الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد مرَّ تاريخ نشر التراث في ديارنا المصرية بأربع مراحل: المرحلة الأولى: مطبعة بولاق والمطابع الأهلية، ومرحلة الناشرين النابهين، ومرحلة دار الكتب المصرية، ومرحلة الأفذاذ من الرجال.
وفي المرحلة الأولى نشرت النصوص التراثية خالية من دراسة الكتاب وترجمة مؤلفه، وذكر مخطوطاته وفهرسته، وإن كان النشر في هذه المرحلة قد اتسم بالدقة المتناهية والتحرير الكامل، إذ كان يقوم على التصحيح فئة من أهل العلم منهم الشيخ نصر الهوريني، والشيخ محمد قُطَّة العدوي.
والمرحلة الثانية عنيت إلى حد ما بجمع النسخ المخطوطة للكتاب، وذكر ترجمة المؤلف وبعض الفهارس، وتعرف هذه المرحلة بتلك الأسماء: أمين الخانجي، ومحب الدين الخطيب، ومحمد منير الدمشقي، وحسام الدين القدسي، وكلهم من أهل الشام.
والمرحلة الثالثة هي مرحلة دار الكتب المصرية، وفي هذه المرحلة أخذ نشر التراث يتجه إلى النضج والكمال من حيث جمع نسخ الكتاب المخطوطة من مكتبات العالم، وإضاءة النصوص ببعض التعليقات والشروح، وصنع الفهارس التحليلية، وما يسبق ذلك كله من التقديم للكتاب، وبيان مكانه في المكتبة العربية، وقد تأثر هذا المنهج إلى حد ما بمناهج المستشرقين الذين نشطوا في نشر تراثنا وإذاعته منذ القرن الثامن عشر؛ وقد وقف على رأس هذه المرحلة أحمد زكي باشا شيخ العروبة.
أعلام في ميدان التحقيق:
أما مرحلة الأفذاذ من الرجال فهي مرحلة أحمد محمد شاكر، ومحمود محمد شاكر، وعبد السلام هارون، والسيد أحمد صقر، وقد دخل هؤلاء الأعلام ميدان التحقيق والنشر، مزوَّدين بزاد قوي من علم الأوائل وتجاربهم، ومدفوعين بروح عربية إسلامية عارمة، استهدفت إذاعة النصوص الدالة على عظمة التراث الكاشفة عن نواحي الجلال والكمال فيه، ومن أعظم آثار هذه المرحلة تحقيق هذه الأصول:
الرسالة للشافعي، وطبقات فحول الشعراء لابن سلام، والبيان والتبيين والحيوان للجاحظ، وتأويل مشكل القرآن لابن قتيبة.
وإن اتفق أعلام هذه المرحلة فيما ذكرت، فإن أبا فهر محمود محمد شاكر يقف وحده من بينهم، وينفصل عنهم بأمرين، الأول: أنه صاحب قضية صحبته وأرَّقته منذ النَّانأة - أي منذ صباه ونشأته الأولى - وهي قضية أمته العربية، وما يُراد لها من كيد في لغتها وشعرها وتراثها كله، وقد أبان عن هذه القضية في كل ما كتب، وبخاصة في كتابيه: أباطيل وأسمار، ورسالة في الطريق إلى ثقافتنا، ثم نثرها فيما دق وجل من كتاباته، وما برح يعتادها في مجالسه ومحاوراته، يهمس بها حيناً، ويصرخ بها أحياناً أخرى، لا تفرحه موافقة الموافق، ولا تحزنه مخالفة المخالف.
ولقد حكمت هذه القضية الضخمة أعمال أبي فهر كلها، وهي التي وجهته إلى تحقيق التراث، فكان عمله في نشر النصوص جزءاً من جهاده في حراسة العربية والذود عنها، سواء فيما نشره هو، أم فيما حث الناس على نشره وأعانهم عليه.
