المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآي تترى (1) تدور بنا الأيام وتطوينا الليالي، ونحن غارقون في - مقالات الطناحي صفحات في التراث والتراجم واللغة والأدب - جـ ٢

[محمود محمد الطناحي]

فهرس الكتاب

- ‌هذه النقطة .. وقضية التصحيف والتحريف

- ‌التصحيف .. وتغيير التنقيط:

- ‌ ضوابط القراءة المقبولة

- ‌السيرة الذاتية .. والصدق مع النفس [1]

- ‌مثل قديم:

- ‌فائدة:

- ‌كل ما يعجبك، والبس ما يعجب الناس

- ‌الجزئي دون الكلي

- ‌صحة العقل:

- ‌السيرة الذاتية .. والصدق مع النفس [2]

- ‌الصراحة الكاشفة:

- ‌من حصاد الندوات:أولية الطباعة العربية في مصر

- ‌مطبعة بولاق:

- ‌ مجموع ما طبعته مطبعة بولاق، منذ إنشائها سنة 1821 م وحتى سنة 1878 م بلغ (603890) كتاباً

- ‌ تقييم أعمال مطبعة بولاق

- ‌أولاً: كان إنشاء محمد علي مطبعة بولاق متزامناً مع إرساله البعثات لتلقي العلم في أوروبا

- ‌ثانياً: يلاحظ في السنوات الأولى من نشاط مطبعة بولاق غلبة للكتب المترجمة في الشؤون الطبية والزراعية والهندسية وتدبير المعاش

- ‌ثالثاً: إن الذين قاموا على نشر كتب التراث بتلك المطبعة كانوا يستهدفون غاية ضخمة، هي إبراز كنوز الفكر العربي والإِسلامي

- ‌رابعاً: تزامن نشاط مطبعة بولاق مع الدعوة إلى العامية التي تولى أمرها تفر من الأجانب الذين حلوا بمصر

- ‌خامساً: أقدمت مطبعة بولاق في ذلك الزمان المبكر على طبع الموسوعات الضخمة

- ‌سادساً: حرصت مطبعة بولاق في كثير من منشوراتها على طبع كتاب أو أكثر بهامش الكتاب الأصلي

- ‌سابعاً: لم تكن مطبوعات بولاق كلها على نفقة الدولة، ففد رأينا جهود الأفراد والجماعات وأموالهم وراء كثير من مطبوعات تلك المطبعة العتيقة

- ‌المرحلة الثانية:مرحلة مطابع إدارات الجيش والمدارس الحكومية

- ‌المرحلة الثالثة: المطابع الأهلية

- ‌محمود محمد شاكر .. والتكريم المستحق

- ‌ شيخ العربية وحارسها: الإِمام أبو فهر محمود محمد شاكر

- ‌ولد شيخنا بمدينة الإِسكندرية يوم الاثنين العاشر من المحرم سنة 1327 ه

- ‌ خالط أبو فهر العربية منذ أيامه الأولى

- ‌ سارت حياة أبي فهر في طريقين استويا عنده استواء واضحاً عدلاً:

- ‌الطريق الأول طريق العلم والمعرفة

- ‌والطريق الثاني التنبه الشديد لما يحاك لأمتنا العربية من كيد ومكر

- ‌وقد حارب أبو فهر في جهات كثيرة، وخاض معارك كثيرة:

- ‌النحو العربي .. والحِمى المستباح [1]

- ‌كتاب سيبويه والقياس:

- ‌مقتضى المعنى وحق الإِعراب:

- ‌وجهان للفعل الواحد:

- ‌اللغة ليست هي النحو:

- ‌الفرق بين الرفع والنصب:

- ‌ضعف الحجة:

- ‌مظاهر الاهتمام بالنحو:

- ‌النحو العربي .. والحِمى المستباح [2]

- ‌الاهتمام بالنحو كان متزامناً مع النهضة العامة التي كانت آخذة في النمو والاتساع

- ‌الاستشهاد بالشعر:

- ‌كلام فظيع جداً:

- ‌اختلاف الألسنة:

- ‌(تحقيق):شاعت عن ابن خلدون في حق ابن هشام كلمة تناقلها مترجموه، وهي قوله: "ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية، يقال له ابن هشام، انحى من سيبويه

