الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشيخ الشعراوي .. والموازين الصحيحة
(1)
في صباح يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شهر صفر من عام 1419 هـ، الموافق للسابع عشر من شهر يونيو من عام 1998 م انتقل الشيخ محمد متولي الشعراوي إلى الرفيق الأعلى، وقد أحدث موته دويّاً هائلاً اهتزت له مصر وسائر الشعوب العربية والإسلامية، كما تهتز لموت عظماء الرجال.
وما كاد خبر وفاته يصل إلى أسماع الناس حتى ارتفعت أصواتهم بالعويل والنحيب "في كل دار رنة وعويل"، فكان حالهم حال النابغة حين مات حصن بن حذيفة:
يقولون: حِصن! ثم تأبى نفوسهم
…
وكيف بحصن، والجبال جُنُوحُ؟
ولم تلفظ الأرض القبور ولم تزل
…
نجوم السماء والأديم صحيح
فعمَّا قليل، ئم جاش نعيه
…
فبات ندي القوم وهو ينوح
أو كما قال المتنبي حين بلغه نبأ وفاة أخت سيف الدولة:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر
…
فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً
…
شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
وسواء فزع الناس لحادثة الموت أو اطمأنوا، وسواء سخطوا أو رضوا، فالموت واقع لا محالة، فهو مصير كل كائن وغاية كل حي {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفأين مت فهم الخالدون} [الأنبياء: 34]، وما رضى الله البقاء إلا لأهون
(1) مجلة "الهلال"، أغسطس 1998 م.
خلقه عليه "إبليس" عليه لعائن الله تترى، وقد سأل ربه:{قال رب فأنظرني الى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم} [الحجر: 36 - 38]، [ص: 79 - 81]، وأنظرني: أي أمهلني ومد في حياتي.
ثم تنجلي غمرة الأسى على وفاة الشيخ الجليل عن سيل متدافع، في رثائه والكتابة عنه والأسف على فقده. وقد شارك في هذه المراثي طوائف من خاصة الناس وعامتهم. والحق أن أهل زماننا انقسموا في أمر الشيخ إلى طائفتين: الطائفة الأولى: أحبته فأسرفت في حبه، وبالغت في شأنه. والطائفة الثانية: أبغضته وشنئته وأسرفت في كرهه، وما أنصف هؤلاء ولا عدل أولئك، والأمر في الحالتين كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:"سيهلك فيَّ صنفان: محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق، وخير الناس فيَّ حالاً النمط الأوسط فألزموه".
وإذا كانت الطائفة الثانية قد أساءت بسكوتها وتجاهلها، فإن الطائفة الأولى قد أساءت أيضاً بإسرافها ومبالغتها في الحديث عن الشيخ وكأنه نبي يوحى إليه، وليس الطريق هنا أو هنالك! .
من أي بئر يستقي؟ !
وبدءة ذي بدء فإني أحب أن يكون واضحاً أني من أكثر الناس معرفة بقدر الشيخ الجليل، ومن أعظم الناس حباً له، وهو حب له أسبابه ومسوغاته، فمنذ أطل هذا الوجه الكريم على الناس من شاشة التلفزيون في أوائل السبعينات، وأنا مرهف له سمعي، صارف إليه عقلي، مسدد نحوه بصري، أريد أن أعرف مصادره، ومن أي بئر عذبة يستقي، وفي أي كلأ مخصب يرتعي، ومن أي نار متأججة يقبس، ويوماً بعد يوم استوى عمود الصورة أمامي لهذا الشيخ الجليل، وحين تم لي ذلك - من خلال سماعي له ومشاهدتي إياه في التلفزيون فقط، وعلى غير لقاء أو تعارف بيننا، إلى أن مات رحمه الله رأيته واجباً عليّ متعيناً أن أقدم هذا الرجل للناس، على نحو كاشف محلل، يتجاوز الإِعجاب الساذج إلى الإِبانة الصادقة عن منهج الرجل
وأدواته، فكتبت عنه كلمة ضافية سمَّيتها:(الشيخ الشعراوي واللغة) في "هلال" فبراير من عام 1994 م، ولم أكتف بهذا الذي صنعت منذ أربع سنوات، بل ظللت على حفاوتي بالشيخ وتتبعي له، وتقييد بعض الملاحظات على ما يقوله رحمه الله، وكان ملخص ما قلته يومئذ في حق الشيخ:
إنه شيخ جليل جاء على حين فترة من العلماء الحافظين الضابطين. وهو يمثل صورة زاهية للعالم الأزهري المؤسس على علوم العربية وقوانينها، من حفظ المتون وإتقان التعريفات والصبر على المطولات، والنظر في الحواشي والتعليقات والتقريرات، مع عناية فائقة باللغة، في مستوياتها الأربعة: أصواتاً وصرفاً ونحواً ودلالة، واستظهار معجب للشعر العربي في عصوره المختلفة، ومع تعلق شديد بالقرآن وعلومه، إلى ملكات ومواهب أخرى يعرفها المتابعون للشيخ.
فهذه هي الموازين الصحيحة لتقييم الشيخ والحكم عليه، أما ما أفاض فيه المحبون والمريدون من النظر إلى الشيخ نظرة نبوية، تتجلى في ردهم كل شيء عند الرجل إلى الإِلهام والفيوض الربانية، والنفحات والتجليات، والعلم اللدني، فهذه كلها "دروشة" في تقييم الرجال والحكم عليهم. وإنما الصواب أن يقال: إنه رجل مثقف مؤسس واسع الاطلاع، غزير الرواية، وافر الحفظ، سريع اللمح، ذكي اللسان.
