الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير العلوم:
وقد بدا لى أن أجمع قدراً يسيراً من هذه الأوجه الخاطئة أو الضعيفة، وأبين وجه الصواب فيها، أو ما هو الأرجح والأولى منها.
وأود أن أنبه إلى أنني أعرضت عما جاء من ذلك في أخبار الحمقى والمغفلين، وما أثر عن الخطباء والوعاظ والقصاص، مما ذكره ابن الجوزي وغيره، ثم مما كان يحفل به الجاحظ، من ذكر غفلات المعلمين والقراء والمفسرين، فإن ذلك باب واسع، ولا تؤمن فيه بواعث الوضع أو التشنيع أو المفاكهة واستخراج الضحك.
وأود أيضاً أن أنبه إلى أن هذه النماذج من تفسير العوام، إنما هى من بابين:
الباب الأول: ما وقع من بعض الأقدمين واستمر فهمه والعمل به إلى يوم الناس هذا. والباب الثاني: ما رصدته أنا وتتبعته من فهم بعض المعاصرين وتفسيراتهم، وسأرتب ذلك على الآيات بحسب ترتيب السور في المصحف الشريف.
وقبل ذلك أحب أن أشير إلى أن بعض خطباء الجمعة في زمننا، وكذلك بعض المتحدثين في إذاعة القرآن الكريم، يتساهلون كثيراً ويجترئون على تفسير كلام الله عز وجل، بما تمليه عليهم النظرة العجلى، وكثيراً ما ينساقون وراء خداع الألفاظ، وتوجيه المعاني وفق ما هو متعارف بين الناس الآن من الدلالات الخاطئة.
وأمثلة ذلك كثيرة أكتفي منها الآن بمثال واحد موثق باليوم والساعة: في صباح يوم السبت 20 من نوفمبر 1998 استمعت في إذاعة القرآن الكريم إلى أحد الدكاترة -وهو رجل فاضل أعرفه- يفسر قوله تعالى: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها فى الحياة الدنيا تزهق أنفسهم وهم كافرون} [التوبة: 55]، قال الأستاذ الدكتور:"الزهق في الآية معناه الضجر والسأم والملل"، ثم رأى أن معنى الآية: أنهم إذا كثرت أموالهم وأولادهم انتهوا إلى حالة من الملل والسآمة، وذكر أن ذلك يرجع إلى نظرية قال بها أحد الأساتذة الأمريكيين، وهب نظرية "الاستهلاك الكبير"التي تدفع الناس بعد الشبع والامتلاء (أو الامتلاك -الشك مني أنا ومن
سمعي) إلى ملالة الحياة ومحاولة التخلص منها، وفسر بذلك ظاهرة الانتحار في المجتمع السويدي، وهو مجتمع سعيد جداً؛ لأنه ليست له مشاكل داخلية أو خارجية، ومع ذلك تكثر فيه ظاهرة الانتحار". انتهى كلام الأستاذ الدكتور!
فانظر كيف فسر "الزهق"، تفسير العوام، ثم بنى عليه ذلك الكلام.
وليس "الزهق" هو الملل، إنما هو البطلان والهلاك والاضمحلال، ومنه قوله تعالى:{إن الباطل كان زهوقاً} [الإسراء: 81]، ومعنى (تزهق أنفسهم) في الآية الكريمة: أي تخرج، قال أبو عبيدة:"أي تخرج وتموت وتهلك" مجاز القرآن 1/ 262. وقال القرطبي في تفسيره 8/ 65: {وتزهق أنفسهم وهم كافرون} [التوبة: 55]، نص في أن الله يريد أن يموتوا كافرين. سبق بذلك القضاء"، وقال الطبري في تفسيره 14/ 297: "وتخرج أنفسهم فيموتوا على كفرهم بالله وجحودهم نبوة نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم".
وواضح أن الدكتور الفاضل قد ظن أن الهمزة في قول العوام "الزهأ -وأنا زهآن" إنما هي القاف الفصيحة التي تأتي غالباً في لغة المصريين والشوام همزة، مثل:"ألت" مكان: "قلت"، و:"أريب" موضع: "قريب"، ويٌسرف الشوام في ذلك فيقولون:"الموسيئا" بدل: "الموسيقى"، ولا يفعل عوام المصريين ذلك في مثل هذه الكلمة، لأنها من الكلمات الثقافية التي يحافظون على صواب نطقها.
