الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أيُّ شلَاّل هادر توقَّف
! (1)
في الساعة الخامسة من عصر يوم الخميس 3 من ربيع الآخر 1418 هـ - 7 من أغسطس 1997 م دُعي محمود شاكر فأجاب، وبعد نصف ساعة من انتقاله للرفيق الأعلى كنت على رأسه ألقنه الشهادتين، ثم دارت بي الأرض وأنا أنظر إلى هذا الجسد الساكن وقد صرعه الموت، وهو الذي غالب المحن وصارع الشدائد، فلم تلن له قناة، ولم يخفت له صوت، ولم يرتعش في يده قلم، حتى جاءه القاهر الذي لا يُغلب. ثم نظرت إليه أخرى وقلت: أي صوت مجلجل سكت، وأيُّ شلال هادر توقف، وأي نبع عذب غاض، وأي نبت مزهر صوَّح، وأي ركن جليل ساخ، وأي فارس فاتك ترجَّل؟
ثم تذكرت أبيات مطيع بن إياس، يرثي يحيى بن زياد الحارثي:
وينادونه وقد صمَّ عنهم
…
ثم قالوا وللنساء نحيبُ
ما الذي غال أن تحير جوابا
…
أيها المصقع الخطيب الأديبُ
فلعن كنت لا تحير جواباً
…
فبما قد ترى وأنت خطيبُ
في مقال وما وعظت بشيء
…
مثل وعظ بالصمت إذ لا تجيبُ
وحين جاء الرجال لينقلوه إلى حيث يشيَّع، وتناولوه من جانبيه لان لهم وانقاد، وهو الذي كان عصيّاً أبياً، ثم تذكرت كلمة معاوية وهو في النزع يُحتضر، يقول لابنيه وهما يقلبانه:"إنكما لتقلبان قُلَّبا حُوّلاً". والقُلَّب: الرجل العارف
(1) مجلة "العربي"، العدد 469، ديسمبر 1997 م.
بالأمور، الذي ركب الصعب والذلول، وقلب الدنيا ظهراً لبطن، والحُوَّل: ذو التصرف في الأمور، وكذلك كان محمود شاكر.
ثم اعتراني ما يعتري الناس من غم، وركبني ما يركبهم من هم، لفقد الأحباب وغياب العلماء، وبذهابهم يذهب العلم، على ما جاء في الأثر:"إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء". ولكن ماذا نصنع وكل حي إلى فناء، وكل جديد إلى بلى، والملجأ الله، منه يأخذ المحتسب، وإليه يرجع الجازع.
ولقد كتبت عن محمود شاكر غداة وفاته، وكتبت عنه من قبل، وأبنت عن تاريخه الحافل مع العربية: تحصيلاً لها وإحاطة بها، وذوداً عنها، ومنافحة دونها، وكشفاً لأسرارها، مما تفرد به ولم يدانه فيه احد من أدباء جيله، لكني استسمح القارئ الكريم أن أعيد كلمة كنت قد كتبتها بالأمس القريب، تلك كلمة أبي حيان التوحيدي، يقارن بين الجاحظ وابن العميد:"إن مذهب الجاحظ مدبر بأشياء لا تلتقي عند كل إنسان، ولا تجتمع في صدر كل أحد، بالطبع والمنشأ والعمل والأصول والعادة والعمر والفراغ والعشق والمنافسة والبلوغ. وهذه مفاتح قلما يملكها واحد، وسواها مغالق قلما ينفك منها أحد".
فاقرأ هذا الكلام العالي، وأعطه حظه من النظر والتأمل، ثم نزَّله على محمود شاكر - إن كنت تعرفه معرفتي - وستراه مفصلاً عليه تفصيلاً، ومصروفاً إليه صرفاً. وللناس أن يتكلموا عن علم محمود شاكر وجهاده، ما شاء الله لهم أن يتكلموا، فالحوض ملآن والنفس جياشة، ولكن الحديث عن مجلسه مما ينبغي الوقوف عنده وتأمله! فأيُّ رجل كان محمود شاكر؟ وأيُّ مجلس كان مجلسه؟ وأيُّ أنس كان يشيع في هذا المجلس؟ وأيُّ علم كان يتفجر في رحابه؟
لقد قلت في بعض ما كتبت: إنه لم يحظ أحد من أدباء هذا الجيل بمعشار ما حظي به محمود شاكر، من الالتفاف حوله والأخذ عنه والتأثر به: طوائف من الناس من مختلف البلدان والأعمار والانتماءات، ضمهم بيته المفتوح دائماً، وقد خلا من
الرسميات والمواعيد المضروبة من قبل. يقول الأستاذ فتحي رضوان، في وصف ذلك البيت الشاكري:
"كان بيته ندوة متصلة لا تنفَفضّ، من أعضائها الثابتين: يحيى حقي، إذا حضر من أوروبا، وعبد الرحمن بدوي، وحسين ذو الفقار صبري، وغيرهم وغيرهم، ولم يكن من حظّي أن أكون عضواً دائماً فيها، فقد كنت ألمّ بهم أحياناً، فأراهم وأرى من العالم العربي كله، ومن العالم الإِسلامي على تراميه، شخصيات لا حصر لها، تتباين بعضها عن بعض، في الرأي والمظهر والثقافة واللهجة والشواغل والمطامح، ولكنها تلتقي كلها عند محمود شاكر، تسمع له وتأخذ عنه وتقرأ عليه وتتأثر به. وكلما كان من حظي أن أشهد جانباً من هذه الندوة أحسست بسعادة غامرة، أن يبقى ركن في بلدي كهذا الركن، ينقطع أصحابه للفكر والدرس والتحدث في أمور لا تجد من يسمع بها أو يعرف عنها شيئاً في مكان آخر".
