الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإِنسان في ملبسه على رعاية الذوق العام، وعدم مصادمة العرف الاجتماعي، وإن لم يصح هذا الفهم والتفسير يكون الكلام ساقطاً لا محالة، لأن إنساناً مهما جهد واجتهد لا يستطيع أن يلبس لباساً يرضي كل الناس.
مثل قديم:
وقد ذكر هذا المثل أحمد باشا تيمور، في كتابه الأمثال العامية، صفحة 404، وقال في تفسيره:"لأن ما تأكله تابع لشهوة نفسك، وأما ما تلبسه فالمراد به التزين للناس، فليكن على ما يعجبهم". وأرى أن أحمد تيمور قد قصَّر أيضاً في بيان حقيقة معنى هذا المثل، حين أغفل قضية رعاية الذوق العام، وعدم مصادمة العرف الاجتماعي، وهما المقصد والغاية من هذا المثل.
فائدة:
قد يظن بعض الناس أن هذا المثل الشعبي: "
كل ما يعجبك، والبس ما يعجب الناس
" مثل معاصر، أو قريب من المعاصرة، والحقيقة أنه كلام قديم عمره نحو "1400 سنة" فهو من كلام أبي عمرو بن العلاء، إمام العربية، وأحد القراء السبعة، المتوفى 154 هـ، مع اختلاف في بعض العبارات، فقد روي أنه نظر إلى بعض أصحابه وعليه ثياب مُشَهَّرة، فقال: "يا بني، كل ما تشتهي والبس ما يشتهي الناس"، والثياب المُشَهَّرة: الفاضحة المفضوحة، وقد نظم هذا المثل بعض الشعراء القدامى، فقال:
إن العيون رمتك من فجَآتها
…
وعليك من شُهْرِ اللباس لباسُ
أما الطعام فكُل لنفسك ما اشتهت
…
والبَس ثيابك ما اشتهاه الناس
انظر: المثل والشعر في لطائف الظرفاء، للثعالبي ص 52، وبهجة المجالس لابن عبد البر 2/ 58، والكشكول، لبهاء الدين العاملي 2/ 404.
ثم لنعد إلى ما فتحه أمامنا الأستاذ صلاح عيسى، فأقول: إن حب النفس مركوز في الطباع، ثابت في أصل الخلقة، فطرة فطر الله الناس عليها، يستوي فيها العربي والعجمي. ولا بأس على الإِنسان أن يستر عيوب نفسه، ما دام ذلك الستر
لا يضر غيره بإبطال حق أو إحقاق باطل، وما أصدق كلمة الأستاذ إحسان عبد القدوس رحمه الله:"إني لا أكذب ولكن أتجمل"، فالتجمل مطلوب، أما الكذب فمرفوض، ومن أسوأ مظاهر الكذب: الكذب مع النفس، بأن يطوي الإِنسان نفسه على شيء، ويقابل الناس بشيء آخر، وهو داء معروف في كل الأزمان والعصور، لكنه زاد في أيامنا هذه، لأسباب ودواعٍ كثيرة، يعرفها الناس ولا يجهلونها.
على أن بعض الناس قد يتظاهر بأنه يجري في طريق الإِنصاف وهضم النفس، فيزعم أنه يعرض على الناس شيئاً من عيوبه ومساوئه، ولكنه يترفق في ذلك ترفقاً واضحاً، بل إنه يخادع، فيقول: إن من أشد عيوبي الثقة الزائدة بالناس، أو إن من مساوئي التفريط في حقوقي، وبذل حبي لمن لا يستحقه من الناس، وهذه كلها ضروب وألوان من خداع النفس، لأنه كلام صدره ذكر العيوب والمساوئ، وعجُزه ضارب في مدح الذات بعروقه، فهو من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم، كما يقول سادتنا البلاغيون، ولعل كثيراً من السير الذاتية التي نقرأها في هذه الأيام من هذا الباب، فضلاً عما في بعضها من ثلب للآخرين وتجريحهم.
على أننا لا ننتظر ممن يكتبون سيرتهم الذاتية أن يكشفوا لنا عن عيوبهم الفاضحة، ويطلعونا على عوراتهم ومساوئهم القادحة، لأن هذا يصادم موروثاتنا الدينية وأعرافنا الأخلاقية، ثم إنه من النبالة والمروءة أن تسكت أنت عن ذكر سوءاتك، ويسكت الناس عن ملاحقتك واستنطاقك بما تكره، وفي هذا وذاك نعود إلى موروث ديني:
فمن الأول: ما أخرجه مسلم في صحيحه "باب النهي عن هتك الإِنسان ستر نفسه من كتاب الزهد والرقائق" من حديث أبي هريرة، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل أمتي معافاة إلا المجاهرين، وإن من الإِجهار أن يعمل العبد بالليل عملاً، ثم يصبح قد ستره ربه، فيقول: يا فلان، قد عملت البارحة كذا وكذا، وقد
بات يستره ربه، فيبيت يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه" صحيح مسلم، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ص 2291.