وهنا فائدتان: الأولى أن المعجم العربي لم يذكر مادة (زهأ) أصلاً، في أي معنى، أما قولهم:"زُهاء مائة" بمعنى قدر مائة، فأنت تجدها في المعاجم في مادة (زهى) لأنها من زهوت القوم: أي حزرتهم وقدرت عددهم. وهذه الهمزة التي في "زهاء" ليست أصلية، وإنما هي منقلبة عن واو، وأصلها: زهاو، ومثل ذلك: سماء ودعاء ورجاء، فأصلها كلها: سماو ودعاو ورجاو، لأن أفعالها: سموت ودعوت ورجوت. ويقول الصرفيون: تطرفت الواو ألف زائدة فقلبت همزة.
الفائدة الثانية: أن قلب القاف همزة عند عوام المصريين ليس وليد اليوم، وإنما هو قديم، وقد وجدت ذلك في ترجمة "جمال الدين يونس بن بدران بن فيروز الحجازي ثم المليجي المصري، المولود سنة (550 هـ) والمتوفى (623 هـ)،
فقد قال الحافظ الذهبي في ترجمته من سير أعلام النبلاء 22/ 257: "وكان شديد الأدمة (أي السمرة) يلثغ بالقاف همزة"، فهل هذه الظاهرة خاصة بذلك الرجل، لقول الذهبي "يلثغ"، أم أنها كانت معروفة عند المصريين؛ ويلاحظ أن الرجل من "مليج"، وهي من قرى المنوفية الآن.
وسمعت أستاذاً جامعياً آخر -في حديث إذاعي- يترضى على الصحابة فيقول: "وهم أهل التقوى وأهل المغفرة"، وهذا انتزاع خاطئ من القرآن الكريم، فإن عبارة "أهل التقوى وأهل المغفرة" إنما هي في حق المولى عز وجل، وذلك قوله تعالى في آخر سورة المدثر:{وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة} ، قال الزجاج:"أى هو أهل أن يتقى عقابه، وأهل أن يعمل بما يؤدي إلى مغفرته" معاني القرآن وإعرابه 5/ 250، وأخرج الترمذي من حديث أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية:"قال الله عز وجل: أنا أهل أن أتقى، فمن اتقاني فلم يجعل معي إلهاً فأنا أهل أن أغفر له"، عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي 12/ 229 (أبواب التفسير)، هكذا يكون الكلام، فاتقوا الله يا أساتذة في قرآنكم ودينكم! .
وهذا أوان الشروع في المقصود، والله المستعان:
يقول الله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195]، يستشهد الناس بهذه الآية الكريمة عندما يرون أحدهم يقدم على خطر، كأن يعترض سيارة مسرعة، أو يسير بجانب جدار يريد أن ينقض، أو يمر يده على نار مشتعلة، أو يصارع من هو أقوى منه، ونحو ذلك من ألوان المشتقات التي لا طاقة له بها، فيقولون له: حسبك {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} ، والاستشهاد بالآية لهذه الحالة إرث قديم، وقد تناقلته الألسنة حتى وصل إلينا، والصحيح أن الآية الكريمة نزلت في النفقة في سبيل الله والحض عليها، بتصوير الإمساك والبخل بأنهما هلاك يلقي فيهما الممسك والبخيل نفسه، وصدر الآية وختامها يدلان على ذلك، قال تعالى:{وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} .
ثم إن سبب نزول الآية ينفي هذا التفسير الخاطئ، فقد روي عن أسلم أبي عمران، قال: "كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر الجهني، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد بن عامر الجهني، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج من المدينة صف عظيم من الروم، وصففنا لهم صفاً عظيماً من المسلمين، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، ثم خرج إلينا مقبلاً، فصاح الناس فقالوا: سبحان الله! ألقى بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أيها الناس، إنكم تتأولون هذه الآية على غير التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله تعالى دينه وكثر ناصريه، قلنا بعضنا لبعض سراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أنا أقمنا فيها وأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى في كتابه يرد علينا ما هممنا به، فقال:{وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} . انظر: أسباب النزول للواحدي ص 51، وسنن أبي داود 3/ 12 (كتاب الجهاد)، والدر المنثور في التفسير بالمأثور 1/ 207، هذا وقد ذكر الطبري آثاراً أخرى تدل على أن المراد من الآية ترك النفقة في سبيل الله. راجع تفسيره 3/ 583 - 589.