- ‌تعمق مذهب النحاة:

- ‌هجوم وازدراء:

- ‌هل أدلّكم على تجارة

- ‌نهر العطاء:

- ‌تفاصيل المشروع:

- ‌غياب الكتاب العربي:

- ‌مكتبة العرب:

- ‌محمود محمد شاكر ..ومنهجه في تحقيق التراث

- ‌أعلام في ميدان التحقيق:

- ‌أصل في علم البلاغة:

- ‌الشيخ واللغة:

- ‌تصحيح الكلام:

- ‌تصحيح رواية الشعر:

- ‌الحضارة العربية:

- ‌مواضع للنقد:

- ‌السند المتصل:

- ‌مناقشات مهمة:

- ‌الشيخ محمود شاكر .. وتاريخ ضخم

- ‌محمود شاكر .. والديار التي خلت

- ‌أجمل كتاب في حياتي:"البيان والتبيين"، للجاحظ

- ‌أسس حضارة فتية:

- ‌التصاق الفن بالنفس:

- ‌ترك الأستاذ على جهله:

- ‌كتاب شامل للحضارة العربية:

- ‌أيُّ شلَاّل هادر توقَّف

- ‌تاج العروس" .. والزمن البعيد

- ‌مطبعة للمنشورات .. وليست للثقافة

- ‌كمال النجمي .. والثغور التي تتساقط

- ‌الناشرون الأوائل .. وسماحة مصر

- ‌الآي تترى

- ‌الشيخ الشعراوي .. والموازين الصحيحة

- ‌فهم النص واستيعابه:

- ‌مبالغات:

- ‌لم يعاد يوسف إدريس:

- ‌موقف غريب

- ‌الشيخ الشعراوي .. والفتنة بما يقوله الكبار

- ‌أنوار اليقين:

- ‌صنعة أم صبغة

- ‌حفظ القرآن:

- ‌دلائل لغوية:

- ‌قراءات ربانية:

- ‌مآخذ على الزركلي:

- ‌إنكار حرب رمضان وشماتة لا تليق:

- ‌سقطات:

- ‌ملاحظات تفصيلية:

- ‌محمود محمد شاكر

- ‌محمود محمد شاكر .. والسِّهام الطائشة

- ‌القرآن الكريم .. وتفسير العوام

- ‌فقه التفسير:

- ‌غاية دينية:

- ‌تفسير العلوم:

- ‌علي الجارم…لغوياً نحوياً

- ‌الجارم لغوياً ونحوياً:

- ‌تراثنا .. رحلة شاقة

- ‌مراحل النشر:

- ‌المرحلة الأولى لنشر التراث:

- ‌المرحلة الثانية: (مرحلة الناشرين النابهين):

- ‌المرحلة الثالثة: (مرحلة دار الكتب المصرية):

- ‌المرحلة الرابعة: (مرحلة الأفذاذ من الرجال):

- ‌بنت الشاطئ .. وتحقيق التراث

- ‌هل هو علم الرجال

- ‌مرحلة النشر العلمي:

- ‌الإرث العظيم:

- ‌الرسائل الجامعية .. و .. ساعة ثم تنقضي

- ‌حديث عجيب:

- ‌لا يجوز:

- ‌مقالات قصيرةبعنوان:الكلمة الأخيرة

- ‌المؤتمرات العلمية…والنغمة المكرورة

- ‌الجزار الثالث

- ‌العامية في مهرجان أمير البيان

- ‌ما المسؤول عنها بأعلم من السائل

- ‌أبي يغزو…وأمي تحدث

- ‌الندواتية

- ‌موائد الرحمن

- ‌جلال معوض .. وزمن الورد

- ‌زاحم بعود أو فدغ

الفصل: ‌ ‌الآي تترى (1) تدور بنا الأيام وتطوينا الليالي، ونحن غارقون في

‌الآي تترى

(1)

تدور بنا الأيام وتطوينا الليالي، ونحن غارقون في لجة الحياة، نضرب في الأرض ونمشي في مناكبها، نغدو ونروح بآمالنا وحاجاتنا التي لا تنقضي، وأيامنا متشابهة وليالينا مكرورة، ولا ينسخ هذا التشابه، ويكسر ذلك التكرار إلا بعض أيام من الدهر، تبعث فينا النشوة والبهجة، حين تردنا إلى ذكرى عزيزة.

