الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان ابن خلدون قد وصف أمر ابن هشام على الجملة، فقال وهو يتحدَّث عن صعوبة تحصيل علم من العلوم من جميع جهاته، والإِحاطة به كله، ومثَّل لذلك بعلم العربية، وهو علم النحو، فقال في سياق حديث طويل:"كيف يُطالَب به المتعلم وينقضي عمره دونه، ولا يطمع أحد في الغاية منه إلا في القليل النادر، مثل ما وصل إلينا بالمغرب لهذا العهد من تأليف رجل من أهل صناعة العربية، من أهل مصر، يعرف بابن هشام، ظهر في كلامه فيها انه استولى على غاية من ملكة تلك الصناعة، لم تحصل إلا لسيبويه وابن جني وأهل طبقتهما لعظم ملكته وما أحاط به من أصول ذلك الفن وتفاريعه وحس تصرفه فيه، ودل على أن الفضل ليس منحصراً في المتقدمين"، المقدمة ص 532.
(تحقيق):
شاعت عن ابن خلدون في حق ابن هشام كلمة تناقلها مترجموه، وهي قوله: "ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية، يقال له ابن هشام، انحى من سيبويه
"، ولم أجد هذه الكلمة بسياقها هذا وحروفها في مقدمة ابن خلدون، وإن كان الكلام الذي نقلته من المقدمة يؤول إليها ويدلُّ عليها. وقد تتبعت الكلمة فوجدت أن الذي ذكرها بهذا النسق والسياق: هو ابن حجر العسقلاني، في ترجمة ابن هشام من الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 2/ 416، ويلاحظ أن ابن حجر صدَّر هذه الكلمة بقوله: "قال لنا ابن خلدون " فهو سماع إذن، وقد ذكر شمس الدين السخاوي في الضوء اللامع لأهل القرن التاسع 4/ 148، أن ابن حجر اجتمع بابن خلدون مراراً، وسمع من فوائده.
تعمق مذهب النحاة:
ويقول أستاذنا الدكتور شوفي ضيف عن ابن هشام: "وقد تحوَّل يتعمَّقُ مذاهب النحاة، وتمثلها تمثلاً غريباً نادراً، وهي مبثوثة في مصنفاته مع مناقشتها وبيان الضعيف منها والسديد، مع إثارته ما لا يحصى من الخواطر والآراء في كل ما يناقشه وكل ما يعرضه"، ويقول أيضاً عن مصنَّفاته: "وهو يمتاز فيها جميعاً بوضوح عبارته،
مع الأداء الدقيق إلى أبعد حدود الدقة، مسهباً مطنباً، أو موجزاً مجملاً"، المدارس النحوية ص 346، 347.
فهذا ابن هشام يراه الأستاذ أحمد عبد المعطي حجازي مظهراً من مظاهر الضعف والانحطاط، ويراه ابن خلدون وشوفي ضيف: محيي صناعة النحو في تلك العصور الوسطى بعدما كادت تؤذن بالذهاب، وأنه قرين سيبويه وابن جني، وأنه قد تعمق مذاهب النحاة وتمثلها ثم أحسن عرضها ومناقشتها
…
وهذا على نحو ما قال ربنا عز وجل: {إنهم يرونه بعيداً * ونراه قريبا) [المعا رج: 6، 7].
وهذا ابن منظور يراه الأستاذ حجازي مظهراً من مظاهر الانحطاط والضعف أيضاً، ويراه أهل العلم بالعربية صاحب أول معجم عربي كبير، جمع جذور اللغة العربية بمناهج المعاجم المختلفة "لسان العرب" تذكره ولا تصفه، لأنه أحد معالم حضارتنا العربية.
على أن للقضية وجهاً آخر، هو ما ذكره الأستاذ حجازي ويذكره غيره من الدارسين الجامعيين وغير الجامعيين، من وَسْم العصر المملوكي بالانحطاط والتخلف لضعف الأدب والشعر فيه. ورد هذا الكلام ونقضه في غير هذا المكان، لكني أشير هنا إلى أنه لولا ما صنعه ابن منظور وابن هشام ومن إليهما من لغويي ونحاة وعلماء القرن الثامن (وهو العصر المملوكي) من هذه الأعمال الموسوعية لضاع علم كثير، ولضعفت ذاكرة الأمة العربية ثم تلاشت، وهو (الدور) العظيم الذي اضطلعت به مصر والشام في ذلك الوقت غداة سقوط بغداد، وإيذان شمس الأندلس بالغروب، فكانت القاهرة ودمشق ملاذاً وملجأً لعلماء بغداد والأندلس، فواصلوا المسيرة التي بدأوها في بلدانهم قبل أن تغشاها النوائب، وشاركوا قرناءهم من علماء مصر والشام في تلك الأعمال التجميعية الضخمة، كابن منظور وابن هشام وصلاح الدين الصفدي، وشمس الدين الذهبي، وشيخ الإِسلام ابن تيمية، وأبي الحجاج المزي، وأبي حيان الأندلسي، وابن سيد الناس اليعمري، وشهاب الدين النويري، صاحب "نهاية الأرب في فنون الأدب" الذي يقول فيه المستشرق فازيليف: "إن نهاية