يقول الله تعالى: {والفتنة أشد من القتل} [البقرة: 191]، ويقول تعالى:{والفتنة أكبر من القتل} [البقرة: 217]، ويستشهد الناس بهاتين الآيتين فيمن ينقل كلاماً سيئاً من واحد إلى واحد، أو من طائفة إلى طائفة، ليوقع فتنة أو وحشة بينهما، فهي النميمة، والفتنة في اللغة هي المحنة والاختبار والابتلاء. قال الشاعر:
وقد فتن الناس في دينهم
…
وخلى ابن عفان شراً طويلاً
نعم، إن النميمة تفضي إلى الفتنة، ولكن ليست هي هي، فكأن العوام فسروا الفتنة في الآيتين بما تؤول إليه النميمة، لكن هذا ليس دقيقاً، كما أن سبب نزول الآيتين ينفي هذا الفهم والتأويل، وسياق الآية الأولى هكذا:{وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190) واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل} ، فالفتنة في الآية هي الشرك الذي أراده
الكفار من المؤمنين. قال الطبري: "فتأويل الكلام: وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجع عنه فيصير مشركاً بالله من بعد إسلامه، أشد عليه وأضر من أن يُقتل مقيماً على دينه، متمسكاً عليه، محقاً فيه"، تفسير الطبري 3/ 565.
وكذلك تفهم الآية الثانية: {والفتنة أكبر من القتل} ، في سياقها وسبب نزولها، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد بعث عبد الله بن جحش وناساً معه من المسلمين إلى المشركين، فقتلوا عمرو بن الخضرمي، وذلك في أول يوم من رجب، فاستنكر المشركون ذلك، وقالوا: ألستم تزعمون أنكم أنكم تحرمون القتال في الشهر الحرام؟ فنزل قوله تعالى: {يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل} ، يقول: هذا كله أكبر عند الله من الذي استنكرتم، والفتنة التي أنتم مقيمون عليها، يعني الشرك أكبر من القتل، أي من قتل ابن الحضرمي، راجع أسباب النزول ص 61، وتفسير مجاهد ص 232، وسيرة ابن هشام 1/ 604.
يقول الله تعالى: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} البقرة 224، يستشهد كثير من الناس بهذه الآية على النهي عن الحلف، وليس الأمر على ذلك، ويظهر ذلك من تمام الآية، ومن معرفة سبب نزولها، وقول أهل التفسير فيها، يقول الله تعالى:{ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس} ، قيل إنها نزلت في أبي بكر الصديق إذا حلف ألا ينفق على مسطح بن أثاثة، حين خاض في حديث اإفك، ورمى عائشة الطاهرة بالباطل، وقيل: نزلت في عبد الله بن رواحة حين حلف ألا يكلم بشير بن النعمان -وكان زوجه على أخته- ولا يصلح بينهما.
وقد روي عن التابعي الجليل إبراهيم النخعي أن المعنى: "لا تحلف ألا تتقي الله، ولا تحلف ألا تبر ولا تعمل خيراً، ولا تحلف ألا تصل، ولا تحلف ألا تصلح بين الناس، ولا تحلف أن تقتل وتقطع"، وقال ابن قدامة في المغني 13/ 440:"ومعناه لا تجعلوا أيمانكم بالله مانعة لكم من البر والتقوى والإصلاح بين الناس"، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: "إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً
منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير"، أخرجه البخاري في أوائل كتاب الأيمان والنذور 8/ 159، وانظر: أسباب النزول ص 72، وتفسير الطبري 4/ 422.
