الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بقلم الربيع بن سليمان تلميذ الشافعي، وعليها خطة عام 265 هـ وهذا تاريخ مهم جداً في علم المخطوطات.
يقول الشيخ أحمد شاكر: "ومن أقوى الأدلة على عنايته بالصحة والضبط، أنه وضع كسرة تحت النون في كلمة "النذارة"، وهي كلمة نادرة لم أجدها في المعاجم إلا في القاموس، ونص على أنها عن الإمام الشافعي. وهي تؤيد ما ذهبت إليه من الثقة بالنسخة، وتدل على أن الربيع كان يتحرى نطق الشافعي ويكتب عنه عن بينة.
ومن الطرائف المناسبة هنا أني عرضت هذه الكلمة على أستاذنا الكبير العلاّمة أمير الشعراء على بك الجارم، فيما كنت أعرض عليه من عملي في الكتاب، فقال لي:"كأنك بهذه الكلمة جئت بتوقيع الشافعي على النسخة". وقد صدق حفظه الله".
الجارم لغوياً ونحوياً:
ثم نعود إلى هذين الجانبين اللذين يُلتمس منهما عناية الجارم باللغة والنحو.
ففيما يتصل بالجانب الأول فقد كان لعلي الجارم أثر ظاهر في تأليف الكتاب المدرسي، الذي كان يقدم لطلبة المدارس في المرحلتين: الابتدائية والثانوية، ومن خلاله يتعلمون النحو والبلاغة والأدب. فكانت هذه الكتب التي اشترك في تأليفها مع نفر من كبار علماء عصره: المجمل في الأدب العربي، والمفصل في الأدب العربي، والبلاغة الواضحة، ثم ذلك الكتاب الجهير الصوت، الذائع الصيت "النحو الواضح": "وهي كتب بارعة في الشرح والتوضيح، وفي تقريب النحو وتيسيره، وقد أراحت مئات من المعلمين، ويسرت على ألوف من المتعلمين، وأزاحت عن هذا العلم سحباً من النفور والكراهية كانت تحيط به وتصد المتعلمين، ثم شاعت في البلاد العربية، وصارت كالمنهاج لتعليم النحو، وأحدث أسلوبها في الشرح والتأليف مدرسة، أخذ المعلمون يتبعونها ويؤلفون على مثالها، محاكين أو مقلدين.
والكتاب لمدرسي في ذلك الزمان كان يقوم عليه كبار الأدباء والشعراء،
أمثال: حفني بك ناصف، والشيخ أحمد الإسكندري، والشيخ مصطفى طموم، وأحمد بك العوامري، فكان ذلك الكتاب مهاباً جليل القدر، وكان يُنظر إليه بتوقير شديد، على غير ما نراه الآن من النظر إلى الكتاب المدرسي نظرة استخفاف وازدراء، بل إن هذا الوصف "كتاب مدرسي" قد صار مجلبة للتنقص وطريقاً إلى المعابة، وآية ذلك أنه لا يحسب في موازين الأستاذ الجامعي، فلا يؤخذ في ترقية، ولا يقدم إلى جائزة، ولا شك أن الذي كره إلى الناس ذلك "الكتاب المدرسي" أنه يتخذ الآن سبيلاً للتربح وجمع المال.
وفي طريق الكتاب المدرسي قام الجارم بعمل جليل آخر، هو تقديم عيون التراث إلى النشء الصغار من تلاميذ المدارس، ومن ذلك تلك الطبعة من "البخلاء" للجاحظ، التي أخرجها مشتركاً مع أحمد العوامري، ثم كتاب "الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية" لابن الطقطقي، مشتركاً مع الجغرافي الكبير محمد عوض إبراهيم، وكناب "المكافأة وحسن العقبى" لأحمد بن يوسف الكاتب، مشتركاً مع أحمد أمين، وكتاب "تهذيب الأخلاق" لمسكويه، مشتركاً مع نفر من كبار الأساتذة، فأنظر ماذا كان يقدم لطلبة المدارس في تلك الأيام؟
فهذا هو الشطر الأول من أثر على الجارم، في التأليف اللغوي والنحوي، سقته على سبيل الوجازة والاختصار.