وإذا كان الأستاذ فتحي رضوان قد ذكر من عرفهم من أعلام المفكرين والأدباء، الذين كانوا يختلفون إلى بيت محمود شاكر، في الخمسينيات وما قبلها، فإني ذاكر أيضاً من عرفتهم في هذا المجلس العامر، على امتداد الستينيات والسبعينيات: عبد الرحمن صدقي وعلي أدهم وحسن كامل الصيرفي ومحمود حسن إسماعيل ووديع فلسطين وعلي أحمد باكثير ويوسف شوقي وعبده بدوي.
ومن أعلام العرب وأدبائه: أحمد المانع، وناصر الدين الأسد، وأحمد راتب النفاخ، وإحسان عباس، وشاكر الفحام، وإحسان النص، ومحمد يوسف نجم، ووليد عرفات، وعبد القدوس أبو صالح، عبد الله الطيب المجذوب، وحمد الكبيسي، ونوري الفيسي، وعبد الله الجبوري، وهاشم الطعان، وبشار عواد معروف، وإبراهيم السامرائي، ويعقوب الغنيم وأخواه عبد الله ومرزوق، وجمعة الياسين، وصالح العثمان، وعبد الله العيسى، وعبد الله عسيلان، وإبراهيم شبوح، ومحمد بن شريفة، وعبد السلام الهراس، والحبيب اللمسي .. فهل وجدت هؤلاء قد اجتمعوا يوماً عند أديب من أدباء مصر! ثم يتسع المجلس أيضاً للطلاب
المبتدئين، والشباب المعيدين.
ولقد يجتمع الناس في ندوة أديب من الأدباء، ثم تنفض الندوة وينفرط عقدها، ويذهب كل في طريق، وكأنهم كانوا رفقاء رحلة عابرة. ولكن مجلس محمود شاكر يختلف عن غيره من المجالس، بما يشيع فيه من أنس وود وبهجة، وما تنعقد فيه من صداقات عذبة حميمة، يغذيها وينميها صاحب المجلس.
أما المناقشات العلمية والمحاورات الأدبية فلكل امرئ منها حظ مقسوم، لا ينفرد بها صاحب الدار، ولا يستبد بها الكبار، فالكل في هذا المجلس سواء، والكل يتكلم ويشارك، ولم يكن صاحب المجلس يستريح للأحاديث الجانبية أو ثنائية الحوار، فما يكاد يرى اثنين يتحدثان منفردين حتى يتدخل بينهما قائلاً:"أنتوا بتقولوا إيه"، وكأنما يريد أن يقطع عليهما طريق الانفراد، ولا شك أنه كان يصدر في هذا عن روح الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما:"إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر - حتى تختلطوا بالناس - من أجل أن ذلك يحزنه". بل إن مائدة الجمعة والموائد الأخرى الحافلة كيوم عاشوراء، الذي كان يوافق مولد صاحب الدار بالتاريخ الهجري، هذه الموائد كانت تجمع إلى أهل الأدب والفكر بعض أهل الحرف والصناعات الذين كان لهم بالبيت وصاحبه صلة وتاريخ، كالمجلد والنجار والحلاق.
ومن طريف ما يُذكر هنا ما رواه لي أبو فهر رحمه الله، قال:" في يوم جمعة، في أوائل ثورة يوليو كان يجلس على مائدة الغداء: محمد رشاد مهنا، والشيخ أحمد حسن الباقوري، ومحمد فؤاد جلال، وكان يجلس على المائدة نفسها الأسطى أنور الحلاق. وفي صباح اليوم التالي اتصل بي الشيخ الباقوري وقال لي إن محمد فؤاد جلال - وكان وزيراً للشؤون الاجتماعية - عاتب عليك لوجود الأسطى أنور بيننا. يقول أبو فهر: وفي الجمعة التالية قلت لمحمد فؤاد جلال: اسمع يا فؤاد أنت وزير هناك في مجلس الوزراء، ولكنك هنا في بيتي واحد من عامة الناس، مثلك مثل الأسطى أنور وغيره".
"لقد صحبت محمود شاكر ثلاثين عاماً، وما زلت أذكر أول يوم زرته فيه، وكنت في صحبة الأخ العلامة الكبير أحمد المانع احتمي به من مشاعر الهيبة والخشية والحذر، من تلك الحدة المزعومة في شخصية محمود شاكر، وهو شعور عرفناه جميعاً قبل أن ندخل البيت، وحين توثقت صلتنا بالشيخ اكتشفنا زيف هذا الشعور، وكذب تلك المزاعم التي أشاعها بعض الناس ليصدوا أهل العلم عنه، وإذا نحن أمام قلب طاهر نقي، يغضب ويثور حين يرى حداً من حدود العلم قد انتهك، أو حين يسمع تطاولاً على تاريخ الأمة العربية وعلومها.
وبعد: فالكلام عن محمود شاكر لن ينتهي بنهاية هذه الكلمة، وسيظل هذا الرجل أثراً ضخماً في ضمير هذه الأمة: حراسة للعربية وذوداً عنها، وبصراً بها، وإضاءة لها. وإن أحق ما يقال عن محمود شاكر هنا وفي كل وقت وحين ما قاله هو عن أستاذه مصطفى صادق الرافعي:"بأن الرافعي قد صار ميراثاً نتوارثه، وأدباً نتدارسه، وحناناً نأوي إليه"، وكذلك يكون محمود شاكر "ميراثاً نتوارثه"، إلى آخر ما قال في حق شيخه الرافعي.
* * *