فالآية لا تنهى عن الحلف والأيمان، كيف والأيمان تطلب، وتدور عليها وبها أحكام كثيرة في الشرع؟ ومع هذا البيان والتوضيح والتصحيح لموضع الاستشهاد من الآية الكريمة، ينبغي أن يكون معلوماً أن الإفراط في الحلف مكروه ومذموم، لأنه يؤدي إلى الكذب، وقد قيل في تفسير قوله تعالى:{وأحفظوا أيمانكم} [المائدة: 89]، إن المعنى: بترك الحلف، فإنكم إذا لم تحلفوا لم تتوجه عليكم هذه التكليفات. راجع تفسير القرطبي 6/ 285.
يقول الله تعالى: {واتقوا الله ويعلمكم الله} [البقرة: 282]، يستشهد كثير من الناس بهذه الآية على أن التقوى طريق وسبب لتعليم الله وتوفيقه لعباده، ويسوون بينها وبين قوله تعالى:{إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً} [الأنفال: 26]، وقوله تعالى:{ومن يتق الله يجعل له مخرجاً (2) ويرزقه من حيث لا يحتسب} [الطلاق: 2، 3]، وهذا التفسير غير صحيح، وبدءة ذي بدء، فإن آيتي الأنفال والطلاق مبنيتان على أسلوب الشرط والجزاء، وليس كذلك آية البقرة، فانتفت التسوية، هذا أولاُ.
وثانياً: فإن هذا الجزء المتلوّ من الآية إنما هو ختام لآية المداينة: {يا أيها الذين أمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه
…
} الآية، وهي أطول آية في الكتاب العزيز، وقد اشتملت على أحكام في كتابة الدين والإشهاد عليه، والرهن، وقد ختمت الآية بقوله تعالى:{واتقوا الله ويعلمكم الله} ، أي: واتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، ويعلمكم الله أحكامه المتضمنة لمصالحكم. وقال الطبري: "يعني بقوله جل ثناؤه (واتقوا الله): وخافوا الله أيها المتداينون في الكتاب والشهود، أن تضاروهم
…
ويعني بقوله: (ويعلمكم الله): ويبين لكم الواجب لكم وعليكم"، تفسير الطبري 6/ 93.
وهذا هو التوجيه الصحيح للآية الكريمة، لكن بعضاً من قدامى المفسرين وجهوا الآية على المعنى الذي يشيع عند العوام، ومن هؤلاء القدامى: ابن عطية في
المحرر الوجيز 2/ 520، والقرطبي 3/ 406، وابن كثير 1/ 500، لكن المحققين على غير ذلك.
قال الزركشي في البرهان 4/ 143: "وأما قوله تعالى: {واتقوا الله ويعلمكم الله}، فظن بعض الناس أن التقوى سبب التعليم، والمحققون على منع ذلك، لأنه لم يربط الفعل الثاني بالأول ربط الجزاء بالشرط، فلم يقل: "واتقوا الله يعلمكم"، ولا قال: "فيعلمكم الله"، وإنما أتى بواو العطف، وليس فيه ما يقضي أن الأول سبب للثاني، وإنما غايته الاقتران والتلازم، كما يقال: زرني وأزورك، وسلم علينا ونسلم عليك، ونحوه، مما يقتضي اقتران الفعلين والتعارض من الطرفين، كما لو قال عبد لسيده: أعتقني ولك علي ألف، أو قالت المرأة لزوجها: طلقني ولك ألف، فإن ذلك بمنزلة قولها: بألف أو علي ألف، وحينئذ فيكون متى علم الله العلم النافع اقترن به التقوى بحسب لك. ونظير الآية قوله تعالى:{فاعبده وتوكل عليه} [هود: 123].
وقال أبو حيان في البحر المحيط 2/ 354: "ويعلمكم الله: هذه جملة تذكر بنعم الله التي أشرفها التعليم للعلوم، وهي جملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب، وقيل: هي في موضع نصب على الحال من الفاعل في (واتقوا) تقديره: واتقوا الله مضموناً لكم التعليم والهداية
…
وهذا القول -أعني الحال- ضعيف جداً، لأن المضارع الواقع حالاً لا يدخل عليه واو الحال إلا فيما شذ من نحو: قمت وأصك عينه، ولا ينبغي أن يحمل القرآن على الشذوذ".
يقول الله تعالى: {ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم} [آل عمران: 77].