أما الشطر الثاني منه فمجلاه نشاطه في مجمع اللغة العربية ولجانه. وقد كان الجارم أحد الأعضاء المؤسسين للمجمع، واشترك في لجانه كلها، فرسخ تقاليد مجمعية لازالت باقية إلى الآن، وملأ اللجان باقتراحاته ومناقشاته، مما هو مذكور ومسطور في مجلة المجمع ومحاضره.
ومن بحوثه واقتراحاته:
الترادف -طرق تكميل المواد اللغوية- المصادر التي لا أفعال لها -وضع قواعد جديدة يستعان بها في اشتقاق الأفعال من الجامد- بحث في فعيل بمعنى مفعول وبمعنى قابل للفعل -الجملة الفعلية أساس التعبير في اللغة العربية- الوضع
بطريق المجاز -مراتب وضع الألفاظ- مشروع تيسير الكتابة العربية- مصطلحات الشئون العامة.
ومن مجموع هذه البحوث والمقترحات أحب أن أقف عند أمرين اثنين، يظهر فيهما تضلع الجارم من اللغة، وصبره على تحصيلها، واحترامه لها:
الأمر الأول: ذلك البحث الذي وسمه (بالمصادر التي لا أفعال لها)، وقد أقام الجارم هذا البحث على ما ذكره ابن سيده في الصفحة (223) من الجزء الرابع عشر من المخصص (باب أسماء المصادر التي لا يشتق منها أفعال)، وقد انتهى ابن سيده إلى أن هناك أربعة وخمسين مصدراً لا أفعال لها.
يقول الجارم: "وقد تناولت هذا البحث بإفاضة واستيعاب وتنقيب في المعحمات، فظهر أن لجميعها أفعالاً، عدا سبعة منها". ثم أخذ رحمه الله في ذكر كلام -ابن سيده، ثم تعقبه بما في المعاجم: الصحاح، واللسان، والقاموس، والتاج، والمصباح المنير.
والأمر الثانى: ما ذكره عن "غريب اللغة"، قال:"وإذا كانت لدينا ذخيرة مغمورة في اللغة فلم لا نستعملها ونحييها، وننقلها من بداوتها إلى نور الحضارة؟ والاستعمال كفيل بصقلها واستساغتها".
ويعود مرة أخرى إلى "غريب اللغة" فيقول، وهو يتحدث عن المعجم الكبير:" فإن هذا المعجم سيشتمل على كل شيء، من حيث الكلام الصحيح وقديمه، مشهوره وغريبه، ذائعه ونادره".
وقضية "غريب اللغة" من القضايا الشائكة العسرة في زماننا هذا، فكثير من الناس ينادون الآن بهجر الغريب من الكلام، واستعمال السهل القريب، وما أزنهم ينادون بذلك إلا لسببين: السبب الأول: عدم معرفتهم بكثير من هذا الكلام الغريب، والإنسان يستوحش مما لا يعرفه وينكره، على ما قال ربنا عز وجل:{بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه} [يونس: 39].
والسبب الثاني: أنهم يخلطون بين "الغرابة في اللغة"، والغرابة في "البلاغة". فالغرابة في البلاغة يراد بها: الكلام الحوشي المستكره، أصواتاً ودلالة، على ما هو مذكور في كتب البلاغيين.
أما غرابة اللغة فهي شيء آخر. فالغريب من الكلام -كما ذكره أبو سليمان الخطابي (388 هـ): "وهو الغامض البعيد من الفهم، كالغريب من الناس إنما هو البعيد عن الوطن المنقطع عن الأهل
…
ثم إن الغريب من الكلام يقال به على وجهين: أحدهما أن يراد به بعيد المعنى غامضة، لا يتناوله الفهم إلا عن بعد ومعاناة فكر. والوجه الآخر أن يراد به كلام من بعدت الدار، ونأى به المحل من شواذ قبائل العرب، فإذا وقعت إلينا الكلمة من لغاتهم استغربناها، وإنما هي كلام القوم وبيانهم، وعلى هذا ما جاء عن بعضهم، وقال لهم قائل: أسألك عن حرف من الغريب، فقال: هو كلام القوم، إنما الغريب أنت وأمثالك من الدخلاء فيه".
أقول: واللهم نعم: الغريب من كلام القوم، وعدم أنسنا له أو استعمالنا له، لا يخرجه عن دائرة كلام العرب، وعلى أن الاستعمال ليس بدليل على الحسن، كما يقول ضياء الدين بن الأثير.