وليس كالمولد النبوي الشريف داعياً إلى البهجة، وجالباً للنشوة، وناشراً لما طوي من الذكريات العزيزة.

ففي اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأنور ولد ذلك الصبي "اليتيم" الذي جاء على فترة من الرسل، وقد غير وجه الدنيا بما أنزل الله عليه من القرآن العظيِم، والسنة المطهرة التي هي الحكمة، في قوله تعالى {واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} [البقرة: 231]، اللهُمَّ صلّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى أبويه الكريمين إبراهيم وإسماعيل ثم على سائر إخوانه المصطفين الأخيار، وآله الأطهار وأصحابه الأبرار.

وهذا النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم الذي تحدَّر من أصلاب كريمة، صنعه الله على عينه، ورزقه الخلق العظيم، فكان مثلاً أعلى للكمال الإِنساني، وقد ملأ العيون نوراً، وغمر القلوب حباً، واستوى في حبه من رآه وصحبه، ومن قرأ سيرته واتبع سنته. وقد فتحت سيرته العطرة للأدباء وقالة الشعر، باباً واسعاً لمديحه وذكر شمائله صلى الله عليه وسلم

(1) مجلة "الهلال"، يوليو 1998 م.

ص: 552

بما عرف في الأجناس الأدبية بالمدائح النبوية، وهو ديوان ضخم من دواوين الشعر العربي، وقد كتب فيه العلامة الدكتور محمود علي مكي كتاباً جيداً، فاطلبه واقرأه واحرص عليه.

وقد أخذ الشعراء في مديحه صلى الله عليه وسلم في حياته الشريفة، وبعد انتقاله للرفيق الأعلى، وكان أول من مدحه عمه أبو طالب، بقصيدته التي أولها:

وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

وتبعه عمه العباس، بقصيدته التي مطلعها:

من قبلها طبت في الظلال وفي

مستودع حيث يخصف الورق

وقد كتبت عن هذه القصيدة كلمة بمجلة الهلال (سبتمبر 1993). (انظر ص 247).

ثم الأعشى بتلك القصيدة العالية التي أولها:

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا

وعادك ما عاد السليم المسهدا

ثم كان حسان بن ثابت وقصائده الجياد، وتتابع الشعراء على ذلك في مشرق العالم الإِسلامي ومغربه، حتى عصرنا الحديث، بل إن مما يستطرف ذكره هنا أن يدخل إلى الحلبة بعض إخواننا المسيحيين من شعراء المهجر. فهذا الشاعر إلياس فرحات ينظم قصيدة عذبة في المولد النبوي، يجعل عنوانها:"يا رسول الله"، وفيها يقول:

غمر الأرض بأنوار النُّبوهْ

كوكب لم تُدرك الشمس عُلُوَّهْ

لم يكد يلمع حتى أصبحتْ

ترقب الدنيا ومن فيها دُنُوَّهْ

بينما الكون ظلامٌ دامس

فُتحت في مكة للنور كُوَّهْ

والشاعر القروي رشيد سليم الخوري ينظم أيضاً في المناسبة قصيدة، أولها:

عيد البرية عيد المولد النبوي

في المشرقين له والمغربين دوي

ويعد أمير الشعراء أحمد شوفي من أكثر شعراء العصر الحديث حفاوة بالمديح

ص: 553

النبوي، ونظماً فيه، وقد اخلص بعض قصائده للمديح والمولد، ثم جاءت الإِشارة إلى مدحه صلى الله عليه وسلم في أثناء قصائده الأخرى. فمن قصائد الطائفة الأولى:"الهمزية الشهيرة"، وجاءت على البحر الكامل:

ولد الهدى فالكائنات ضياء

وفم الزمان تبسُّم وثناء

و"نهج البردة" وقد عارض بها قصيدة البوصيري، وهي من البحر البسيط، وأولها:

ريم على القاع بين البان والعلم

أحل سفك دمي في الأشهر الحُرُم

وقصيدة "إلى عرفات الله"، وهي من البحر الطويل، ويقول فيها:

إلى عرفات الله يا خير زائر

عليك سلام الله في عرفات

ثم أرجوزته في السيرة النبوية، التي جاءت في ديوانه: دول العرب وعظماء الإِسلام، وأولها:

محمد سلالة النبوهْ

ابن الذبيج الطاهر الأبوهْ

ومن قصائد الطائفة الثانية قصيدة: "سلوا قلبي غداة سلا وتابا"، وهي من البحر الوافر، وفيها يقول:

أبا الزهراء قد جاوزت قدري

بمدحك بيد أن لي انتسابا

وتقف من بين هذه القصائد، القصيدة الهمزية، عالية باذخة، وتقع في مائة وواحد وثلاثين بيتاً، وفي البيت الحادي والعشرين منها يقول:

والآي تترى والخوارق جمة

جبريل رواح بها غداء

وفي كلمة "تترى" مبحث لغوي طريف، وذلك أن كثيراً من الناس - ولا أقول بعض الناس - يظنون هذه الكلمة "تترى" فعلاً مضارعاً، ويستعملونها في موضعه، ومنذ زمن بعيد كنت اسمع وأقرا هذا التخليط في تلك الكلمة، فلم أكن أعبأ به أو أقف عنده، للذي كان يغلب على ظني أن هذا مما يقع فيه الطلبة المبتدئون،

ص: 554

فكنت أصحِّحه لهم وأبين وجه الصواب فيه، وأكثر ما كنت أرى ذلك في مناقشة الرسائل الجامعية، حتى استشرى الأمر، ورأيت بعض كبار كتابنا يقع فيه، ومن ذلك ما قرأته لكاتب عالم كبير، قال:"تترى الثورات العلمية وتتواتر"، وقد كنت أخشى من تنبيهه على هذا الخلط، ولكنه سعد كثيراً لذلك التصحيح، وهذا شأن العلماء، فقلت له:"ولست أول سار غرََّه القمر"، فقد وقع كثير من الناس في هذا الخلط، وقد اخبرني عالم اللغة العراقي الدكتور إبراهيم السامرائي أن الدكتور طه حسين وقع في هذا الخطأ واستعمله، ونبَهه أحد قرَّاء مجلة "الرسالة" وأنا أشك في ذلك، ولكن العهدة على الدكتور السامرائي.

ومهما يكن من أمر فقد رأيته واجباً متعيناً عليّ أن أبينه للناس ولا أكتمه، ولكني كنت أسوِّف حتى سألني ذات صباح قريبٍ صديقي عبد الرحمن شاكر، عن تلك الكلمة، من أي أنواع الأبنية هي؟ وما سأل عنها الصديق إلا لأنها حاكت في صدره حين لم يجد لها تصريفاً في الفعل الماضي أو الأمر، فقلت له: إنها اسم .. فقال: كيف وشارح ديوان شوقي يقول في الحاشية: "تترى: تتوالى" ففسرها بالفعل. فقلت له: هذه هي المشكلة، فإن بعض الأقدمين قد فسرها بالفعل أيضاً، على ما يأتي تفصيله. وهنا قلت: لا بد من بيان يكشف وجه الصواب في هذه الكلمة.

وستدور مقالتي - إن شاء الله - حول ثلاث نقاط: تأصيل الكلمة وبيان اشتقاقها، وتحرير معناها، وذكر شواهدها من النثر والشعر، وإعرابها في سياقها، ثم دفع شبهة.

يقول علماء الصرف: تترى، اسم، وأصلها: وترى، فالتاء الأولى مبدلة من واو؟ لأنها من المواترة، وإبدال التاء من الواو كثير شائع في العربية، مثل تراث، وأصلها: وراث؟ لأن الفعل ورث، وتقاة، أصلها: وقاة؛ لأن الفعل وقى، وتخمة؛ أصلها: وخمة؛ لأنها من الوخامة، وتجاه، أصلها: وجاه؛ لأنها من الوجه، ونظائر أخرى كثيرة.