وهذه آية يضل في فهمها كثير من الناس، وبخاصة تلك الطائفة من المتعصبين الجهلة، يقولون: إن الله نهانا أن نسمع لمن ليس من ديننا، وألا نتبع إلا من هم على ديننا الإسلامي الحنيف، وسياق الآية وسبب نزولها ينفيان ذلك، فالآية السابقة تقول:{وقالت طائفة من أهل الكتاب أمنوا بالذى أنزل على الذين أمنوا وجه النهار وأكفروا أخره لعلهم يرجعون (72) ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم} ، فالآية نزلت في اليهود، حيث
قال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد، واكفروا به في آخر النهار، ثم قال بعضهم لبعض: ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم، فكان يهودياً، فالآية تحكي عن مكر اليهود، ومحاولتهم تشكيك المؤمنين في دينهم، ورغبتهم في أن يرجعوهم عن دينهم، ولا تخاطب الآية المؤمنين وتنهاهم عن متابعة غير المسلمين، وانظر: أسباب النزول ص 104، وتفسير الطبري 5/ 511.
في يوم جمعة وفي أثناء الخطبة اندفع الخطيب يحث المصلين على اصطحاب أطفالهم لحضور الجمعة والجمعات، وأخذ يحشد الأدلة والشواهد، إلى أن انتهى إلى قوله تعالى:{خذوا زينتكم عند كل مسجد} [الأعراف: 31]، فكبا كبوة لا ينهض منها، وعثر عثرة يصعب عليه التخلص منها، وذلك أنه رد "الزينة" في هذه الآية إلى أختها في سورة الكهف 46 {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} ، ويا بُعد ما بينهما! وقد غفل هذا الخطيب عن سبب نزول تلك الآية، وهو ما روي عن ابن عباس أنهم كانوا في الجاهلية يطوفون بالبيت عراة، الرجال بالنهار، والنساء بالليل، وكانت المرأة تقول وهي تطول:
اليوم يبدو بعضه أو كله
…
وما بدا منه فلا أحله
فالزينة في سورة الأعراف: هي الثياب، وما وارى العورة، وكذلك تفسر "الزينة" في الآية التي تلي ذلك:{قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} [الأعراف: 32]، وانظر: أسباب النزول ص 222، وتفسير الطبري 12/ 389.
يقول تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق اليل وقرءان الفجر إن قراءن الفجر كان مشهوداً (78)} [الإسراء: 78].
يخطئ بعض الناس في تفسير "قرآن الفجر" هنا بأنه القرآن الذي يتلى ساعة الفجر، ثم يخطئ بعض المذيعين حين يقدمون التلاوة في ذلك الوقت، فيقولون: قرآن الفجر يتلوه الشيخ فلان. والصحيح أن المراد بقرآن الفجر، هو صلاة الفجر، أي صلاة الصبح، وعبر عنها بالقرآن خاصة دون غيرها من الصلوات؛ لأن القرآن هو أعظمها. إذ قراءتها طويلة ومجهور بها. قال القرطبي: "وقد استقر عمل المدينة
-أى عمل أهل المدينة، وعملهم حجة- على استحباب إطالة القراءة في الصبح قدراً لا يضر بمن خلفه"، تفسير القرطبي 10/ 305، والدر المنثور 4/ 196.
وبعد: فهذا قليل من كثير، مما يقع فيه الناس من أوهام وتخليط في تفسير كلام الله عز وجل، وقد أمسكت عن ذكر أشياء من هذه البابة لأني رأيتها تحمل صوراً من الهزل والفكاهة، ونحن نُجل كتاب ربنا عز وجل أن تكون آياته البينات معرضاً للتفكه والمنادمة.
ولا يبقى إلا أن نتوجه إلى مشايخنا الخطباء والوعاظ، ثم إلى زملائنا الجامعيين الذين أخذوا ينازعون المشايخ سلطانهم في الوعظ والتذكير، بل والفتيا في دين الله، نتوجه إلى هؤلاء وهؤلاء أن يتقوا الله في كتابه العزيز، ولا يتجرءوا على القول فيه دون حجة أو دليل، وأن يراجعوا الكتب ويستفتوا المراجع، والله يعصمنا وإياهم من الزلل.
* * *