ومعلوم أن كلام العرب على وجهين: واضح وغريب، ذكر هذا ونبه عليه واضع أول معجم عربي: الخليل بن أحمد الفراهيدي، قال في مقدمة كتاب العين:"بدأنا في مؤلفنا هذا بالعين، وهو أقصى الحروف، ونضم إليه ما بعده، حتى نستوعب كلام العرب: الواضح والغريب".
وهذا الغريب من كلام العرب قد يكون له ما يقابله من الواضح، فلك أن تعدل عن غريبه إلى واضحه، مع فقر في معجمك اللغوي، أنت مشؤول عنه ومؤاخذ به، عند تفاضل أقدار الكاتبين. وقد لا يكون له ما يقابله من الواضح، فلا معدى لك عن معرفته واستعماله، والجهل به حينئذ مزرٍ بصاحبه، ومضيق عليه سبل القول ومنادح الكلام، ولا يحس لذع هذا، ويستشعر المحنة فيه إلا الشعراء، من حيث هم
محتاجون دائماً إلى وفرة من الألفاظ وسعة في الكلام، لا يفتحهما لهم ذلك الكلام السهل القريب.
ودعوة الجارم إلى استحياء الغريب من اللغة إنما هي دعوى في حق موضعها؛ لأن هذا الغريب من صميم اللغة، والدعوة إلى هجرة والتجافي عنه ليست من البر بهذه اللغة الشريفة، بل هي عدوان عليها، وتحيف لشطر كبير منها. وهذه الألفاظ التي ينكرها بعض أهل زماننا ويستبشعونها لست تجدها في النصوص الأدبية فقط، من شعر ونثر، بل إنك واجدها في كتب الأنساب والتاريخ والبلدانيات (الجغرافيا) وكتب الفلك والطب والفلاحة والزراعة، وسائر ما كتب الأوائل من علومهم وفنونهم.
وقد نطق شعر الجارم بهذه الرغبة العارمة في استحياء تلك الألفاظ التي يتحاشاها الأدباء والشعراء في زماننا هذا؛ زهادة فيها أو جهلاً بها، أو استسهالاً للألفاظ القريبة السهلة المستهلكة، فيقول في واحدة من كريم شعره:
كم لفظة جهدت مما نكررها
…
حتى لقد لهثت من شدة التعب
ولفظة سجنت في جوف مظلمة
…
لم تنظر الشمس منها عين مرتقب
كأنما قد تولى القارظان بها
…
فلم يؤوبا إلى الدنيا ولم تؤب
ثم صدق شعر الجارم مقترحه، فكثر في شعره الغريب كثرة ظاهرة، وهذا مثل واحد من شعره، من قصيدته في مدح الشيخ الإمام محمد عبده:
المجد فوق متون الضمر القود
…
تطوي الفلا بين إيجاف وتوخيد
إذا رمت عرص صيهود مناسمها
…
رمت إليها الليالي كل مقصود
أو مزقت طيلسان الليل من خبب
…
كست خيال الأماني ثوب موجود
مولاي علمتني كيف الثبات إذا
…
لم يترك الرعب قلباً غير مزءود
على أن مما يجب التنبه له أن جميع شعراء النهضة الشعرية الحديثة، بدءاً من محمود سامي البارودي حتى شاعرنا علي الجارم كانوا عارفين بهذا الغريب من
الكلام، وكانوا لا يخلون شعرهم منه، بل إن أمير الشعراء المعاصرين وعلمهم الكبير أحمد شوقي كان مكثراً من استعمال ذلك اللون من اللغة، وله منه أعاجيب، منها قوله:
خلوا الأكاليل للتاريخ إن له
…
يداً تؤلفها دراً ومخشلبا
فانظر إلى "المخشلب"، وهو خرز يشبه الدر من حجارة البحر، وليس بدر ويقال إنه لفظ نبطي، والعرب تقول "الخضض". فهذه الكلمة، عل يطيقها أحد من أهل زماننا؟
لقد استخرجها شوقي من محفوظه من شعر أبي الطيب المتنبي، وذلك قوله:
بياض وجه يريك الشمس حالكة
…