الأمر الثاني: أن أبا فهر دخل إلى ميدان تحقيق التراث بثقافة عالية وقراءة محيطة اعتقد جازماً أنها لم تتيسَّر لأحد من أبناء جيله، سواء من اشتغلوا بتحقيق التراث، أم من انصرفوا إلى التأليف والدرس.
لقد القى هذا الرجل الدنيا كلها خلف ظهره ودَبْرَ أذنيه، واستوى عنده سوادها وبياضها، وخلا إلى الكتاب العربي في فنونه المختلفة، والمكتبة العربية عند أبي فهر كتاب واحد - فهو يقرا صحيح البخاري كما يقرأ الأغاني، ويقرأ كتاب سيبويه قراءته لمواقف عضد الدين الإِيجي، وقد قلت عنه مرة بالتعبير المصري:"إنه خد البيعة على بعضها"، وقد كشف هو نفسه عن ثقافته وأدواته، فقال بعد أن حكى محنته عقب ذلك الزلزال العنيف الذي رجه رجاً حين خرج المستشرق الإِنجليزي "مرجليوث" بمقالته عن نشأة الشعر العربي، وما أثاره من شك حول صحة الشعر الجاهلي، وما كان من متابعة الدكتور طه حسين لهذه المقالة، في كتابه:"في الشعر الجاهلي"، يقول في صدر رسالته في الطريق إلى ثقافتنا: "قد أفضى بي
…
إلى
إعادة قراءة الشعر العربي كله أولاً، ثم قراءة ما يقع تحت يدي من هذا الإِرث العظيم الضخم المتنوع من تفسير وحديث وفقه، وأصول فقه وأصول دين (هو علم الكلام) وملل ونحل، إلى بحر زاخر من الأدب والنقد والبلاغة والنحو واللغة، حتى قرأت الفلسفة القديمة والحساب القديم والجغرافية القديمة، وكتب النجوم وصور الكواكب، والطب القديم ومفردات الأدوية، وحتى قرأت البيزرة والبيطرة والفراسة، بل كل ما استطعت أن أقف عليه بحمد الله سبحانه، قرأت ما تيسَّر لي منه، لا للتمكن من هذه العلوم المختلفة، بل لكي ألاحظ وأتبين وأزيح الثرى عن الخبيء والمدفون".
فهذه هي ثقافة أبي فهر التي دخل بها ميدان تحقيق التراث، الذي اختار هو من عند نفسه نصوصه وأصوله، لم يملها أحد عليه، ولم يطلبها أحد منه، وكان من أبرز هذه النصوص: طبقات فحول الشعراء لابن سلام، وتفسير الطبري (16 جزءاً)، وتهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار، للطبري (ستة أجزاء)، وجمهرة نسب قريش وأخبارها للزبير بن بكار (جزء منه)، ودلائل الإِعجاز، وأسرار البلاغة، كلاهما للشيخ عبد القاهر الجرجاني، إلى نصوص أخرى نشرها قديماً: فضل العطاء على العُسْر لأبي هلال العسكري، والمكافأة وحسن العقبى، لأحمد بن يوسف الكاتب المعروف بابن الداية، وإمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع، للمقريزي (جزء منه).
ومما يستطرف ذكره هنا أن أول كتاب تراثي يضع فيه أبو فهر قلمه بالتحقيق هو كتاب أدب الكاتب لابن قتيبة، الذي أخرجه الشيخ محب الدين الخطيب عام 1346 هـ= 1927 م، أي منذ (70) عاماً، وكان عمره إذ ذاك (18) عاماً، وقد شاركه تصحيح صفحات من الكتاب أستاذنا عبد السلام هارون، برّد الله مضجعه.
وفي هذه الأصول التراثية التي أخرجها أبو فهر، يظهر علمه الغزير الواسع الذي لا يدانيه فيه أحد من أهل زماننا، لأنه علم موصول بكلام الأوائل، منتزع منه