ص: 555

ولك في نطقها وجهان: تترى، بغير تنوين وتترأ، بالتنوين، فمن لم ينون يعتبر الألف ألف تأنيث، مثل سكرى وغضبى، ومن ينون يعتبر الألف ألف إلحاق، أي أن الكلمة ملحقة باسم آخر منون - وهو جعفر - لاتفاقهما في نظم الحركات والسكنات، وتفصيل ذلك في كتب الصرف، وعلى ذلك تقول: جاء القوم تترى، بغير تنوين، وتتراً بالتنوين، والمعنى: جاءوا متتابعين، وتنوين الكلمة دليل على أسميتها؛ لأن التنوين من خصائص الأسماء، والأفعال لا تنوَّن.

وبعبارة أخرى: من نوَّنه جعله مصدراً، وزنه "فَعْلا" مثل ضرباً ونصراً، ومن لم ينونه جعله مصدراً أيضاً، لحقته ألف التأنيث المقصورة، فهو مصدر على وزن فعلى، مثل دعوى، من دعا، وذكرى، من ذكر. انظر هذا المبحث في: الكتاب لسيبويه 3/ 211، والمقتضب للمبرد 3/ 338، 385، وسر صناعة الإِعراب لابن جني ص 146، وشرح شافية ابن الحاجب للرضي الإِستراباذي 1/ 195، 3/ 81، 220، ولسان العرب، مادة (وتر).

والصرفيون واللغويون يستشهدون على ذلك بقوله تعالى: {ثم أرسلنا رسلنا تترا} [المؤمنون: 44]، قرأ ابن كثير وأبو عمرو (تتراً) بالتنوين، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي (تترى) بغير تنوين. انظر: كتاب السبعة لابن مجاهد ص 446.

وإعرابه على النصب من وجهين: الأول: أنه حال من (رسلنا) أي أرسلنا رسلنا متواترين، أي واحداً بعد واحد، أو متتابعين، والثاني: أنه نعت لمصدر محذوف، أي أرسلنا رسلاً إرسالاً متتابعاً، أو إرسالاً بعد إرسال. انظر: التبيان في إعراب القرآن للعكبري ص 955، والدر المصون في علوم الكتاب المكنون، للسمين الحلبي 8/ 344.

وإذا ثبت أن "تترى" من التواتر والمواترة، وهو التتابع، فهل المواترة والتتابع واحد، أم أن بينهما فرقاً؟ يرى كثير من اللغويين أن التواتر غير التتابع، وإن تقاربا في المعنى، وممن ذهب إلى هذا الحريري، يقول: "العرب تقول: جاءت الخيل

ص: 556

متتابعة، إذا جاء بعضها في إثر بعض فلا فصل، وجاءت متواترة، إذا تلاحقت وبينها

قال: ومما يؤيد ما ذكرنا من معنى التواتر قوله تعالى: {ثم أرسلنا رسلنا تترا} ، ومعلوم ما بين كل رسولين من الفترة وتراخي المدة.

وروى عبد خيرٍ، قال: قلت لعلي رضي الله عنه: إن عليَّ أياماً من شهر رمضان، أفيجوز أن أقضيها متفرقة؟ قال: اقضها إن شئت متتابعة، وإن شئت تترى. قال: فقلت: إن بعضهم قال: لا تجزئ عنك إلا متتابعة. فقال: بلى، تجزئ تترى؟ لأنه عر وجلّ قال:{فعدة من أيام أُخر} [البقرة: 184]، ولو أرادها متتابعة لبين التتابع، كما قال سبحانه:{فصيام شهرين متتابعين} - درة الغواص في أوهام الخواص ص 8، وانظر أيضاً: تقويم اللسان لابن الجوزي ص 88، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9/ 276، وسفر السعادة وسفير الإِفادة للسخاوي 1/ 174.

ومن الدليل أيضاً على أن التواتر غير التتابع حديث أبي هريرة: "لا بأس بقضاء رمضان تترى"، قال ابن الأثير:"أي متفرقاً غير متتابع"، وروى هذا الحديث أيضاً:"لا بأس أن يواتر قضاء رمضان"، قال ابن الأثير: أي يفرقه، فيصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يلزمه التتابع فيه" النهاية في غريب الحديث والأثر 1/ 181، 5/ 148.