ودر لفظ يريك الدر مخشلبا
وقد ظهر لي من قراءة شعر الجارم أن كثيراً من هذا الغريب الذي فاض به شعره إنما واتاه من دربه طويلة مع النصوص الشعرية المأثورة، ولم يأته من قراءة كتب اللغة أو المعاجم فقط. وآية ذلك أن بعضاً من تراكيبه الشعرية إنما انتزعه مما استقر في محفوظه من شعر الأوائل:
فمن ذلك قوله من قصيدة في ذكرى المولد النبوي الشريف:
إذا صال لم يترك مقالاً لصائلً
…
وإن قال ألقت سمعها البلغاء
فالشطر الأول منتزع من قول معاوية بن أبي سفيان، يمدح عبد الله بن عباس رضي الله عنهم:
إذا قال لم يترك مقالاً لقائل
…
مصيب ولم يثن اللسان على هجر
وقوله:
غضبان رد إلى اليافوخ عفرته
…
ومن يصاول ليثاً وهو غضبان
لقد حمينا أباة الضيم حوزتنا
…
من أن تباح ودناهم كما دانوا
فهذا شعر ينظر إلى شعر الشاعر الجاهلي شهل بن شيبان، المعروف بالفند الزماني:
مشبنا مشية الليث
…
غدا والليث غضبان
ولم يبق سوى العدوا
…
ن دناهم كما دانوا
وقوله من قصيدته في سعد زغلول باشا:
إن أم المجد مقلات فكم
…
سوفت بين جنين وجنين
منتزع من قول الشاعر:
بغاث الطير أكثرها فراخاً
…
وأم الصقر مقلات نزور
وقوله من قصيدته في محمد محمود باشا:
طارت شعاعاً وهولاً مثلما عصفت
…
هوج الرياح برمل البيد في البيد
مأخوذ صدره من قول قطري بن الفجاءة، من شعراء الخوارج:
أقول لها وقد طارت شعاعاً
…
من الأبطال ويحك لن تراعي
وفي القصيدة نفسها يقول:
من كل أروع عنوان الجهاد به
…
قلب ركين ورأي غير مخضود
وفي هذا البيت شميم من قول حسان بن ثابت، يرثي عثمان بن عفان، رضي الله عنهما:
ضحوا بأشمط عنوان السجود به
…
يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً
وفي هذه القصيدة أيضاً:
ترنوا إليه فتغضي من مهابته
…
فالطرف ما بين موصول ومصدود
ويحمل بعض هذا التركيب أثر قراءة لشعر الفرزدق، وهو قوله يمدح علي بن ااحسين بن علي بن أبي طالب، المعروف بزين العابدين:
يغضي حياءً ويغضى من مهابته
…
فما يكلم إلا حين يبتسم
ويقول الجارم في الأسرة العلوية:
شمس العداوة والحسام مجرد
…
فإذا انطوى فملائك أطهار
وصدر البيت مسلوخ من قول الأخطل، في بني أمية، من قصيدته الباذخة في عبد الملك بن مروان:
شمس العداوة حتى يستقاد لهم
…
وأعظم الناس أحلاماً إذا قدروا
ويقول فى مدح احمد لطفي السيد باشا:
ففي سكنة المبهور أصدق مدحة
…
وكل كلام بين حق وباطل
وفي ذلك المديح نوع شبه بقول عيسى بن أوس، في الجنيد بن عبد الرحمن، أمير خراسان:
مدحتك بالحق الذي أنت أهله
…
ومن مدح الأقوام حق وباطل
ومن مرثية الجارم في صديقه "أبو الفتح الفقي" يقول -وهي من قصائده الجياد:
كل ابن أنثى في الحياة إلى مدى
…
والمرء في الدنيا إلى ميقاته
وهو ينظر إلى قول كعب بن زهير رضي الله عنه، في "لاميته" الشريفة "بانت سعاد فقلبي اليوم مبتول":
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
…
يوماً على آلةٍ حدباء محمول
ويقول الجارم في مدحه للفاروق ملك مصر السابق، ويهنئه بعيد الفطر:
