الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
علي الجارم
…
لغوياً نحوياً
(1)
الشعر باب العربية، والشعراء الكبار هم أقدر الناس على معرفة أسرار العربية، والوقوف على دقائقها، ثم الحرص عليها والذود عنها، وما كان ذلك إلا لأنهم قرأوا فأكثروا القراءة، وحفظوا فجودوا الحفظ، ولن تجد شاعراً كبيراً إلا ووراءه رصيد ضخم من القراءة المحيطة الجامعة للغة في مجالاتها المختلفة، ويظهر هذا الرصيد فيما يسميه أهل زماننا "المعجم الشعري" للشاعر: حروفاً وأبنية وتراكيب ودلالة.
على الجارم "رحمه الله" واحد من كبار الشعراء الحفظة العلماء الضابطين، وكانت هذه سمة الجيل كله، شعراء وناثرين، مع تفاوت يسير بينهم، برزق الله المقسم على خلقه. نعم كان هذا الجيل جيل الجد والتحصيل، جيل لم يرفع عينه عن القراءة، ولم يشغله عنها حديث وثرثرة عن التجربة والإبداع والخلق والمعاناة، فإن من الملاحظ الآن أن الأدباء والشعراء يتكلمون أكثر مما يقرأون، ويستمعون أكثر مما يتأملون، وقد قال ابن قيم الجوزية:"من لم تنفعه عينه لم تنفعه أذنه".
وأنت إذا نظرت إلى ما كان بيد ذلك الجيل من الكتاب المطبوع، وجدته شيئاً نزراً قليلاً، ولكن هذا النزر القليل صنع رجالاً، وشاد ثقافة. واليوم كثرت المطبوعات، وقلَّت القراءة.
وداعية أخرى إلى العجب: أن الكتاب المطبوع في ذلك الزمان لم يكن معتنى
(1) مجلة "الهلال"، مايو 1999 م.
وهو آخر مقال كتبه الأستاذ الدكتور محمود الطناحي قبيل رحيله المفاجئ!
به، من حيث التحقيق والتوثيق وحسن الإخراج، فلم تكن مناهج تحقيق النصوص قد استقرت، ولم تكن وسائل الطباعة الحديثة قد عُرفت، ومع كل ذلك فقد أقام هذا الكتاب "المطبوع" المحدود، الساذج في إخراجه، حضارة سامقة، أضاءت ديار العرب والإسلام كلها، وما أشبه أدباء ذلك الزمان إلا بتاجر صنع، بيده رأس مال محدود، ولكنه استطاع بلباقته وحسن تأتيه أن يحرك هذا المال المحدود، ويغدو به ويروح، ليصنع منه ثروة ضخمة.
كان هذا هو طريق الجارم وأدباء زمانه، أخلصوا أيامهم للقراءة والتحصيل، ووعت ذاكرتهم هذه النغمات الجليلة التي حملها بديع الشعر وكريم النثر، في موروثنا الحافل. وحين تهيأت لهم أدوات القول والإبانة، خالط الطارف التليد، وذاب مال المورث الجامع في مال الوارث الرشيد، أو كما قال صديقنا عبد اللطيف عبد الحليم، عن شاعرنا الجارم:"ويطل على هذا المحفوظ المذخور من عل، فإذا بمحفوظه يتوارى ليبرز كلامه هو".
وإذا كانت هذه الكلمة اليوم عن "علي الجارم" اللغوي النحوي؛ فإن ذلك يلتمس من جانبين: الجانب الأول: نشاطه التأليفي والبحثي، من حيث هو معلم للغة العربية، ثم كبير مفتشي اللغة العربية بوزارة المعارف المصرية، ثم من حيث هو عضو مؤسس من أعضاء مجمع اللغة العربية.
والجانب الثاني: إبداعه الشعري، من حيث هو شاعر كبير، في شعراء عصره، وشعراء ذلك الزكان كانوا -كما قلت- من اللغة والنحو بمكان مكين.
وقبل الحديث عن هذين الجانبين، أود أن أشير إلى شئ من تلك المكانة اللغوية التي اقتعدها الجارم عند علماء عصره، فهذا الشيخ أحمد محمد شاكر القاضي الشرعي، وهو محدث العصر، وواحد من مدرية الأفذاذ في تحقيق النصوص ونشرها يذكر أنه كان يلجأ إلى علي بك الجارم، وبعرض عليه عمله في تحقيق كتاب "الرسالة" للشافعي، وكان مما عرضه عليه كلمة "النذارة" وهي مضبوطة في المخطوطة بكسر النون، ولم يرد ذلك في المعاجم المتداولة، ولكن المخطوطة