الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نعم، قال: أنت في الكنيف من قدمك إلى أنفك، قلت: لم حاشيت العينين؟ قال: حتى ترى هوان نفسك، يقول الفرزدق: فبهت. ربيع الأبرار 1/ 711.
وروي عن الجاحظ قال: "ما خجلتني إلا امرأة، حملتني إلى صائغ، فقالت: مثل هذا، فبقيت مبهوتاً، فسألت الصائغ، فقال: هي امرأة استعملتني (أي طلبت مني أن أعمل) صورة شيطان، فقلت: لا أدري كيف أصوره، فأتت بك، فقالت: مثله" أي اصنع مثله. ربيع الأبرار 1/ 853، ومعلوم أن الجاحظ كان دميماً قبيح الوجه.
صحة العقل:
وروي أن المحدث الجليل سفيان بن عيينة بكى يوماً، ففال له يحيى بن أكثم: ما يبكيك يا أبا محمد؟ قال: بعد مجالستي أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بليت بمجالستكم! فقال له يحيى - وكان حدثاً-: فمصيبة أصحاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من مصيبتك! قال: يا غلام، أظن السلطان سيحتاج إليك، ربيع الأبرار 1/ 669، ويريد سفيان أن يصف يحيى بصحة العقل حين أحسن الدفاع عن نفسه وعن أبناء جيله، ثم رد المذمة عليه، وأن مثله جدير بأن يتخذه السلطان عوناً وسنداً، وفي رواية أخرى أن يحيى بن أكثم حين سمع هذا الكلام من سفيان بن عيينة قال له: أتنصف يا أبا محمد؟ قال: إن شاء الله، قال له: والله لشقاء من جالس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بك أشد من شقائك بنا، فأطرق وتمثل بشعر أبي نواس:
خل جنبيك لرام
…
وامض عنه بسلام
مت بداء الصمت خير
…
لك من داء الكلام
تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 14/ 193.
وقد ألََّف غرس النعمة أبو الحسن محمد بن هلال الصابي المتوفى (480 هـ) كتاباً سمَّاه "الهفوات النادرة" جمع فيه أخباراً عن سقطات الناس وأخطائهم التي أوقعتهم فيها الغفلة وسوء التقدير، وكان أول خبر يورده من ذلك ما وقع فيه هو
نفسه، يقول: "فأول ما أبدأ به ما خصَّني منه، وهو أنني كنت جالساً وإلى جانبي أبو سعد القادسي، أحد المتفيهقين المتشدقين، وجرى ذكر بعض ثقلاء الزمان المتعسفين، فقلت مسرعاً متبرعاً: إنه ليشبه ابن القادسي فيما يتعاطاه، مما يتجاوز فيه الصواب ويتخطاه. ثم استيقظت من رقدة زلتي، وانتبهت لهفوتي ..
ثم ذكر بعد ذلك استدراكه على هذا الخطأ بتوجيه الفول بعيدا عن ابن القادسي.
ولم أرَ في أدباء هذا الزمان من يكثر من الاعتراف بخطئه، والتنويه بمن دله على وجه الصواب، من شيخنا أبي فهر محمود محمد شاكر، وهو كثير عنده، ومنه ما ذكره في المستدرك بآخر كتاب إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأموال والحفدة والمتاع، للمقريزي المتوفى (845 هـ)، فقد صحح ما ورد في ص 216 من الجزء الأول، من قوله:"لم أجد ذكر أبي عامر الفاسق في حديث بعد خبره يوم أُحد، إلا خبر موته عند هرقل، وذلك عام حجة الوداع"، فقال في الاستدراك:"وهذا خطأ مني، فيه نسيان وعجلة، إذ ليس يخفى خبر أبي عامر الفاسق في أمر مسجد الضرار".
فلم يكتف بنسبة الخطأ إلى نفسه حتى ضم إليه النسيان مقروناً بالعجلة، وهذا منهج شيخنا في كتاباته كلها، وفي تحقيقاته أيضاً، وإنما ذكرت هذا المثال بعينه، لأن كلام شيخنا هذا كان في سن الشباب، وهو زمن الخُيلاء والتيه، فقد صدر الجزء الأول من كتاب المقريزي سنة 1940 م.
نواصل في المقال القادم كلام الناس، وصدقهم في الإِبانة عن دخائل نفوسهم.
* * *