هنئياً لك العيد الذي بك أشرقت
…
منازله بشراً وضاءت رحائبه
وصدر البيت من قول المتنبي يمدح سيف الدولة، ويهنئه بعيد الأضحى:
هنيئاً لك العيد الذي أنت عيده
…
وعيد لمن سمى وضحى وعيدا
ومن شعره في قصيدة ضمنها بعض ذكرياته بعد عودته من أوروبا:
يلقى بها أينما القى عصاه بها
…
أهلاً بأهل وأصهاراً بأصهار
ولا ريب أن الجارم قال هذا البيت وفي محفوظة قول الأول:
لا يمنعنك خفض العيش في دعة
…
نزوع نفس إلى أهل وأوطان
تلقى بكل بلاد إن حللت بها
…
أهلاً بأهلٍ وجيراناً بجيران
ومن قصيدة للجارم في ويلات الحرب العالمية الأولى، يقول:
لج به الموت فأدوى به
…
وحز منه الليت والأخدعا
وآخر البيت من قول الشاعر الأموي الصمة بن عبد الله القشيري:
تلفت نحو الحي حتى وجدتني
…
وجعت من الإصغاء ليتاً وأخدعا
ويقول في وصف جريدة لم يسمها:
وكنت صحيفة الأبرار حقاً
…
تلقتك الكنانة باليمين
وقد نظر في ذلك إلى قول الشماخ، في عرابة الأوسي:
إذا ما راية رفعت لمجد
…
تلقاها عرابة باليمبن
ومن مرثيته لصديقه محمود فهمي النقراشي باشا، يقول الجارم:
شيئان ما عيب البكاء عليهما
…
فقد الشباب وفرقة الآلاف
وهذا من قول الشاعر:
شيئان لو بكت الدماء عليهما
…
عيناي حتى يؤذنا بذهاب
ل يبلغا المعشار من حقيهما
…
فقد الشباب وفرقة الأحباب
وهذه القصيدة من رثي بها الجارم صديقه النقراشي، هي من أعلى شعره فناً وإحكاماً، ومن أغربه لغة وبيانا، وقد أقامها على البحر "الكامل"، واختار لها الفاء المكسور روياً، وأولها:
ماء العيون على الشهيد ذارف
…
لو أن فيضاً من معينك كافي
وأحسب أن الجارم حين جالت هذه القصيدة في نفسه: موضوعاً وبحراً وروياً، إنما كان يستدعي من مذخورة أخرى باذخة لأبي العلاء المعري، يرثي فيها
أبا أحمد الموسوي، الملقب بالطاهر، وهو والد الشريف الرضي، والشريف المرتضى، ومطلعها:
أودي فليت الحادثات كفاف
…
مال المسيف وعنبر المستاف
و"المستاف" هي إحدى القوافي التي اتنزعها الجارم من قصيدة أبي العلاء، قال:
ذكرى كحالية الرياض شميمها
…
راح النفوس وراحة المستاف
وليست "المستاف" وحدها هي التي انتزعها الجارم من قوافي أبي العلاء في هذه القصيدة، فهناك أخريات، تراها في القصيدتين، وهي: الآلاف- عبد مناف- دراف- الرجاف- الأصداف- الأطراف- الرعاف- ثقاف- الأسياف- قوادم- وخواف- الضافي- قواف- الأشراف- سلاف- المصطاف- الأعطاف- المئناف.
ومع ذلك فتبقى القصيدة في الجارم قواف، هي من كيسه ومن حر ماله، ومن أحلامها وأعذبها وأخفها دماًـ ومع عربية أصيلة، قوله:
إن الفتى ما فيه من أخلاقه
…
فإذا ذهبن فكل شيء "ما في"
والحذف هنا بعد "ما في" جميل جداً.
وهكذا يكون الشاعر الكبير: تمتليء نفسه بموروث الكلام: شعراً ونثراً، ويجري هذا الموروث في دمه جريان الدم في العروق، وتخالط بشاشته قلبه وعقله، ثم يفيض على لسانه: شريف المحتد موصول النسب، ولكنه يبدو هو في نفسه سامق الهامة، عالى الطول، كذلك الطول المتوارث في بني عبد المطلب.