فبذل الجهد في تحصيل العلم وإخلاء النفس له هو باب التوفيق والفيوض الربانية، ولذلك يقول تاج الدين السبكي:"وهكذا رأينا من لزم باباً من باب الخير فتح عليه غالباً منه"، طبقات الشافعية 1/ 65، فهذا أول ما ندفعه عن الشيخ من مبالغات الناس فيه.
ومن مبالغاتهم أيضاً قولهم: إنه أتى في تفسير القرآن بما لم يأت به الأوائل، وهذا قول منكر مردود، لأنه قول من لا يعرف تاريخ أمته، وتاريخ علمائها، وأئمة التفسير فيها، ثم هو كلام يرسل إرسالاً، ولا يملك صاحبه عليه دليلاً إلا الهوى الجامح، على ما قال أنس بن أبي أنيس:
يقولون أقوالاً ولا يعلمونها
…
ولو قيل هاتوا حققوا لم يحققوا
ولكم أيها السادة أن تقولوا عن الشيخ أنه فريد عصره، وأنكم لا تعلمون له شبيهاً فيما يعالجه أهل العلم الآن من تفسير القرآن والكشف عن مراد الله فيه، لكم أن تقولوا هذا، ونحن نوافقكم عليه، أما أن تسحبوا هذا الحكم على علمائنا السابقين جميعهم فلا نوافقكم عليه، بل نأخذ على أيديكم ونمنعكم منه، ونضيق عليكم فيه، لأنه اغتيال لتاريخ علمائنا وأئمتنا، وقد دللتكم في مقالتي المنشورة بالهلال، على عالم من أئمتنا السابقين - لا أقول يشبه الشيخ الشعراوي، ولكن الشيخ الشعراوي هو الذي يشبهه - ذلكم هو جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن الجوزي، الفقيه الحنبلي الحافظ المفسر الواعظ المؤرخ الأديب، المولود ببغداد سنة 508 هـ = 1114 م والمتوفى بها 597 هـ = 1200 م.
كان عالماً فذاً كثير التصانيف في التفسير والحديث والتاريخ واللغة. لكنه عُرف بالوعظ، وطارت له فيه شهرة عظيمة، حتى قيل في وصفه "عالم العراق وواعظ الآفاق"، وقالوا في وصفه: إنه كان من أحسن الناس كلاماً وأتمهم نظاماً وأعذبهم لساناً وأجودهم بياناً، وكان يحضر مجالس وعظه الخليفة العباسي المستضيء بالله، وكذلك الوزراء والعلماء والفقهاء والقضاة وأرباب الدولة وسائر الناس على اختلاف طبقاتهم، حتى قيل إن مجلس وعظه حزر بمائة ألف (انظر: العبر فيِ خبر من عبر للذهبي 4/ 298).
وقد وصف الرحالة ابن جبير مجلساً من مجالس ابن الجوزي، وقد حضره، فقال:"ثم إنه بعد أن فرغ من خطبته برقائق من الوعظ وآيات بينات من الذكر، طارت لها القلوب اشتياقاً، وذابت بها الأنفس احتراقاً، إلى أن علا الضجيج، وتردد بشهقاته النشيج، وأعلن التائبون بالصياح، وتساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح، كل يلقي ناصيته بيده فيجزها ويمسح على رأسه داعياً له، ومنهم من يغشى عليه فيرفع في الأذرع إليه. فشاهدنا هولاً يملأ النفوس إنابة وندامة، ويذكرها هول يوم القيامة"، رحلة ابن جبير ص 197، 198.
وقال ابن الجوزي عن نفسه، في آخر كتابه القصاص والمذكرين ص 195: "وإني ما زلت أعظ الناس وأحرضهم على التوبة والتقوى، فقد تاب على يدي إلى أن جمعت هذا الكتاب أكثر من مائة ألف رجل
…
وأسلم على يدي أكثر من مائة ألف"، وانظر تفصيلاً أكثر في: كتاب الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب 1/ 410.
فهذا وجه من وجوه الشبه بين ابن الجوزي والشيخ الشعراوي، وثمة وجوه شبه أخرى، منها هذه التعبيرات والتراكيب الوعظية التي ترد في كلام الشيخين، ذكر ابن رجب في المرجع السابق أن الناس قد طربوا في مجلس ابن الجوزي، فقال لهم:"فهمتم فهمتم" الأولى من الفهم، والفاء فيها أصلية، والثانية من الهيام، والفاء فيها حرف عطف. وذكر ابن رجب أيضا أن رجلاً سأل ابن الجوزي:"أيهما أفضل: أسبّح أم أستغفر؟ ففال: الثوب الوسخ أحوج إلى الصابون من البخور؟ "، وواضح أن الصابون هو معادل الاستغفار، وأن البخور هو مقابل التسبيح.
وكما ازدحم الناس على جنازة الشيخ الشعراوي في بلدته (دقادوس) ازدحم الناس على جنازة ابن الجوزي في بغداد، قالوا:"وحملت جنازته على رؤوس الناس، وكان يوماً مشهوداً بكثرة الخلائق وشدة الزحام، حتى إنه أفطر جماعة من شدة الحر"، وكانت وفاته في رمضان.
ومن العجيب أن ابن الجوزي توفي عن عمر يناهز السادسة والثمانين، وكذلك كان عمر الشيخ الشعراوي يوم وفاته.
وبقي وجه شبه آخر بين الإِمامين: وهو أن كليهما كانت تقدم له الهدايا الكثيرة من الأمراء وأصحاب اليسار، ولكن هل كان ابن الجوزي يجعل من هذه الهدايا نصيبًَ مفروضاً لمصارف البر والتوسعة على الناس، كما شاع وذاع عن الشيخ الشعراوي؟ علم ذلك عند ربي! .