ومن الثاني: ما أخرجه أحمد في مسنده، من حديث أبي برزة الأسلمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإِيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته"، مسند أحمد 4/ 421، وأخرجه مرة أخرى من حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بلفظ:"لا تؤذوا عباد الله ولا تعيِّروهم، ولا تطلبوا عوراتهم، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته"، مسند أحمد 6/ 279.
أما ما يطلبه الأستاذ صلاح عيسى، من أن يكتب العرب سيرهم الذاتية بنفس الصراحة والصدق اللذين كتب بهما "جان جاك روسو" اعترافاته، فهذا ليس عدلاً، وليس إنصافاً، مع ما فيه من إغفال للموروث الديني، فجان جاك روسو ومَنْ إليه من سائر القوم يرجع إلى بيئة مختلفة عن بيئتنا، وأعراف اجتماعية مباينة لأعرافنا، وموروث ديني يغاير موروثنا.
وليس يخفى أن مصطلح "الاعترافات" عند القوم له دلالة خاصة ترتكز على أساس ديني، وتتطلب إجراءات ووسائط يعرفها الناس، أما في موروثنا الديني فالأمر في غاية اليسر والسهولة، فما عليك إلا أن تكاشف نفسك في لحظة صدق، وحدك منفرداً، تبسط أخطاءك وخطاياك أمام عينك، ناوياً البراءة منها، والخلاص من أثقالها، طالباً من ربك - ليس بينك وبينه حجاب - العون على تجاوزها، معاهداً له على عدم العودة إليها، فإذا صح منك العزم واستجبت للبراءة والتوبة في ظاهر أمرك وباطنه، خرجت من ذنوبك كلها كيوم ولدتك أمك، وليس للناس بعد ذلك حاجة في أن يعرفوا ما كان منك وما صرت إليه، فحسبهم منك الوجه الطيب والعمل الزاكي.
ويبقى في كلام الأستاذ صلاح عيسى ما ينبغي الوقوف عنده، والاحتفال به، وهو "الصدق" فيما يكتبه الناس من سيرهم الذاتية.
والصدق فضيلة الفضائل، وعنوان الشرف والكمال، به يسمو الإِنسان أمام نفسه، وعليه يعظم في أعين الناس وإليه يعود صلاح المجتمع، وجاء في الأثر:"الصادق يعطى ثلاث خصال: المُلْحة والمحبة والمهابة"، والمُلْحة بضم الميم وسكون اللام: البركة، يقال: كان ربيعنا مملوحاً فيه: أي مخصباً مباركاً، النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 4/ 354، روي شبيهه عن الزاهد الكبير يوسف بن أسباط قال:"للصادق ثلاث خصال: الحلاوة والملاحة والمهابة"، سير أعلام النبلاء، للذهبي 9/ 170.
وبعض الذين يكتبون سيرهم الذاتية يستطردون مع شهوة الحديث عن النفس إلى ذكر محاسن ومآثر لهم، في مواقف ووقائع، يضخِّمونها وينفخون فيها، غير مدركين أن هناك من الناس من شهد هذه المواقف، وعاش تلك الوقائع، وغير متنبِّهين إلى أنهم ربما نقضوا كلامهم ذلك في مكان آخر مما كتبوه في سيرهم الذاتية أو في غيرها، فكان واجباً عليهم أن يتذكروا هذا المثل الحكيم من أمثال العرب:"إن كنت كذوباً فكن ذَكوراً"، ويروى:"كن ذكوراً إذا كنت كذوباً" مجمع الأمثال للميداني 1/ 74، 2/ 173، وقد نظمه شاعر فقال:
تكذب الكذبة جهلاً
…
ثم تنساها قريبا
كن ذكوراً للذي
…
تَحْكي إذا كنت كذوبا
جمهرة الأمثال، لأبي هلال العسكري 2/ 396.
وأعلى مراتب الصدق: الصدق مع النفس، ومظاهر الصدق مع النفس كثيرة، وجماعها ألَّا يخالف الطاهر الباطن، وألا يصادم السر العلن.
ويقرأ الناس في تراثنا، على اختلاف علومه وفنونه، كلاماً كثيراً، منظوماً ومنثوراً، عن الصدق وفضائله، في نصوص عالية موثقة، لكنها تظل نصوصاً مجردة، يصدقها من يصدقها، ويكذبها من يكذبها، وتبقى ممارسات الناس وحدها شاهداً ودليلاً على التزامهم أبواب الصدق، وتحريهم وجوهه ودروبه.