ومن وراء ذلك كله فللجارم في شعره استعمالات دالة على بصره باللغة والتصريف، يقول في إحدى قصائده:
هبني رجعت إلى الأوتار رنتها
…
فهل لشرح الصبا واللهو رجعان
والفعل "رجع" هنا استعمله الجارم متعديا فنصب به "رنتها"، وكذلك استعمله متعدياً في قوله:
وقف تجدد آثارها
…
وتنشر للعرب أشعارها
وترجع بغداد بعد الفناء
…
تحدث للناس أخبارها
وفي هذه القصيدة نفسها يقول:
ترد الشبيبة للصالحات
…
وترجع للدين هتارها
وهذا الفعل الثلاثي "رجع" يستعمل لازماً ومتعدياً، فيقال: رجع الحق إلى صاحبه، ورجعت أنا الحق إلى صاحبه، وهذا هو الأفصح أن يستعمل "رجع" متعدياً، فيقال: رجعت الكتاب إلى صاحبه، ولا يقال: أرجعته، إلا في لغة لهذيل ضعيفة.
وعلى تلك اللغة الفصيحة جاء القرآن الكريم، قال تعالى: } فَإن رَّجَعَكَ اللَّهُ إلَى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ {[سورة التوبة: 83]، وقال تعالى: } فَرَجَعْنَاكَ إلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا ولا تَحْزَنَ {[طه: 40]، وقال تعالى: } تَرْجِعُونَهَا إن كُنتُمْ صَادِقِينَ {[الواقعة: 87]، وقال تعالى: } عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الكُفَّارِ {[الممتحنة: 10]، وقال تعالى: } أَفَلا يَرَوْنَ أَلَاّ يَرْجِعُ إلَيْهِمْ قَوْلاً {[طه: 89]، ثم جاء المصدر من الثلاثي أيضاً، فقال تعالى: } إنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ {[الطارق: 8]
ومن ثقافة الجارم اللغوية أيضاً استعماله الفعل "أمل" مخفف اللام، فقال:
إذا أمل الفتى فالهزل جد
…
وإن يئس فالجد هزل
وأكثر ما يستعمل الناس هذا الفعل مشدداً "أمل" إلى حد أن هذا الفعل المخفف- مع سلامته اللغوية ومجيء اسم الفاعل واسم المفعول منه مجيئاً صالحاً "أمل ومأمول"- قد خفي على بعض النحاة الأوائل، وهو أبو نزال الحسن بن صافي بن عبد الله البغدادي، المعروف بملك النحاة، المتوفى (568 هـ) فقد أثر عنه أنه قال:"وأمل، لا أسمعه فعلاً ماضياً"، وقد رد عليه ابن الشجري، وذكر له أن اللغويين حكوه وأجازوه، وذكر له شيئاً من شواهده، ومنها قول المتنبي:
حرموا الذي أملوا وأدرك منهم
…
آماله من عاذ بالحرمان
ومن فقه الجارم باللغة أيضاً استعماله كلمة "سائر" بمعنى "باق"، يقول في قصيدة في رثاء الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي:
تمر به مراً فيسبيك بعضه
…
وتقرؤه أخرى فيسبيك سائره
واستعمال "سائر" بمعنى "باق" هو الفصيح الأكثر، مأخوذ من السؤر، وهو ما يبقى في الإناء، ويرى بعض اللغويين أنه هو الصواب، ولا صواب غيره، يقول مجد الدين بن الأثير:"السائر: الباقي، والناس يستعملونه في معنى الجميع، وليس بصحيح". ومثل ذلك قال ابن الجوزي والحريري، لكن المرتضى الزبيدي حكى عن بعض أئمة اللغة والتصريف أنه يجوز استعمال "سائر" بمعنى الجميع.
ويستشهد أصحاب الرأي الأول بشواهد كثيرة من النثر والشعر، ومن أحلى شواهد قول عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط الأموي، وبعرف بأبي قطيفة:
لهم منتهى حبي وجل مودتي
…
وصفو الهوى مني وللناس سائره
وهكذا تضلع الجارم من لغته وفقهها، وعرف لها حقها فيما كتب وفيما نظم، فأحلته هذه المنزلة الرفيعة بين شعراء زمانه، واقتعدت له مكاناً عالياً في ركب الشعراء العظام، وعلى مال قال هو يصف شعره، في مقدمة الجزء الثاني من ديوانه.
"شعر نصر الفصحى فنصرته، وصان لها ديباجتها فصانته".
وكما صان الجارم العربية فصانت له شعره، فسيصونه الزمان أيضاً، فيبقيه طرياً غضاً على الألسنة، مصوناً في تلافيف القلوب، على ما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
مصون الشعر تحفظه فيكفي
…
وحشو الشعر يورثك الملالا
* * *