الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حسين بالجامعة، في طبعة "أمين هندية" وهي طبعة مؤوفة، غير محررة، ثم أخرجت لنا أعمال حول أبي العلاء: الحياة الإنسانية عند أبي العلاء- مع أبي العلاء في رحلة حياته- أبو العلاء العمري.
وهذا درس جيد لمن يروم تحقيق نص من نصوص التراث: أن يعيش مع مؤلفه، فيخبر حياته وأسلوبه، ويعرف مكانة كتابه في فنه، ثم صلته بالكتب العربية الأخرى، وهكذا صنع الشيخ أحمد محمد شاكر حين أخر "الرسالة" للشافعي، وشيخنا محمد شاكر حين أخر "طبقات فحول الشعراء" لابن سلام، وأستاذنا عبد السلام هارون يوم أن توفر على كتب الجاحظ، والسيد أحمد صقر، يوم أن أظهر كتب ابن قتيبة، والشيخ بهجة الأثري حين أخرج "خريدة القصر" وعبد العزيز الميمني الراجكوتي في تحقيق "سمط اللآلي"، وكذلك كان صنيع المستشرقين.
أما ما نراه اليم جرأة بعض خلق الله على نشر كتب التراث دون معرفة سابقة، أو دون إلف ومخالطة للمؤلف، فشيء يأباه العلم، ولا يقدم للتراث شيئاً ذا بال، وأستطيع أن أقول دون توقف أو تردد: إن كثيراً من هذا الذي يخرج الآن من تراثنا محققاً لا صلة له بالعلم، ولا بعلم تحقيق النصوص، سواء كان هذا الذي يحقق لدراسة جامعية للحصول على شهادة عليا، أو كان نشراً علمياً يراد به العائد المادي ليس غير.
الأمر الثاني: وهو وثيق الصلة بالأمر الأول، أن بنت الشاطئ خاضت لجة هذا البحر، وهي مؤمنة بقضية كبرى، وهي قضية ذلك التراث العربي، وواجبنا نحو إبرازه وإضاءته، لتقوم عليه الدراسات الصحيحة، فلا دراسة صحيحة مع غياب النص الصحيح المحرر.
الإرث العظيم:
ويتصل بتلك القضية الإيمان بقيمة ذلك الإرث العظيم الذي انتهى إلينا، وما فتئت بنت الشاطئ تصرح بذلك فيما دق وجل من كتاباتها، وأعرف بعض من
يشتغلون بنشر النصوص لا يؤمنون بذلك التراث، بل يسخرون منه ويستهزئون به إذا خلوا إلى شياطينهم، ولكنها الضرورة الملجئة، وسبحان ربك رب العزة الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
ولقد عادت بنت الشاطئ مرة أخرى إلى صاحبها أبي العلاءـ، فنشرت له أثراً غالياً من تراثه، وهو كتاب " الصًاهل والشاحج"، ويتكلم فيه أبو العلاء، على لسان فرس وبغل، وقد نشرته عن نسختين أصليتين موثقتين، احتفظت بهما الخوانة الملكية بالرباط، وللمغاربة فضل عظيم في الحفاظ على مخطوطات نفسية ذوات عدد، من تراثنا الموزع في مكتبات العالم، وقد قدمت بنت الشاطئ لتحقيق هذا النص بدراسة ماتعة، شملت مدخلاً تاريخياً، وآخر موضوعياً، ثم قارنت بين كليلة ودمنة والصاهل والشاجح.
ومن القضايا التي شغلت بنت الشاطئ زمناً طويلا، وما زالت تعتادها وتكرر القول فيها، وتستأنف حولها كلاماً لأدني ملابسة: قضية توثيق المرويات النقلية التي وصلت إلينا في الأمر شفاهاً إلى عصر التدوين، وهذه المرويات قد تعرضت لهزات عنيفة، وبخاصة ما يتصل بقضية الشاعر الجاهلي، والقول بانتحاله ووضعه بعد ظهور الإسلام، وهي القضية التي أزعجت الجلة من شيوخنا، وعلى رأسهم شيخنا محمود محمد شاكر، وقد رأي هؤلاء الشيوخ التسليم بالشك في الشعر الجاهلي يقضي- لا محالة- إلى الشك في مرويات أخرى جاءتنا مشافهة، كنصوص السنة النبوية والسيرة الشريفة والنبوية، وكتب تاريخ الصحابة، وعلوم الإسلام كلها.