والخلاصة: أنه إذا كان بين الأمرين فصل فهي المواترة والتواتر، وإذا لم يكن بينهما فصل فهي التتابع والمداركة والمواصلة، وهذا من الفروق اللغوية بين الشيئين المتقاربين في المعنى، وهو باب مهم من العربية، ومن أحسن ما ألف فيه كتاب "الفروق اللغوية" لأبي هلال العسكري، وهو مطبوع متداول، فاحرص عليه واجعله قريباً منك يستقم لسانك وبيانك.

وهذه جملة من الشواهد النثرية والشعرية على استعمال "تترى" اسماً لا فعلاً.

أخرج البخاري من حديث قباث بن أشيم الليثي قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "صلاة رجلين يؤم أحدهما صاحبه أزكى عند الله من صلاة أربعة تترى، وصلاة أربعة يؤمهم

ص: 557

أحدهم أزكى عند الله من صلاة ثمانية تترى، وصلاة ثمانية يؤمهم أحدهم أزكى عند الله من صلاة مائة تترى"، التاريخ الكبير للبخاري 7/ 193، وانظر: المعجم الكبير للطبراني 19/ 36، والطبقات الكبرى لابن سعد 7/ 411، والترغيب والترهيب للمنذري 1/ 152، ومجمع الزوائد للهيثمي 2/ 42.

و"تترى" في هذا الحديث في موضع الصفة للأعداد السابقة عليها، يؤكد هذا ما جاء في رواية الحديث عند ابن سعد:"فقلت لأبي خالد: ما تترى؟ قال: متفرقين".

وأخرج الإِمام أحمد، من حديث أبي أمامة الباهلي - وهو حديث طويل - قال:"ثم أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم غزواً ثالثاً، فأتيته فقلت: يا رسول الله قد أتيتك تترى، مرتين، أسألك أن تدعو الله لي بالشهادة، فقلت: "اللهُمَّ سلِّمهم وغنِّمهم"، وفي رواية أخرى لأحمد أيضاً: " أتيتك تترى، ثلاثاً"، مسند أحمد 5/ 255. 258.

و"تترى" هنا حال: من تاء الفاعل في "أتيتك"، وقوله:"مرتين وثلاثاً" المراد أنه قال: أتيتك تترى تترى، وأتيتك تترى تترى تترى.

وأخرج الطبري من حديث حجاج، عن ابن جريج، قال لعطاء:"الرجل ينكح المرأة لم يرها ولم يجامعها حتى يطلقها، أتحل له أمها؟ قال: "لا" تترى. قال حجاج: قلت لابن جريج: ما تترى؟ قال: كأنه قال: لا، لا" تفسير الطبري 8/ 147 في تفسير الآية 23 من سورة النساء.

و"تترى" هنا في موضع الصفة للفظ "لا" على ظاهر لفظه، كأنه قال: متتابعة متواترة، واحدة بعد واحدة.

وفي خبر علي بن أبي طالب، يتحدث عن الطاووس وعجيب خلقه، فيقول في حديث طويل:"وقد ينحسر من ريشه، ويعرى من لباسه، فيسقط تترى"، قال ابن أبي الحديد: ينحسر من ريشه فينكشف فيسقط. وتترى: أي شيئاً بعد شيء وبينهما فترة"، شرح نهج البلاغة 9/ 275، 276.

ص: 558

و "تترى" في هذا الخبر حال من ضمير الفاعل في "يسقط".

وذكر ابن إسحاق في قصة مسير خالد بن الوليد، بعد فتح مكة، إلى بني جذيمة، قول امرأة من هذه القبيلة، ترد على شعر شاعر:"وأنت فحييت سبعاً وعشراًَ وتراً، وثمانياً تترى" السيرة النبوية 2/ 434.

و"تترى" في محل نصب صفة قولها "وثمانيا" أي متتابعة. وفسرها أبو ذر الخشني بقوله: تترى، أي تتوالى، شرح غريب السيرة ص 382، وهو تفسير غير دقيق؛ لأنه فسر بفعل، فأوحى بأن "تترى" فعل أيضاً، والأولى أن يقول: تترى: متوالية.

