن استطرد في هذه القضية فلها مكان آخر، غير أني أريد أن أنبه الأستاذ نسيم مجلى ومن يَلُفُّ لَفَّه إلى نقطة يبدو أنها غائبة تماماً عن نسيم مجلى؛ لأنه حديث عهد بمعرفة محمود شاكر، فأقول:
يا أستاذ نسيم: إن صلة محمود شاكر بالأدباء والمفكرين المسيحيين قديمة
جداً، ومتينة جدا، وإن بينه وبين كثير منهم مودة وصفاء. ومن أقدمهم في حياة محمود شاكر: الطبيب عالم النبات والحيوان الفريق أمين باشا المعلوف، يقول محمود شاكر في وصفه:"دخل علينا رجل عظيم القدر، كنت أحبه ويحبني كان يومئذ شيخاً فوق الستين، وكنت أتوهمه فوق السبعين، كان ذكي العينين باسم الثغر"، ثم ذكر فضله عليه وإطلاعه إياه على نسخة من ديوان المتنبي بشرح اليازجي، وعلى هوامشها فوائد جليلة - لاحظ أن محمود شاكر في هذا الوقت كان فتى في السادسة والعشرين من عمره. انظر كتابه: المتنبي ص 43.
ومنهم فؤاد صرُّوف ويعقوب صرُُّوف، صاحبا المقتطف، وقد افردا له عددًَ خاصاً من المقتطف، نشر فيه كتابه الرائد عن المتنبي (يناير 1936). ويقول محمود شاكر في بيان قصة تأليفه كتابه عن المتنبي:"والفضل في الذي بلغته مردود كله إلى أخي وصديقي الذي لا أنساه الأستاذ فؤاد صروف، أطال الله بقاءه".
ثم شفيق ونجيب متري، أصحاب دار المعارف، وقد اختار مطبعتهم لطبع الستة عشر جزءاً من تفسير الطبري، الذي هو من أبرز أعماله التحقيقية. ثم الأديب الكبير عادل الغضبان، الذي يقول عن محمود شاكر، في آخر قصيدة القوس العذراء: "التقى صديقنا رفيق الصبا وخِدن الشباب الأستاذ محمود محمد شاكر بصاحب دار المعارف شفيق متري .. وتطرق الحديث بينهما إلى الكلام على العمل وتجويده
…
"، ويخاطب محمود شاكر عادل الغضبان في آخر "القوس العذراء"، ولم يُسَمِّه، ولكنه ذكر لي أن المقصود هو عادل الغضبان، يقول له: "ولكنك بعثت كوامن نفسي منذ رايتك، فتوسَّمت وجهك وعرفت فيه شيئاً أخطأته في وجوه كثير من أهل زماننا". ومن فضلاء المسيحيين الذين كان يحبهم محمود شاكر ويوسع لهم في مجلسه صديقنا الأديب المؤرخ الودود الأستاذ وديع فلسطين.
أما صديقه الأثير من الأحباب المسيحيين، في الأعوام الأخيرة فكان العلامة الدكتور مجدي وهبه عضو مجمع اللغة العربية، وكان محمود شاكر كَلِفاً به، محباً له، وكان يختار مجلسه بجواره في الاجتماعات الأسبوعية لمجمع اللغة العربية، ثم
كان مجدي وهبه يدعوه كثيراً إلى "عزبته" لشيء من الراحة والاستجمام. وقد كتب عن كتاب محمود شاكر "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" مقالة جيدة بالإِنجليزية، ترجمها صديقنا المرحوم زهير علي شاكر ابن أخي الشيخ، باسم:"غضب مرتقب".
ومن وراء ذلك فقد حدثني محمود شاكر أن صديقه القديم توفيق دُوس باشا هو الذي عرَّفه بأم كلثوم.
ومن طريف صلة شيخنا بالأصدقاء المسيحيين: ما حدثني به هو -برَّد الله مضجعه - قال: كانت لنا جارة مسيحية فاضلة جداً، وكان من عادتها أنها تزور السيد البدوي بطنطا، فكنت إذا ذكرت لها أنَّ السيِّد البدوي هذا خرافة تغضب جداً، وتثور ثورة شديدة.
وشيء آخر: كان من حضور موائد محمود شاكر، وبخاصة إفطار يوم عيد الأضحى، على خروف العيد: الأستاذ أنور، وهو مسيحي فاضل جداً، مدرس بمدرسة الطبري، وكان الشيخ يحبه كثيراً.
فأي عصبية دينية؟ اتقوا الله يا قوم، وارْبَعوا على أنفسكم، ولا تعزفوا على هذه النغمة النشاز - نغمة الإِسلام والمسيحية - فإنها نغمة غليظة تؤذي السمع وتصُكّه صكّا، ثم هي بعد ذلك "حجةٌ لاجئ إليها اللئام". كما قال المتنبي.
ثم إنه من البلاهة والغباء والحمق أن يظن ظان أن محمود شاكر ومن حوله قوم من الدراويش قد لبسوا الخِرَق والمرقَّعات، وقد طالت لِحاهم، وطوِّقت المسابح الضخمة أعناقهم، وتناثر الزَّبَد على أشداقهم، وقد داروا في حلقة ذكر حول الكتب الصفراء، يتعبدون بأصحابها ويحرقون لها البخور، وقد صمُّوا آذانهم وأغمضوا أعينهم عن كل ما يدور في عصرهم!
هل تعلمون يا قوم من كان يحضر مجلس محمود شاكر بصفة دائمة؟ ثم من كان يحبه ويجلُى: يحيى حقي ومحمود حسن إسماعيل وعلي أدهم وعبد الرحمن صدقي، ومن لا يحصى من الأدباء والشعراء المعاصرين، مثل صلاح عبد الصبور، وعبد الوهاب البياتي ومحمد الفيتوري ورجاء النقاش، ويوسف شوقي أستاذ العلوم
والموسيقى. وكان من ألصق الناس به: يحيى حقي ومحمود وحسن إسماعيل، وكان أثره فيهما واضحا جدّاً، وذكراه في أكثر من موضع، فيقول يحيى حقي في سيرته الذات! ة:"وأثناء عملي بديوان وزارة الخارجية كانت الكتابة بالنسبة لي خاطراً غير تام الأدوات، ولكن عندما توثقت صلتي بالمحقق البحاثة الأستاذ محمود شاكر، وقرأت عليه عدداً من أمهات كتب الأدب العربي القديم ودواوين الشعر، انفتح الطريق أمامى، ومنذ ذلك الحين وأنا شديد الاهتمام باللغة العربية وأسرارها وبيانها وسحرها".
أما محمود حسن إسماعيل فقد طالت صحبته وملازمته لمحمود شاكر، وما فتئ يذكر فضله عليه وأثره فيه - ولا يخفى ما كان في محمود حسن إسماعيل من بَأْوٍ وعُجب - وعندما سئل عن أثر محمود شاكر فيه قال: " لا استطيع تحديد أبعاد ما حُزْتُه من صداقتي لمحمود، لقد زَجَّ بي إلى الشعر الجاهلي، وأمالني مع الشعر الأموي، وطوَّح بي مع الشعر العباسي، فأحاطني بلُحْمة الشعر العربي وسُداه جميعاً
…
وأستطيع القول إن شعري قبل معرفتي بمحمود كان نبعاً هادئاً فجعله بحراً متلاطماً".
هذا وقد كان من محبي محمود شاكر والعارفين قدره: عبد المنعم تليمة وجابر عصفور، وقد شكر صديقه عبد المنعم تليمة في مقدمة تحقيق أسرار البلاغة، وهو الذي حبب إليّ جابر عصفور، وكان يقول في محضر جلسائه:"الولد جابر ده كويس". وفي سرادق عزائه، جلس عبد المنعم تليمة بجوار محمد عمارة، وهكذا كان محمود شاكر يجمع كل الأقطاب، ويفتح كل النوافذ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
رحمك الله يا أبا فهر ونوَّر قبرك، وجعل كل ما قدمته لأمتك، ولتاريخها وللغتها في موازينك يوم تجد كل نفس ما عملت من خير مُحضراً، وقطع عنك ألسنة المكذّبين وادعاءات المبطلين، وما أحراك أن تُنشد هؤلاء وهؤلاء قول الشريف الرضي:
وإن مقام مثلي في الأعادي
…
مقام البدر الكلاب
رمَوني بالعيوب ملفَّقاتٍ
…
وقد علموا باني لا أُعابُ
وأني لا تُدنِّسني المخازي
…
وأني لا يروعِّنس السِّبابُ
ولما لم يُلاقوا فيَّ عيباً
…
كَسوني من عيوبهم وعابُوا
وقد ادَّخرت نَصَّين من كلام محمود شاكر يدينان هذه النابتة التي نبتت في أرض بلادنا وتسمَّت بالجماعات الإسلامية. وهذان النصان يكشفان عن توجه محمود شاكر الفكري وإدانته لطائفة من أبناء دينه، بعيداً عن لويس عوض والمسيحية وسائر ما يدمغه به القوم.
يقول رضي الله عنه في مقدمة تحقيق أسرار البلاغة: "بل بلغت الاستهانة مبلغها في الدين، بعدما نشأ ما يُسمُّونه بالجماعات الإسلامية، فيتكلم متكلمهم في القرآن وفى الحديث بألفاظ حفظها عن شيوخه، لا يدري ما هي، ولا يرد بل يكذب أحاديث البخاري ومسلم بأنها من أحاديث الآحاد، بجرأة وغطرسة!
بل جاء بعدهم أطفال الجماعات الإسلامية، فيقول في القرآن والحديث والفقه بما شاء هو، ويرد ما قاله مالك وأبو حنيفة والشافعي وابن حنبل، ويقول: نحن رجال وهم رجال! بل تعدى ذلك إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ نفسه، فيقول: نحن رجال وهم رجال!
أي بلاء حدث في زماننا هذا؟ إنما هو وباء الاستهانة بكل شيء، وباء تفشى في مصر، بل تجاوزها، ورحم الله أبا العلاء المعري، وذكر وباءٌ نزل بمصر وغيرها فقال:
ما خَصَّ مصراً وَبَأٌ وحدَها
…
بل كائنٌ في كلِّ أرضٍ وَبأْ
انطفأ سراج العلم، وسراج الخُلُق، وبقيت العقول في ظلمات بعضها فوق بعض. أيُّ نكبة نزلت بعلوم هذه الأمة العربية الإسلامية على يد الصغار في حقيقتهم، الكبار في مراتبهم التي أنزلتهم إياها تصاريف الزمان، فأطلقوا ألسنتهم في مواريث أربعة عشر قرناً، بالاستهانة والقدح والازدراء".
وبعد:
فلئن كان الأستاذ حسين أحمد أمين قد أغضبنا في أول الأمر، فإننا نشكره في آخره؛ لأنه فتح لنا أبواباً من القول، كشفت شيئاً من منهج شيخنا محمود محمد شاكر، رحمه الله.
ولازلنا ننتظر من الأستاذ حسين أن يبرأ من ذلك الكلام الذي قاله في حق شيخنا، ويعتذر عنه، وساعتها سنفرح ببراءة ساحته وخلوّ ذِمَّته؛ لأننا لا نحب أن نطوي صدورنا على مَوْجِدَة لأحد.
والحمد لله الذي لا موهبة إلَاّ منه، ولا بلوى إلا بقضائه، ولا مفزع إلا إليه، ولا يُسر إلا فيما يسره، ولا مصلحة إلا فيما قدره، له الحكم وإليه المصير، يحكم بين عبادة وهو اللطيف الخبير.
وصلى الله على سيدنا محمد رسوله المبعوث، إلى الوارث والموروث.
* * *