الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حفظ القرآن:
ولا سبيل إلى ذكر كل أطراف القضية، فإنها من التشعب بمكان، فحسبي أن اذكر رؤوس كلام، وفيما ذكره الشيخان شلبي والقاضي، ثم ما يأتيك من كلام أهل العلم: مقنع وبلاغ، والمأمول منك أيها القارئ الكريم أن تجعل هذه القضية على بالك، وأن تشغل بها نفسك ووقتك، فإنها دين وعقيدة، فأقول وبالله الاستعانة:
أولاً: القرآن كلام الله القديم، نزل به الروح الأمين جبريل عليه السلام، على قلب النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أمره ربه بتلاوته {واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك} [الكهف: 27]، ثم أمره بإبلاغه للناس وقراءته عليهم {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة: 67]، و {قراءناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث} [الإسراء: 106]، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه جبريل بالوحي حريصاً على استظهار القرآن وحفظه، فكان يحرك لسانه حالة نزول الوحي، مخافة أن تفوته كلمة، أو يسقط عليه حرف، حتى طمأنه ربه بأن تكفل له أن يجمعه في صدره، ويسهل له قراءته لفظاً ومعنى، فقال تعالى:{لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرءانه * ثم إن علينا بيانه} [القيامة: 16 - 19]، وقوله تعالى:{فاتبع قراءنه} أي قراءته، وهو مصدر على وزن فعلان، مثل غفران وكفران.
وهذا هو أساس الحفظ في تراثنا العربي: إنه أمر أولاً بتلاوته وحفظه، ثم جاءت مرحلة الإِفهام بعد ذلك {ثم إن علينا بيانه} ، وقال تعالى:{ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه} [طه: 114]، وقال تعالى:{سنقرئك فلا تنسى} [الأعلى: 6]، و "لا" هنا نفي وليست نهياً. والمعنى: فلست تنسى إذا أقرأناك.
ثانياً: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي بالقرآن يُقرئه أصحابه فيحفظونه، وكان هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم حريصين على استظهار ما يحفظونه وتعهده بالمدارسة والعمل به، وكان الذي سمع يُعلم من لم يسمع، وكان عليه السلام يبعث إلى من كان بعيد الدار منهم مَنْ يُعلمهم ويقرئهم، كما بعث مصعب بن عمير
وابن أم مكتوم إلى أهل المدينة قبل الهجرة، يعلمانهم الإِسلام، ويقرئانهم القرآن، وكما خلف معاذ بن جبل بمكة بعد الفتح يقرئ الناس القرآن. قال عبادة بن الصامت:"كان الرجل إذا هاجر دفعه النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى رجل منا يعلمه القرآن، وكان يسمع لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضجة بتلاوة القرآن، حتى أمرهم رسولى الله أن يخفضوا أصواتهم، لئلا يتغالطوا"، انظر: مناهل العرفان للشيخ الزرقاني 1/ 241، وهو كتاب جيد جداً في علوم القرآن.
ثالثاً: اهتم الرسول عليه السلام هو وأصحابه أولى الأمر بجمع القرآن في الصدور - أي حفظه واستظهاره - وكان ذلك أمراً طبيعيّاً، لأن الرسول عليه السلام كان أمِّيّاً، وبُعث في أمة أمية، يقل فيها الكتاب، ولا يشيع بينها الخط، ثم أوحي إليه عليه السلام أن يكتب القرآن، فاتخذ كتاباً من خيرة الصحابة، زيادة في الاستيثاق لكتاب الله تعالى "حتى تُظاهر الكتابة الحفظ، ويُعاضد النقش اللفظ".
ومع كتابة القرآن الكريم ظل الحفظ هو الأساس والمعتمد، قالى ابن الجزري:"ثم إن الاعتماد في نفل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على حفظ المصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لهذه الأمة، ففي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: "إنما بعثتك لأبتليك وابتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان"، فأخبر تعالى أن القرآن لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء، بل يقرؤه في كل حال، كما جاء في صفة أمته: "أناجيلهم في صدورهم".
رابعاً: توفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم كله مجموع في الصدور، ومكتوب في السطور، ثم كان جمع أبي بكر القرآن، وبعده كان جمع عثمان، والفرق بين الجمعين معروف في كتب علوم القرآن. ومن أحسن المراجع في ذلك كتاب الشيخ الزرقاني المذكور قريباً.
وخلاصة الأمر أن عثمان رضي الله عنه جمع الناس على مصحف واحد، سمي "المصحف الإِمام"، واستنسخ منه نسخاً أرسلها إلى الأمصار الإِسلامية، ولم يكتف
عثمان بإرسال تلك المصاحف، بل أرسل مع كل مصحف عالماً من علماء القراءة يعلم المسلمين وفق هذا المصحف، وعلى مقتضاه، فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدينة، وبعث عبد الله بن السائب إلى مكة، والمغيرة بن شهاب إلى الشام، وعامر بن عبد قيس إلى البصرة، وأبا عبد الرحمن السُّلمي إلى الكوفة. فكان كل واحد من هؤلاء العلماء يُقرئ أهل مصره بما تعلمه من القراءات الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بطريق التلقي والتواتر التي يحتملها رسم المصحف. وقد أمر عثمان رضي الله عنه بحرق كل ما عدا مصحفه هذا.
خامساً: معلوم أن "مصحف عثمان" هذا كان خالياً من النقط والشكل، وكذلك المصاحف المستنسخة منه، وكذلك كل ما كتب من القرآن زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم، كل ذلك كان مجرداً من النقط والشكل، وذلك ليتحمَّل الرسم ما صح نقله، وثبتت روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عمرو الداني: "وإنما أخلى الصدر منهم - أي الأوائل من المسلمين - المصاحف من ذلك - أي من النقط ومن الشكل - من حيث أرادوا والدلالة على بقاء السعة في اللغات، والفُسحة في القراءات التي أذن الله تعالى لعباده في الأخذ بها والقراءة بما شاءت منها، فكان الأمر على ذلك إلى أن حدث في الناس ما أوجب نقطها وشكلها" المحكم في نقط المصاحف ص 3، وهذا الذي حدث في الناس فأوجب نقط المصحف وشكله هو دخول الأعاجم من غير العرب في دين الإِسلام، وقد تمَّ ذلك في أواخر القرن الأول وأوائل الثاني، على يد أبي الأسود الدؤلي "69 هـ"، ونصر بن عاصم الليثي "89 هـ"، ويحيى بن يعمر - بفتح الميم- العَدواني - بفتح العين - "129 هـ".
ويقال: إنَّ عمل نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر كان بتوجيه وإشراف الحجاج بن يوسف الثقفي، ويقال إنه أمر بإعدام المصاحف الخالية من النقط والشكل. فانظر فضل هذا الرجل الجبار على العربية وعلى قرَّاء القرآن.
ومع هذه الوثبة العظيمة في تاريخ القرآن الكريم، فقد بقي ناس من أهل العلم