وفي خبر معاوية حين ولي الخلافة، أنه صعد المنبر، وخطب خطبة بليغة قال فيها:"وإن السيل إن جاء تترى - وإن قل - أغنى "، سير أعلام النبلاء للذهبي 3/ 148، والعقد الفريد لابن عبد ربه 4/ 82، وفيه تصحيف يصحح بما عند الذهبي.

وتأويل هذا الكلام: أن السيل إن جاء متتابعاً متواتراً كان فيه الفائدة والغناء وإن كان قليلاً، فتترى هنا في حال من الفاعل المضمر في "جاء".

وفي كلام لأبي العلاء المعري، يقول: "رُب حي أشرى، كأنهم ليوث الشرى

جاءتهم المنايا تترى"، الفصول والغايات ص 282، و "اشرى" جمع "أشر"، وهو البطر الذي لا يشكر النعمة. وواضح أن "تترى" هنا حال من "المنايا".

وتأتي كلمة "تترى" في الخطب التي يفتتح بها المؤلفون كتبهم، ومن ذلك قول صدر الدين البصري، صاحب كتاب الحماسة البصرية، قال:" الحمد لله حمداً يكون لقائه ذخراً، والصلاة على نبيه محمد القائل: "إن من البيان لسحراًَ"، صلاة دائمة على ممر الأيام تترى". و "تترى" صفة ثانية لصلاة، أي صلاة دائمة متواترة، وإن كان وضع الكلمة في ذلك السياق يوهم أنها فعل مضارع، فيه ضمير يعود إلى "صلاة" كأنه قال: صلاة دائمة تستمر وتتصل.

ص: 559

فهذه أمثلة من دوران الكلمة في الكلام المنثور، أما مجيئها في الشعر فهو كثير جداً، اجتزئ منه ببعض الأمثلة. فمن أقدم ما رأيته منه قول الحارث بن وعلة الجرمي (جاهلي):

ولما رأيت الخيل تترى أثائجا

علمت باًن اليوم أحمس فاجر

أثائجاً: جماعات. وأحمس: شديد. وفاجر: يركب فيه الفجور. شرح المفضليات للأنباري ص 330، وقال الشيخان: أحمد شاكر وعبد السلام هارون، في حواشي المفضليات ص 166، "تترى: متواترين، وهي من المواترة، وهي المتابعة

ويخطئ كثير من الكتاب في عصرنا، فيظنونها فعلاً مضارعاً، ويضعونها موضعه".

وقال سويد بن جدعة (جاهلي أيضاً):

ونحن نفينا خثعما عن بلادها

تقتل حتى عاد مولى شريدها

فريفين فرقاً باليمامة منهم

وفرقاً بخيف الخيل تترى خدودها

شرح المفضليات ص 114، ولا يخدعنك تقدم "تترى" هنا على الاسم، فتظن أنها فعل، وإنما الكلام على التقديم والتأخير، والأصل:"خدودها تترى" بدليل نظم البيت السابق "عاد مولى شريدها"، وإنما الكلام:"عاد شريدها مولى "، والمولى: هنا العبد. ثم لا يخدعنك أيضاً شرح أبي العباس ثعلب لتترى، بقوله:"تترى، تتبع بعضها بعضاً" حيث فسر بالفعل، فإنه شرح على المعنى.

وقول الشاعر: "خدودها" لم يشرحوه، وأرى أنه هنا جمع خد، وهو الجمع من الناس، فالخدود هنا: هي الجماعات، وليست تلك التي في الوجه.

وذكر ابن كثير عن ابن عساكر، أن سعدى بنت كريز خالة عثمان بن عفان، قالت له تبشره، وتنبئه بزواجه من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أبشر وحييت ثلاثاً تترى

ثم ثلاثاً وثلاثاً أخرى

ص: 560

البداية والنهاية 10/ 348، و "تترى" في موضع الصفة لثلاث، أي ثلاثاً متتابعة متواترة.

وقال ابن قلاقس، الشاعر الإِسكندري المتوفى سنة 567 هـ، يمدح الحافظ أبا طاهر السِّلَفي:

يا من أياديه تترى ليس يجحدها

إلا أناس لفضل الله قد جحدوا

وقال أيضاً يمدحه:

ظل ذا لوعة وحزن ووجد

وعليل وحرقة واشتياق

ودموع تترى وقلب عميد

راعه لمع مبسم براق

ديوانه ص 301، 486، والتقدير: يا من أياديه متواترة، ودموع متواترة. ثم نعود إلى بيت أحمد شوقي، الذي بدأنا به الكلام:

والآي تترى والخوارق

جمة جبريل رواح بها غداء

وقد أشرت إلى أن شارح الديوان قد فسر الكلمة بأن معناها: تتوالى، فأوهم بذلك أن الكلمة فعل. وقد يظن ظان أن أحمد شوقي وقع فيها، وأنا أعيذه من ذلك؟ فالرجل كان ذا ثقافة لغوية عالية جداً، وقد أخبرني شيخي محمود شاكر رحمه الله أن أحمد شوقي كان كثير النظر في "لسان العرب"، وأخبرني الأستاذ مصطفى حجازي عضو مجمع اللغة العربية أن الشيخ سليم البشري أحصى ألف لفظة من الكلام الغريب الفصيح أحياها أحمد شوفي في شعره، فبعيد جداً أن يتوهم هذا الشاعر الكبير فعلية "تترى"، وتأويلها في بيته المذكور أن تكون خبراً للآي، والتقدير: والآي متواترة، أو تكون حالاً من فاعل فعل محذوف معه، ويكون تقدير الكلام: والآي تجيء تترى ويستأنس لذلك بما ورد من كلام معاوية "إن السيل إن جاء تترى".

ولا يبقى إلا دفع شبهة تتصل باشتقاق هذه الكلمة "تترى"، والجنوح بها نحو الفعلية:

نقل ابن منظور في لسان العرب عن ابن الأعرابي "ترى يترى: إذا تراخى في العمل، فعمل شيئاً بعد شيء"، وقد نقل ابن منظور ذلك الكلام في موضعين من

ص: 561

اللسان، الموضع الأول في أثناء مادة (وتر) والموضع الثاني في مادة (ترى). وفي النفس من هذا النقل شيء:

أولاً: لانفراد ابن الأعرابي به، ولم ينقل عن غيره من اللغويين.

وثانياً: أن صاحب اللسان ذكره في مادة (ترى) أن هذا من التهذيب "خاصة"، وهو فعلاً في تهذيب اللغة للأزهري 14/ 309، لكن قول صاحب اللسان "خاصة" مما يضعف هذا النقل؛ لأن مراجع اللسان خمسة، كما هو معروف: الصَّحاح للجوهري، وحاشيته لابن بري، والمحكم لابن سيده، والتهذيب للأزهري، والنهاية لابن الأثير، ولم يرد هذا النقل في شيء منها، سوى التهذيب.

وثالثاً: أن ابن الأعرابي لم يستشهد لهذا الفعل بشاهد من نثر أو شعر، واللغة إنما أخذت من كلام العرب وأشعارها.

هذا وقد زاد الصاغاني في الطنبور نغمة - كما جاء في المثل - فأضاف إلى ما قاله ابن الأعرابي: "أترى: إذا عمل أعمالاً متواترة، ويكون بين كل عملين فترة"، التكملة 6/ 380، ولا صلة لذلك كله بكلمة "تترى" إلا من بعيد، كما لا يؤخذ من ذلك فعلية "تترى".

وبعد: فقد ثبت إن شاء الله، أن هذه الكلمة اسم، وليست فعلاً، وثبت أيضاً أن غالب استعمالها أن تكون حالاً، وقد تأتي صفة، ثم قد تأتي خبراً، وعلى ذلك نقول: جاءت الأنباء تترى بكذا، أو الأنباء تترى بكذا، ولا نقول: تترى الأنباء بكذا.

وشكراً خالصاً للصديق الأستاذ عبد الرحمن شاكر الذي فتح لي هذا الباب من القول، ورحم الله أحمد شوفي رحمة واسعة سابغة.

ثم الصلاة والسلام الأتمَّان الأكملان على صاحب الذكرى العطرة، اللَّهُمَّ أحشرنا تحت لوائه، وارزقنا شفاعته.

* * *

ص: 562