الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجزئي دون الكلي
!
وهذه الممارسات مطروحة في كتب التاريخ: تراجم وأحداثاً، وفي كتب الأدب والأخبار، بل في سائر ما كتبه العرب في علومهم المختلفة، ومن المؤسف أن هذه الممارسات التي تمتلئ بها كتبنا ومعارفنا لا يقف الناس الآن عندها كثيراً بحسن التأمل والنظر، بل إنها عند بعض الناس ألوان من النوادر والمسامرات التي تستخرج الضحك ليس غير، بل إن بعضهم قد يسرف في "التفلسف" فيرى أنها ممارسات مصنوعة، في أخبار يراد بها إضحاك الخلفاء والملوك، للحظوة عندهم وأخذ عطاياهم، وان هذه الممارسات والأخبار إن صدقت فهي لا تخرج عن اهتمام العقل العربي بالجزئي دون الكلي، وهو كلام قد مللنا من الرد عليه، وهو في جملته لا يدل إلا على عدم المعرفة بكتبنا وتاريخنا.
ولو أردت أن أكتب لك أيها القارئ الكريم ما وقفت عليه من هذه الممارسات المطروحة في الأخبار، لاحتجت إلى مجلَّدات وأسفار، فحسبي أن أجتزئ هنا ببعضها، لكن لي عليك أيها القارئ العزيز شرط واحد: هو أن تعطي هذه الأخبار حظها من التأمل والتدبر، وأن تنتبه لذلك الخيط الذي يربط بينها، وسيُفضي بك هذا الخيط - إن شاء الله - إلى روح هذه الحضارة العربية القائمة على الصراحة والوضوح، وشرط آخر: ألا تظن أني أريد أن أسلِّيك أو أضحكك بهذه النوادر، وإن كنت أدعو لك أن يضحك الله سنك، ويبسط أساريرك.
وبعض هذه الأخبار مما وعته صدور الرواة من عربية الجاهلية، وكثير منه من عربية الإِسلام.
وإذا كانت مظاهر صدق النفس كثيرة، وصورها شتى، فإن أولاها بالعناية وأحقها بالتأمل: ما يتصل منها بالاعتراف بالخطأ والرجوع إلى الصواب، والإِنصاف في الحكم، ولو كان مما يجر إلى الانتقاص من النفس، وهو ما يسميه الناس الآن: الموضوعية ونقد الذات.
ومن أقدم ما عُرف من صور الإِنصاف في تاريخنا الأدبي، ما يسمى في تاريخ الشعر بالمنصفات، ويسميها الجاحظ "الأشعار المنصفة " البيان والتبيين 4/ 23. والأشعار المنصفة:"هي القصائد التي أنصف قائلوها أعداءهم فيها، وصدقوا عنهم وعن أنفسهم فيما اصطلَوْه من حَرِّ اللقاء، وفيما وصفوه من أحوالهم في إمحاض الإِخاء"، خزانة الأدب للبغدادي 8/ 327.
فالشاعر المنتصر لا يغره انتصاره فينسيه ما رآه من عدوه من بسالة في الطعن والضرب والرمي، فهو يزهو بانتصاره، لكنه يعترف لعدوه بالثبات والجلد، وهذا هو خلق الفرسان، وقد جمع الأستاذ عبد المعين الملوحي ست قصائد من هذه الأشعار المنصفة، ثم ضم إليها بعض المقطوعات الشعرية في الإِنصاف، وقدم لذلك كله بشيء من الدراسة التحليلية لهذا اللون من الشعر العربي، وقد صدر هذا العمل عن وزارة الثقافة والسياحة والإِرشاد القومي بدمشق 1967 م.
أما الاعتراف بالخطأ والرجوع إلى الصواب ففي تاريخنا منه الكثير مكتوباً في أخبار، وممارساً في وقائع، واكتفي هنا بخبرين من تاريخ الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الأول من رسالته الشهيرة في القضاء التي بعث بها إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وهو على قضاء البصرة، وفيها يقول:"لا يمنعنك قضاء قضيته اليوم، فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك، أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل"، الكامل للمبرد 1/ 20.
للمبرد فهذا خبر عن عمر، في الاعتراف بالخطأ والرجوع إلى الصواب، ثم تأتي ممارسة عمر نفسه تصديقاً له في ذلك الخبر الذي يرويه المفسرون في سياق تفسير الآية 20 من سورة النساء، وأصحاب السنن في أبواب النكاح. ففد روي أن عمر خطب يوماً فقال: "لا تغالوا صداق النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله، كان أولاكم وأحقكم بها محمد صلى الله عليه وسلم، ما أصدق امرأة من نسائه ولا أُصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، وإن الرجل ليُثقل صدُقة امرأته - أي مهرها -
حتى يكون لها عداوة في نفسه"، فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر، يعطينا الله وتحرمنا! أليس الله سبحانه وتعالى يقول: {وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً، فقال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر، وفي رواية: "فأطرق عمر، ثم قال: كل الناس أفقه منك يا عمر! "، وفي أخرى: "امرأة أصابت ورجل أخطأ، وترك الإِنكار" تفسير القرطبي 5/ 99، وسنن ابن ماجه (باب صداق النساء، من كتاب النكاح) ص 607، والمصنف لعبد الرزاق بن همام الصنعاني (باب غلاء الصداق، من كتاب النكاح) 6/ 175.
وهذا باب آخر من أبواب صدق النفس، وهو الصبر على تلك الأجوبة المسكتة التي يواجه بها مشاهير الرجال، من أوساط الناس وضعفائهم، وفي تلك الأجوبة أحياناً ما يكون مثل لذع النار أو نهش الأفاعي، يصبر لها كبار النفوس، لأنها تردهم إلى الحق، وتعيدهم إلى الصواب، وبعض من ذلك يسميه الناس الآن: الديمقراطية، يكتب الناس عنها كثيراً، ويمارسونها قليلاً.
ومن ذلك ما رواه الزمخشري، قال: حبس عمرو بن العاص عن جنده العطاء (أي الرواتب) فقام إليه رجل حِمْيري، فقال: أصلح الله الأمير، اتخذ جنداً من حجارة لا يأكلون ولا يشربون! قال عمرو: اسكت يا كلب، قال: إن كنت كذلك فأنت أمير الكلاب! فأطرق عمرو، وأخرج أرزاقهم (أي رواتبهم). ربيع الأبرار 1/ 690. وحدث محمد بن حبيب، قال: أخبرني ابن الأعرابي، قال: شهد أعرابي عند معاوية بشهادة، فقال له: كذبت! فقال الأعرابي: الكاذب المتزمل في ثيابك! فقال معاوية وتبسم: هذا جزاء من عجل. الهفوات النادرة للصابي ص 355، وربيع الأبرار 1/ 665.
وروي عن الفرزدق انه قال: ما استقبلني احد بمثل ما استقبلني به نبطي - والنبط: جيل من الناس كانوا ينزلون سواد العراق، ثم استعمل في أخلاط الناس وعوامهم - قال: أنت الفرزدق الذي يمدح الناس ويهجوهم ويأخذ أموالهم؟ قلت