وقد وجدت بنت الشاطئ ضالتها ومفزعها عند علماء الحديث، فيما أصلوه من قواعد منهج توثيق المرويات، وفحص الأسانيد، ونقد المصادر، فيما عرف بعلم الجرح والتعديل، ثم وقفت عند كتاب واحد من كتب علوم الحديث، ورأت أنه جدير بالنظر والخدمة والتحقيق، وذلك هو "مقدمة ابن الصلاح" وهو تقي الدين عثمان بن عبد الرحمن المتوفى سنة (643 هـ)، وقد رأت في هذا الكتاب مجلي ذلك العلم، فنهدت لنشرة نشرة علمية، فجمعت منه أصولاً خطية موثقة جيدة، ثم صدرته
بمقدمة محكمة، أبانت فيها عن مناهج الحدثين، ثم نقدت النشرات السابقة للكتاب، وقد رأت من تمام الفائدة أن تلحق بالكتاب نصاً يتصل به، هو:"محاسن الاصطلاح وتضمين كتاب ابن الصلاح" لسراج الدين عمر بن رسلان البلقيني المتوفى سنة (805 هـ)، ومن أعمال بنت الشاطئ التراثية أيضاً تحقيق الجزء الثالث من "المحكم في اللغة" لابن سيده.
فهذه نصوص أربعة من أصول علومنا، نهضت بها بنت الشاطئ، تحقيقاً وضبطاً، مع تأليفها لكتاب نافه، هو:" ترثنا بين ماضٍ وحاض"، ولولا اشتغالها بالتدريس والتأليف لكان لها في ميدان تحقيق النصوص أثر كبير.
ولا يبقى من حديث الدكتورة بنت الشاطئ إلا أمر شغلني زماناً، ولا زلت في عجب منه إلى يوم الناس هذا: إن بنت الشاطئ لا تفتأ تذكر فصل شيخها وزوجها الأستاذ أمين الخولي، فهو الذي علمها كيف تقرأ، وهو الذي هداها إلى المنهج، إلى أشياء كثيرة تسليمها كلما جاء ذكر الشيخ لكني أجد مباينة بين التلميذة وشيخها فيما يتصل بالبيان وطرائق القول- أو فن القول، كما كان الشيخ يقول- فأسلوب بنت الشاطئ أسلوب عذب ندى، يترقرق فصاحة وصفاء وإشراقاً، وهو أسلوب ترى فيه أثر القرآن الذي تلقته صبية من فم أبيها الشيخ الصوفي، ثم هو من بعد ذلك أسلوب عال موصول بالنسب أصحاب البيان، كالجاحظ وأبي حيان ومصطفى الرافعي ومحمود محمد شاكر.
أما أسلوب الشيخ، فهو أسلوب حاد صارم، كأنما يستمد صرامته من صرامة المنهج الذي أخذ به نفسه، وهو ذلك المنهج الذي ما زال تلاميذه يحمدونه له، ويجهرون به ويردونه إليه، ولو شئت لقلت: يبجحون به (أي يفتخرون)، وهؤلاء الكتاب الذين يسرفون في قيود ما يسمونه المنهج وضوابط، ويصعب عليهم- عن عمد أو غير عمد- أن يرطبوا ألسنتهم، أو يزينوا أقلامهم بشئ من نداوة الكلام وسماحته ويسره، كأنهم يريدون أن يظلوا بمنجاة من الذاتية أو التأثيرية (أو كلام الإنشا) فتأتي عباراتهم وفيها قدر غير يسير من الجفاف والعسر، لأنهم يغرقون في
العقلانية، وقد نجا من هذه المهواة كثير من الأدباء قديماً وحديثاً، منهم أديب العربية الكبير أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، فكتبه تعلم العقل- كما يقول أبو الحسن المسعودي- ثم هو أمير البيان العربي غير مزاحم ولا مدفوع.
وقد اعترف تلاميذ الشيخ أمين الخولي بذلك، فيقول الدكتور حسين نصار:
"ووصلت الدقة بعبارة الخولي أنه كان يتعب قارئه أشد التعب، ليصل به إلى المفهوم الدقيق الذي يريده"، ويقول أيضاً:"وعلى الرغم من ذلك يجب الاعتراف بأن من لم يتصل به في أعماله ويتابع أفكاره، ويألف لغته، كان يجد مشقة في فهمه"، انظر كتاب الدكتور حسين نصار: أمين الخولي ص 40 و 92 - المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 1996، ولله في خلقه شؤون.
رحم الله بنت الشاطئ رحمة واسعة سابغة، وجعل كل ما قدمته لتراثها ولدينها في موازينها يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً.